بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه
بعد عشر سنوات من تدبر القرآن وتمهيدا لنشر تفسيري " من تفصيل الكتاب وبيان القرآن "
قررت نشر الجزء الأول منه بعنوان : "المعجم المفهرس لمعاني ألفاظ القرآن " لأضع بين أيدي الدارسين كتاب الله آلية تساعدهم على الاستفادة منه .
وهو بكل تأكيد جديد في مادته وفي مضمونه إذ يتناول الكلمات جميعا ومنها الحروف المنفصلة والمتصلة والأسماء والأفعال والمظهرات والمضمرات وأقصد بهذه الأخيرة نحو : [ بل قلوبهم في غمرة من هذا ] وقوله [ وفي هذا ليكون الرسول عليكم شهيدا ]
آمل البدء في نشره يوم عيد الفطر المبارك أو في آخر شهر رمضان المبارك إن شاء الله تعالى .
طالب العلم
الحسن محمد ماديك
في اللسان العربي : غفر : ستر ، ومنه قيل للذي يكون تحت بيضة الحديد على الرأس مغفر ، وتقول العرب : اصبغ ثوبك بالسواد فهو أغفر لوسخه أي أحمل له وأغطى له ، غفرت المتاع : جعلته في الوعاء ، غفر المتاع في الوعاء : أدخله وستره وأوعاه ، وغفر الشيب بالخضاب وأغفره .
ومن الأسماء الحسنى اسمه "الغفور الغفار" فهو غافر الذنب أي يستره يوم القيامة فلا يعرض على صاحبه بل يغفره الغفور ، وما ستره الله يومئذ من السيئات فلن يكتبه الملائكة الكرام الكاتبون يوم يقوم الحساب ولن يعذب به العبد ، كما هي دلالة قوله :
• قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ﴾ القصص 16
• يوم لا يخزي الله النبيّ والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا ﴾ التحريم 8
• إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم ﴾ القتال 34
• والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ﴾ الشعراء 82
• ربنا اغفر لي ولوالديّ وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ﴾ إبراهيم 41
• مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم ﴾ القتال 15
وتعني أن يوم الحساب هو يوم مغفرة الذنوب ، وحرف القصص صريح في أن الله غفر ذنب موسى ولا يخفى انتشار خبر قتله القبطي في الدنيا وخروجه هربا من القصاص ، وإنما سأل موسى ربه أن يستر ذنبه في الآخرة وأجيبت دعوته فلن يعرض عليه يوم الحساب قتله القبطي ولن يكتبه الكاتبون ولن يؤاخذ به .
وحرف التحريم صريح في وصف يوم القيامة ، وكذلك حرف القتال لأنه بعد الموت ، وذكر بصيغة المستقبل ، وإبراهيم يطمع أن يستر الله خطيئته يوم الدين فلا تعرض عليه ، ودعاؤه صريح في أن محل المغفرة إنما هو يوم يقوم الحساب .
ويعني حرف القتال أن للمتقين في الجنة مغفرة من ربهم أي أن أعمالهم السيئة في الدنيا لن تعرض عليهم بل قد غفرها الله لهم وسترها عنهم فلا يضيقون بها ذرعا ولا تنغّص عليهم ما هم فيه من الكرامة ودار الخلود خلافا لأهل النار الذين تعرض عليهم سيئاتهم وهم في النار ليزدادوا حسرة وقنوطا من الرحمة كما في قوله ﴿ كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ﴾ البقرة 167 .
وإن قوله :
• ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ﴾ هود 52
• هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ﴾ هود 61
• واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود ﴾ هود 90
ليعني أن كلا من هود وصالح وشعيب أمر قومه أن يسألوا ربهم أن يغفر لهم في يوم الحساب ما سلف من كفرهم إذ الإيمان بالله واليوم الآخر هو الخطوة الأولى من الإيمان ثم يتبعون ذلك بالتوبة إلى ربهم أي الرجوع إليه بالعمل الصالح في الدنيا ، ومن المثاني معهما قوله ﴿ وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله ﴾ هود 3 في خطاب المخاطبين بالقرآن .
ولي
إن الولي هو من ألقيت إليه بالمودة وأسررت إليه بها كما في قوله يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة الممتحنة 1 وقوله تسرون إليهم بالمودة الممتحنة 1 أي توالونهم في الحالين .
وإن من تفصيل الكتاب وأصول الخطاب أن أولياء الشيطان هم من قد مسّهم عذاب أهلكهم في الدنيا كما في قوله :
• يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا مريم 45
• تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم النحل 63
ويعني حرف مريم أن من عذّب في الدنيا فقد أصبح وليا للشيطان .
ويعني حرف النحل أن القرون الأولى وهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم قد أهلكوا في الدنيا بعذاب من عند الله فكانوا أولياء للشيطان منذ نزل عليهم العذاب ولا يزال الشيطان وليهم اليوم وإن لهم في الآخرة عذاب أليم أي أن الشيطان هو وليهم كذلك في الآخرة .
أما أولياء الله فهم الذين نجاهم الله من العذاب الذي أهلك به القرون الأولى أي هم الذين آمنوا ونجاهم الله مع كل من نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ...
ومنه قوله ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون النمل 50 ـ 53 ويعني أن ثمود قد أهلكوا جميعا إلا أولياء الله منهم وهم الذين آمنوا وكانوا يتقون وكذلك وصفهم في قوله وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون فصلت 17 ـ 18 وهكذا وصف الله الذين آمنوا وكانوا يتقون أنهم هم الناجون من العذاب مع رسول الله صالح .
ووصف الله الذين آمنوا وكانوا يتقون من هذه الأمة أنهم هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون يوم ينزل مثل العذاب الذي عذّب به المجرمون الأولون ليعذب به المجرمون المتأخرون وكذلك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون في اليوم الآخر .
إن قوله تعالى : [ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ] البقرة 130ـ 132 ، ليعني أن ملة إبراهيم هي الإسلام لرب العالمين ، فذلكم إسلام الخليل الذي ابتلاه ربه بكلمات فأتمهن ووفّى ، ويوم أمره بذبح ابنه إسماعيل أسلم الأب والابن كلاهما كما في قوله [ فلما أسلما وتله للجبين ] الصافات 103 أي جعل جبينه ووجهه مما يلي التل وهو ما لان من الأرض ليقع الذبح من القفا ولا يتطاير الدم على الأب المبتلى وقد وعد الابن أباه أن يكون من الصابرين على إنفاذ أمر الله وشرعه في قوله [ يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ] الصافات 102 وأنجز النبي إسماعيل وعده كما في المثاني معه في قوله [ واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد ] مريم 54 ، والله عالم الغيب وصف هذا النبي الصابر الصادق الوعد بالحلم قبل أن يولد كما في قوله [ فبشرناه بغلام حليم ] الصافات 101 .
واتبع الرسل والنبيون بعده ملة إبراهيم بإسلامهم لله رب العالمين ، وأمر الله رسوله النبي الأمي باتباع ملة إبراهيم كما في قوله [ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ] النحل 123 ، وكما في قوله [ وأمرت أن أكون من المسلمين ] النمل 91 .
إن إسلام النبيين هو تحقيقهم لعبوديتهم لله في جميع أحوالهم في أنفسهم وما يملكون ، فهم في الدنيا كإسلام من في السماوات والأرض يوم القيامة لله كما في قوله [ إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ] مريم 93 ـ 95 أي مسلما خاضعا ، ولا كرامة بالإسلام في يوم القيامة ، وإنما في الدنيا كإسلام الملائكة والنبيين فيها .
وإذا ذكر الله في القرآن خاصة عبودية عبد فإنما لإظهار نبوته التي أسلم بها لله ومنه المثاني :
ـ [ واذكر عبدنا أيوب ] سورة ص 41
ـ [ ذكر رحمة ربك عبده زكريا ] مريم 2
ـ [ واذكر عبدنا داوود ] سورة ص 17
ـ [ واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب ] سورة ص 45
ـ [ سبحان الذي أسرى بعبده ] فاتحة الإسراء
ـ [ فوجدا عبدا من عبادنا ] الكهف 65
ـ [ ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا ] الإسراء 3
ولا ينغلق وصف النبيين الذين يحكمون بالتوراة بالإسلام في قوله [ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا ] المائدة 44 ، لدلالته على أن رسل الله ـ جميعا ـ لا يحيفون في حكمهم ولا يظلمون بسبب إسلامهم لله رب العالمين .
دلالة الإيمان في الكتاب المنزل
إن من تفصيل الكتاب المنزل أن الإيمان المعدى باللام يعني التصديق من المعاصر كما في قوله :
ـ فآمن له لوط العنكبوت 26
ـ فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم يونس 83
ـ قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون الشعراء 111
ـ وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين يوسف 17
ولا يخفى أن لوطا قد عاصر إبراهيم وأن ذرية من بني إسرائيل قد عاصروا موسى وأن قوم نوح قد عاصروا نوحا وأن بني يعقوب إخوة يوسف قد عاصروا أباهم .
ويعني قوله قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين التوبة 61 أن النبي صلى الله عليه وسلم يؤمن بالله لدلالته على الغيب إذ لم يره في الدنيا ويصدّق النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين فلا يكذبهم فيما يزعمون إذ كان صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم .
وأما الإيمان المعدى بالباء فيقع على الغيب المنتظر الذي سيكون شهادة فيما بعد ، وهكذا مدلول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر كله .
أما الإيمان بالله فلأنه لن يرى في الدنيا كما هي دلالة قوله الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به غافر 7 ويعني أنهم وهم المقربون من الملائكة يؤمنون بالله ولم يروه بعد وهم يعلمون أنهم سيرونه في يوم الحساب وعدا من الله كما هو مدلول تسبيحهم بحمد ربهم وكما فصلت في بيان اقتران التسبيح مع الحمد .
وأما الإيمان بالملائكة واليوم الآخر فظاهر كذلك أنهما من الغيب في الدنيا وسيشهد العالمون جميعا بعد البعث للحساب كلا من الملائكة واليوم الآخر .
وأما الإيمان بالقدر كله فلإيمان المؤمن أن ما أصابه من القدر لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه منه لم يكن ليصيبه ، فالقدر مسطور في اللوح المحفوظ غيب يؤمن به المؤمن قبل أن يقدّر عليه كما في قوله قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم الأحقاف 9 أي لم يطلع على القدر المغيب عنه قبل وقوعه .
وأما الإيمان بالكتب المنزلة من عند الله فهو من الغيب لتضمنها غيبا في الدنيا لم يقع بعد نفاذه كما سيأتي ، ولتضمنها غيبا في الآخرة كما هو معلوم .
وأما الإيمان برسل الله فلأن الدين الذي جاءوا به وهو الكتاب والبيّنات لم ينقض ما فيهما من العلم والوعد والتكليف ولا يزال الخطاب به قائما وكما سيأتي تفصيله في من بيان القرآن .
وإن من تفصيل الكتاب المنزل أن الذين آمنوا حيث وقعت في الكتاب فإنما هم صحابة النبي أو الرسول الذين آمنوا به إيمانا مستأنفا .
أما صحابة نوح فهم الموصوفون في قوله :
ـ وما أنا بطارد الذين آمنوا هود 29
ـ وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن هود 36
ـ وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل هود 40
وأما صحابة هود فهم الموصوفون في قوله ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ هود 58 .
وأما صحابة صالح فهم الموصوفون في قوله :
ـ قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم الأعراف 75
ـ فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ هود 66
ـ وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون النمل 53
ـ ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون فصلت 18
ـ وأما صحابة شعيب فهم الموصوفون في قوله :
ـ ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به الأعراف 86
ـ قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا الأعراف 88
ـ ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا هود 94
وآمن لوط بإبراهيم كما في قوله فآمن له لوط العنكبوت 26 .
وأما صحابة موسى فهم الموصوفون في قوله :
ـ قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم غافر 25
ـ فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه يونس 83
ـ وقال الذي آمن غافر 30 ، 38
وأما صحابة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم فهم الموصوفون في قوله :
ـ لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم التوبة 88
ـ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى التوبة 113
ـ إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهـذا النبي والذين آمنوا عمران 68
أما المؤمنون فهم أعم من صحابة الرسول أو النبي إذ يقع لفظ المؤمنين على الرسول والذين آمنوا معه كما في قوله ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين الروم 47 ، ويقع على الصحابة كالذين آمنوا كما في قوله إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون الحجرات 15 ولتسميتهم بالمؤمنين رد على الذين يزعمون أنهم مؤمنون ويتخلفون عن الرسول يرغبون بأنفسهم عن نفسه ، ويقع على المؤمنين من الأمة الذين لم يدركوا النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء من التابعين للصحابة فمن يأتي بعدهم ...
إن من تفصيل الكتاب المنزل أن العلم يقع على الوحي كما في قوله يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك مريم 43 من قول إبراهيم .
وكان يعقوب ذا علم كما في قوله وإنه لذو علم لما علمناه يوسف 68 أي صاحبه بالوحي إليه .
وكان الرسل والنبيون هم أولوا العلم أي أصحابه كما في قوله شهد الله أنه لا إلـه إلا هو والملائكة وأولوا العلم عمران 18 .
ولقد علم الملائكة وهم في الملإ الأعلى والرسل والنبيون بالوحي ما جعل شهادة كل منهم أنه لا إلـه إلا الله أكبر من شهادتنا نحن عامة الناس .
وكان إسحاق غلاما عليما كما في قوله قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم الحجر 53 ومن المثاني معه قوله قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم الذاريات 28 إذ هو نبي .
وكذلك قوله إنما يخشى الله من عباده العلماء فاطر 28 يعني الرسل والنبيين كما سيأتي تحقيقه في من بيان القرآن .
وكان صحابة كل نبيّ أو رسول الذين تعلموا منه هم الذين أوتوا العلم بالتجهيل كما في قوله ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا القتال 16 يعني أن المنافقين لم يفقهوا القرآن إذ لم يتجاوز آذانهم بل سألوا عن معانيه ودلالاته الذين أوتوا العلم وهم أصحاب النبي الذين جعل القرآن في صدورهم كما في قوله بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم العنكبوت 49 أي أنهم سمعوا القرآن وتجاوز آذانهم واستقر في صدورهم لكن دون مرتبة النبي الأمي الذي نزّل على قلبه أي علم ما فيه من العلم .
ويقع العلم على البينات لما في الكتاب المنزل من عند الله كما في قوله وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم عمران 19 أي أن اليهود لم تختلف إلا من بعد ما جاءهم الرسل ببينات التوراة وهـكذا اختلفوا أكثر لما جاءهم عيسى بالبينات .
ويقع العلم على المشاهدة بالعين كما في قوله :
ـ فرددناه إلى أمه كي تقرّ عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق القصص 13
ـ أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هـذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير البقرة 259
ولقد أوحي إلى أم موسى بقوله إنا رادوه إليك القصص 7 وهو وعد من الله ، وكانت تؤمن بأنه وعد حق ، ولكن علمت برأي العين لما ردّ إليها وقرّت عينها به أن وعد الله حق .
وكان الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها يؤمن بأن الله سيحييهم بعد موتهم يوم البعث ، وعلمه لما رآى مثله في الدنيا .
وإن من تفصيل الكتاب المنزل أن ما علّمك الله فهو بالكسب والتجربة كما في قوله والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة النحل 78 ويعني أن السمع والبصر والذاكرة هي أدوات التعلم بالكسب .
ومنه قوله وما علّمتم من الجوارح مكلّبين تعلّموهن مما علّمكم الله المائدة 4 يعني الجوارح من الطير والكلاب يعلّمها الناس الصيد بالترويض والكسب والتجربة ومن زعم أن تعلمها للصيد هو من الوحي الخارق المعجز فهو أحمق ، وإنما الصيادون يعلّمونها مما تعلّموا هم أنفسهم بالكسب والتجربة أي مما علّمهم الله . ومنه قوله ولا يأب كاتب أن يكتب كما علّمه الله البقرة 282 أي كما علم شهادته بالمشاهدة والسماع .
ومنه قوله واتقوا الله ويعلّمكم الله البقرة 282 وليست التقوى شرطا لزيادة العلم وحصوله من غير تعلم وكسب ولو كان كذلك لما كان من فرق بينه وبين قولنا "واتقوا الله يعلمكم الله" بجزم الفعل أي بإسكان الميم في يعلمكم على جواب فعل الأمر اتقوا وعلى نسق المتفق عليه في قوله :
ـ فاتبعوني يحببكم الله عمران 31
ـ ذروني أقتل موسى غافر 26
ـ فقل تعالوا ندع عمران 61
ـ قل تعالوا أتل الأنعام 151
ـ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم يوسف 9
وقد تم جزم الأفعال الواقعة في جواب فعل الأمر الواقع في موضع الشرط .
إن قوله واتقوا الله ويعلمكم الله لمتفق على قراءته برفع الفعل ويعلمكم والمعنى اتقوا الله والله يعلمكم ما تتقونه به من الأحكام والتشريع أي أن الله لم يكلف العباد بتقواه كما يتصوره كل واحد منهم ويتخذه دينا لنفسه وإنما الله يبيّن لهم ما يتقونه به وهو مما يعلمهم إذ نزل من عنده في الكتاب وكما في قوله وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبيّن لهم ما يتقون التوبة 115 .
وقوله واتقوا الله ويعلّمكم الله في آخر آية الدّين ، وقد علّم الله المسلمين فيها وفي ما قبلها من الأحكام والتكاليف الفردية والجماعية وفي سائر الكتاب ما يتقون ـ بامتثال مأموراته واجتناب منهياته ـ عذابه وعقابه .
ولا يخفى أن قوله ولا يأب كاتب أن يكتب كما علّمه الله في أول آية الدّين لمن المثاني مع قوله ويعلمكم الله في آخر آية الدين إذ ما كلّف به الكاتب من الأمانة والنقل وأن يأتي بالشهادة على وجهها هو مما علّمه الله في الكتاب كذلك :
أما الأول ففي قوله ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا الإسراء 36 .
وأما الثاني ففي قوله ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها المائدة 108 وقوله كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله النساء 135 وقوله كونوا قوامين لله شهداء بالقسط المائدة 8 .
وإن من تفصيل الكتاب المنزل أن ما علّم ربنا ملائكته ورسله وأنبياءه هو ما خصوا به من العلم فعلموه تعلما خارقا معجزا من غير كسب منهم وتلك دلالة المثاني :
ـ قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا البقرة 32
ـ وعلّم آدم الأسماء كلها البقرة 31
ـ وإنه لذو علم لما علّمناه يوسف 68
ـ ذلكما مما علّمني ربي يوسف 37
ـ فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلّمناه من لدنا علما الكهف 65
ـ وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علّمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء النمل 16
وتعني أن ربنا علّم الملائكة من غير كسب منهم ولا جهد وكذلك علّم آدم ويعقوب ويوسف والخضر وداوود وسليمان وسائر الرسل والنبيين .
وأما قوله وأعلم من الله ما لا تعلمون الأعراف 62 من قول نوح ، وفي يوسف 86 من قول يعقوب فيعني أن كلا منهما علم من الله بالوحي إليه ما لم يعلمه غيره ، فيعقوب قد علم بالوحي أن أولاده كاذبون في زعمهم أن الذئب قد أكل يوسف وعلم بالوحي أنه سيجتمع بيوسف وأن الله سيتم نعمته عليه وعلى أولاده رغم ما سلف منهم مع أخيهم يوسف .
وإن قوله :
ـ ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض البقرة 107 المائدة 40
ـ ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض الحج 70
ليعني أن النبي قد نزّل عليه من قبل في الكتاب مثله فعلمه بالكتاب المنزل عليه .
وإن قوله ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم التوبة 63 ليعني أن قد نزل مثله من قبل في الكتاب كما في قوله إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين المجادلة 5 وهكذا فحرف المجادلة قد نزل قبل حرف التوبة .
وإن قوله ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم التوبة 104 ليعني أن قد نزل في الكتاب من قبل مثل جميع ذلك كما في قوله وهو الذي يقبل التوبة عن عباده الشورى 25 وكما في قوله خذ من أموالهم صدقة التوبة 103 ولقد نزل في أكثر من حرف قبل سورة التوبة أن الله هو التواب الرحيم .
وإن قوله ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب التوبة 78 ليعني أن الكتاب من قبل قد تضمن مثل ذلك كما في قوله ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم المجادلة 7 .
وإن قوله أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون الزمر 52 ليعني أن الناس قد علموا من قبل ذلك رأي العين كما في قوله أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون الروم 37 ويعني حرف الزمر كذلك أن مثل ذلك قد نزل من قبل في الكتاب كما في قوله قل إن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون سبأ 36 ويعني أن حرف الزمر تأخر نزوله عن الحرفين .
عمل رائع سيستفيد منه دارسو كتاب الله أيما استفادة ، وليس هذا بالغريب فقد عهدناك دائما صاحب الأعمال و الأبحاث الطريفة ذات الفائدة الكبيرة في مجال الدراسات القرآنية .أعانك الله فهو عمل ليس بالهين .بالتوفيق إن شاء الله ، ونحن ننتظر النشر بأسرع وقت .
الهداية
إن قوله قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى طـه 50 ، ليعني أن رب العالمين قد هدى كل مخلوق إلى ما جبله عليه مما يصلح لبقائه وحفظ نوعه ، فذلك التوفيق الذي فتح به المولود فاه ساعة يولد ليمص الثدي ، وذلك التوفيق الذي جعل كل مخلوق على الأرض يسلك سلوكا خاصا لبقائه ، وجعل أنثى الطير تهتدي إلى فقص بيضها في أجل معلوم لا تضل عنه ولا تخطئه ، هو الهداية من رب العالمين ، ولولاها لما كان من المهتدين إلى أسباب بقائه .
والمستضعفون من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة تخلصهم من الاستضعاف ولا يعرفون الطريق التي توصلهم إلى حيث يبتغون إذ لا يهتدون إليها .
وتكلف بنو إسرائيل التقيد بأوصاف بقرة بذاتها ليهتدوا إليها فلا تتشابه مع غيرها من البقر .
واختبر سليمان عقل ملكة سبإ ليعلم رأي العين هل ستهتدي إلى معرفة عرشها رغم ما لحقه من التنكير أم سيلتبس عليها وتضل عنه فلا تعرفه .
وإن قوله : اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون يـس 21 ، ليعني أن النبيين والرسل في الدنيا كأهل الجنة قد هداهم ربهم إلى الطيب من القول وإلى صراط مستقيم فلا يملك أحدهم لنفسه ضلالا ولا زيغا كما في قوله أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله النور 50 ويعني أن رسل الله لا يحيفون ولا يميلون عن الحق أبدا بما هداهم ربهم ووفقهم فاهتدوا ومن قبل قد آتاهم حكما وعلما وجعلهم أئمة يهدون غيرهم من الناس بأمره وإذنه وأوحى إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهداهم في الدنيا إلى الطيب من القول وإلى العمل الصالح فلا يخطئونه ولا يضلون عنه .
وأما هداية عامة الناس فإنما تعني تبينهم ما جاء به النبيون والرسل من الهدى والبينات والإيمان به واتباعه من غير ضلال عنه إلى ما تهوى الأنفس أو يدعو إليه الشيطان .
ولقد تضمن القرآن وصف الكتاب الذي جاء به النبيون والرسل من عند الله بأنه هدى ، كما وقع في القرآن الوصف بالهدى على الآيات الخارقة للتخويف والقضاء مع الرسل بها من رب العالمين كما بينت في كلية الآيات .
إن الكتاب المنزل من عند الله هو هدى للناس يهتدون به إلى رضوان الله وإلى أسباب النجاة في الدنيا والآخرة من عذاب الله كما في قوله :
• هـذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين عمران 138
• هـذا بصائر من ربكم وهـدى ورحمة لقوم يؤمنون الأعراف 203
• هـذا بصائر للناس وهـدى ورحمة لقوم يوقنون الجاثية 20
• فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة الأنعام 157
• هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق التوبة 33 الفتح 28 الصف 9
• وقالوا إن نتبع الهـدى معك نتخطف من أرضنا القصص 57
• وأنا لما سمعنا الهـدى آمنا به الجن 13
• ولقد جاءهم من ربهم الهدى النجم 23
• وما منع أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا الإسراء 94
وشبهه ويعني أن الكتاب المنزل على الرسول النبي الأمي هو الهدى الذي أرسل به فمن قال به فقد صدق ومن تمسك به فقد نجا ومن اتبعه فقد اهتدى ولو خالفه الناس أجمعون وخالفه التراث أي جميع الاجتهادات والآراء .
وكذلك الآيات الخارقة للتخويف والقضاء مع الرسل بها من رب العالمين هي هدى كما في قوله :
ـ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فصلت 17
ـ قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى طـه 47
ـ وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده القصص 37
ـ قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين القصص 85
ـ ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب غافر 53
ويعني أن الناقة والعصا واليد البيضاء وسائر الآيات التي أرسل الرسل بها كانت هدى يهتدي بها من رآها وحضرها إلى أن أحدا من العالمين لا يقدر على مثلها فإن آمن واتبع من جاء بها فقد اهتدى وأبصر الهدى وإن أعرض عنها فهو في ضلال مبين لا يختلف فيه كما استحبت ثمود العمى فلم يبصروا الناقة الآية المبصرة وهي مبصرة لأنها تجعل من آمن بها على بصيرة من ربه كما في قوله قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر الإسراء 102 يعني الآيات التسع التي أرسل بها موسى إلى فرعون وملئه للتخويف والقضاء .
إن تأخر نزول التوراة إلى ما بعد هلاك فرعون ليعني أن الهدى قبلها مع موسى وهارون كما في قوله قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى من قول موسى وهارون هو الآيات الخارقة معهما للتخويف والقضاء إذ جعلا الهدى بدلا من الآية الخارقة المعجزة من ربه ، وقولهما والسلام على من اتبع الهدى هو من لين القول الذي أمرا به ليفهم فرعون أنه باتباعهما إنما يتبع الهدى من ربه ، حرصا منهما على أن لا يمنعه من اتباع الهدى الكبر والاستعلاء على من يعتبرهما من رعيته .
ووقع التكليف من الله باتباع كل من الكتاب المنزل والرسل به
فمن الأول قوله تعالى :
ـ [ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ] الأعراف 3
ـ [ وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لهلكم ترحمون ] الأنعام 155
ـ [ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله ] البقرة 170 ، لقمان 21
ومن الثاني قوله :
ـ [ يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سزيا ] مريم
ـ [ فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ] الأعراف 158
ـ [ اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ] يس 21
ـ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ] آل عمران 31
ولقد وقع في تفصيل الكتاب تعدية الهدى باللام مسندا إلى الله وإلى القرآن فقط أي لم يوصف مخلوق كائنا من كان ولو كان من الملائكة أو النبيين أو الرسل بأنه يهدي للحق أو يهدي للصراط بتعدية الهداية باللام وحده .
أما إسناد تعدية الهداية إلى الله باللام فكما في قوله :
ـ قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون يونس 35
ويعني أن الله هو الذي يهدي الرسل والنبيين للحق وأن الرسل والنبيين هم الذين يهدون إلى الحق بتعدية الهداية ب"إلى " وأنهم أحق أن يتبعوا من شركاء المشركين الذين لا يهدون ولم يتضمن حرف يونس أمر الناس باتباع الذي يهدي للحق إذ هو الله سبحاته وتعالى وإنما تضمن أمر الناس باتباع الرسول إذ هو الذي يهدي إلى الحق فالمقارنة بين اتباع الرسل الذين يهدون للحق وبين شركاء المشركين فافهم .
وأما إسناد تعدية الهداية باللام إلى القرآن ففي قوله إن هـذا القرآن يهدي للتي هي أقوم الإسراء 9 ويعني أن القرآن يهدي من تدبره وعقله فاتبعه للحق مهما تأخر المهتدي بالقرآن عن حياة الرسول به إلى الناس .
وكذلك يهدي القرآن إلى الحق وإلى طريق مستقيم وإلى الرشد فلا يخطئ من اهتدى شيئا من ذلك أبدا كما في قوله :
ـ قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي الرشد فآمنا به الجن
ـ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم الأحقاف 29 ـ 30
وكذلك يهتدي من اتبع الرسل والنبيين واهتدى بهم إذ يدلونه إلى صراط مستقيم أي إلى الكتاب المنزل من عند الله وكذلك دلالة قوله :
ـ ذلك بأنه كانت تأتيهم رسله بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا التغابن 6
ـ يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا مريم 43
ـ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور خاتمة الشورى
وأخطر وأكبر مما تقدم ما تضمنه تفصيل الكتاب وبيان القرآن من إيقاع الهداية مباشرة على من تقع عليه مجردة من التعدية بالحرف كما في قوله :
ـ ولقد مننا على موسى وهارون ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم ونصرناهم فكانوا هم الغالبين وآتيناهم الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم الصافات 114 ـ 118
ـ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما الفتح
ويعني حرف الصافات أن رب العالمين قد أنعم على موسى وهارون نعما كثيرة فصلت حسب التسلسل الزمني إذ كان أولها المن عليهما بأن اصطفاهما للرسالة وثانيها أن نجاهما وقومهما بني إسرائيل من الكرب العظيم أي من الاستضعاف وقتل ذكورهم واستحياء إناثهم وثالثها نصرهم بأن نجاهم وأغرق عدوهم ورابعها أن آتاهما الكتاب المستبين وهو التوراة وخامسها أن هداهما الصراط المستقيم بغير تعدية ب"اللام" ولا ب"إلى" ويعني أنها منزلة أكبر من إيتاء الكتاب بالتسمية الذي اختص به الرسل والنبيون لدلالته على الهداية إلى تفصيله وتبين ما فيه من العلم ، ولقد هدى رب العالمين موسى وهارون الصراط المستقيم بعد أن آتاهما الكتاب كما هو صريح حرف الصافات ووعد رب العالمين محمدا أن يهديه الصراط المستقيم في حرف الفتح في آخر حياته بعد أن آتاه الكتاب ويعني أن موسى وهارون بعد أن آتاهما ربهما التوراة قد منّ عليهما مرة أخرى فجعلهما مسيران بالوحي تسييرا إذ يوحى إليهما في كل شأن بما يجب عليهما فعله وقوله وكذلك النبي الأمي بعد سورة الفتح في آخر حياته صلى الله عليه وسلملم يفتر عنه الوحي ليجتهد في مسألة أو نازلة بل كان يوحى إليه في كل شأن بالجواب كما في قوله وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم المائدة 101
ولم تتبين الأمة بعد بما انشغلت وافتتنت بالمتون دلالة قوله تعالى : اهدنا الصراط المستقيم وشبهه مما بينته في تفسيري من بيان القرآن ; والله المستعان .
سأهدي قراء القرآن بمناسبة شهر رمضان المبارك تبيان :
ـ الفرق بين المغضوب عليهم والضالين
ـ الفرق بين الذنب والسيئة والخطيئة والإثم والبغي
ـ الفرق بين الكفر والشرك والنفاق
ـ الفرق بين الإجرام والفسق والظلم والافتراء على الله
ـ الفرق بين النبوة والرسالة
ـ دلالة الكتاب والقرآن
وأزعم أن التراث الإسلامي ومنه التفاسير كلها لم تستغرق دلالة الألفاظ المذكورة رغم أهميتها
دلالة الاسمين " الله رب العالمين" في الكتاب المنزل
دلالة الاسمين " الله رب العالمين" في الكتاب المنزل
دلالة الاسمين الله رب العالمين في الكتاب المنزل
إن من تفصيل الكتاب وأصول الخطاب أن اسم ﴿ الله ﴾ حيث ورد ذكره في الكتاب المنزل فإنما :
1. لبيان عبادة وتكليف من الله المعبود يسع جميع المخاطبين به الطاعة والعصيان .
2. أو لبيان أسباب العبادة التي أمدّ الله بها المكلفين .
3. أو لبيان أثر الإيمان والطاعة على المكلفين .
4. أو لبيان أثر الكفر والمعصية على المكلفين في الدنيا .
5. أو لبيان الحساب والجزاء في الآخرة .
وإن اسم ﴿ رب العالمين ﴾ حيث ورد ذكره في الكتاب المنزل فإنما :
1. ليقوم به أمر أو فعل خارق يعجز العالمون عن مثله وإيقاعه كما يعجزون عن دفعه .
2. أو لبيان نعمه التي لا كسب للمخلوق فيها وما يجب له من العبادة والشكر .
3. أو لاستعانته ليهب لنا في الدنيا ما لا نبلغه بجهدنا ولا نستحقه بعملنا القاصر .
ولهـذه القاعدة في الكتاب تقييد له دلالات عميقة كرزق الله الذي يقع على ما لا كسب للمخلوق فيه ورزق ربنا الذي يقع على ما اكتسبه المخلوق بجهده من تمام نعمة ربه عليه .
وإنما أسند الرزق إلى الله في الكتاب المنزل على ما لم يكتسبه المرزوق به بجهده كما في قوله :
ـ ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا ﴾ الطلاق 11
ـ زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾ البقرة 212
ـ يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾ النور 38
ـ ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ﴾ الأعراف 50
ولا تخفى دلالته على نعيم أهل الجنة الذين أدخلوها بفضل الله .
وكما في قوله :
ـ وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا وشربوا من رزق الله ﴾ البقرة 60
ـ وكفّلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هـذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾ عمران 37
ـ وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها ﴾ الجاثية 5
ـ وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم ﴾ العنكبوت 60
وكان الماء الذي انفجر من الحجر لما ضربه موسى بعصاه هو والمنّ والسلوى الذي نزّل على بني إسرائيل مع موسى هما رزق الله بغير جهد منهم ولا كسب ، أمروا أن يأكلوا ويشربوا منه .
وكان ما يلقى إلى مريم من رزق وهي في المحراب هو رزق الله إياها من غير كسب منها ولا جهد .
وكان الماء الذي نزّله الله من السماء هو رزق الله الدواب والناس من غير جهد منهم ولا كسب .
وإنما وقع في الكتاب رزق ربنا على ما اكتسبه المكلف من تمام نعم ربه عليه كما في قوله :
ـ لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور ﴾ سبأ 15
ـ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا ﴾ هود 88
ويعني أن أهل سبإ كانوا يحرثون ويأكلون من الجنتين ويعني أن شعيبا كان قويا كاسبا يأكل من كسبه ولم يكن متسولا يسألهم رزقا .
فأما بيان ما كلف الله به من العبادة فكما في قوله ﴿ اعبدوا الله ﴾ وقوله ﴿ اتقوا الله ﴾ وقوله ﴿ وقوموا لله قانتين ﴾ البقرة 232 .
وأما بيان أسباب العبادة التي أمدّ الله بها المكلفين وأعانهم بها ليعبدوه فكما في قوله ﴿ فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له ﴾ العنكبوت 17 من قول إبراهيم يعني اسألوا الله أن يرزقكم لتقوى أجسامكم على الطاعة والعبادة ، وقوله ﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ﴾ الذاريات 56 ـ 58 يعني أن الله يرزق الإنس والجن ليتمكنوا بالرزق والقوت من العبادة ، وكما في قوله ﴿ خلق الله السماوات والأرض بالحق ﴾ العنكبوت 44 أي لأجل أن يعبد ويذكر فيهما .
وأما أثر الطاعة على المكلفين في الدنيا فكما في قوله ﴿ ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ﴾ مريم 76 وقوله ﴿ فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين ﴾ الفلاح 28 وقوله ﴿ هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ﴾ يونس 22 فكانت نجاتهم بسبب أثر طاعتهم في دعوتهم الله مخلصين له الدين .
وأما بيان أثر المعصية على المكلفين في الدنيا فكما في قوله ﴿ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ﴾ البقرة 7 أي بسبب كفرهم وإعراضهم عن النذير عوقبوا بذلك ، وقوله ﴿ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ﴾ البقرة 159 فلعنة الله إنما كانت بسبب أن كانوا يكتمون ما جاء به النبيون من البينات والهدى في الكتاب ، وقوله ﴿ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ﴾ الأنفال 52 والمعنى أنهم بسبب كفرهم بنعم الله التي أنعم عليهم بها ليعبدوه ويطيعوه عذبهم في الدنيا .
وأما بيان الحساب بعد البعث فكما في قوله ﴿ ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ﴾ النور 39 وقوله ﴿ يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين ﴾ النور 25 .
وأما بيان الجزاء فكما في قوله ﴿ فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ﴾ المائدة 85 وقوله ﴿ ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون ﴾ فصلت 28 .
وأما بيان أن كل فعل أو أمر أسند إلى ربنا فإنما هو أمر خارق يعجز العالمون عن مثله فكما في قوله ﴿ قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر ﴾ الإسراء 102 من قول موسى في وصف الآيات المعجزة التي أرسله ربه بها وكما في قوله ﴿ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم ﴾ فصلت 9 ـ 12 ، ولا يخفى أن عاقلا من العالمين لا يستطيع ادعاء مثل هذا .
وأما بيان أمر ربنا الذي يعجز العالمون عن دفعه فكما في قوله ﴿ يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ﴾ هود 76 من قول رسل ربنا من الملائكة الذين أرسلوا بعذاب قوم لوط وكما في قوله ﴿ وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ﴾ القمر 50 .
وأما بيان نعم ربنا التي لا كسب للمخلوق فيها فكما في قوله ﴿ ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله ﴾ الإسراء 66 وقوله ﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون والذي نزّل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ﴾ الزخرف 9 ـ 13 .
وأما بيان ما يجب لربنا من العبادة والشكر على نعمه فكما في قوله ﴿ ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ﴾ الزخرف 13 ـ 14 ، وقوله ﴿ لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور ﴾ سبأ 15 وقوله ﴿ يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ﴾ البقرة21 ـ 21 .
وأما بيان ما يجب علينا من استعانته ليهب لنا في الدنيا والآخرة من نعمه ويصرف عنا من الضر والكرب ما لا نستطيعه بجهدنا ولا نستحقه بعملنا القاصر القليل فكما في دعاء النبيين وضراعتهم ربهم حيث وقعت في القرآن كما في قوله ﴿ وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم ﴾ الأنبياء 83 ـ 84 .
إن قوله ﴿ باسم الله ﴾ حيث وقع في الكتاب فإنما هو للدلالة على عبادة وتكليف من الله يجب أن يقوم به المكلف العابد مستعينا ومبتدئا باسم الله الذي شرع له ذلك الفعل ومخلصا له فيه من غير إشراك معه وكما بدأ طاعته بإعلان أنها باسم الله المعبود الذي شرعها له . وهكذا ركب نوح ومن معه في السفينة كما في قوله ﴿ وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها ﴾ هود 41 فأطاع أمر الله حين أوحي إليه قوله ﴿ قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن ﴾ هود 40 فجرت بهم الفلك على الماء الطوفان وجرت بعدها كل سفينة على الماء والعادة أن تستقر عليه وتغرق فكان جريانها في البحر بما ينفع الناس إنما هو باسم الله الذي أوجب على من في السفينة وعلى الناس أن يستعينوا بالسفن وبمنافعها في طاعة الله وعبادته ، ولو قال نوح باسم ربي مجراها ومرساها لم تجر سفينة على البحر بعدها إلا لمثله ، إذ ما كان باسم ربنا هو الآية الخارقة المعجزة مع رسله من الملائكة والبشر .
وهكذا لم يحل من الذبائح والصيد البري إلا ما ذكر اسم الله عليه كما في المائدة وثلاثة كل من الأنعام والحج .
إن حرف الأنعام ﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ﴾ الأنعام 121 ليعني أن إزهاق الحياة في الطير والدواب إنما يجب أن يكون باسم الله الذي شرع لنا أكلها لنحيى ونقوى على العبادة ، أما ما لم يذكر اسم الله عليه منها فتجرد من هذا القصد والنية فهو فسق خرج به الإنسان عن الوحي الذي جاء به النبيون وعن مقتضى العبودية إلى المعصية والعبث فحرم على المسلمين أكله ، ولئن كان النهي عن الأكل من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكي منها بإنهار دمه وذكر اسم الله عليه فما ظنك بقتل الصحيح من الطير والأنعام عبثا وما ظنك بقتل الإنسان إذا لم يكن من المكلف به طاعة لله ورسوله .
إن الذي يقول " باسم الله " قبل طعامه وشرابه المباح قد أطاع الله في قوله ﴿ وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ﴾ الأعراف 31 .
وإن الذي يقول " باسم الله " ويأكل الخنزير والميتة والدم غير مضطر فقد افترى على الله كذبا وادعى أن الله قد شرع ذلك .
وإن الذي يقول " باسم الله " ويطأ زوجته قد أطاع الله في قوله ﴿ وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين ﴾ النساء 24 فهي كلمة الله التي استحللنا بها فروج النساء .
وإن الذي يقول " باسم الله " ويزني قد افترى على الله وادعى أن الله شرع له الزنا وكلّفه به وما أشبهه بسلفه من القرامطة الذين كانوا يقرأون القرآن لابتداء الليالي الحمراء فإذا سكت القارئ أطفئت المصابيح ووقع كل رجل على من تقع يده عليها ولو كانت أخته أو أمه كما سنّه عليِّ ابن الفضل الجدني القرمطي في آخر القرن الثالث الهجري في اليمن .
إن قوله ﴿ باسم الله الرحمن الرحيم ﴾ ليعني أن قائلها ككاتبها يشهد على نفسه ويقر بأنه يبتدئ فعلا هو من تكليف الله تماما كما تعني رسالة سليمان إلى ملكة سبإ والملإ معها من قومها ﴿ إنه من سليمان وإنه باسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين ﴾ النمل 30 ـ 31 أن سليمان رسول الله إلى الناس وأن كتابه هذا هو من رسالته إليهم وهم أعم من بني إسرائيل فزيادة التكليف بقدر زيادة التمكين كما بينت في فقه المرحلية ، ويأتي لاحقا سبب ابتداء فاتحة الكتاب كالسور بـ ﴿ باسم الله الرحمن الرحيم ﴾ وسبب إيراد اسم الرحمة فيها وفي كتاب سليمان وإنما يتم المعنى في ما تقدم باسم الله إذ هو من تكليف الله عباده فهو مما يقدرون عليه ويستطيعونه ويسع كلا الطاعة والعصيان .
ولقد تضمن الكتاب الأمر بذكر الله بأسمائه الحسنى ودعائه بها ومنه ﴿ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ﴾ النور 36 ومن المثاني معه قوله ﴿ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ﴾ البقرة 114 ، ومنه ما تضمنت سورة الأعراف والإسراء وطه والحشر من الأمر بدعاء الله بأسمائه الحسنى .
وأما فاتحة العلق ﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق ﴾ فلإظهار أن قراءة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم القرآن من أوله إلى آخره كما نزّله جبريل على قلبه هي خارقة معجزة لا يقدر عليها أحد من العالمين وإنما تمت باسم ربه الذي خلق كما أن خلق الإنسان من علق لا يقدر عليه غير ربه فكذلك قراءة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم القرآن لا يقدر على إيقاعها غير ربه .
وقد يحسب الجاهل ذلك مبالغة بل لو أبدل النبي الأمي صلى الله عليه وسلم اسما من أسماء الله الحسنى بآخر منها أو حرفا بآخر ولو كان من فواتح السور التسع والعشرين لانخرمت المثاني في الكتاب ولفسد نظم الكلام ومعناه ، ولوقع فيه اختلاف كثير كما سأثبته إن شاء الله ولبطل وصف البدل بأنه من كلام الله .
إن القرآن هو من عند الله وإنما محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله به وخاتم النبيين بلغ وحي الله ولم يزده حرفا أو ينقصه منه رغم أنه كان أميا لا علم له بالكتاب والإيمان قبل نزول الوحي عليه كما في قوله ﴿ بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ﴾ يوسف 3 ومن المثاني معه قوله ﴿ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ﴾ الشورى 52 ، وهكذا كانت قراءة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم قد تمت باسم ربه لأنها خارقة معجزة ، وكانت قراءة القرآن بعدها غير خارقة فابتدئت الفاتحة كما السور بقوله ﴿ باسم الله الرحمن الرحيم ﴾ وتعني أنها كسائر العبادات يسع كلا طاعتها وعصيانها .
إن من تفصيل الكتاب أن النبوة عند إطلاقها هي الإخبار باليقين من العلم الغائب ، أو بما كان من الحوادث التي غابت عنك فلم تحضرها سواء كانت ماضية أو معاصرة كما وقعت ، أو بما ستؤول إليه الحوادث كما ستقع مستقبلا .
فمن الأول قوله قل أتنبّئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض يونس 18 وقوله أم تنبّئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول الرعد 33 والمعنى أن الله لا يغيب عنه ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، وقوله سأنبّئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا الكهف 78 .
ومن الثاني قوله ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم التوبة 70 وقوله ونبئهم عن ضيف إبراهيم الحجر 51 في وصف الحوادث الماضية .
ومنه قوله وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبّأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبّأها به قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير التحريم 3 .
ومنه قوله فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين النمل 22 من قول الهدهد في وصف الحوادث المعاصرة .
ومن الثالث قوله وأمم سنمتّعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين هود 48 ـ 49 وقوله قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون سورة ص 67 ـ 68 .
وإنه في يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا الانفطار 19 ينبّأ الإنسان بما قدّم وأخّر ، وذلك أن إلى الله مرجع الناس فينبئهم بما عملوا وبما كانوا يصنعون وبما كانوا فيه يختلفون وإليه أمرهم فينبئهم بما كانوا يفعلون .
ولا كرامة في هذه النبوة إذ هي بإحضار عمل الإنسان المنبإ به فيعرض عليه ليراه جهرة كما في قوله علمت نفس ما أحضرت التكوير 14 ، وقوله علمت نفس ما قدمت وأخرت الانفطار5 ، ولا علم قبل تمكن البصر من المعلوم كما في قوله يوم ينظر المرء ما قدمت يداه النبأ 40 ، وقوله كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم البقرة 167 ، وقوله يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تودّ لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا عمران 30 والمعنى أنه محضر كذلك وقوله ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا الكهف 49 .
وإن قوله علمت نفس ما قدمت وأخرت الانفطار 5 لمن المثاني مع قوله ونكتب ما قدموا وآثارهم يس 12 ، وقوله ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغيرعلم النحل 25 ، وقوله وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم العنكبوت 13 إذ الذي قدّموه هو ما عملوا في حياتهم والذي أخّروه هو الأثر الذي تركوه خلفهم ومنه الأشرطة المسموعة والمرئية فإن كان سيئا كان من أوزار الذين يضلونهم بغير علم ومن الأثقال مع أثقالهم .
وإنما ذكرت الحديث عن النبوة الآخرة العامة لتقريب علم اليقين الحاصل للنبيّ في الدنيا بما ينبئه به الله العليم الخبير.
إن الذين كانوا يقولون عن النبيّ هو أذن التوبة 61 ّ بمعنى أنه يسمع ويقبل ما يتلقى من أعذارهم كالمغفل وهو أبعد ما يكون الرجل عن الوحي هم المنافقون الذين يحسبون النبيّ كذلك ، لا يفقهون أن النبيّ تعرض عليه في يقظته ونومه أعمال أمته سواء منهم من عاصروه والذين سيتأخرون عنه ويعرض عليه مما سيكون من الحوادث في أمته إلى آخرها وإلى قيام الساعة فما بعده .
إن الله نبّأ النبي بما سيكون في أمته فعرضه عليه عرضا ورأى رجال ونساء أمته حسب أعمالهم ودرجاتهم على نسق ما ينبئ الله به كل إنسان في يوم الدين والحساب بما قدم وأخر من أعماله .
ولا تسل عن اليقين من العلم الحاصل للإنسان المنبإ في يوم الدين ولا للنبيّ في الدنيا لأن الله يري النبي ذلك العرض بأم عينيه في الدنيا كما في الأحاديث النبوية المتواترة ومنها :
ـ إني والله لأنظر إلى حوضي الآن [ متفق عليه ]
ـ هل ترون ما أرى إني أرى الفتن تقع خلال بيوتكم مواقع القطر [ متفق عليه ]
ـ إنه عرض علي كل شيء تولجونه فعرضت علي الجنة حتى لو تناولت منها قطفا أخذته أو قال تناولت منها قطفا فقصرت يدي عنه وعرضت علي النار فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرة لها ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض ورأيت أبا ثمامة عمرو بن مالك يجر قصبه في النار وإنهم كانوا يقولون إن الشمس والقمر لا يخسفان إلا لموت عظيم وإنهما آيتان من آيات الله يريكموهما فإذا خسفا فصلوا حتى تنجلي [ صحيح مسلم ] كتاب الكسوف باب ما عرض على النبي في صلاة الكسوف من أمر
ـ عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط فلم أر كالخير والشر. [ صحيح البخاري ] كتاب مواقيت الصلاة باب وقت صلاة الظهر بعد الزوال
إن النبيّ في الدنيا هو الذي يعرض عليه مما سيكون من الغيب في الدنيا والآخرة فيعلمه برؤيته عرضا عليه وذلك قوله أعنده علم الغيب فهو يرى النجم 35 أي ينظر إلى ما يعرض عليه في يقظته وهو ما اختص به النبيون جميعا إذ شاركهم بعض أتباعهم في العرض في المنام .
وإن النبوة المقيدة بالعلم كما في قوله نبئوني بعلم إن كنتم صادقين الأنعام 143 فإنما هي بأحد أمرين :
1. الإخبار والعرض يقظة وهو ما اختص به النبيون .
2. الإخبار بالكتاب الذي جاء به النبيون وهو العلم .
ويعني أن الله دعا المشركين الذين حرّموا من ثمانية أزواج الأنعام ما لم يأذن به الله أن ينبئوا النبي الأمي أي يخبروه بعلم أي يعرضوا عليه ساعة نزل عليهم لأول مرة من الله تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وهو الدليل القوي لو استطاعوه وهو الذي تتأتى به معارضة ما جاء به النبيون من العلم أو يأتوا بكتاب من عند الله نزل فيه تحريم ما زعموا .
فالنبوة بعلم بمعنى العرض يقظة هي ما اختص به النبيون وهي أخص من قوله سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا الكهف 78 وقوله ونبئهم أن الماء قسمة بينهم القمر 28 أي أخبرهم ولم يسبق إليهم علم به .
إن التقدم العلمي اليوم لم يبلغ بعض ما عرض على النبيّ الأميّ يقظة كما في المثاني :
ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم البقرة 243
ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيّ لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله البقرة 246
إن العرض يقظة في الدنيا للنبيّ هو الذي يقع مثله لكل منا إذا بلغ منه الموت قبل أن تسيل نفسه إذ يعرض عليه مقعده في الجنة والنار .
وهو الذي يقع مثله لابن آدم إذا مات ودخل البرزخ إذ يعرض عليه قبل البعث مقعده غداة وعشيا كما في كما في الحديث رقم 1379 من صحيح البخاري في كتاب الجنائز باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ بسنده إلى ابن عمر أن رسول الله قال "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة .
وهو كذلك في صحيح البخاري في كتاب بدء الخلق باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة وفي مسند أحمد في الحديث وفي النسائي وموطإ مالك وابن حبان وغيرهم .
وكما في قوله النار يعرضون عليها غدوا وعشيا غافر 46 وقوله مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا نوح 25 للدلالة على عذاب القبر .
والعرضان هما في الكتاب كما في قوله كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين التكاثر 3 ـ 7 فقوله كلا سوف تعلمون يعني به لترون الجحيم عند الموت عرضا وقوله ثم كلا سوف تعلمون يعني به ثم لترونها عين اليقين أي في يوم الدين فالعرضان عند الموت وفي يوم الدين هما اللذان وقع بهما العلم ولا يخفى أن العلم في الأخير منهما أكبر لقوله ثم لترونها عين اليقين .
وجميع أهل الجنة ينبئهم الله فيعرض عليهم وهم على سررهم ما يشاءون كما في المثاني في قوله :
إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون التطفيف 22 ـ 23
فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون التطفيف 34 ـ 35
قال هل أنتم مطلعون فاطلع فرآه في سواء الجحيم الصافات 54 ـ 55
وأهل النار كذلك ينبّأون كما في قوله كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار البقرة 167 إذ تعرض عليهم أعمالهم السيئة التي قدموها في الدنيا ودخلوا بها النار ليزدادوا حسرة وقنوطا من الفرج والرحمة .
إن عدم استطاعة التراث الإسلامي التفرقة بين الرسول والنبي لمن العجب ويعتبرون النبي أقل درجة من الرسول .
وإنما النبي هو الذي أوحى الله إليه ونبأه وعرض عليه في يقظته مما سيكون من الحوادث في الدنيا والآخرة لينبئ معاصريه وآخرين لما يلحقوا بهم من الأجيال اللاحقة .
والنبيون ثلاثة أصناف :
1. من أرسل بالنبوة وأنزل عليه الكتاب للناس ابتداء مثل موسى وعيسى ومحمد فهم رسل الله بالبينات لما في الكتاب الذي أنزل عليهم ابتداء وبالبينات لما جاء به النبيون قبلهم .
2. ومنهم من أرسل بالنبوة وبالبينات لما في الكتاب الذي جاء به النبيون قبله وهم أنبياء بني إسرائيل بعد موسى .
3. ومنهم النبيون قبل موسى آتاهم ربهم الكتاب فحفظوه عن ظهر قلب وعلموه تعلما خارقا وعلموا أممهم منه بقدر استعدادهم للتلقي .
وقد أهلك الله جميع الأمم المكذبة وما بلغت معشار ما جاء به النبيون من العلم .
وإن الذي جاء به النبيون هو الكتاب الذي أنزل معهم جميعا وبيناته والنبوة التي ستقع على الأجيال اللاحقة بعدهم .
إن النبوة أخص من العلم وهو البينات لما في الكتاب ، فالنبوة هي موعودات أوحيت أو عرضت على النبيين ولم يظهر الله عليها غيرهم قبلهم ، نبأهم الله بها فجعلهم أنبياء ينبئون معاصريهم مما سيكون في الأجيال اللاحقة أي من غيبها ، وكانت أحاديث النبي عن الغيب الموعود من النبوة التي منّ الله على قوم النبيّ فجعلها فيهم وقد يتوارثونها حديثا أو كتابا مكتوبا كتبوه بأيديهم ، وإن منها الحديث الصحيح "إن مما أدرك الناس من النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت " يعني أن النبيين قبل التوراة وقبل نوح قد قالوا " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " للدلالة على أن سيكون في آخر الزمان عرايا من الحياء يصنعون ما يشاءون من الفواحش والإثم والبغي ولقد أصبحت تلك النبوة شهادة أدركها الناس الذين عاصروا خاتم النبيين وتحققت فيهم فما بالك بما آل إليه الناس بعد أكثر من أربعة عشر قرنا .
وإن النبوة الثانية بعد الأولى هي التي ابتدئت بموسى وهارون بعد هلاك فرعون ولقد تضمنتها الكتب الثلاثة المنزلة من عند الله إذ تضمنت التوراة نبوة موسى ، وتضمن الإنجيل نبوة عيسى ، وتضمن القرآن نبوة خاتم النبيين إلى الناس جميعا ونبوة من قبله من النبيين وتبيان ذلك وتفصيله هو القصد والله المستعان .
فالنبوة أوتيها النبيون جميعا وأوتيها قومهم من بعدهم الذين تلقوا منهم وأوتيها الأجيال اللاحقة بعدهم ، وهكذا أوتيها الثمانية عشر المعدودون في سورة الأنعام وأوتيها من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم ولا يخفى أن ليس كل آبائهم وذرياتهم وإخوانهم أنبياء .
إن قوله ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر الجاثية 16 لمن المثاني مع قوله وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين المائدة 20 ويعني حرف الجاثية أن بني إسرائيل هم أول من جعل فيهم كتاب الله يتدارسونه وليحكم بينهم وجعل فيهم أنبياء نبأوهم مما سيكون ومضى النبيون وبقيت نبوتهم معلومة بعدهم وآتاهم نعما ظاهرة حرم منها غيرهم كما هي دلالة التفضيل الذي يعني أن الذي فضله الله قد أعطاه ما حرم منه غيره ، ومن النعم التي فضلوا بها على العالمين تلكم الموصوفة في حرف المائدة أن جعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكا أي جعل فيهم ملوكا وهم طالوت وداوود وسليمان وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين ومنه البينات من الأمر وهي الفرقان الذي كان مع موسى وسائر أنبيائهم فلا يلتبس في ظلهم الباطل بالحق .
ولا يعني حرف الجاثية أن كل واحد من بني إسرائيل كان نبيا وإنما يعني أن النبوة والرسالة جعلتا فيهم كما هي دلالة قوله وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب الحديد 26 وقوله وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب العنكبوت 27 أي أن النبوة والكتاب جعلا في ذرية نوح وإبراهيم دون سائر بني آدم وكذلك جعل في بني إسرائيل ملوك كداود وسليمان ولا يعني قوله وجعلكم ملوكا أن كل واحد منهم كان ملكا .
إن بني إسرائيل منهم السامري الدجال المنتظر كما سيأتي بيانه في كلية الآيات ومنهم الذين قتلوا النبيين ومنهم الذين حاولوا قتل عيسى ومنهم الذين قالوا يد الله مغلولة ومنهم الذين قالوا إن الله فقير ـ سبحانه وتعالى ـ ووصفوا أنفسهم بأنهم أغنياء ومنهم من لعنه الله وغضب عليه وعذبهم بذنوبهم وجعل منهم القردة والخنازير ومنهم من عبد الطاغوت ومنهم من قالوا عزير ابن الله ـ سبحانه وتعالى ـ ومنهم من قالوا المسيح ابن الله ـ سبحانه وتعالى ـ ولا يخفى أنهم من شرار الخلق ولم يجعلهم الله رسلا ولا أنبياء .
إن عيسى وهو في المهد قد قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا مريم 30 وهو صريح في أنه كان من أولي العلم يوم قالها وهو في المهد إذ لو قال إني عبد الله آتاني الكتاب والنبوة لانخرم المعنى لدلالة آتاني النبوة على أنه يعلم ما جاء به النبيون من قبل من الكتاب والنبوة بما سيكون من الحوادث وقد لا يكون نبيا تماما كما قد استدرج النبوة بين جنبيه من حفظ القرآن إذ قد حفظ ما نبأ الله به جميع النبيين منذ آدم وإلى خاتمهم محمد إذ حوى القرآن جميع ذلك وليس من حفظ القرآن هو نبي وهكذا كان من علم عيسى أن قال وجعلني نبيا أي أن الله صيره نبيا من النبيين وعلى غير نسق ما قبله آتاني الكتاب ومن المثاني معه ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل عمران 48 وقوله وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل المائدة 110 أي جعله يعلم كل ذلك تعلما خارقا معجزا لا يملك أحد مثله لنفسه .
أما الرسالة فهي الرسالة بالبينات لما في الكتاب كما في قوله وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم إبراهيم 4 وقوله لقد أرسلنا رسلنا بالبينات الحديد 25 .
والرسل طائفتان رسول نبي ورسول بالآيات الخارقة .
إن الرسول بالآيات هو رسول بها إلى معاصريه وحدهم وقد أظهره الله بالوحي على الغيب فيخبر به معاصريه ولكن لن يستطيع أن ينبئ بغيب الأجيال اللاحقة وكل منهما أرسل بالبينات لما في الكتاب .
إن الرسالة بالآيات الخارقة المعجزة للتخويف والقضاء لتعني أن قوم الرسول بها على بينة من ربهم على صدق رسوله إليهم كما في قول موسى مخاطبا فرعون وملأه قد جئتكم ببينة من ربكم الأعراف 105 وفي قول كل من صالح وشعيب لقومه قد جاءتكم بينة من ربكم الأعراف 73 ، 85 والرسول بالآيات الخارقة المعجزة مذكر بنبوة من قبله وعلى منهاجها وشاهد على صدق النبي قبله والغلبة والنجاة من الله له هو والذين آمنوا معه على المجرمين المكذبين الذين سيهلكهم الله كما وصف النبي من قبل .
إن قوله وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته الحج 52 ليعني المغايرة بين اللفظين إذ لم يكن نبي قط رسولا بالآيات الخارقة للتخويف والقضاء لكن تضمن القرآن أن بعض الرسل بالآيات بعد هلاك المجرمين من قومهم أرسلوا بالنبوة إلى الذين نجوا معهم فمن يأتي بعدهم من الأجيال اللاحقة وهكذا نبئ نوح وإبراهيم ولوط وموسى وهارون بعد هلاك أقوامهم المكذبين ولم يصفهم القرآن بأنهم أنبياء في سياق مخاطبة قومهم الذين أهلكوا ، وأما الذين بعثوا بالنبوة ابتداء فلم يرسلوا بالآيات الخارقة للتخويف والقضاء كالنبيين قبل نوح وكأنبياء بني إسرائيل ومنهم عيسى وكذلك إسماعيل ومحمد خاتم النبيين .
إن قوله :
ـ وإن يكذبوك فقد كذّب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير فاطر 25
ـ فإن كذبوك فقد كذّب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير عمران 184
ويعني والله أعلم أن بعض الرسل جاءوا بالآيات البينات الخارقة مثل نوح وهود وصالح ، وأن بعضهم جاءوا بالزبر مثل الصحف الأولى وأن بعضهم جاءوا بالكتاب المنير وهو التوراة والإنجيل والقرآن
وإن الرسل والنبيين هم الذين أذن الله لهم في دعوة الناس وأذن للناس في الاهتداء بهم وفي طاعتهم كما في قوله :
قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني يوسف 108
يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه الأحزاب 45
الـر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد إبراهيم
ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه المائدة 16
وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله النساء 64
وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا السجدة 24
وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات الأنبياء
ويعني أن الدعوة إلى الله ليست عملا يختاره المسلم لنفسه يدعو كيف شاء ، بل كل رسول ونبي هو الذي يدعو إلى الله على بصيرة أي بوحي من الله إليه يرشده ويأمره بتكليف الله وكل رسول ونبي أرسله الله داعيا إليه بإذنه أي أن الله أذن له بالدعوة إليه وأذن له كذلك في أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور وأذن للناس في طاعته كما في حرف النساء .
إن قوله وداعيا إلى الله بإذنه ليعني أنه سيكون دعاة بغير إذن الله .
وإن مدلول الجمع في قول كل من نوح وهود أبلغكم رسالات ربي الأعراف 62 ، 68 وقول شعيب لقد أبلغتكم رسالات ربي الأعراف 93 وقوله قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي الأعراف 144 ليعني الرسالة بالبينات وبالآيات فإن قيل إنما هما رسالتان فلم الجمع قلت لكل منهم أكثر من آية خارقة كل منها رسالة مع الرسالة بالبينات لما في الكتاب والله أعلم .
إن النبي لرسول كما هي دلالة قوله :
وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها الأعراف 94
وكم أرسلنا من نبي في الأولين الزخرف 6
يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا الأحزاب 45 ـ 46
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى الحج 52
وإن الرسول بالآيات لرسول كذلك كما هي دلالة قوله:
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم إبراهيم 4
وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله النساء 64
ثم أرسلنا رسلنا تترا الفلاح 44
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى الحج 52
وحيث وقع في الكتاب المنزل لفظ رسول الله فهو يقع على الرسل بالآيات وعلى الرسل بالنبوة وإنما يخصص السياق والقرائن المراد منهما ، وكذلك لو أضيف لفظ الرسول إلى الضمير المفرد كما في قوله وآمنتم برسلي المائدة 12 .
وحيث وقع في الكتاب المنزل لفظ رسول رب العالمين فهو يخص المرسل بالآيات الخارقة المعجزة للتخويف والقضاء وكذلك لو أضيف لفظ الرسول إلى النون والألف كما في قوله يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب المائدة 15 يعني خاتم النبيين الأمي محمدا إذ هو رسول بآية خارقة معجزة هي القرآن .
وكل نبي ورسول نذير بالوحي وأعظمهم إنذارا هو الرسول بالآيات الخارقة للتخويف والقضاء ، ومحمد بالقرآن كما في قوله وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ الأنعام 19 لأن القرآن آية خارقة للتخويف والقضاء .
والآيات الخارقة مع رسل ربنا هي النذر كما في قوله كذبت ثمود بالنذر القمر 23 وقوله كذبت قوم لوط بالنذر القمر 33 وقوله ولقد جاء آل فرعون النذر القمر 41 .
والرسول بالآيات الخارقة للتخويف والقضاء نذير كذلك كما في قوله وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون سبأ 34 وقوله وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون الزخرف 23 ـ 24 .
وليست كل خارقة هي الآية من رب العالمين التي أرسل بها رسولا إذ قد تضمن القرآن الآيات الخارقة للكرامة والطمأنينة كما سيأتي ، وتضمن كذلك أن السامري الدجال رأى الملك الرسول وقبض قبضة من أثره فنبذها على حلي قومه فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار أي عجلا من لحم ودم كما بينت في كلية الآيات وكما في القرآن والحديث عن خوارقه كما يأتي بيانه . ورأى قوم لوط الملائكة معه فحسبوهم من البشر فراودوه عنهم وقرب البعيد لفرعون وجنده كما في قوله وأزلفنا ثم الآخرين الشعراء 64 وكما في قوله ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين الزخرف 36 ومن المثاني معه قوله ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض الأنعام 128 حكاية عن المخارق التي تخدع بها الجن أولياءها من الإنس .
إن الكتاب أنزل على الرسل النبيين وعلى الرسل بالآيات وإنما أنزل ابتداء على النبيين وذلك قوله كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس البقرة 213 ومن المثاني معه قوله وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة عمران 81 ويعني أن بعث النبيين بالكتاب هو أول ما سبق عند اختلاف الناس بعد آدم وأنهم كانوا قبل بعث الرسل بالآيات ، فالنبيون جميعا قد نبأوا الناس بقوله يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي الأعراف 35 ثم أرسل رب العالمين الرسل بالآيات ولا يخفى أن أول الرسل بالآيات هو نوح وقد سبقه النبيون من ذرية آدم كما في قوله أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح مريم 58 كما سيأتي بيانه .
وأما إنزال الكتاب مع الرسل بالآيات فكما في قوله لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان الحديد 25 فإنما هو الكتاب الذي جاء به النبيون من قبل ليبينوه للناس .
وإن مدلول كل من إيتاء الكتاب والحكم والنبوة ليختلف عن الآخر إذ إيتاء الكتاب بالتسمية يعني الرسالة وكما في قول عيسى إني عبد الله آتاني الكتاب مريم 30 وقوله ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا الفرقان 35 ـ 36 وقوله أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة الأنعام 89 وقوله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة النساء 54 وقوله الذين آتيناهم الكتاب بالتسمية حيث وقعت وهم الرسل وكما هي دلالة تفصيل الكتاب المنزل الذي وصف الصحابة صحابة كل نبي بالذين أوتوا الكتاب بالتجهيل كما سيأتي بيانه وتفصيله في كلية الكتاب .
أما إيتاء الحكم كما في قوله أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة الأنعام 89 وقوله وكلا آتينا حكما وعلما الأنبياء 79 في شأن داوود وسليمان وقوله ولوطا آتيناه حكما وعلما الأنبياء 74 وقوله ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما يوسف 22 في شأن يوسف وقوله ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما القصص 14 في شأن موسى وقول موسى ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين الشعراء 21 وقول إبراهيم رب هب لي حكما الشعراء 83 فإنما هو والله أعلم الميزان الذي أنزل مع الرسل كالكتاب كما في قوله لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان الحديد 25 ومن المثاني معه الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان الشورى 17 وكلاهما أنزل مع الرسل أي أن الله صير رسله يزنون بالميزان الحق ولا يخلطون الحق بالباطل بل يجعلون كل شيء في موضعه ، ألا ترى أن ليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى رسول الله أمرا خيرة من أمره وإنما المنافقون وحدهم هم الذين يخافون أن يحيف عليهم رسول الله في حكمه إذا حكم بينهم أما المؤمنون فيسلمون تسليما ويرضون ولا يجدون في أنفسهم حرجا .
إن لوطا الذي آتاه الله حكما وعلما قد أصاب في حكمه يوم قال لقومه هؤلاء بناتي هن أطهر لكم هود 78 ومن المثاني معه قوله هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين الحجر 71 وإنما أراد لوط أن يرد قومه إلى الفطرة كما في قوله أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم الشعراء 165 ـ 166 أي فروج النساء لأنهم كانوا يأتون الذكران من البشر ومن البقر والحمير والإبل والغنم وهم من العالمين وإنما الذكر والأنثى على الأرض وهي ما كانت في متناولهم ، وإذا تم للوط إرجاع قومه إلى الفطرة تيسر له أن يخاطب فيهم العقل والبصيرة أما قبل ذلك فلا .
إن الذي جنح إليه المفسرون من التأويل هو من الأباطيل ومنه قولهم إنما يعني لوط نساء أمته فهم بناته ويرده قوله قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق هود 79 ويعني أنهم علموا أنه يريد بناته لا بناتهم اللاتي لا سلطان له عليهم .
إن الله لم يعتب على لوط دعوته قومه إلى بناته وأنهن أطهر لهم من الفاحشة بالذكور وإنما وصفه بأنه آتاه حكما وعلما وأنه من المحسنين وأنه فضله على العالمين وآتاه الكتاب والحكم والنبوة كما في الأنعام .
ومن عجب القرآن أن جميع الرسل أمروا أقوامهم بعبادة الله إلا لوطا فلم يأمرهم بها وإنما بما يلزم قبلها إذ أمرهم بالتقوى وهي التخلي عن الفاحشة وأمرهم بالتطهر لأنهم قبل ذلك ليسوا مخاطبين بالعبادة ولا أهلا لها وإنما خوطبوا بالتكليف الأول فلو أجابوا لخوطبوا بالثاني وإلا لم يتجاوز خطاب المرحلة الأولى كما لم يتجاوز لوط دعوة قومه إلى الطهارة والعودة إلى الفطرة فرحم الله لوطا ، ولقد بينته في فقه المرحلية .
وكل نبي ورسول على بينة من ربه لأن بعثه بإلقاء الروح من أمر الله بتنزل الملائكة إليه بها لينذر الناس بما أوحي إليه وإيتاءه الكتاب والحكم آية خارقة معجزة عرفها هو دون غيره من الأمة ومنه قوله قل إني على بينة من ربي الأنعام 57 ومن المثاني معه قوله أفمن كان على بينة من ربه هود 17 في شأن محمد كما في قوله قل إني على بينة من ربي وكذبتم به الأنعام 57 أي أنه على بينة من ربه بالقرآن الذي كذب به المكذبون .
وقول كل من نوح وصالح وشعيب يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي هود 28 ، 63 ، 88 يعني البينة بالكتاب الذي أوتيه كل منهم فحفظه وعلمه .
إن قوله أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه فاطر 40 ومن المثاني معه قوله أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين الصافات 156 ـ 157 وقوله أم لكم كتاب فيه تدرسون إن لكم فيه لما تخيرون القلم 37 ـ 38 ليعني أن البينة إنما هي بالكتاب الذي أنزل على الرسل والنبيين وكذلك دلالة حرف فاطر ، ويعني حرف الصافات أن السلطان المبين وهو الحجة البينة إنما هي بالكتاب المنزل من عند الله ويعني حرف القلم أن العهد من الله إنما هو ما تضمنه الكتاب المنزل من عند الله كوعده أن يرحم المؤمنين ويعذب المجرمين وكما بينت مقدمة التفسير .
وقد تلقى الوحي من الملائكة كل من النبي والرسول بالآيات الخارقة المعجزة للتخويف والقضاء كما في قوله :
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده النساء 163
وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم يوسف 109 النحل 43
وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم الأنبياء 7
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـه إلا أنا فاعبدون الأنبياء 25
والرسل جميعا هم الشهداء على أممهم كما في قوله :
ويوم نبعث من كل أمة شهيدا النحل 84
ونزعنا من كل أمة شهيدا القصص 75
وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم المائدة 117
ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا النساء 159
فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا النساء 43
ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء النحل 89
ويعني أن الشهيد على كل أمة هو من البشر وليس من الملائكة أو الطير وشهادة الرسول على أمته تعني أن أعمالهم تعرض عليه كما هي دلالة قول عيسى ودلالة خطاب محمد في حرفي النساء والنحل ، فانظروا كيف كان محمد على خلق عظيم إذ لم يفضح أحدا من قومه وكان المنافقون يقولون عنه كما في قوله هو أذن التوبة 61 ، وقد جعلهم الله شهداء على أممهم إذ يعرض على كل رسول أعمال أمته .
والرسل هم الأئمة كما في قوله وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما البقرة 124 وكما سيأتي بيانه في الكليات .
إن الرسول النبي هو من أرسله الله بالبينات لما جاء به النبيون قبله وأرسل بالنبوة إلى معاصريه وإلى من يأتي بعدهم فالأمة هي أمة النبي ، والنبي هو إعلان من الله أن أجيالا متأخرة ستأتي خوطبت بنبوته وليؤمنوا بما فيها من الغيب فمحال أن تهلك أمة النبي في حياته كما في قوله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم الأنفال 33 وقوله وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين الأنبياء 107 ومنهم الكفار والمنافقين فلن يعذبوا والرحمة بين أظهرهم ، وهـكذا كان بعض النبيين في البدو مثل إسحاق ويعقوب ومثل نوح وإبراهيم ولوط بعد هلاك المكذبين من قومهم ، وكان الرسل بالآيات الخارقة للتخويف والقضاء في القرى كما في قوله وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى يوسف 109 ولا يخفى أن النبي الأمي كان رسولا بآية خارقة هي القرآن وأرسل في أم القرى .
وليس كل من وصف بأنه رسول نبي هو رسول بالآيات الخارقة إذ لم تهلك أمة إسماعيل ومحمد في حياتهما ولم تهلك أمة عيسى قبل رفعه .
أما الرسول بالآيات الخارقة للتخويف والقضاء فلإعلان انقضاء الأمة وأن الذين عاصروا الآيات الخارقة للتخويف سيقضى بينهم بتمكين الذين آمنوا في الأرض وبتدمير المجرمين المكذبين في يوم من أيام الله .
وإن درجة الرسالة أقل من درجة النبوة ولذلك وقعت زيادة الأقل ليبلغ الدرجة العليا كما في قوله واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا مريم 51 في شأن موسى وقوله واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا مريم 54 وقوله الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الأعراف157 وقوله فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الأعراف 158 وقوله ولكن رسول الله وخاتم النبيين الأحزاب 40 في شأن محمد .
وإذا وقع الوصف بالنبوة انتفت زيادتها كما في تفصيل الكتاب المنزل بما هو أقل منها وهو الوصف بالرسالة كما في قوله ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا مريم 53 وقول عيسى إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا مريم 30 ورسالة هارون وعيسى من المعلوم من القرآن ، وأما قوله وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى الحج 52 فيعني المغايرة بين اللفظين وأن لو كان كل رسول نبيا لما عطف عليه بقوله ولا نبي والعطف بقوله ولا يعني الدلالة على الاستغراق وأن ما بعدها هو أكبر مما قبلها كما في قوله لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون النساء 172 وهكذا لم يقع في القرآن مثل قولنا من نبي ولا رسول ولا مثل قولنا النبي الرسول لأن النبي أكبر من الرسول ويعني قوله من رسول ولا نبي أن من الرسل من ليسوا أنبياء كبعض الرسل بالآيات وأن من النبيين من ليسوا رسلا بالآيات لكن كلاهما رسول الله بالبينات لما في الكتاب .
إن درجة النبي في الدنيا هي أكبر درجة بلغها بشر وأكبر نعمة أنعم الله بها على بشر كما في قوله :
ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا عمران 80
ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء المائدة 81
النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم الأحزاب 6
ويعني حرف عمران أن الملائكة والنبيين هم أشرف المخلوقات .
ويعني حرف المائدة أن التشريع المنزل من عند الله إنما هو المنزل إلى النبي فجميع الناس تبع له .
ودلالة حرف الأحزاب ظاهرة .
إن قوله أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا مريم 58 وقوله ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا النساء 69 يعني أنه جعل النبيين على رأس الذين أنعم عليهم وقوله وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء المائدة 20 يعني أنه جعلها على رأس النعم قبل نعمة الملك والآيات الخارقة للطمأنينة والكرامة مع داوود وسليمان وعيسى .
وقد آتى الله جميع النبيين الكتاب والحكمة كما في قوله وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة عمران 81 وكما في دعاء النبيين إبراهيم وإسماعيل ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم البقرة 129 ولا يخفى أن أول كتاب نزل من عند الله هو التوراة أوتيها موسى فكيف علم إبراهيم وإسماعيل بالكتاب وهما قبل موسى بقرون وكيف آتى الله جميع النبيين الكتاب وكثير منهم كان قبل موسى وإنما علم النبيون الكتاب عن ظهر قلب فكانوا أعلم الناس بهذا أما التوراة فهي أول كتاب نزل ليقرأه الناس ويحكم بينهم ويتعلموا منه بقدر كسبهم وهكذا القرآن لكن موسى وعيسى علما الكتاب والحكمة قبل الكتاب المنزل عليهما للناس وذلك قول عيسى إني عبد الله آتاني الكتاب مريم 30 قالها في المهد وإنما أنزلت الإنجيل عليه بعد ذلك ، وذلك قوله ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا الفرقان 35 ـ 36 فالكتاب الذي أوتيه موسى في حرف الفرقان قد أوتيه قبل رسالته إلى فرعون وقومه وهو قبل التوراة التي أوتيها بعد هلاك فرعون .
ولم يوصف موسى وهارون بأنها نبيان في خطاب فرعون وملئه وإنما في خطاب بني إسرائيل ضمن ذكر نعم الله عليهم بعد هلاك فرعون وملئه، فوصف موسى بأنه رسول الله إلى بني إسرائيل بالبينات لما في الكتاب كما في قوله وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم الصف 5 وكذلك كان عيسى رسول الله إلى بني إسرائيل كما في قوله وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم الصف 6 وانقضى بعيسى الأنبياء من بني إسرائيل في مرحلتهم الأولى ، وكان كل منهما يبين لقومه ما في الكتاب أما الآيات المعجزة الخارقة التي معهما كإحياء الميت الذي ضرب ببعض البقرة التي ذبحت وكتفجير الماء من الحجارة لموسى وكإحياء عيسى للموتى وأنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا وجميع ما مع رسل الله وأنبيائه من بني إسرائيل كداوود وسليمان من الآيات الخارقة وما وقع منها مع محمد كتكثير الماء وكما في قوله وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى الأنفال 17 وقوله ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها التوبة 26 في شأن غزوة حنين وكما في قصة الأحزاب وبدر فليس شيء منه من جنس الآيات الخارقة المعجزة التي أرسل رب العالمين بها صالحا إلى ثمود وهي الناقة وأرسل بها موسى إلى فرعون وإنما الفرق بينهما أن التي أرسل رب العالمين بها صالحا إلى ثمود وأرسل بها موسى إلى فرعون هي للتخويف والقضاء كما في قوله وما نرسل بالآيات إلا تخويفا الإسراء 59 وقوله ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط يونس 47 لأن الآيات التي للتخويف إذا جاءت لا يكون بعدها إلا نجاة الرسول والذين آمنوا معه وإهلاك المكذبين المجرمين كافة عامة أجمعين وهو القضاء بين الفريقين .
أما الآيات الخارقة التي مع النبيين فهي كرامة ولتطمئن بها قلوب الذين آمنوا كقول إبراهيم ولكن ليطمئن قلبي البقرة 260 ومن المثاني معه قول الحواريين نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا المائدة 113 فلم تكن معجزات عيسى للتخويف والقضاء ولم تكن معجزات محمد للتخويف وإنما كانت إنعاما على المؤمنين إذ لم يهلك المكذبون بها من الذين عاصروها وكما في البخاري عن ابن مسعود قال كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفا… في كتاب المناقب باب علامات النبوة .
ولقد كان كل من نوح وهود وصالح ولوط وشعيب رسول رب العالمين بآيات خارقة ولم يبين القرآن منها إلا آية صالح التي أرسل بها وهي الناقة إذ لن تقع التذكرة بعد نزول القرآن إلا بما تضمن القرآن :
أما نوح ففي قوله أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم الأعراف 62 .
وأما هود ففي قوله أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين الأعراف 68 وقوله وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم هود 59 .
وأما صالح ففي قوله قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه الأعراف 75 وقوله لقد أبلغتكم رسالة ربي الأعراف 79 .
وأما لوط ففي قوله كذبت قوم لوط بالنذر القمر 33 وهي الآيات الخارقة التي أنذرهم بها بطشة ربهم وقوله وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين الأعراف 84 وهم المكذبون بآيات ربهم الخارقة مع رسله كما سيأتي بيانه .
وأما شعيب ففي قوله فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي الأعراف 93 .
وقد ذكر نوح وهود بنبوة من قبلهما كما في قولهما لقومهما أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم الأعراف 63 ، 69 ولا يخفى أن النبيين قبل نوح هم من ذرية آدم وأن النبيين قبل هود هم ممن حملتهم السفينة مع نوح كما في قوله أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح مريم 58 فظهر أن بين آدم ونوح أنبياء ذكر بنبوتهم نوح وأن من المؤمنين الذين كانوا مع نوح من جعلهم الله أنبياء بعده كما في قول نوح ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا هود 31 وقد آتاهم الله جميع الخير إذ جعل منهم أنبياء ذكر بنبوتهم وبما جاءوا به هود كما في الأعراف .
إن قوله تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل الأعراف 101 ومن المثاني معه قوله ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل يونس 74 ليعني أن قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب قد جاءهم أنبياء قبل رسلهم هؤلاء فالذي جاء به أنبياؤهم هو الذي كذبوا به من قبل ، والذي جاء به نوح وهود وصالح ولوط وشعيب من الآيات والبينات هو الذي أهلكوا بسبب تكذيبه ، فالمهلكون كذبوا أكثر من مرة أولاها تكذيب النبيين من قبل ثم كذبوا الرسل بالآيات الخارقة للتخويف والقضاء وذلك قوله فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ومن المثاني معه قوله فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل .
وإن قوله كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب لئيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب سورة ص 12 ـ 14 لمن المثاني مع قوله كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد سورة ق 12 ـ 14 ويعني أن كل أمة أهلكت قد كذبت رسلا بصيغة الجمع ولا يخفى أن أولهم هو النبي ثم الرسل بالآيات ومع كل منهما رسل من الملائكة تنزلت عليه بالوحي والكتاب ، وكما في قوله كذبت قوم نوح المرسلين الشعراء 105 ومن المثاني معه قوله وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم الفرقان 37 وكما في قوله كذبت عاد المرسلين الشعراء 123 ومن المثاني معه قوله وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله هود 59 وكما في قوله كذبت ثمود المرسلين الشعراء 141 ومن المثاني معه قوله ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين الحجر 80 ومن المثاني معهما قوله فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم فصلت 13 ـ 14 وقوله كذب أصحاب لئيكة المرسلين الحجر 176 وقوله كذبت قوم لوط المرسلين الشعراء 160 ومن المثاني معه حرفا سورتي ص و ق ويعني ذلك كله أن الله الرحمان لم يهلك بعذاب في الدنيا إلا أمة قد مضى في أولها رسل بالنبوة وبعد أن يبعث في آخرها رسولا أو رسلا بالآيات الخارقة .
ولقد كان موسى رسول رب العالمين بالآيات الخارقة المعجزة إلى فرعون وملئه كما في قوله وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين الأعراف 104 وقوله فقال إني رسول رب العالمين الزخرف 46 وقوله فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين الشعراء 16 وقوله فأتياه فقولا إنا رسولا ربك سورة طـه 47 .
وبعد هلاك فرعون وملئه لم يرسل رب العالمين رسولا بالآيات الخارقة لنظام ونواميس الكون الذي عرفه الناس للتخويف والقضاء إلى يومنا هذا وكما لم يوصف في القرآن كله رسول بعد موسى وهارون بأنه رسول رب العالمين وإنما وصف بهذا معهما من كانوا قبلهما وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب من الذين دمر الله قومهم المجرمين المكذبين وكما في قوله وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية الحاقة 9 ـ 10 والمعنى أنه سمى الرسل قبل هلاك فرعون بأنهم رسل ربنا ووحد لفظ الرسول للدلالة على أنهم مرسلون من رب العالمين برسالة واحدة لا اختلاف فيها رغم اختلاف الأمم والشعوب .
إن رسل رب العالمين تشمل الرسل من البشر بالآيات الخارقة للتخويف والقضاء وتشمل الرسل من الملائكة كما في قوله قال إنما أنا رسول ربك مريم 19 من قول الملك الذي أرسل إلى مريم وقوله قالوا يا لوط إنا رسل ربك هود 81 من قول رسل ربنا من الملائكة وهم ضيف إبراهيم ولوط أرسلهم ربهم بأمر منه يخرقون به نظام الكون وهكذا الرسل من البشر بالآيات أرسلهم بآية خارقة معجزة للتخويف والقضاء يخرقون بها نظام الحياة على الأرض والعادة التي عرفت من قبل .
والعجيب أن أهل الجنة وأهل النار يسمون الرسل جميعا ـ ومنهم الرسل النبيون ـ رسل رب العالمين كما في قول أهل الجنة لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها الأعراف 43 وكذلك أهل النار كما في قوله قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء الأعراف 53 ، فالفريقان كل في منزله قد علم أن الذي جاء به رسل الله في الدنيا من الكتاب والبينات هو خارق معجز لا يتأتى افتراؤه من دون الله فسموا الرسل جميعا رسل ربنا بعد العلم بالموت والبعث والحساب والجزاء .
إن أشد الناس بلاء الأنبياء كما في الحديث ، وقد قتل بعضهم بغير الحق وبغير حق ويعني الأول أن قتلهم لا يوافق شرع الله وهو الحق ويعني الثاني أن النبيين الذين قتلوا إنما قتلوا بغير حق للناس عليهم أي أن النبيين الذين قتلوا لم يظلموا أحدا ولم يكسبوا إثما يجعل لقاتليهم حقا أي حق ولو ضعيفا يبيح له قتلهم ولو بتأويل ، فلا تسل عن سفاهة الذين قتلوا النبيين فهم رحمة لمعاصريهم يأمنون العذاب في الدنيا من الله ما بقي النبي حيا بين أظهرهم .
وإن الرسل بالآيات الخارقة المعجزة من قبل قد نصروا في الدنيا بإهلاك المكذبين وبالاستخلاف من بعدهم ، ولم يقتل أحد منهم كما في قوله ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين الروم 47 وقوله ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإى المرسلين الأنعام 34 وقوله ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث الفلاح 44 ، ولا ينغلق قوله قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين عمران 183 ومن المثاني معه قوله أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون البقرة 87 إذ الحرفان في خطاب بني إسرائيل وجميع رسلهم أنبياء وكانت الآيات الخارقة مع داوود وسليمان وعيسى آيات للكرامة والطمأنينة وليست للتخويف والقضاء .
وإن النبيين قد قتل بعضهم ولم يهلك بعذاب جامع مستأصل الذين كذبوهم وقتلوهم كما في قوله وكم أرسلنا من نبي في الأولين وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين الزخرف 6 ـ 8 ومن المثاني معه قوله وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون الأعراف 94 ـ 95 ويعني حرف الزخرف أن الذين أهلكهم ربنا كانوا خلفا أشد بطشا من آبائهم الذين استهزأوا بالنبيين وإلا لكان السياق فأهلكناهم بدل فأهلكنا أشد منهم بطشا ويعني حرف الأعراف أن الذين أخذوا بغتة وهم لا يشعرون كانوا خلفا أكثر عددا وأكثر سراء وحسنة من آبائهم الذين كذبوا النبيين من قبل .
أعتذر للقراء فقد كنت أمهد تمهيدا أي أتوسع في الشرح ، والآن فقط بدأت أنقل مباشرة من كتابي " المعجم المفهرس لمعاني ألفاظ القرآن "
غضب
لقد أسند الغضب في الكتاب المنزل إلى الأخيار من بني آدم وإلى الله رب العالمين ، ويعني أنه ورد على ثلاثة أقسام :
أولها إسناده إلى موسى ويونس والذين آمنوا في هذه الأمة ، وكان غضب موسى هو إلقاؤه الألواح وأخذه برأس أخيه ولحيته يجره بهما إليه قبل أن يسكت عنه الغضب ليأخذ الألواح ويستغفر لأخيه هارون ، وكانت مغاضبة ذي النون هي خروجه عن قومه حين أبق إلى الفلك المشحون ، وكان غضب الذين آمنوا هو رد البغي بمثله على الباغي ، قلت ولا نحتاج إلى كثير بحث بل يفسر القرآن بعضه بعضا ولآن الرضا وعدمه من صفات النفس قد يخفيه صاحبه وقد يظهره غير أن غضب المخلوق من صفات الجوارح لا يتأتى إخفاؤه أي هو أكبر من عدم الرضا الخاص بالنفس .
وثانيهما : إسناده إلى الله عز وجل إذ تضمن تفصيل الكتاب المنزل غضب الله على من قتل مؤمنا متعمدا وعلى اليهود وعلى من شرح بالكفر صدرا وعلى من فرّ من الزحف في سبيل الله وعلى المنافقين وعلى الملاعنة الكاذبة ويعني أن الله سيعاقب في الدنيا عقوبة ظاهرة يستدل بها الناظر على أن من وقع عليه غضب الله قد حيل بينه وبين حسن الخاتمة وأسباب المغفرة والتوبة جزاء وفاقا لمن آثر ربحا أو سلامة في الدنيا باع بها مرضاة الله وعقابه .
وثالثها : إسناد الغضب إلى ربنا عز وجل إذ تضمن تفصيل الكتاب المنزل غضب ربنا على عاد وعلى الذين اتخذوا العجل إلـها وعلى من أخلف موعد رسله وعلى الذين يحاجّون في الله من بعد ما استجيب له وعلى من طغا بنعمة الله فصرفها في شقاق الرسل وعلى إحدى الطائفتين اللتين لم تتبعا صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، ولا يخفى أن ثانيهما هم الضالون ، ويعني أن الغضب من ربنا هو العذاب في الدنيا عذابا ماحقا مستأصلا من يقع عليه بخلاف الضالين الذين قد يؤخر عنهم العذاب في الدنيا إلى يوم الفصل .
ضلّ
لقد ورد لفظ الضلال في مقابلة الهدى كما في قوله [ قل لا أتبع هواءكم قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين ] الأنعام 56 ، ومن المثاني معه قوله [ قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرّموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين ] الأنعام 140 ، ويعني أن الضالين لم يحضروا ولم يشهدوا الهداية بل غابوا عنها بما سلكوا طرقا وسبلا تذهب بهم بعيدا عن الهدى الذي جاء به الرسل والنبيون من عند الله .
وتضمن تفصيل الكتاب أن كيد أصحاب الفيل كان في تضليل إذ تلاشى فلم يبق منه أثر بل غاب وابتعد عن هدم الكعبة ، وكان كيد الكافرين في ضلال أي تلاشى فلم يصل ولا يهتد إلى غايته بل يقصر عنها ، وكذا دعاؤهم وهم في جهنم في ضلال أي لا يستجاب له ولا يصل بهم إلى النجاة من العذاب ، وحسب أصحاب الجنة التي أصبحت كالصريم أنهم قد ضلوا طريقها أي لم يهتدوا إلى جنتهم التي أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون للمساكين منها شيئا ، ودعا القرآن إلى العجب من الذين كفروا وأنكروا أن يتأتى خلق المقبور خلقا جديدا للحساب بعد ضلاله في الأرض أي تلاشي أجزائه وذهابها في الأرض ، ومن خيبة المشركين إذا مسهم الضر في البحر ضلال شركائهم أي تلاشي وذهاب ما اعتقدوه فيهم من القدرة على النصر ودفع الضر ، وسيتقطّع يوم القيامة ما بين المشركين والشركاء من المودة أي يضل ويتلاشى فلا يبق منه أثر ، ويضل الله الظالمين أي يهلكهم بالعذاب فلا يبقى منهم أثر كما أهلك سلفهم من قوم نوح والأحزاب من بعدهم ، وكان ضلال إحدى المرأتين الشاهدتين هو نسيانها الحادثة وذهاب تذكّرها بالمرة .
ومن الضلال عن الهدى تبدل الكفر بالإيمان والإسرار بالمودة إلى عدو الله وعدو الذين آمنوا ، واتباع أهواء المشركين ، وعبادة الآلهة من دون الله كالذين اتخذوا العجل ، وضرب المثل للنبي الأمي صلى الله عليه وسلم بالرجل المسحور .
ومن الضلال المبين أي الواضح الذي لا يختلط بالهداية معصية الله ورسوله ، وعبادة الأصنام وقساوة القلب من ذكر الله ، وتسوية المخلوقين بالخالق .
ومن الضلال البعيد أي الذي ابتعد ونأى صاحبه عن الهداية : الشرك بالله والكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والكفر والتحاكم إلى الطاغوت واستحباب الحياة الدنيا عن الآخرة والصد سبيل الله وعن اتباع الرسل والكفر بآيات ربنا الخرقة مع الرسل بها ودعوة ما لا يضر وما لا ينفع من دون الله وعدم الإيمان بالآخرة والامتراء في الساعة ...
وأما الضالون فمنهم الذين كفروا ثم ازدادوا كفرا ومن يقنط من رحمة ربه ومن لم يهتد إلى دراية أن خالقه هو رب السماوات والأرض .
وأضل من هؤلاء أهل الكتاب الذين ينقمون على الذين آمنوا إيمانهم بالنبي الأمي ، والمكلفون الذين لا يفقهون بقلوبهم الكتاب المنزل ولا يبصرون بأعينهم الهدى مع الرسل والنبين ومن اتبع هواه بغير هدى من الله ومن شاقوا الله ورسله أي خالفوهم ونابذوهم العداوة ، ومن دعا من دون الله ما لا يستجيب له إلى يوم القيامة .
وتضمن الكتاب المنزل أن الله يضل عن الهدى بصيغة المستقبل المتجدد كلا من الكافرين ومن هو مسرف مرتاب ، والفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض وكذا الذين في قلوبهم مرض والكافرون الذين يعترضون على اصطفاء الله رسله بقولهم ما ذا أراد الله بهذا مثلا ، ومن تبين له الهدى مع الرسل به فأعرض عنه كأبي إبراهيم ، ومن حرصوا على تعجيز الرسل فسألوهم الآيات الخارقة للتخويف والقضاء، وكذا من زيّن له سوء عمله فرآه حسبا كالذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، أي عاقبهم جميعا فتركهم في ضلالهم عن الهدى ولم يتب عليهم ليهتدوا .
وكذلك فئتان من المنافقين أركسهم بما كسبوا ، والمنافقون المذبذبين بين الكفار والمؤمنين ، والذين كذّبوا بآيات ربهم ، وكفروا وسألوا رسلهم آيات خارقة للتخويف والقضاء ، وكفروا ويمكرون ، ومن هم في طغيانهم يعمهون ، ومن ضل عن آيات الله ، ومن ضل عن الاهتداء بأحسن الحديث كتابا متشابها مثاني ، والذين خوّفوا النبي الأمي أن تصيبه آلهتهم بسوء ، والذين سيأتي عليهم يوم من أيام الله التي يهلك فيها الأحزاب ، والذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق ، والذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة بما ضلوا في الدنيا وأضلوا أهليهم معهم ، فهؤلاء جميعا لا وليّ لهم ولا مرشد يهديهم إلى الهدى والرشد ولا هادي لهم لما عاقبهم به الله .
وقام فعل الإضلال في الكتاب المنزل بفرعون أضل قومه ، وبالشيطان إذ أضل جبلا كثيرا من بني آدم ، وبفريق من الناس متأخر عن نزول القرآن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله ، ومن يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله أي عن الرسول ورسالته كما بينت في مادة سبيل ، والأظلم المفتري على الله كذبا ليضل الناس بغير علم وإنما الافتراء على الله كذبا هو القول بأن الله لم يرسل رسوله ولم ينزل كتابه كما بينت في مادة افترى ..
ووقعت إرادة الإضلال والحرص عليه من الشيطان وطائفة من أهل الكتاب وفرعون وملأه ومن جعل لله أندادا ، وأكثر من في الأرض وكثير يضلون غيرهم بأهوائهم .
وأما قوله :
ـ [ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضلّ أعمالهم ] القتال
ـ [ والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم ] القتال 8
ـ [ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ] الفرقان 23
ـ [ ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين ] المائدة 53
وشبهه فيعني أن الله سيجعل سيما يعرف بها كل من الكافرين والمنافقين في الدنيا ليميز الله الخبيث من الطيب ولا يختلطون بالمؤمنين بل يعرف بها أن الذين شاقوا الله ورسله قد حبطت أعمالهم أي ما سلف من صلاتهم وصيامهم وقيامهم وحجهم ... وإنما سيقع ذلك يوم يقع القول في القرآن على المكذبين فيخرج ربنا دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا لا يوقنون بآيات ربهم الخارقة للتخويف والقضاء ، وقد بينته كثيرا في مادة حبط من هذا المعجم وفي كلية الآيات من بيان القرآن .
تبينت أن كلمة [ الألفاظ ] قد لا تكون مناسبة لمدلول ما قصدته وإنما اقتبست العنوان من كتاب محمد فؤاد عبد الباقي
قال ابن منظور في لسان العرب : "اللفظ : أن ترمي بشيء كان في فيك ، والفعل لفظ الشيء ، يقال لفظت الشيء من فمي ألفظه لفظا رميته وذلك الشيء لفاظة " اهـ محل الغرض منه
وهكذا عدلت عنه إلى العنوان التالي : المعجم المفهرس لمعاني كلمات القرآن .
شكر الله لك سعد بن علي اقتراحك حذف كلمة المفهرس وأسارع إلى العمل به
وقد أسميته [ معجم معاني كلمات القرآن الكريم ]
أما اقتراحك عدم التعجل في الإخراج فقد وافقت أنت فيه العشرات من زملائي ، ولكن دواعي الإسراع في إخراجه أكبر مما يخشون عليّ من لفظ تفسيري ممن حسبوا هذه المتون معصومة كافية شافية ، ذلكم أن الله أمر بالمسارعة في الخيرات في سياق ابتلاء الأمة بالكتاب المنزل في حرف المائدة أي هي دعوة صريحة من الله بتدبر القرآن ، ثم إني أغتنم الحياة لأنشر منه ما استطعت قبل الموت ، ولعلي أكون قد كسرت حاجز الخوف ليكمل تدبر القرآن ونشر مسائل الغيب الذي كلفنا بالإيمان به ويحرص فقهاء الأوراق ومفسروها على طيها ودفنها وتنفير الناس منها وليكمل البحث بعد موتي من لا يخافون في الله لومة لائم
إن قوله :
ـ [ فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي ] يوسف 80
ـ [ فانكحوهن بإذن أهلهن ] النساء 25
ـ [ فأذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون ] يوسف 70
ليعني أن الإذن من الأب هو كلام صريح من يعقوب يصل إلى ابنه الأكبر يأمره بالعودة .
ويعني أن أهل الأمة لا أسيادها هم من يأذنون بزواجها ، وأن الإذن من الأهل هو كلام صريح يتبينه المأذون له في زواج الأمة
ولا يخفى أن أذان المؤذن في أثر العير بقوله يخاطبهم ويسمعونه [ أيتها العير إنكم لسارقون ] ليعني أن العزيز قد أذن للمؤذن والجنود معه بتفتيش العير ليعثر على صواع الملك ، ودلت ضمائر الجمع في [ عليهم ] وفي [تفقدون ] وفي [ قالوا ] وفي [ نفقد ] على أن مع المؤذن جنودا .
وكان الأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر [ أن الله بريء من المشركين ورسوله ] برفع اللام المتفق عليه ، هو الإذن من الله في الكتاب المنزل للمؤمنين أن يبرأوا من المشركين ولو كانوا أولي قربي .
وزاد من غضب فرعون على السحرة إيمانهم بموسى قبل أن يأذن لهم بكلام يسمعونه منه .
وكان من تفصيل الكتاب المنزل أن لكل من إسناد الإذن إلى الله وإلى ربنا مدلولا خاصا به ، فمما أسند إلى الله قوله :
ـ [ وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني ] المائدة 110
ولا يخفى عود ضمير المتكلم إلى الله في قوله [ إذ قال الله يا عيسي ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك ] ويعني أن عيسى قد تلقى وحيا من الله علم منه الإذن أن يخلق من الطين كهيئة الطير وإلا لكان تصوير هيئة الطير من الطين عبثا .
وإن قوله :
ـ وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ] آل عمران 49
ـ [ وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني ] المائدة 110
ليعني أن الشفاعة إنما تمت بعد إذن الله الذي أذن له أن يبرئ الأكمه والأبرص بنحو قوله " أبصر أيها الأكمه وابرأ أيها الأبرص بإذن الله" أي أن الله أذن له في الشفاعة في هؤلاء المبتلين وحري بعيسى الذي علّمه الله الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ساعة ولد دراية قوله تعالى [ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ] البقرة 255 ، وقوله [ ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ] سبأ 23 وقوله [ ما من شفيع إلا من بعد إذنه ] يونس 3 ، وقد بينته في مادة شفع من هذا الكتاب وفي كلية الآيات من بيان القرآن .
وأما قوله :
ـ [ فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ] آل عمران 49
ـ [ وإذ تخرج الموتى بإذني ] المائدة 110
ـ [وأحيي الموتى بإذن الله ] آل عمران 49
فيعني أن الله قد جعل عيسى روحا منه كما في قوله [ إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ] النساء 171 ، وحري بالموتى في قبورهم وبالطين أن تدب فيهما الحياة بروح من الله وإنها لآية خارقة كالتي يرسل الله بها رسله كما في قوله :
ـ [ وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله ] إبراهيم 11
ـ [ وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ] الرعد 38 ، غافر 78
ويعني أن الله أذن للحادثة الخارقة أن تحدث على غير نسق نواميس الخلق وسنن الحياة فيه وهكذا كانت كل آية خارقة مع الرسل بها للتخويف والقضاء أو مع النبيين والصالحين للطمأنينة والكرامة .
وكذلك أذن الله للخارقة مع أعداء الله كالسامري الدجال .
ولقد أذن الله لبعض النبيين الذين مكن لهم في الأرض وكلفوا بالقتال في سبيل الله وبقتل بعض أعدائه ، وكان النبي في كل مرة يتلقى الإذن من الله قبل الخروج من ببته وقبل بعث السرايا وانتظر الصحابة الكرام الإذن بالقتال عدة أشهر قبل الإذن به واستأذن عمر بن الخطاب النبي في قتل بعض المنافقين وغيرهم من أعداء ولم يأذن له ولو قتلهم عمر اجتهادا منه دون الإذن لكان قتلا بغير إذن الله ولو قاتل الصحابة قبل أن تنزل سورة محكمة يؤذن فيها بالقتال لما كان قتالهم في سبيل الله .
وما كان للمصائب والآفات والضر والسيئات أن تتسلط على المبتلين من أهل الأرض لولا أن الله أذن للأسباب كما لم يأذن للنار أن تحرق الخليل إبراهيم .
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله الذي أذن لملك الموت بقبض نفسها ولو طالت غيبوبة صاحبها عن الوعي وطال ألمه عشرات السنين وما نموذج شارون اليهودي منا ببعيد .
وكل التكاليف الفردية والجماعية في الكتاب المنزل وفي الحديث النبوي كالصلاة والصيام والحج والبر وفعل الخيرات قد أذن الله لعباده بالقيام بها ، وتضمنت سورة الشورى العجب من الذين يتعبدون بشعائر لم يأذن بها الله كأنما لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله وهيهات .
ولقد تضمن الكتاب المنزل أكثر من إذن لم يقع بعد نفاذه وسيقع إذا وافق الأجل الذي جعل الله له وهو الميعاد يوم ييتغلب الذين ظلموا من الناس فيهدمون المساجد ومنها الثلاثة : المسجد الحرام والنبوي والأقصى وليهدي الله لنوره المنزل من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس وهو بكل شيء من الغيب عليم هنالك أذن الله في هذا الكتاب المنزل لرجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله أن يرفعوا تلك المساجد المهدمة وأن يذكروا فيها اسمه ويسحوه فيها بالغدو والآصال .
ومنه جهاد المنافقين والغلظة عليهم ومنه الحرب على الذين لا ينتهون من الربا بعد الموعظة الموعودة من ربهم .
ولعل الذين يقولون :سنفعل كذا بإذن الله ، لا يفقهون ما يقولون لدلالة كلامهم على أن ما يعتزمون فعله هو من شرع الذي أذن بفعله ، يقول أحدهم إنه فاعل ذلك غدا بإذن الله بدل الصيغة المكلف بها في التكليف المنزل كما في قوله : [ ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ] .
ولهو القصور من الخواص في فقه كتاب الله ، ومنهم من يعتبر نفسه خليفة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم على أمته يأمرها بالهجرة والجهاد ويبرم الصلح ويعلن الحرب ...
وكان من تفصيل الكتاب المنزل أن القرآن ذكر أي تضمن ذكرا من الأولين ووعدا في الآخرين كما في قوله :
ـ قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين الصافات 102
ـ وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين يوسف99
ـ وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين القصص 27
ـ وإنا إن شاء الله لمهتدون البقرة 70
ـ قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا الكهف 69
وهو من هدي النبوة الأولى وذكر من الأولين .
وهكذا وعد إسماعيل أباه أن سيجده حال الذبح مسلما صابرا راضيا بقضاء الله ، وتعلّق الصبر بمشيئة الله أي أنه سيصبر ما قدّر الله عليه الصبر ، واهتدى بنفس الهداية والعلم كل من موسى وهو يعد الخضر ، وصالح مدين وهو يعد موسى ـ حين خاف فرعون وملأه ففرّ منهم ـ وتعلّق الصبر والصلاح بمشيئة الله أي ما قدّر الله الصلاح والصبر كأن كلا منهم يبرأ من الحول والقوة وتزكية النفس .
ومن الوعد في الآخرين أي مما خوطبت به هذه الأمة قوله ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله الكهف 24 ، ولا إشكال في هذا .
وأما إسناد الإذن إلى ربنا فيعني التسخير الذي لا يقدر على مثله أحد من العالمين وهكذا سخرت الجن أن تعمل بين يدي سليمان وتتنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم في ليلة القدر بشارة للمؤمنين لتخاطبهم الملائكة بقولها [ لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ..] ، ولنفاذ وعد الله في الكتاب المنزل بإهلاك المجرمين كما في وعد الله ووعده الحق [ ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذن منظرين ] ومن المثاني معه وعده [ ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ] .
إن من تفصيل الكتاب وبيان القرآن أن الوصف بالإجرام كما في قوله :
ـ [ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذّب بآياته إنه لا يفلح المجرمون ] يونس 17
ـ [ قل إن افتريته فعليّ إجرامي وأنا بريء مما تجرمون ] هود 35
يعني أن الإجرام هو التكذيب بآيات الله المتلوة أو آياته الخارقة للتخويف والقضاء ، أو الافتراء على الله كذبا ، أي هو قول الشقي إن الله لم يرسل نبيا أو لم ينزل كتابا أو لم يرسل رسلا بالآيات ، وكذلك ادعاء تلقي الوحي ممن لم يوح إليه شيء ، وكان من فضل الله على سحرة فرعون أن آمنوا لموسى وعلموا أنهم إن لم يؤمنوا بالآيات الخارقة مع موسى فقد أجرموا أي قطعوا كل أسباب النجاة من العذاب في كل من الدنيا والآخرة .
ولقد وصف الله الذين كذّبوا الرسل بالآيات بأنهم مجرمون كما في قوله :
ـ [ ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين ] الروم 47
ـ [ فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ] هود 116
ـ [ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين] يونس 13
ـ [ قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ] النمل 69
ـ [ أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين ] الدخان 37
وقد حذّر هود قزمه أن يتولوا عنه مجرمين ، وحين عذّبوا بالريح العقيم أصبحوا لا يرى إلا مساكنهم وكذلك جزاء المجرمين ، وأخبر ضيف إبراهيم وهم رسل ربنا من الملائكة أنهم أرسلوا إلى قوم مجرمين أي إلى قوم لوط ، وكلف الله النبي الأمي بالعجب من عاقبة المجرمين المعذبين في الدنيا بالمطر الحاصب ، واستكبر فرعون وقومه أن يؤمنوا بالآيات الخارقة للتخويف والقضاء مع موسى وهارون فكانوا قوما مجرمين ، وكان استفتاح موسى طلبا للتصر : أن فرعون وملأه قوم مجرمون ، ومن قبل أخبرهم بأن الله سيحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون .
وللمجرمين أوصاف وعلامات يعرفون بها فهم يكرهون الحق وأن يحق الله الحق بكلماته التامات ، ويضلّون الغاوين اللاهين في الغيّ عن الوحي ، ويضحكون من الذين آمنوا ويصفونهم بالضلال ، ويأكلون ليتمتعوا ثم يأكلون لتجديد المتاع ، ولا يبصرون الهدى المنزل ولا يسمعون الوحي أي لا يفقهون الموعظة والذكرى ، ويكذّبون بجهنّم ، ويتّبعون ما أترفوا فيه ، ولا يؤمنون بالكتاب المنزل حتى يروا العذاب الأليم ، وهم أعداء النبيين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ، ويستكبرون إذا تليت عليهم آيات الله ، وينكرون أن الله خلق كل شيء بقدر ، ومنهم الأكابر المجرمون في كل قرية تعاصر من كان ميتا فأحياه ربه وجعل له نورا يمشي به في الناس ، وهم يوم القيامة من يودون الافتداء من العذاب بالأبناء والصاحبة والأخ والفصيلة ومن في الأرض جميعا ، وأنى لمن قطع عن نفسه أسباب الخير والرشد أن يحب غيره .
إن المخلدين أبدا في جهنم وسقر والذين لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف ولا يفتّر عنهم من عذابها هم المجرمون والكفار والمنافقون ، وتضمن تفصيل الكتاب المنزل أن المجرمين هم أعدى أعداء الله وهم شر الثلاثة ، ولبئس الكفر والنفاق ممن لم يعاصر نبيا وشر من كل منهما كفر الكافر ونفاق المنافق ، والنبي بين أظهرهم وآياته تتنزل عليه فيتلوها عليهم ، ولا يقع عليهم الوصف بالإجرام إلا بصدهم عن سبيل الله أي عن الرسول ورسالته ، ولا يقع القضاء في الدنيا بين الفريقين باستخلاف الذين آمنوا وتدمير الذين أجرموا بتكذيبهم بالآيات الخارقة للتخويف والقضاء .
ولأن القرآن مثاني أي ذكر من الأولين ووعد في الآخرين فقد وعد الله ووعده الحق أن سيكون في آخر هذه الأمة مجرمون سيصيبهم من العذاب في الدنيا مثل ما أصاب سلفهم من المجرمين من قبل وكما في قوله :
ـ [ سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون] الأنعام 114
ـ [ ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ] الأنفال 8
ـ [ قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون] يونس 50
ـ [ وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ] الأنعام 55
ـ [ إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ] يراءة 66
ـ [ ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين ] الأنعام 147
ـ [ ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ] يوسف 115
ـ [ كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين ] الحجر 12
ـ [ كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ] الشعراء 200
ـ [ إنا من المجرمين منتقمون] السجدة 22
ـ [ ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين] المرسلات 18
ـ [ إنا كذلك نفعل بالمجرمين ] الصافات 34
أولا : التفسير اللغوي للفسق من القرآن
إن قوله :
ـ [ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ] الحجرات 6
ـ [ والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ] النور 4ـ5
ـ [ ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين ] الأنبياء 74
ويعني أن الفاسق هو من خرج عن السلم الاجتماعي سعيا بين الناس لإفساد ذات البين وهتك الأعراض .
ثانيا : الفسق في المصطلح القرآني
إن من تفصيل الكتاب وبيان القرآن أن الفاسق هو من وقع عليه الأمر من الله فأباه استكبارا ، ولقد بينت في مادة [ أبى ] أن الإباء المسند إلى المخلوق هو ثالث درجات الامتناع أي هو زيادة سلوك بعد [1] الامتناع النفسي أي انعدام الإرادة [2] وتعبير اللسان ، وكان تنقيص إبليس من آدم أن خلق من تراب هو إباؤه أن يسجد وهو أكثر من امتناعه بترك السجود وأكثر من قوله لو قال بلسانه لا أسجد .
وهكذا فسق إبليس منذ وقع عليه التكليف بالسجود لآدم ، ، وسأل موسى ربه أن يفرق بينه وبين القوم الفاسقين وكان التكليف [ ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ] قد وقع عليهم فخرجوا عن الطاعة استكبارا حين قالوا [ يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ] .
وتضمن تفصيل الكتاب أن الفاسقين هم من يكفرون بالآيات المتلوة استكبارا أن يتبعوها ولا ينغلق إذن امتناعهم عن الحكم بما أنزل الله ، وأكبر وأرهب منه دلالة قوله :
ـ [ إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ] براءة 84
ـ [ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ] النور 55
ـ [ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا على ذلكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ] آل عمران 81ـ82
ويعني حرف براءة أن الكفر استكبارا وعلوا كسلوك المنافقين المتخلفين عن نصر رسول الله ، أكبر من كفر الكافر تقليدا كذرية من بعد الآباء المبطلين ، ولكأن الموت على الفسق يعني أن يختم للعبد الكافر بالإصرار على الخروج من الإسلام .
ويعني حرف النور أن الله وعد وعدا حسنا غير مكذوب أن يستخلف الذين آمنوا وعملوا الصالحات في آخر هذه الأمة كما استخلف الذين من قبلهم ، وإنما استخلف الله من قبلنا القلة المؤمنة مع نوح وهود وصالح وشعيب ... بتدمير المكذبين واستخلافهم في الأرض من بعدهم ، واستخلف كذلك في الأرض داوود وسليمان وذا القرنين مكّن الله لهم تمكينا خارقا معجزا ، ويوم يقع نفاذ الوعد بأي منهما ، فلن يكفر بعده إلا الفاسقون الخارجون المارقون عن الإسلام المصرون وأولئك المشار لهم بالبعيد يوم نزل القرآن هم الفاسقون .
ويعني حرف آل عمران أن الله قد كلّف النبيين أن يشهدوا بصدق الرسول المصدق لما معهم وهو الكتاب المنزل وأن يؤمنوا وينصروه وتضمن تفصيل الكتاب أن أولئك الذين يتولون وينقلبون عن موافقة النبيين يومئذ هم الفاسقون المصرون على الكفر استكبارا ، وحسب المفسرون وغيرهم أن من المجاز أو التسلية [1] تكليف النبيين بالإيمان والنصر [2] وأخذ النبيين الإصر من الله ـ وهو العهد الثقيل ـ [3] وإقرارهم به لله [4] وتكليفهم بالشهادة [5] وشهادة الله وهو أكبر شهادة .
ووقع الوصف بالفسق في مقابلة الإيمان لتبيان أقصى درجات الرشد وأقصى دركات السفه كما في قوله :
ـ [ أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ] السجدة 18
ـ [ منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ] آل عمران 110
ووقع الوصف بالفسق على كل من قوم نوح وعلى فرعون الذي استخف قومه وعلى قومه الذين أطاعوه وعلى الذين زاغوا من بني إسرائيل .
ووقع الوصف بالفسق على الذين تخلفوا عن الجهاد في سبيل الله مع موسى وعلى المنافقين المتخلفين عن الجهاد مع النبي الأمي في غزوة تبوك ذلك من تفصيل كتاب متشابه مثاني إذ هو ذكر من الأولين ووعد في الآخرين
وقد استدرج الله بالنعم قوما يفسقون من بني إسرائيل قبل أن يأخذهم بعذاب بئيس ، وأنزل الله رجزا من السماء على قوم لوط بما كانوا يفسقون ، وهو من الذكر في الأولين ومن المثاني معه وعد في الآخرين في بلاغ من الله أن يهلك أي يعذب في الدنيا القوم الفاسقين وهم المترفون في كل قرية يقع عليهم الأمر بالإصلاح فيفسدوا فيها .
ولا تزال البشرية على موعد مع وعد الله أن يضل بالقرآن الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض كما بينته في من بيان القرآن .
الصبر
الصبر لغة هو الانتظار وحبس الاستعجال
وإن من تفصيل الكتاب وبيان القرآن أن التكليف بالصبر أو الوصف به حيث وقع في الكتاب المنزل فإنما يعني التكليف بالإيمان بغيب موعود وبانتظاره ثقة في نفاذ الوعد به من غير تعجل وكذلك دلالة قوله :
• فاصبر إن وعد الله حق { الروم 60 وغافر 55 ، 77
• فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون { خاتمة الأحقاف
ويعني تأكيد نفاذ وعد الله وأنه حق ولو تراءى بعيدا للمكلف بالإيمان به أو للمكلف بالصبر ، وسيأتي بيان الأحرف الثلاثة أي حرف الروم وحرفي غافر في من بيان القرآن ، وسيأتي بيان حرف الأحقاف في كلية النصر في ليلة القدر .
وإن من المثاني قوله :
• وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين { الأعراف 87
• واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين { خاتمة يونس
• فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت { القلم 48
• واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا { الطور 48
ويعني حرف الأعراف أن رسول الله شعيبا قد أمر قومه مدين أن يصبروا ولا يتعجلوا حكم الله بين الطائفتين وهو صريح في أن الله قد وعدهم أن يحكم بين الفريقين في الدنيا فينجي المؤمنين ويهلك بالعذاب المجرمين .
ويعني حرف يونس أن الله وعد في القرآن أن يحكم بين الفريقين في الدنيا كما يأتي تفصيله وتحقيقه وبيانه في كلية النصر في ليلة القدر .
ويعني حرف القلم أن وعد الله المفصل في قوله } فذرني ومن يكذب بهـذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين { القلم 44 ـ 45 هو حكمه الذي كلّف النبيّ الأميّ صلى الله عليه وسلم بالصبر على انتظاره .
ويعني حرف الطور أن الله قد كلّف النبيّ الأميّ صلى الله عليه وسلم بالصبر على انتظار حكمه بين الفريقين في الدنيا كما هو مفصل في قوله } فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون واصبر لحكم ربك { الطور 45 ـ 48
وكان أمر النبي الأمي صلى الله عليه وسلم بالصبر حيث وقع في الكتاب المنزل عليه من سنّته التي كلف بها ولزم من اتبعه أن يصبر وينتظر حكم الله ووعده كما بينت في حوار مع الأصوليين .
وإن قوله :
• قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هـذا فاصبر إن العاقبة للمتقين { هود 48 ـ 49
• قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين { الأعراف 128
• وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون { الأعراف 137
• ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين { الأنعام 34
• ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هـذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين { عمران 124 ـ 125
ويعني حرف هود أن قوله } وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم { لمن أنباء الغيب المنتظرة بعد نزول القرآن ولقد نبّأ الله به نوحا من قبل وسيتم نفاذ وعد الله به لتكون العاقبة للمتقين وكلّف النبيّ الأميّ صلى الله عليه وسلم بالصبر قبل نفاذ وعد الله فكان من سنته ولزم من آمن به اتباع سنته .
ويعني أول الأعراف أن قوله } إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده { لمما وعد به موسى قومه قبل هلاك فرعون وتعني التذكرة به في القرآن أن الوعد لم ينقض بعد يوم نزل به القرآن ولا يزال منه ما شاء الله إلى أن يكون آخره نفاذ وعد الله } والعاقبة للمتقين { على لسان موسى وكلّف قومه بالصبر قبل نفاذه .
ويعني ثاني الأعراف أن تدمير ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون وأن ونجاة بني إسرائيل إذ جاوزوا البحر هو كلمة ربنا التي تمت أي وعده الذي نفذ وتمّ لما صبروا أي آمنوا بوعد الله وانتظروه .
ويعني حرف الأنعام أن الله قد وعد رسله بالآيات قبل نزول القرآن أن ينصرهم في الدنيا وأنهم قد آمنوا بوعد الله وصبروا على انتظاره وأوذوا حتى أتاهم نصر ربهم فأهلك عدوهم واستخلفهم في الأرض من بعدهم .
ويعني حرف عمران أن قوله } ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين { لمن وعد الله في القرآن وكلّف المؤمنين بالصبر قبل نفاذه المؤكد بالحرف } بلى { وبينته في كلية النصر في ليلة القدر .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخي الحسن هل انتهيت من كتابيك: "من تفصيل الكتاب وبيان القرآن" و"المعجم المفهرس لمعاني ألفاظ القرآن الكريم"؟
إذا كان الجواب نعم، فهل نستطيع الحصول عليهما سواء من المكتبات أو على الشبكة؟