محمد محمود إبراهيم عطية
Member
المعانقة
عانَقهُ مُعَانقةً وعِناقًا التزمه ، فأدنى عُنُقَه من عُنُقِه ، وضمه إلى نفسه ؛ وتعانقا واعتنقا ؛ وقيل : المُعَانقة في المودة ، والاعْتِناقُ في الحرب ؛ تقول : اعتنَقُوا في الحرب ، ولا تقول تعانقوا ؛ والقياس واحد ، غير أنّهم اختاروا الاعتناقَ في الحرب ، والمعانقةَ في المودَّةِ ونحوها ؛ قال الأَزهري : وقد يجوز الاعتناقُ في المودَّةِ كالتَّعانُقِ ، وكلٌّ في كلٍّ جائزٌ [SUP][1] [/SUP].
معانقة القادم من السفر
روى الترمذي عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنه - قَالَتْ : قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ ، وَرَسُولُ اللَّهِ e فِي بَيْتِي ، فَأتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ e عُرْيَانًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ ، وَاللَّهِ مَا رَأيْتُهُ عُرْيَانًا قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ ؛ فَاعْتَنَقَهُ ، وَقَبَّلَهُ[SUP] [2] [/SUP].
وإنما أرادت أم المؤمنين أن النبي e قام فَرِحًا مسْتَبْشِرًا بِقُدُومِهِ ، فتَعْجَّلَ لِقَائِهِ ، بِحَيْثُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَمَامِ التَّرَدِّي بِالرِّدَاءِ ، حَتَّى جَرَّهُ ؛ وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ مِثْلُ هَذَا .
قال ابن القيم - رحمه الله : وَكَانَ يَعْتَنِقُ الْقَادِمَ مِنْ سَفَرِهِ وَيُقَبّلُهُ ، إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِهِ . قَالَ الزّهْرِيّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها : قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ ، وَرَسُولُ اللّهِ e فِي بَيْتِي ، فَأَتَاهُ ، فَقَرَعَ الْبَابَ ، فَقَامَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ e عُرْيَانًا يَجُرّ ثَوْبَهُ ، وَاَللّهِ مَا رَأَيْتُهُ عُرْيَانًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ ، فَاعْتَنَقَهُ وَقَبّلَه ؛ قَالَتْ عَائِشَةُ : لَمّا قَدِمَ جَعْفَرٌ وَأَصْحَابُهُ تَلَقّاهُ النّبِيّ e فَقَبّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَاعْتَنَقَهُ ؛ قَالَ الشّعْبِيُّ : وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ e إِذَا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ تَعَانَقُوا[SUP] [3] [/SUP].
وَعَنْ جَابِرٍ t قَالَ : لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرٌ مِنَ الْحَبَشَةِ عَانَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ e[SUP] [4] [/SUP].
وَروى الطبراني عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ e إذَا تَلَاقَوْا تَصَافَحُوا ، وَإِذَا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ تَعَانَقُوا[SUP] [5] [/SUP].
روى أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) والحاكم عَنْ جَابِرٍ t قَالَ : بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ e ، فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا ، ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلِي ، فَسِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا ، حَتَّى قَدِمْتُ عَلَيْهِ الشَّامَ ؛ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ ، فَقُلْتُ لِلْبَوَّابِ : قُلْ لَهُ جَابِرٌ عَلَى الْبَابِ ؛ فَقَالَ : ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، قُلْتُ : نَعَمْ ؛ فَخَرَجَ يَطَأُ ثَوْبَهُ ، فَاعْتَنَقَنِي وَاعْتَنَقْتُهُ[SUP] [6] [/SUP]. وبوب عليه البخاري ( باب المعانقة ) .
فثبتت المعانقة للقادم من السفر من فعل النبي e وأصحابه ، فهي سنة لمن قدم من السفر .
وروى الترمذي عَن أَبِي هُرَيْرَةَ t في خروج النَّبِيُّ e فلقي أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما ؛ ثم انْطَلَقُوا إِلَى مَنْزِلِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ الْأَنْصَارِيِّ فَلَمْ يَجِدُوهُ ... وفيه : فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ جَاءَ أَبُو الْهَيْثَمِ بِقِرْبَةٍ يَزْعَبُهَا ، فَوَضَعَهَا ، ثُمَّ جَاءَ يَلْتَزِمُ النَّبِيَّ e ، وَيُفَدِّيهِ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ .. الحديث[SUP] [7] [/SUP]؛ ( يَزْعَبُهَا ) أي : يحملها ممتلئة ، ويتدافع بها لثقلها .
وفيه المعانقة عن التلاقي من غير سفر ، ولكن لم يكن هذا منه e دائمًا ، إنما كان أحيانًا .
وقد روى الطحاوي أحاديث النهي عن المعانقة ، ثم قال : فذهب قوم إلى هذا ، فكرهوا المعانقة ، منهم أبو حنيفة ومحمد رحمة الله عليهما ، وخالفهم في ذلك آخرون ، فلم يروا بها بأسًا ، وممن ذهب إلى ذلك أبو يوسف رحمة الله عليه ، وكان مما احتجوا به في ذلك – ثم ذكر أحاديث معانقة النبي e لعبد الله بن جعفر وزيد بن حارثة وغيرها - ثم روى عن أم الدرداء قالت : قدم علينا سلمان ، فقال : أين أخي ؟ قلت : في المسجد ، فأتاه فلما رآه اعتنقه[SUP] [8] [/SUP].
ثم قال : فهؤلاء أصحاب رسول الله e قد كانوا يتعانقون ، فدل ذلك على أن ما روى عن رسول الله e من إباحة المعانقة متأخر عما روى عنه من النهي عن ذلك ، فبذلك نأخذ ؛ وهو قول أبي يوسف [SUP][9] [/SUP].ا.هـ .
قال مقيده - عفا الله عنه : وكأنه يرى - رحمه الله - أن النهي منسوخ ؛ والذي يظهر مما أورده أنها كلها كانت عند القدوم من سفر ، فتكون مخصصة لا ناسخة ؛ لكن الاستدلال بحديث أبي الهيثم t على جواز المعانقة من غير استدامة واضح ؛ ونقل ابن القيم - رحمه الله في ( بدائع الفوائد ) أن الإمام أحمد احتج في المعانقة بحديث أبي ذر[SUP] [10] [/SUP]أن النبي e عانقه ؛ وسُئل أحمد عن الرجل يلقى الرجل أيعانقه ؟ قال : نعم ، قد فعله أبو الدرداء[SUP] [11] [/SUP]؛ أي مع سلمان ، ولكن هذا كان لأنه قَدِمَ من سفر ؛ وفي ( الآداب الشرعية ) لابن مفلح – رحمه الله : وقال مثنى إنه سأل أبا عبد الله : ما تقول في المعانقة ؟ وهل يقوم أحد لأحد في السلام إذا رآه ؟ قال : لا يقوم أحد لأحد ؛ وأما إذا قدم من سفر فلا أعلم به بأسًا ، إذا كان على التدين ، يحبه في الله ، أرجو لحديث جعفر أن النبي e اعتنقه ، وقبَّل ما بين عينيه[SUP] [12] [/SUP]؛ فنصَّ ها هنا على المعانقة للقدوم من السفر ؛ وقال ابن مفلح : وقال في ( الإرشاد ) : المعانقة عند القدوم من السفر حسنة ؛ وقال الشيخ تقي الدين ( أي ابن تيمية ) : فقيدها بالقدوم من السفر ؛ والقاضي أطلق ، والمنصوص في السفر[SUP] [13] [/SUP].
وقد قال البغوي - رحمه الله - في ( شرح السنة ) بعد أن ذكر حديث جعفر وغيره مما ظاهره الاختلاف : فأما المكروه من المعانقة والتقبيل ، فما كان على وجه الملق والتعظيم ، وفي الحضر ؛ وأما المأذون فيه فعند التوديع وعند القدوم من السفر ، وطول العهد بالصاحب , وشدة الحب في الله ؛ ومن قَبَّل فلا يقبل الفم ، ولكن اليد والرأس والجبهة ؛ وإنما كره ذلك في الحضر - فيما يُرى - لأنه يكثر ولا يستوجبه كل أحد ؛ فإن فعله الرجل ببعض الناس دون بعض ، وجد عليه الذين تركهم ، وظنوا أنه قصَّر بحقوقهم ، وآثر عليهم ؛ وتمام التحية المصافحة[SUP] [14] [/SUP].ا.هـ .
وصفوة القول أن المعانقة إنما ثبتت عند القدوم من السفر كسنة ، وفي حديث أبي الهيثم كجواز ؛ وقياس البغوي - رحمه الله - طول العهد بالصاحب ، على السفر حسن ، وأما قوله : ( وشدة الحب في الله ) فلعله - والله أعلم - لما فعله أبو الهيثم t . والعلم عند الله تعالى .
وقد روى ابن أبي شيبة المعانقة عن بعض السلف ؛ فروى عن معاذة العدوية قالت : كان أصحاب صلة بن أشيم ( زوجها ) إذا دخلوا عليه ، يلتزم بعضهم بعضًا[SUP] [15] [/SUP]؛ وروى عن عتبة بن أبي عثمان أن عمر اعتنق حذيفة[SUP] [16] [/SUP]؛ وروى - أيضًا - عن أبي بلج قال : رأيت عمرو بن ميمون والأسود بن يزيد التقيا ، واعتنق كل منهما صاحبه[SUP] [17] [/SUP]. وروى عن عباد بن عباد قال : رأيت أبا مجلز وخالد الأثبج التقيا ، فاعتنق كل منهما صاحبه[SUP] [18] [/SUP].
معانقة الصغير
في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : خَرَجَ النَّبِيُّ e فِي طَائِفَةِ النَّهَارِ ، لَا يُكَلِّمُنِي ، وَلَا أُكَلِّمُهُ ، حَتَّى أَتَى سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعَ ، فَجَلَسَ بِفِنَاءِ بَيْتِ فَاطِمَةَ ، فَقَالَ : " أَثَمَّ لُكَعُ ، أَثَمَّ لُكَعُ " ، فَحَبَسَتْهُ شَيْئًا ، فَظَنَنْتُ أَنَّهَا تُلْبِسُهُ سِخَابًا ، أَوْ تُغَسِّلُهُ ؛ فَجَاءَ يَشْتَدُّ حَتَّى عَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ ، وَقَالَ : " اللَّهُمَّ أَحْبِبْهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ " ، في رواية لمسلم : فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ يَسْعَى حَتَّى اعْتَنَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ[SUP] [19] [/SUP]؛ وقوله : ( طائفة النهار ) : قطعة منه ؛ والفناء : الموضع المتسع أمام البيت ؛ " أَثَمَّ " أي : أيوجد هناك في البيت ؛ و" لُكَعُ " أي : الصغير ؛ ومراده e الحسن بن علي رضي الله عنهما ، كما في رواية مسلم ؛ وسِخَابًا : قلادة من خرز أو طيب ؛ وقيل : غير ذلك ؛ ويشتد : يُسرع .
وفيه معانقة الصغار عند التلاقي وتقبيلهم ، ومعانقة الجد لحفيده وتقبيله ، حتى لو كان بغير سفر ؛ وأحكام الصغار تختلف عن أحكام الكبار .
[1] انظر لسان العرب باب القاف فصل العين ، ومختار الصحاح ( مادة ع ن ق ) ، و( معجم مقاييس اللغة ) : 4 / 159 ( العين والنون والقاف ) ، والمعجم الوسيط : 2 / 632 .
[2] الترمذي ( 2732 ) وحسنه .
[3] انظر ( زاد المعاد ) : 2 / 414 ، 415 .
[4] رواه أبو يعلى ( 1876 ) ، ورواه أبو داود ( 5220 ) عن الشعبي مرسلا ، وصححه الألباني بشواهده وتوابعه ( الصحيحة رقم 2657 ) .
[5] الطبراني في الأوسط ( 97 ) ، وقال المنذري في ( الترغيب والترهيب : 3 / 290 ) : ورواته محتج بهم في الصحيح ا.هـ . وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد : 7 / 347) : ورجاله رجال الصحيح .ا.هـ . وحسنه الألباني في ( صحيح الترغيب ) .
[6] أحمد : 3 / 495 ، والبخاري في الأدب المفرد ( 970 ) ، والحاكم ( 3638 ) وصححه ووافقه الذهبي ، وحسنه الألباني في ( صحيح الأدب ) .
[7] رواه الترمذي ( 2367 ) وقال : حسن صحيح غريب ، وصححه الألباني .
[8] قال الألباني في ( السلسلة الصحيحة : 6 / 303 ) : إسناده صحيح .
[9] انظر ( شرح معاني الآثار ) : 4 / 280 ، 281 .
[10] حديث أبي ذر t رواه أبو داود ( 5212 ) عَنْ رَجُلٍ مِنْ عَنَزَةَ ، أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ حَيْثُ سُيِّرَ مِنَ الشَّامِ : إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ e ، قَالَ : إِذًا أُخْبِرُكَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ سِرًّا ؛ قُلْتُ : إِنَّهُ لَيْسَ بِسِرٍّ ، هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ e يُصَافِحُكُمْ إِذَا لَقِيتُمُوهُ ؟ قَالَ : مَا لَقِيتُهُ قَطُّ إِلَّا صَافَحَنِي ، وَبَعَثَ إِلَيَّ ذَاتَ يَوْمٍ وَلَمْ أَكُنْ فِي أَهْلِي ، فَلَمَّا جِئْتُ أُخْبِرْتُ أَنَّهُ أَرْسَلَ لِي ، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ ، فَالْتَزَمَنِي ، فَكَانَتْ تِلْكَ أَجْوَدَ وَأَجْوَدَ . وفيه جهالة الرجل الذي من عنزة ، فهو ضعيف .
[11] انظر ( بدائع الفوائد ) : 4 / 881 .
[12] انظر ( الآداب الشرعية ) : 1 / 436 .
[13] انظر ( الآداب الشرعية ) : 1 / 249 .
[14] انظر ( شرح السنة ) : 12 / 293 .
[15] مصنف ابن أبي شيبة ( 25734 ) .
[16] مصنف ابن أبي شيبة ( 25730 ) .
[17] مصنف ابن أبي شيبة ( 25731 ) .
[18] مصنف ابن أبي شيبة ( 25732 ) .
[19] البخاري ( 2016 ) واللفظ له ، ومسلم ( 2421 ) .
عانَقهُ مُعَانقةً وعِناقًا التزمه ، فأدنى عُنُقَه من عُنُقِه ، وضمه إلى نفسه ؛ وتعانقا واعتنقا ؛ وقيل : المُعَانقة في المودة ، والاعْتِناقُ في الحرب ؛ تقول : اعتنَقُوا في الحرب ، ولا تقول تعانقوا ؛ والقياس واحد ، غير أنّهم اختاروا الاعتناقَ في الحرب ، والمعانقةَ في المودَّةِ ونحوها ؛ قال الأَزهري : وقد يجوز الاعتناقُ في المودَّةِ كالتَّعانُقِ ، وكلٌّ في كلٍّ جائزٌ [SUP][1] [/SUP].
معانقة القادم من السفر
روى الترمذي عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنه - قَالَتْ : قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ ، وَرَسُولُ اللَّهِ e فِي بَيْتِي ، فَأتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ e عُرْيَانًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ ، وَاللَّهِ مَا رَأيْتُهُ عُرْيَانًا قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ ؛ فَاعْتَنَقَهُ ، وَقَبَّلَهُ[SUP] [2] [/SUP].
وإنما أرادت أم المؤمنين أن النبي e قام فَرِحًا مسْتَبْشِرًا بِقُدُومِهِ ، فتَعْجَّلَ لِقَائِهِ ، بِحَيْثُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَمَامِ التَّرَدِّي بِالرِّدَاءِ ، حَتَّى جَرَّهُ ؛ وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ مِثْلُ هَذَا .
قال ابن القيم - رحمه الله : وَكَانَ يَعْتَنِقُ الْقَادِمَ مِنْ سَفَرِهِ وَيُقَبّلُهُ ، إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِهِ . قَالَ الزّهْرِيّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها : قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ ، وَرَسُولُ اللّهِ e فِي بَيْتِي ، فَأَتَاهُ ، فَقَرَعَ الْبَابَ ، فَقَامَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ e عُرْيَانًا يَجُرّ ثَوْبَهُ ، وَاَللّهِ مَا رَأَيْتُهُ عُرْيَانًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ ، فَاعْتَنَقَهُ وَقَبّلَه ؛ قَالَتْ عَائِشَةُ : لَمّا قَدِمَ جَعْفَرٌ وَأَصْحَابُهُ تَلَقّاهُ النّبِيّ e فَقَبّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَاعْتَنَقَهُ ؛ قَالَ الشّعْبِيُّ : وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ e إِذَا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ تَعَانَقُوا[SUP] [3] [/SUP].
وَعَنْ جَابِرٍ t قَالَ : لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرٌ مِنَ الْحَبَشَةِ عَانَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ e[SUP] [4] [/SUP].
وَروى الطبراني عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ e إذَا تَلَاقَوْا تَصَافَحُوا ، وَإِذَا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ تَعَانَقُوا[SUP] [5] [/SUP].
روى أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) والحاكم عَنْ جَابِرٍ t قَالَ : بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ e ، فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا ، ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلِي ، فَسِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا ، حَتَّى قَدِمْتُ عَلَيْهِ الشَّامَ ؛ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ ، فَقُلْتُ لِلْبَوَّابِ : قُلْ لَهُ جَابِرٌ عَلَى الْبَابِ ؛ فَقَالَ : ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، قُلْتُ : نَعَمْ ؛ فَخَرَجَ يَطَأُ ثَوْبَهُ ، فَاعْتَنَقَنِي وَاعْتَنَقْتُهُ[SUP] [6] [/SUP]. وبوب عليه البخاري ( باب المعانقة ) .
فثبتت المعانقة للقادم من السفر من فعل النبي e وأصحابه ، فهي سنة لمن قدم من السفر .
وروى الترمذي عَن أَبِي هُرَيْرَةَ t في خروج النَّبِيُّ e فلقي أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما ؛ ثم انْطَلَقُوا إِلَى مَنْزِلِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ الْأَنْصَارِيِّ فَلَمْ يَجِدُوهُ ... وفيه : فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ جَاءَ أَبُو الْهَيْثَمِ بِقِرْبَةٍ يَزْعَبُهَا ، فَوَضَعَهَا ، ثُمَّ جَاءَ يَلْتَزِمُ النَّبِيَّ e ، وَيُفَدِّيهِ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ .. الحديث[SUP] [7] [/SUP]؛ ( يَزْعَبُهَا ) أي : يحملها ممتلئة ، ويتدافع بها لثقلها .
وفيه المعانقة عن التلاقي من غير سفر ، ولكن لم يكن هذا منه e دائمًا ، إنما كان أحيانًا .
وقد روى الطحاوي أحاديث النهي عن المعانقة ، ثم قال : فذهب قوم إلى هذا ، فكرهوا المعانقة ، منهم أبو حنيفة ومحمد رحمة الله عليهما ، وخالفهم في ذلك آخرون ، فلم يروا بها بأسًا ، وممن ذهب إلى ذلك أبو يوسف رحمة الله عليه ، وكان مما احتجوا به في ذلك – ثم ذكر أحاديث معانقة النبي e لعبد الله بن جعفر وزيد بن حارثة وغيرها - ثم روى عن أم الدرداء قالت : قدم علينا سلمان ، فقال : أين أخي ؟ قلت : في المسجد ، فأتاه فلما رآه اعتنقه[SUP] [8] [/SUP].
ثم قال : فهؤلاء أصحاب رسول الله e قد كانوا يتعانقون ، فدل ذلك على أن ما روى عن رسول الله e من إباحة المعانقة متأخر عما روى عنه من النهي عن ذلك ، فبذلك نأخذ ؛ وهو قول أبي يوسف [SUP][9] [/SUP].ا.هـ .
قال مقيده - عفا الله عنه : وكأنه يرى - رحمه الله - أن النهي منسوخ ؛ والذي يظهر مما أورده أنها كلها كانت عند القدوم من سفر ، فتكون مخصصة لا ناسخة ؛ لكن الاستدلال بحديث أبي الهيثم t على جواز المعانقة من غير استدامة واضح ؛ ونقل ابن القيم - رحمه الله في ( بدائع الفوائد ) أن الإمام أحمد احتج في المعانقة بحديث أبي ذر[SUP] [10] [/SUP]أن النبي e عانقه ؛ وسُئل أحمد عن الرجل يلقى الرجل أيعانقه ؟ قال : نعم ، قد فعله أبو الدرداء[SUP] [11] [/SUP]؛ أي مع سلمان ، ولكن هذا كان لأنه قَدِمَ من سفر ؛ وفي ( الآداب الشرعية ) لابن مفلح – رحمه الله : وقال مثنى إنه سأل أبا عبد الله : ما تقول في المعانقة ؟ وهل يقوم أحد لأحد في السلام إذا رآه ؟ قال : لا يقوم أحد لأحد ؛ وأما إذا قدم من سفر فلا أعلم به بأسًا ، إذا كان على التدين ، يحبه في الله ، أرجو لحديث جعفر أن النبي e اعتنقه ، وقبَّل ما بين عينيه[SUP] [12] [/SUP]؛ فنصَّ ها هنا على المعانقة للقدوم من السفر ؛ وقال ابن مفلح : وقال في ( الإرشاد ) : المعانقة عند القدوم من السفر حسنة ؛ وقال الشيخ تقي الدين ( أي ابن تيمية ) : فقيدها بالقدوم من السفر ؛ والقاضي أطلق ، والمنصوص في السفر[SUP] [13] [/SUP].
وقد قال البغوي - رحمه الله - في ( شرح السنة ) بعد أن ذكر حديث جعفر وغيره مما ظاهره الاختلاف : فأما المكروه من المعانقة والتقبيل ، فما كان على وجه الملق والتعظيم ، وفي الحضر ؛ وأما المأذون فيه فعند التوديع وعند القدوم من السفر ، وطول العهد بالصاحب , وشدة الحب في الله ؛ ومن قَبَّل فلا يقبل الفم ، ولكن اليد والرأس والجبهة ؛ وإنما كره ذلك في الحضر - فيما يُرى - لأنه يكثر ولا يستوجبه كل أحد ؛ فإن فعله الرجل ببعض الناس دون بعض ، وجد عليه الذين تركهم ، وظنوا أنه قصَّر بحقوقهم ، وآثر عليهم ؛ وتمام التحية المصافحة[SUP] [14] [/SUP].ا.هـ .
وصفوة القول أن المعانقة إنما ثبتت عند القدوم من السفر كسنة ، وفي حديث أبي الهيثم كجواز ؛ وقياس البغوي - رحمه الله - طول العهد بالصاحب ، على السفر حسن ، وأما قوله : ( وشدة الحب في الله ) فلعله - والله أعلم - لما فعله أبو الهيثم t . والعلم عند الله تعالى .
وقد روى ابن أبي شيبة المعانقة عن بعض السلف ؛ فروى عن معاذة العدوية قالت : كان أصحاب صلة بن أشيم ( زوجها ) إذا دخلوا عليه ، يلتزم بعضهم بعضًا[SUP] [15] [/SUP]؛ وروى عن عتبة بن أبي عثمان أن عمر اعتنق حذيفة[SUP] [16] [/SUP]؛ وروى - أيضًا - عن أبي بلج قال : رأيت عمرو بن ميمون والأسود بن يزيد التقيا ، واعتنق كل منهما صاحبه[SUP] [17] [/SUP]. وروى عن عباد بن عباد قال : رأيت أبا مجلز وخالد الأثبج التقيا ، فاعتنق كل منهما صاحبه[SUP] [18] [/SUP].
معانقة الصغير
في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : خَرَجَ النَّبِيُّ e فِي طَائِفَةِ النَّهَارِ ، لَا يُكَلِّمُنِي ، وَلَا أُكَلِّمُهُ ، حَتَّى أَتَى سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعَ ، فَجَلَسَ بِفِنَاءِ بَيْتِ فَاطِمَةَ ، فَقَالَ : " أَثَمَّ لُكَعُ ، أَثَمَّ لُكَعُ " ، فَحَبَسَتْهُ شَيْئًا ، فَظَنَنْتُ أَنَّهَا تُلْبِسُهُ سِخَابًا ، أَوْ تُغَسِّلُهُ ؛ فَجَاءَ يَشْتَدُّ حَتَّى عَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ ، وَقَالَ : " اللَّهُمَّ أَحْبِبْهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ " ، في رواية لمسلم : فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ يَسْعَى حَتَّى اعْتَنَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ[SUP] [19] [/SUP]؛ وقوله : ( طائفة النهار ) : قطعة منه ؛ والفناء : الموضع المتسع أمام البيت ؛ " أَثَمَّ " أي : أيوجد هناك في البيت ؛ و" لُكَعُ " أي : الصغير ؛ ومراده e الحسن بن علي رضي الله عنهما ، كما في رواية مسلم ؛ وسِخَابًا : قلادة من خرز أو طيب ؛ وقيل : غير ذلك ؛ ويشتد : يُسرع .
وفيه معانقة الصغار عند التلاقي وتقبيلهم ، ومعانقة الجد لحفيده وتقبيله ، حتى لو كان بغير سفر ؛ وأحكام الصغار تختلف عن أحكام الكبار .
[1] انظر لسان العرب باب القاف فصل العين ، ومختار الصحاح ( مادة ع ن ق ) ، و( معجم مقاييس اللغة ) : 4 / 159 ( العين والنون والقاف ) ، والمعجم الوسيط : 2 / 632 .
[2] الترمذي ( 2732 ) وحسنه .
[3] انظر ( زاد المعاد ) : 2 / 414 ، 415 .
[4] رواه أبو يعلى ( 1876 ) ، ورواه أبو داود ( 5220 ) عن الشعبي مرسلا ، وصححه الألباني بشواهده وتوابعه ( الصحيحة رقم 2657 ) .
[5] الطبراني في الأوسط ( 97 ) ، وقال المنذري في ( الترغيب والترهيب : 3 / 290 ) : ورواته محتج بهم في الصحيح ا.هـ . وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد : 7 / 347) : ورجاله رجال الصحيح .ا.هـ . وحسنه الألباني في ( صحيح الترغيب ) .
[6] أحمد : 3 / 495 ، والبخاري في الأدب المفرد ( 970 ) ، والحاكم ( 3638 ) وصححه ووافقه الذهبي ، وحسنه الألباني في ( صحيح الأدب ) .
[7] رواه الترمذي ( 2367 ) وقال : حسن صحيح غريب ، وصححه الألباني .
[8] قال الألباني في ( السلسلة الصحيحة : 6 / 303 ) : إسناده صحيح .
[9] انظر ( شرح معاني الآثار ) : 4 / 280 ، 281 .
[10] حديث أبي ذر t رواه أبو داود ( 5212 ) عَنْ رَجُلٍ مِنْ عَنَزَةَ ، أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ حَيْثُ سُيِّرَ مِنَ الشَّامِ : إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ e ، قَالَ : إِذًا أُخْبِرُكَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ سِرًّا ؛ قُلْتُ : إِنَّهُ لَيْسَ بِسِرٍّ ، هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ e يُصَافِحُكُمْ إِذَا لَقِيتُمُوهُ ؟ قَالَ : مَا لَقِيتُهُ قَطُّ إِلَّا صَافَحَنِي ، وَبَعَثَ إِلَيَّ ذَاتَ يَوْمٍ وَلَمْ أَكُنْ فِي أَهْلِي ، فَلَمَّا جِئْتُ أُخْبِرْتُ أَنَّهُ أَرْسَلَ لِي ، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ ، فَالْتَزَمَنِي ، فَكَانَتْ تِلْكَ أَجْوَدَ وَأَجْوَدَ . وفيه جهالة الرجل الذي من عنزة ، فهو ضعيف .
[11] انظر ( بدائع الفوائد ) : 4 / 881 .
[12] انظر ( الآداب الشرعية ) : 1 / 436 .
[13] انظر ( الآداب الشرعية ) : 1 / 249 .
[14] انظر ( شرح السنة ) : 12 / 293 .
[15] مصنف ابن أبي شيبة ( 25734 ) .
[16] مصنف ابن أبي شيبة ( 25730 ) .
[17] مصنف ابن أبي شيبة ( 25731 ) .
[18] مصنف ابن أبي شيبة ( 25732 ) .
[19] البخاري ( 2016 ) واللفظ له ، ومسلم ( 2421 ) .