أيمن أبومصطفى
New member
المصطلحات البلاغية الحداثية بين الاستهلاك والقطيعة المعرفية
إعداد
د. أيمن خميس عبد اللطيف إبراهيم أبومصطفى
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه وبعد، فهذا بحث بعنوان" المصطلحات البلاغية الحداثية بين الاستهلاك والقطيعة المعرفية" حاولت فيه أن أضع بين يدي الباحثين مشكلة تعدد المصطلحات، فكما هو معلوم أن المصطلح هو نقطة بداية أي بحث تطبيقي، فتحديد المصطلحات هو الخطوة المنهجية الأولى لبنية البحث العلمي، ولكن الاعتماد على الترجمات المختلفة للمنتج الغربي، جعل للمصطلح عدة دلالات بتعدد سياقات الترجمة الثقافية والاجتماعية، وقد أدى ذلك إلى عدم وضوح الرؤية، ومن ثم قصور التطبيق، وقد وقفت على هذه القضية خلال العنصرين التاليين:
أيمن أبومصطفى
والوقوف على فلسفة المصطلح الخاصة ليس أمرًا سهلا، بل هو عمل فكري شاق ،فالمصطلح يمر بمراحل قد تطول إلى أن يستقر ، وقد يظهر ثم يختفي أو يتغير ،وقد ألمح الدكتور أحمد مطلوب إلى هذه الصعوبة التي تكتنف دراسة المصطلح في العصر الحديث، حيث لاحظ "اختلاف الأوربيين أنفسهم في المصطلح ونظرتهم إليه من خلال ثقافتهم الخاصة أو مذهبهم الأدبي والنقدي "[1].
فالمصطلح يختلف باختلاف الثقافة الحاضنة ، وقد يختلف برغم اتفاق اللغة ، وهذا ما عالجه د.عبد السلام المسدي في كتابه "اختلاف المصطلح بين المشرق والمغرب"[2]
ونظرا لهذا الاختلاف في المصطلحات شاعت في كتابات النقاد مصطلحات حداثية غير واضحة ،وغير مستساغة لدى المتلقي العربي مثل "سيميائية وتداولية وشعريات وغير ذلك كثير[3] ، وقد حدث اختلاف بين النقاد في ترجمة المصطلح الواحد ، مما أدى إلى القطيعة المعرفية بين المشتغلين في مجال النقد والبلاغة ، فإذا كان تعريف المصطلح في مفهومه العلمي الأكاديمي الحديث هو الوقوف على معنى واحد ودقيق لشيء معين، وماهية شيء محدد، حصلت على اتفاق المختصين" [SUP](1)[/SUP] فإننا نلاحظ ما يختلف مع هذا التعريف في واقنعنا البحثي ،وقد لاحظ الدكتور عبد السلام المسدي أن المشارقة أكثر حرصا على إحياء اللغة العربية ، في حين أن المغاربة أكثر جُرأة على اللغة العربية ، لذا فهم يميلون إلى النحت ، فشاع عندهم (اللازمان و اللا مكان واللامرئي...[4]) .
وقد أدى هذا إلى تعدد الترجمات للمصطلح الواحد ، وعلى سبيل المثال " مصطلح اللسانيات LINGNISTICS ..فمازلنا نجد مجموعة من المقابلات الترجمية التي لم يستقر على اي منها مثل مصطلحات: علم اللغة، فقه اللغة، اللسانيات، علم اللسان، علم اللسانة، الألسنية .. كما نجد ان الثنائية اللسانية الاساسية/ Langue Parole تترجم بطرق مختلفة. فكلمة Longue االفرنسية تترجم تارة – " لسان "، وأخرى بـ " لغة " وثالثة بـ "نظام لغوي"، بينما تترجم كلمة parole الفرنسية بـ "الكلام " أو " اللفظ " أو "الحدث الكلامي". ومصطلح Grammar المعروف يترجم حينا بـ«القواعد» وحينا اخر بـ"النحو"، وينطبق الأمر على مصطلح Syntax الذي يترجم بمقابلات عديدة مثل "النحو" و"القواعد" و "التركيب " و" نظم الجمله " وما الى ذلك ، أما ثنائية العلاقات السياقيه /الاستبدالية Syntagmatic/Pardigmatic فتجد لها مقابلات متعددة منها ترجمة Syntamatic بالمقابلات الاصطلاحية التالية: السياقية، الخطية، الافقية، النسقية، الضميمية، التراصفية، الترابطية وغير ذلك، وترجمة مصطلح Paradigmatic بمقابلات مثل الاستبدالية، الاختبارية، الجدولية، الايحائية، الرأسية وما إلى ذلك..واذا ما كانت السيميائية احد الروافد المهمة التي اغنت المصطلح النقدي، فإنها من جهة ثانية قد أثارت اضطرابا متزايدا بسبب عدم استقرار مصطلحاتها في الاصل وجدتها النسبية، بل ان السيميائية ذاتها بوصفها علما لم تسثمر على مصطلح مشترك. فمن المعروف أن هذا المصطلح يتقاسما في اللغة الانكليزية تعبيران احدهما هو Semiology االذي استخدمه فرديناند دوسوسور في كتابه "دروس في الألسنية العامة والاخر هو Semiotics الذي جاء به الفيلسوف وعالم المنطق الامريكي جار لزبيرس. وكانت الخطوة الأولى التي قام بها بعض المترجمين تتمثل في التعريب الصوتي للمصطلحين فوجدنا مصطلحي السيميولوجيا والسيميوطيقا (وأحيانا السيميوتيك /. الا أن عملية الترجمة اللاحقة اضافت مقابلات جديدة منها علم الاشارات، الاشاراتية، علم العلامات، العلاماتية، علم الأدلة، السيميائية، السيميائيات. ويخيل لنا انه افضل هذه المصطلحات هو مصطلح السيميائية لانا يحمل جذرا عربيا، كما يحمل أيضا معطى صوتيا. معربا، للصوت الأجنبي، ويقبل الإضافة والجمع والنسبة والاشتقاق. «الأمر ينطبق أيضا على بقية مصطلحات السيميائية وبشكل خاص مصطلح Sign الذي يترجم بمقابلات مثل: الإشارة، العلامة أو الدليل.[5]"
ومن المصطلحات التي أثرت فيها الترجمات فصنعت قطيعة معرفية وأدت إلى استهلاك الجهد في دراسة مصطلحات متعددة وهي في الأصل ترجمات لمصطلح واحد -مصطلح coherence))، ولهذا المصطلح عدة ترجمات تختلف على حسب الباحث[6] فمصطلح "الحبك" جاء عند د. سعد مصلوح ود. محمد العبد ، ومصطلح "الانسجام" قال به د. محمد خطابي ود. صلاح فضل ، ومصطلح "التماسك" قال به د. سعيد بحيريو د. محمد الزليطي ود.منير التركي ومصطلح"التناسق" قال به د. فالح بن شبيب العجمي ، ومصطلح "التقارن" جاء عند د. إلهام أبوغزالة ود.علي خليل ،وجاء مصطلح "الالتحام" عند د. تمام حسان.
ولعل السبب وراء هذا الخلط هو تعدد الترجمات للمصطلح الواحد، ويلتزم البحث مصطلح (الحبك) وذلك لأن هذه الترجمة هي الأكثر شيوعًا وقبولًا، "ويرجع المفهوم coherence في الإنجليزية أو koharenz في الألمانية إلى الأصل اللاتيني Coharentia وهو مستعار من علم الكيمياء"[SUP] [7][/SUP]، اتخذه علماء النص مفهومًا يشير إلى العلاقات الداخلية داخل النص.
كما أن مصطلح التداولية الذي هو ترجمة للمصطلح الإنجليزى Pragmatics قد خلط البعض بينه والمذهب الفلسفى Pragmatism والذى يُترجم بالذرائعية وعُرِّب بالبرجماتية وهو المصطلح الأشهر فى الفلسفة والذى يعرف بأنه " مَذْهَب فلسفى أمريكى أسَّسه ويليام جيمز William James ( 1842 ـ 1910 ) وتشارلز ساندرز بيرس Charles Sanders Peirce ( 1839 ـ 1914 ) ، مُؤدَّاه أن مِعْيار صِدْقِ الفكرة أو الرأْى هو النتيجة العملية التى تترتب عليها من حَيْث كَوْنُها مُفيدةً أو مُضِرَّة . " [SUP]([SUP][8][/SUP][/SUP]) فقد عد بعض الباحثين أن المذهب الفلسفي Pragmatism هو الخلفية التي نشأت التداولية كأحد آثارها نتيجة للخلط بين مصطلحي Pragmatics و Pragmatism في الترجمة والتعريب.
وقد وضّح د. عيد بلبع هذا الخلط الناتج عن إشكالية الترجمة والتعريب [SUP]([SUP][9][/SUP][/SUP]) مؤكدا على ضرورة الفصل بين مصطلح التداولية Pragmatics الذى كانت بداية ظهوره فى حقل اللسانيات على يد تشارلز موريس Charles Morris 1938 م حيث " يرجع الاستخدام الحديث للمصطلح Pragmatics إلى الفيلسوف تشارلز موريس ( 1938 ) الذى كان معنيا بتحديد ( بعد لوك وبيرس ) الشكل العام لعلم العلامات أو السيميائية ( أو السيمياء كما يفضل موريس ) . وبين المذهب الفلسفى البرجماتية Pragmatism الذى أسس له تشارلز ساندرز بيرس Charles Sanders Peirce عن طريق التحديد الدقيق للمصطلح ومفهومه ، وعلى الرغم من ذلك فإنه لم يغفل الإشارة إلى نقطة الالتقاء بينهما فيقول " ولعل أهم نقطة التقاء بين المذهب الفلسفى والتداولية تتحدد فى الواقع العملى الذى يجمع بينهما" [SUP][SUP][10][/SUP][/SUP] مفسرا بعض أسباب ذلك الخلط بين المصطلحين بأن " اشتراك بيرس فى التأسيس للسميوطيقا التى تولدت عنها التداولية بشكل ما على يد موريس فيما بعد، واشتراكه كذلك فى التأسيس للمذهب الفلسفى المعروف كان له أكبر الأثر في انزلاق بعض الباحثين فى هذا الخلط ."[SUP][SUP][11][/SUP][/SUP]
ولاشك أن لمصطلح التداولية في بيئته التي ظهر فيها سياقات أدت إلى ظهوره ، ربما تغيب عن مطبقي النظرية في غير سياقاتها وعلى نصوص لها خصوصيات تختلف عن خصوصية النصوص التي عالجتها النظرية في سياقاتها.
وهذا ما جعل بعض الباحثين يحاول الربط بين معنى التداولية والبلاغة العربية ،فنجد د.محمد العمري يقول: " فإن البلاغة العربية قد أعيد لها الاعتبار في الدراسات العربية المعاصرة فيما يعرف بالتداولية " [SUP]([12])[/SUP] وهو أيضا ما جعل د.عبد القادر عبد الجليل يُقرّ بأن " البلاغة في عمق تكوينها وأهدافها هي التداولية " [SUP]([13])[/SUP] ولم يبتعد د.محمد الكواز عن ذلك حين قال:" " فالبلاغة بصفة عامة تعني بجملة من العناصر تعد من صميم بحث اللسانيات التداولية " [SUP]([14]) [/SUP]
تعد قضية ترجمة المصطلح من أهم الجوانب في دراسة المصطلحات، وقلما تخلو دراسة في علم المصطلح من حديث مقتضب أو مطول عن مشكلة ترجمة المصطلح إلى العربية، وإحدى إشكاليات ترجمة المصطلح هو غياب الاتفاق عليه بين الباحثين، وعلى سبيل المثال فمصطلح الانزياح الذي رأى فيه الدكتور مرزوق تقاربًا مع مصطلح المجاز "قد نقل هذا المفهوم إلى العربية بما لا يقل عن 40 مصطلحًا يمكن أن نجد شفيعًا لها في أن الغربيين أنفسهم قد عبروا عن هذا المفهوم الواسع بمصطلحات كثيرة يقارب عددها العشرين"[15].
وعلى ذلك فقد يكون أحد أسباب مشكلة نقل المصطلح هي عدم استقرار المصطلح في الأصل المنقول عنه، وقد رأي الدكتور يوسف وغليسي أن "الكتابات العربية قد تكبدت إسهالاً اصطلاحيًا حادًا في مواجهة"[16] مصطلح Synchronie ومصطلح Diachronie وقد تتبع وغليسي ترجمات المصطلحين في الكتابات النقدية العربية، فوجد أن "كلا هذين المصطلحين قد ترجم بما لا يقل عن 15 مقابلا عربيا، فمصطلح Synchronie مترجم إلى السنكرونية، التزامن، التواقت، التوقيتي، الآنية، الراهن، دراسة الحالة الحاضرة، الوصفية، التعاصر، القراري، حال الثبات، حال الاستقرار، السكوني، التوزع الآني، الاستبدالية ،...... ، أما مصطلح Diachronie فمترجم إلى عشرين مقابلا عربيًا بالتحديد"[17].
ولعل ذلك ناشئ لكون هذه الترجمات لم تكن من المصدر الأصلي، فالاعتماد على الترجمة عبر وسيط قام بترجمة الأصل يؤدي إلى أخطاء مقلقة، ولذلك وجب على المترجم التعامل مع النص الأصلي لضمان الدقة خاصة في اللغات غير الشائعة، فالمترجم الوسيط يتدخل بتأويلاته الخاصة ومشاعره بالحذف والإضافة وفق ما يفهمه من العمل عبر ما توفر لديه من تكوين فكري وميول ثقافية وأدبية وأسلوبية.
فالترجمة ليست نقل معارف فحسب، بل الترجمة تواصل بين الحضارات ، ولا يكون هذا التواصل مثمرا إلا حين تؤرقنا روح المغامرة الإنسانية ، التى يزكيها نهم معرفي لاستيعاب إنجازات وفتوحات العلم المرتكز على عبقرية الإنسان من أجل تغيير الواقع الثقافي والبناء الاجتماعي لحاجتنا الملحة إلى ذلك [SUP][SUP][18][/SUP][/SUP] وبهذا يتضح أن اضطراب المصطلح ناشئ لاضطراب الترجمة، وهذا سيؤدي إلى اضطراب التطبيق على ما سنرى في العنصر اللاحق.
ربما يكون قد تحقق شيء من ذلك، لكن أغلب الدراسات التي قام بها طلاب مرحلتي الماجستير والدكتوراه حول هذه القضايا لم يكن سوى تكرار للمناهج العربية تحت مسميات حداثية غربية، فالمصطلحات التي تُرجمت إلى العربية بأسماء أخرى هي هي المصطلحات العربية، ربما اختلف تناولها في بيئتها الأصلية عن تناولنا لها، لكنها جاءت إلينا فاستخدمناها بأسماء الغرب وبمعاني العرب.
وسأعرض نماذج توضح ما قصدت بيانه:
الجملة الاقتضائية [19] المصطلح يتفق تماما مع مصطلح "الجملة الطلبية.
الجملة التقريرية [20] المصطلح يتفق مع مصطلح "الجملة الخبرية".
الانزياح – الانكسار النصي- الانحراف النصي [21] يتفق مع مصطلحي"العدول "و"خلاف مقتضى الظاهر"
التشبع[22] يتفق مع مصطلح "الخاصية الأسلوبية "أو"السمة الأسلوبية"
التصالب[23] مع مصطلح "المقابلة العكسية".
الاستبدال[24]مع مصطلح "الاستعارة والوفاقية والاستعارة العنادية أو التهكمية"
النظرية الاستبدالية [25] مع مصطلح "الاستعارة التصريحية والأصلية"
الاستعارة التفاعلية[26] مع مصطلح "الاستعارة المكنية والمركبة"
وعلى المستوى التطبيقي وجدنا استهلاكا واضحا للمعرفة وتضييعا للجهد والوقت في دراسات لم تتجاوز المناهج التقليدية ، وإن اتسمت بمسميات حداثية، وفيما يلي نقف على بعض الدراسات التطبيقية للمصطلحات الغربية:
مصطلح الحجاج Argumentation:
من المصطلحات البلاغية التي لاقت رواجا في الآونة الأخيرة ، وقد حدث في هذا المصطلح خلل سواء في التنظير أو التطبيق، فقد اختلط بمصطلح الإقناع حتى التبس به عند بعض المطبقين، وفي أغلب الدراسات التطبيقية لم نجد اختلافا كبيرا بين آليات الدراسة الحجاجية والدراسات البلاغية الأخرى[27].
فأغلب الدراسات التطبيقية التي طالعتها في بلاغة الحجاج استخدمت الآليات البلاغية المعروفة ولم تجاوزها، ومن هذه الدراسات:
مصطلح الانزياح:
شاع مصطلح الانزياح في النقد الغربي، وتعددت مدلولاته، فعده بول فاليري "تجاوزا" ورولان بارت "فضيحة" وتودوروف "شذوذا" وجان كوهن "إطاحة" وثيري "كسرا " وسبيتزر "انحرافا"[28] وفي النقد العربي نجد "الانزياح" و"الانحراف" و" العدول" و" الخروج" و" الخرق" و" الابتعاد" و" والبعد" و" التشويش" و" التشويه" و" المجاوزة" و" النشاز" و"الاتساع" و" الفارق" و" الجسارة اللغوية" و" الغرابة" و" الإخلال" و" الانحناء"[29]
وقد سبب المصطلح الغربي ضبابية في رؤية المصطلحات، فتعددت الترجمات واتفقت المنهجية، فالعدول وخلاف مقتضى الظاهر يعنيان نفس دلالة الانزياح، واللافت للنظر أن الدراسات العربية التي تناولت المصطلح الغربي لم تضف شيئا على دلالة المصطلح العربي "العدول" بل وجدنا اعترافا صريحا في مطلع إحدى هذه الدراسات، حيث قال المؤلف: "وبداية لا بد من الإشارة إلى أن الانزياح أو ما يسميه بعض النقاد والباحثين بالعدول والانحراف يعد أهم ما قامت عليه الأسلوبية من أركان"[30]
وفي تعريف أحمد محمد ويس للانزياح حيث يقول: "استعمال المبدع للغة مفردات وتراكيب وصورا استعمالا يخرج به عما هو معتاد ومألوف بحيث يؤدي ما ينبغي له أن يتصف به من تفرد وإبداع وقوة جذب وأسر"[31]نجد أن هذا التعريف هو الحد بين الكلام العادي والكلام الأدبي.
فمفهوم الانزياح ليس جديدا في البلاغة العربية، فما جاء به المحدثون لم يتجاوز وصف المصطلح بأنه خرق لقانون اللغة وخروج عن المعيار، وهو ما جاء به عبد القاهر الجرجاني وغيره من القدماء، فالفروق بين القديم والحديث ليست فروقا جوهرية.
يقول الباحث:" ولعل أول إشارة إلى انزياح النص القرآني وخروجه عما هو مألوف وردت في كتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة (210ه) حيث قال: "ففي القرآن ما في الكلام العربي من الغريب والمعاني، ومن المحتمل من مجاز ما اختصر، ومجاز ما حذف، ومجاز ما كف عن خبره، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الواحد ووقع على الجميع، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الجميع ووقع معناه على الاثنين...ومجاز المقدم والمؤخر"ثم يعلق على ذلك قائلا: فهو يقصد بالمجاز الانزياح أو لعدول عما ألفه الناس من أساليب التعبير وأنماط الصياغة، والاتجاه إلى أساليب وعادات لم تجر بها الأنماط اللغوية، مما يكسب الكلام مزية من غيره"[32]
ثم هو أيضا يقول" ولعل أول محاولة منهجية - فيما أعلم- لجمع أنواع الانزياح والعدول في النص القرآني، ودراستها في باب واحد يجمع شتاتها، وتحت مصطلح واحد يجمع سماتها العامة، جاءت في كتاب "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة (276هـ) حيث خصص لها بابا عنوانه"باب مخالفة ظاهر اللفظ معناه"تحدث فيه عن المعاني السياقية لبعض الأساليب الإنشائية.."[33] ويسميه الرماني (386هـ)"نقض العادة"[34] ثم يذكر أن الباقلاني (403هـ) أيضا كان" من الموفقين كثيرا في الوقوف على مستويات الانزياح في هذا النص الذي كان سببا في ظهور الدراسات العربية التي كانت تهدف إلى تمرين الألسنة على قراءته، والعقول على التمعن والتدبر في أسمى معانيه.."[35]
فما الإضافة التي أضافتها الدراسة ؟ وماذا لو أنه سماها بالعدول أو الانحراف أو خلاف مقتضى الظاهر منذ البداية؟
وقد ألفينا الخلط نفسه في بحث بعنوان " أسلوبية الانزياح في سورة الحديد المبارکة " لمجموعة من الباحثين "مرتضى قائمي، إسماعيلي يوسفي، و جواد محمد زاده" [36]يقول :
يسعی هذا البحث إلی الإجابة عن عدة أسئلة رئيسية وهي:
فنلاحظ أنه عبر عن الانزياح بالعدول ، مما يدفعنا للتساؤل :ما قيمة استخدام المصطلح الغربي إذن؟ كما أنني بحثت في قائمة المراجع عن كتب أجنبية بلغتها أو مترجمة فلم أجد ، فهل يعني ذلك أن الباحثين لم يطالعوا عن النظرية الغربية أي كتاب غربي؟
وفي رسالة علمية بعنوان "الانزياح في النص القرآني"[37] لنيل درجة الدكتوراه مقدمة من الطالب أحمد غالب الخرشه، بجامعة مؤتة ، لم يقدم الباحث جديدا ، بل إنه تناول النصوص القرآنية تناولا بلاغيا لا يخرج عن تناول ظاهرة العدول العربية المعروفة .بل إنه هدف إلى أن يبين الترابط بين الانزياح الأسلوبي والعدول العربي، يقول في المقدمة "وقصدت من هذا الترتيب الدلالة على أن ما قاله الأسلوبيون المحدثون في تناولهم للانزياح هو ما نجد له إشارات في كتب التراث البلاغي عند المتقدمين"[38]
مصطلح السيميائية:
لهذا المصطلح مسميان اختلاف حولهما العلماء: السيميوطيقا ، والسيميولوجيا .فهما مترادفان "فالسيميولوجيا إذن مرادفة للسيميوطيقا ،وموضوعهما دراسة أنظمة العلامات أيا كان مصدرها لغويا أو سننيا أو مؤشريا " [39] وعندما نظرنا في الدراسات التطبيقية لم نجد إضافة لما قاله العرب، ففي دراسة بعنوان"بنية الخطاب السردي في سورة يوسف: دارسة سيميائية" [40]: للباحثة دفة بلقاسم عالجت الدراسة قصة يوسف عليه السلام من خلال ما أسمته بالتمفصلات التالية:
الوحدات السيميائية الدلة على بشائر النبوة.
الوحدات السيميائية الدلة على الكيد وتدبير المؤامرة.
الوحدات السيميائية الدالة على العلم وتأويل الرؤى.
الوحدات السيميائية الدالة على التحقيق في المؤامرة والبراءة.
الوحدات السيميائية الدالة على إنعام الملك على يوسف بخزائن مصر.
الوحدات السيميائية الدالة على انفراج الأزمة واللقاء المثير بين يوسف وأبويه وإخوته.
وقد كان ذلك خلال ثلاث وحدات سيميائية هي:
"القميص" حضور في القصة، وفيها ثلاث دلالات:
حين جاء الإخوة على قميص يوسف بدم كذب... وحين قدَّ قميص يوسف من دبر... وحمل ريح يوسف إلى أبيه، وألقي على وجهه فارتد بصيرا بإذن الله تعالى. نجد أن هذه الوحدة "قميص" أصبحت أداة أساسية في البناء السردي... وهكذا استحال "القميص" إلى نواة مركزية، نسجت حولها أحداث القصة.
"السكين" عن موقعها في قصة يوسف عليه السلام، إذ هي من منظور دلالي تتصل بمعاني التقطيع، والذبح، والقتل، والدم. وكل هذه المعاني لها أثر في نفس المتلقي،حيث توقظ انتباهه وإحساسه، وتنشط انفعالاته، فيصبح مستعدا لفهم الرسالة والتفاعل معها. أما بنيتها العميقة فتومئ إلى دلالات الحقد، والكره، والقسوة، وحب الانتقام، وكلها صفات سيطرت على نفسية امرأة العزيز، وهي تدعو النسوة إلى حضور مأدبة أقامتها لهن في قصرها.
"الذئب" عن معان ترمز إلى المكر، والخبث، والخيانة، ومخالفة العهد، والافتراس، وكلها صفات ذميمة اتصف بها إخوة يوسف الكبار.
وقد استنكر الباحث د.إياد عبدالله في بحثه الدراسات السيميائية للقرآن الكريم [41] هذا التأويل ذاكرا أن مفسرين كبارا ذكروا هذه الدلالات من قبل أن تكون السيميائية موجودة فقال:" حين أشار أبو السعود (ت 882 ) إلى القميص بقوله: "كان في قميص يوسف –عليه السلام- ثلاث آيات:
كان دليلا ليعقوب على كذبهم، وألقاه على وجهه فارتد بصيرا ، ودليلا على براءة يوسف –عليه السلام"
ثم علق قائلا: "ويمكن القول، إن أي من تلك الوحدات والعلامات السيميائية برغم دورها في القصة؛ لا يصح أن نوليها اهتماما يفوق الدروس المتوخاة المتمثلة في الصراع بين الحق والباطل، والحسد والغيرة، وحب الانتقام، وثبات يعقوب عليه السلام وصبره، وانتصار الحق في نهاية المطاف. فإذا كان للقميص من دور فعلي في القصة فينبغي أن لا يطغى على دور صاحبه الذي عانى من ظلم إخوته له. أما السكين فكانت مكيدة ما كانت لتتم لولا حسن سيدنا يوسف ووسامته، إذ أدركت زوجة العزيز أن النسوة حين يستعملن السكين ويظهر عليهن يوسف سوف ينبهرن بحسنه وطلعته ويغفلن عن استعمال السكين بشكل صحيح ويجرحن أيديهنّ. وبدون تلك الوسامة لم يكن للسكين قيمة في تلك القصة سوى تقشبر الفاكهة. أما الذئب فلم يكن له وجود حقيقي في القصة. فجاءت الدارسة السيميائية بهذه النتائج المتواضعة؛ لأنه ليس بمقدور هذا العلم أو المنهج أن يأتي بشيء أفضل مما جاء آنفاً، لا سيما حينما يطبق في محيط خارج المجال الذي ولد فيه.
وبعد هذا النقد للتحليل السيميائي يقول الباحث: "لذلك يعتقد الباحث أننا نضيع جوهر القصة ومغزاها حين نلتفت إلى تلك الوحدات والعلامات السيميائية؛ فالسورة حافلة بمشاهد تتجلى فيها انفعالات الغيرة، والحزن، والغضب، والخوف، والسرور، وبحوادث ابتلاء يوسف - عليه السلام - ابتلاء بغيرة إخوته، وابتلاء بالفتنة، وابتلاء بالسجن، وابتلاء بالملك والقوة، وفي السورة أيضاً ابتلاء يعقوب -عليه السلام- بفقدان ابنه، وفقدان بصره، وماعانى من صبر طويل، مع عدم تسرب اليأس إلى نفسه وعدم فقدان الأمل. فمهما طال الابتلاء لا يعني اليأس من روح الله. كذلك مغزى تعلم يوسف لتأويل الأحاديث وكيف تحققت رؤى صاحبَيْ يوسف"[42]
فأي إضافة أضافها هذه الدراسة للدراسات البلاغية ، فهي لم تقدم جديدا ، ولكنها اتخذت من التفاسير وكتب البلاغة العربية مراجعا لها ، وكنا ننتظر أن تقدم إضافة تُضاف لما جاء بهذه المراجع.
الخاتمة:
المصطلحات الحداثية يمكن أن تُستثمر إن وجدت باحثين يستطيعون الإلمام التام بفلسفتها وسياقاتها التي ولدت وترعرت خلالها ، ولكنها في الغالب تُشكل قطيعة معرفية متعددة الاتجاهات:
ولذا فإن الباحث في البلاغة العربية لابد وأن يكون ذا دراية باللعة الأصلية للمصطلحات وأن يُلم بفلسفتها وسياقاتها ، وألا يعتمد على الدلالات الوسيطة ، لأن الذي نقل هذه الدلالات ربما أعطاها من ثقافته ووجهة نظره.
المراجع
إعداد
د. أيمن خميس عبد اللطيف إبراهيم أبومصطفى
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه وبعد، فهذا بحث بعنوان" المصطلحات البلاغية الحداثية بين الاستهلاك والقطيعة المعرفية" حاولت فيه أن أضع بين يدي الباحثين مشكلة تعدد المصطلحات، فكما هو معلوم أن المصطلح هو نقطة بداية أي بحث تطبيقي، فتحديد المصطلحات هو الخطوة المنهجية الأولى لبنية البحث العلمي، ولكن الاعتماد على الترجمات المختلفة للمنتج الغربي، جعل للمصطلح عدة دلالات بتعدد سياقات الترجمة الثقافية والاجتماعية، وقد أدى ذلك إلى عدم وضوح الرؤية، ومن ثم قصور التطبيق، وقد وقفت على هذه القضية خلال العنصرين التاليين:
- المصطلحات والقطيعة المعرفية.
- المصطلحات واستهلاك المعرفة.
- ما دلالة المصطلح؟
- لماذا تعددت المصطلحات؟
- هل المصطلحات المتعددة لتعدد الدلالات أم هي مترادفة ؟
- ما سبب الخلط بين المصطلحات؟
- هل هناك فارق بين المصطلح العربي والمصطلح الغربي في مجال التطبيق؟
أيمن أبومصطفى
- المصطلحات والقطيعة المعرفية:
والوقوف على فلسفة المصطلح الخاصة ليس أمرًا سهلا، بل هو عمل فكري شاق ،فالمصطلح يمر بمراحل قد تطول إلى أن يستقر ، وقد يظهر ثم يختفي أو يتغير ،وقد ألمح الدكتور أحمد مطلوب إلى هذه الصعوبة التي تكتنف دراسة المصطلح في العصر الحديث، حيث لاحظ "اختلاف الأوربيين أنفسهم في المصطلح ونظرتهم إليه من خلال ثقافتهم الخاصة أو مذهبهم الأدبي والنقدي "[1].
فالمصطلح يختلف باختلاف الثقافة الحاضنة ، وقد يختلف برغم اتفاق اللغة ، وهذا ما عالجه د.عبد السلام المسدي في كتابه "اختلاف المصطلح بين المشرق والمغرب"[2]
ونظرا لهذا الاختلاف في المصطلحات شاعت في كتابات النقاد مصطلحات حداثية غير واضحة ،وغير مستساغة لدى المتلقي العربي مثل "سيميائية وتداولية وشعريات وغير ذلك كثير[3] ، وقد حدث اختلاف بين النقاد في ترجمة المصطلح الواحد ، مما أدى إلى القطيعة المعرفية بين المشتغلين في مجال النقد والبلاغة ، فإذا كان تعريف المصطلح في مفهومه العلمي الأكاديمي الحديث هو الوقوف على معنى واحد ودقيق لشيء معين، وماهية شيء محدد، حصلت على اتفاق المختصين" [SUP](1)[/SUP] فإننا نلاحظ ما يختلف مع هذا التعريف في واقنعنا البحثي ،وقد لاحظ الدكتور عبد السلام المسدي أن المشارقة أكثر حرصا على إحياء اللغة العربية ، في حين أن المغاربة أكثر جُرأة على اللغة العربية ، لذا فهم يميلون إلى النحت ، فشاع عندهم (اللازمان و اللا مكان واللامرئي...[4]) .
وقد أدى هذا إلى تعدد الترجمات للمصطلح الواحد ، وعلى سبيل المثال " مصطلح اللسانيات LINGNISTICS ..فمازلنا نجد مجموعة من المقابلات الترجمية التي لم يستقر على اي منها مثل مصطلحات: علم اللغة، فقه اللغة، اللسانيات، علم اللسان، علم اللسانة، الألسنية .. كما نجد ان الثنائية اللسانية الاساسية/ Langue Parole تترجم بطرق مختلفة. فكلمة Longue االفرنسية تترجم تارة – " لسان "، وأخرى بـ " لغة " وثالثة بـ "نظام لغوي"، بينما تترجم كلمة parole الفرنسية بـ "الكلام " أو " اللفظ " أو "الحدث الكلامي". ومصطلح Grammar المعروف يترجم حينا بـ«القواعد» وحينا اخر بـ"النحو"، وينطبق الأمر على مصطلح Syntax الذي يترجم بمقابلات عديدة مثل "النحو" و"القواعد" و "التركيب " و" نظم الجمله " وما الى ذلك ، أما ثنائية العلاقات السياقيه /الاستبدالية Syntagmatic/Pardigmatic فتجد لها مقابلات متعددة منها ترجمة Syntamatic بالمقابلات الاصطلاحية التالية: السياقية، الخطية، الافقية، النسقية، الضميمية، التراصفية، الترابطية وغير ذلك، وترجمة مصطلح Paradigmatic بمقابلات مثل الاستبدالية، الاختبارية، الجدولية، الايحائية، الرأسية وما إلى ذلك..واذا ما كانت السيميائية احد الروافد المهمة التي اغنت المصطلح النقدي، فإنها من جهة ثانية قد أثارت اضطرابا متزايدا بسبب عدم استقرار مصطلحاتها في الاصل وجدتها النسبية، بل ان السيميائية ذاتها بوصفها علما لم تسثمر على مصطلح مشترك. فمن المعروف أن هذا المصطلح يتقاسما في اللغة الانكليزية تعبيران احدهما هو Semiology االذي استخدمه فرديناند دوسوسور في كتابه "دروس في الألسنية العامة والاخر هو Semiotics الذي جاء به الفيلسوف وعالم المنطق الامريكي جار لزبيرس. وكانت الخطوة الأولى التي قام بها بعض المترجمين تتمثل في التعريب الصوتي للمصطلحين فوجدنا مصطلحي السيميولوجيا والسيميوطيقا (وأحيانا السيميوتيك /. الا أن عملية الترجمة اللاحقة اضافت مقابلات جديدة منها علم الاشارات، الاشاراتية، علم العلامات، العلاماتية، علم الأدلة، السيميائية، السيميائيات. ويخيل لنا انه افضل هذه المصطلحات هو مصطلح السيميائية لانا يحمل جذرا عربيا، كما يحمل أيضا معطى صوتيا. معربا، للصوت الأجنبي، ويقبل الإضافة والجمع والنسبة والاشتقاق. «الأمر ينطبق أيضا على بقية مصطلحات السيميائية وبشكل خاص مصطلح Sign الذي يترجم بمقابلات مثل: الإشارة، العلامة أو الدليل.[5]"
ومن المصطلحات التي أثرت فيها الترجمات فصنعت قطيعة معرفية وأدت إلى استهلاك الجهد في دراسة مصطلحات متعددة وهي في الأصل ترجمات لمصطلح واحد -مصطلح coherence))، ولهذا المصطلح عدة ترجمات تختلف على حسب الباحث[6] فمصطلح "الحبك" جاء عند د. سعد مصلوح ود. محمد العبد ، ومصطلح "الانسجام" قال به د. محمد خطابي ود. صلاح فضل ، ومصطلح "التماسك" قال به د. سعيد بحيريو د. محمد الزليطي ود.منير التركي ومصطلح"التناسق" قال به د. فالح بن شبيب العجمي ، ومصطلح "التقارن" جاء عند د. إلهام أبوغزالة ود.علي خليل ،وجاء مصطلح "الالتحام" عند د. تمام حسان.
ولعل السبب وراء هذا الخلط هو تعدد الترجمات للمصطلح الواحد، ويلتزم البحث مصطلح (الحبك) وذلك لأن هذه الترجمة هي الأكثر شيوعًا وقبولًا، "ويرجع المفهوم coherence في الإنجليزية أو koharenz في الألمانية إلى الأصل اللاتيني Coharentia وهو مستعار من علم الكيمياء"[SUP] [7][/SUP]، اتخذه علماء النص مفهومًا يشير إلى العلاقات الداخلية داخل النص.
كما أن مصطلح التداولية الذي هو ترجمة للمصطلح الإنجليزى Pragmatics قد خلط البعض بينه والمذهب الفلسفى Pragmatism والذى يُترجم بالذرائعية وعُرِّب بالبرجماتية وهو المصطلح الأشهر فى الفلسفة والذى يعرف بأنه " مَذْهَب فلسفى أمريكى أسَّسه ويليام جيمز William James ( 1842 ـ 1910 ) وتشارلز ساندرز بيرس Charles Sanders Peirce ( 1839 ـ 1914 ) ، مُؤدَّاه أن مِعْيار صِدْقِ الفكرة أو الرأْى هو النتيجة العملية التى تترتب عليها من حَيْث كَوْنُها مُفيدةً أو مُضِرَّة . " [SUP]([SUP][8][/SUP][/SUP]) فقد عد بعض الباحثين أن المذهب الفلسفي Pragmatism هو الخلفية التي نشأت التداولية كأحد آثارها نتيجة للخلط بين مصطلحي Pragmatics و Pragmatism في الترجمة والتعريب.
وقد وضّح د. عيد بلبع هذا الخلط الناتج عن إشكالية الترجمة والتعريب [SUP]([SUP][9][/SUP][/SUP]) مؤكدا على ضرورة الفصل بين مصطلح التداولية Pragmatics الذى كانت بداية ظهوره فى حقل اللسانيات على يد تشارلز موريس Charles Morris 1938 م حيث " يرجع الاستخدام الحديث للمصطلح Pragmatics إلى الفيلسوف تشارلز موريس ( 1938 ) الذى كان معنيا بتحديد ( بعد لوك وبيرس ) الشكل العام لعلم العلامات أو السيميائية ( أو السيمياء كما يفضل موريس ) . وبين المذهب الفلسفى البرجماتية Pragmatism الذى أسس له تشارلز ساندرز بيرس Charles Sanders Peirce عن طريق التحديد الدقيق للمصطلح ومفهومه ، وعلى الرغم من ذلك فإنه لم يغفل الإشارة إلى نقطة الالتقاء بينهما فيقول " ولعل أهم نقطة التقاء بين المذهب الفلسفى والتداولية تتحدد فى الواقع العملى الذى يجمع بينهما" [SUP][SUP][10][/SUP][/SUP] مفسرا بعض أسباب ذلك الخلط بين المصطلحين بأن " اشتراك بيرس فى التأسيس للسميوطيقا التى تولدت عنها التداولية بشكل ما على يد موريس فيما بعد، واشتراكه كذلك فى التأسيس للمذهب الفلسفى المعروف كان له أكبر الأثر في انزلاق بعض الباحثين فى هذا الخلط ."[SUP][SUP][11][/SUP][/SUP]
ولاشك أن لمصطلح التداولية في بيئته التي ظهر فيها سياقات أدت إلى ظهوره ، ربما تغيب عن مطبقي النظرية في غير سياقاتها وعلى نصوص لها خصوصيات تختلف عن خصوصية النصوص التي عالجتها النظرية في سياقاتها.
وهذا ما جعل بعض الباحثين يحاول الربط بين معنى التداولية والبلاغة العربية ،فنجد د.محمد العمري يقول: " فإن البلاغة العربية قد أعيد لها الاعتبار في الدراسات العربية المعاصرة فيما يعرف بالتداولية " [SUP]([12])[/SUP] وهو أيضا ما جعل د.عبد القادر عبد الجليل يُقرّ بأن " البلاغة في عمق تكوينها وأهدافها هي التداولية " [SUP]([13])[/SUP] ولم يبتعد د.محمد الكواز عن ذلك حين قال:" " فالبلاغة بصفة عامة تعني بجملة من العناصر تعد من صميم بحث اللسانيات التداولية " [SUP]([14]) [/SUP]
تعد قضية ترجمة المصطلح من أهم الجوانب في دراسة المصطلحات، وقلما تخلو دراسة في علم المصطلح من حديث مقتضب أو مطول عن مشكلة ترجمة المصطلح إلى العربية، وإحدى إشكاليات ترجمة المصطلح هو غياب الاتفاق عليه بين الباحثين، وعلى سبيل المثال فمصطلح الانزياح الذي رأى فيه الدكتور مرزوق تقاربًا مع مصطلح المجاز "قد نقل هذا المفهوم إلى العربية بما لا يقل عن 40 مصطلحًا يمكن أن نجد شفيعًا لها في أن الغربيين أنفسهم قد عبروا عن هذا المفهوم الواسع بمصطلحات كثيرة يقارب عددها العشرين"[15].
وعلى ذلك فقد يكون أحد أسباب مشكلة نقل المصطلح هي عدم استقرار المصطلح في الأصل المنقول عنه، وقد رأي الدكتور يوسف وغليسي أن "الكتابات العربية قد تكبدت إسهالاً اصطلاحيًا حادًا في مواجهة"[16] مصطلح Synchronie ومصطلح Diachronie وقد تتبع وغليسي ترجمات المصطلحين في الكتابات النقدية العربية، فوجد أن "كلا هذين المصطلحين قد ترجم بما لا يقل عن 15 مقابلا عربيا، فمصطلح Synchronie مترجم إلى السنكرونية، التزامن، التواقت، التوقيتي، الآنية، الراهن، دراسة الحالة الحاضرة، الوصفية، التعاصر، القراري، حال الثبات، حال الاستقرار، السكوني، التوزع الآني، الاستبدالية ،...... ، أما مصطلح Diachronie فمترجم إلى عشرين مقابلا عربيًا بالتحديد"[17].
ولعل ذلك ناشئ لكون هذه الترجمات لم تكن من المصدر الأصلي، فالاعتماد على الترجمة عبر وسيط قام بترجمة الأصل يؤدي إلى أخطاء مقلقة، ولذلك وجب على المترجم التعامل مع النص الأصلي لضمان الدقة خاصة في اللغات غير الشائعة، فالمترجم الوسيط يتدخل بتأويلاته الخاصة ومشاعره بالحذف والإضافة وفق ما يفهمه من العمل عبر ما توفر لديه من تكوين فكري وميول ثقافية وأدبية وأسلوبية.
فالترجمة ليست نقل معارف فحسب، بل الترجمة تواصل بين الحضارات ، ولا يكون هذا التواصل مثمرا إلا حين تؤرقنا روح المغامرة الإنسانية ، التى يزكيها نهم معرفي لاستيعاب إنجازات وفتوحات العلم المرتكز على عبقرية الإنسان من أجل تغيير الواقع الثقافي والبناء الاجتماعي لحاجتنا الملحة إلى ذلك [SUP][SUP][18][/SUP][/SUP] وبهذا يتضح أن اضطراب المصطلح ناشئ لاضطراب الترجمة، وهذا سيؤدي إلى اضطراب التطبيق على ما سنرى في العنصر اللاحق.
- المصطلحات واستهلاك المعرفة:
ربما يكون قد تحقق شيء من ذلك، لكن أغلب الدراسات التي قام بها طلاب مرحلتي الماجستير والدكتوراه حول هذه القضايا لم يكن سوى تكرار للمناهج العربية تحت مسميات حداثية غربية، فالمصطلحات التي تُرجمت إلى العربية بأسماء أخرى هي هي المصطلحات العربية، ربما اختلف تناولها في بيئتها الأصلية عن تناولنا لها، لكنها جاءت إلينا فاستخدمناها بأسماء الغرب وبمعاني العرب.
وسأعرض نماذج توضح ما قصدت بيانه:
الجملة الاقتضائية [19] المصطلح يتفق تماما مع مصطلح "الجملة الطلبية.
الجملة التقريرية [20] المصطلح يتفق مع مصطلح "الجملة الخبرية".
الانزياح – الانكسار النصي- الانحراف النصي [21] يتفق مع مصطلحي"العدول "و"خلاف مقتضى الظاهر"
التشبع[22] يتفق مع مصطلح "الخاصية الأسلوبية "أو"السمة الأسلوبية"
التصالب[23] مع مصطلح "المقابلة العكسية".
الاستبدال[24]مع مصطلح "الاستعارة والوفاقية والاستعارة العنادية أو التهكمية"
النظرية الاستبدالية [25] مع مصطلح "الاستعارة التصريحية والأصلية"
الاستعارة التفاعلية[26] مع مصطلح "الاستعارة المكنية والمركبة"
وعلى المستوى التطبيقي وجدنا استهلاكا واضحا للمعرفة وتضييعا للجهد والوقت في دراسات لم تتجاوز المناهج التقليدية ، وإن اتسمت بمسميات حداثية، وفيما يلي نقف على بعض الدراسات التطبيقية للمصطلحات الغربية:
مصطلح الحجاج Argumentation:
من المصطلحات البلاغية التي لاقت رواجا في الآونة الأخيرة ، وقد حدث في هذا المصطلح خلل سواء في التنظير أو التطبيق، فقد اختلط بمصطلح الإقناع حتى التبس به عند بعض المطبقين، وفي أغلب الدراسات التطبيقية لم نجد اختلافا كبيرا بين آليات الدراسة الحجاجية والدراسات البلاغية الأخرى[27].
فأغلب الدراسات التطبيقية التي طالعتها في بلاغة الحجاج استخدمت الآليات البلاغية المعروفة ولم تجاوزها، ومن هذه الدراسات:
- الحجاج وظواهره البلاغية بين الخطابة والرسائل في العصر العباسي الأول "دراسة تطبيقية في الجمهرتين" رسالة ماجستير غير منشورة ، جامعة الإسكندرية (2006)، للباحث :سامح سمير شاهين بإشراف أستاذي الأستاذ الدكتور عيد بلبع.
- بلاغة الحجاج في الشعر العربي"شعر ابن الرومي نموذجا" للدكتور : إبراهيم عبد المنعم إبراهيم" (2007).
- الحجاج في الخطابة الأموية دراسة بلاغية لوسائل الإقناع " للباحث د. عصام أحمد أبو السعود بحيري، رسالة دكتوراه غير منشورة ، كلية الآداب جامعة المنوفية ، بإشراف الأستاذ الدكتور عيد بلبع(2010) .
- " الخطب والرسائل في العصر الأموي دراسة تحليلية في ضوء نظرية الحجاج " رسالة دكتوراه للباحث : سعيد حسن أحمد الجرن ـ 2012م ـ بكلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة وقام الباحث في التمهيد بعرض مفهوم الحجاج وتطوره بدءا من مفهوم الحجاج عند أرسطو كما لفت إلى الحجاج وعلاقته بالبلاغة العربية ، ثم قام في أبواب الرسالة بدراسة دور الكلمة في الحجاج ودور التركيب في الحجاج ودور الصورة في الحجاج ودور التقنيات الحجاجية ثم بنية الحجاج في الخطب والرسائل الأموية ، وقد اعتمد في جمع مادة الدراسة على المصادر التراثية.
- " بلاغة الحجاج النبوي في صحيح مسلم " رسالة دكتوراه للباحث: عبد المحسن محمود أحمد منصور ـ 2014م ـ بكلية اللغة العربية ـ جامعة الأزهر فرع شبين الكوم وقد سعى البحث فيها إلى الكشف عن طرائق الحجاج النبوي وأنواعه وخصائصه وجمع تلك الأساليب لإظهار الجانب الحجاجي ففي معالجة النبي ـ ﷺ ـ لمقامات الحجاج المختلفة وقد اعتمد الباحث فيها على دراسة بلاغة أساليب الحجاج النبوي المباشر وغير المباشر والأساليب المبنية على مقدمات عقلية عن طريق التطبيق على صحيح مسلم.
مصطلح الانزياح:
شاع مصطلح الانزياح في النقد الغربي، وتعددت مدلولاته، فعده بول فاليري "تجاوزا" ورولان بارت "فضيحة" وتودوروف "شذوذا" وجان كوهن "إطاحة" وثيري "كسرا " وسبيتزر "انحرافا"[28] وفي النقد العربي نجد "الانزياح" و"الانحراف" و" العدول" و" الخروج" و" الخرق" و" الابتعاد" و" والبعد" و" التشويش" و" التشويه" و" المجاوزة" و" النشاز" و"الاتساع" و" الفارق" و" الجسارة اللغوية" و" الغرابة" و" الإخلال" و" الانحناء"[29]
وقد سبب المصطلح الغربي ضبابية في رؤية المصطلحات، فتعددت الترجمات واتفقت المنهجية، فالعدول وخلاف مقتضى الظاهر يعنيان نفس دلالة الانزياح، واللافت للنظر أن الدراسات العربية التي تناولت المصطلح الغربي لم تضف شيئا على دلالة المصطلح العربي "العدول" بل وجدنا اعترافا صريحا في مطلع إحدى هذه الدراسات، حيث قال المؤلف: "وبداية لا بد من الإشارة إلى أن الانزياح أو ما يسميه بعض النقاد والباحثين بالعدول والانحراف يعد أهم ما قامت عليه الأسلوبية من أركان"[30]
وفي تعريف أحمد محمد ويس للانزياح حيث يقول: "استعمال المبدع للغة مفردات وتراكيب وصورا استعمالا يخرج به عما هو معتاد ومألوف بحيث يؤدي ما ينبغي له أن يتصف به من تفرد وإبداع وقوة جذب وأسر"[31]نجد أن هذا التعريف هو الحد بين الكلام العادي والكلام الأدبي.
فمفهوم الانزياح ليس جديدا في البلاغة العربية، فما جاء به المحدثون لم يتجاوز وصف المصطلح بأنه خرق لقانون اللغة وخروج عن المعيار، وهو ما جاء به عبد القاهر الجرجاني وغيره من القدماء، فالفروق بين القديم والحديث ليست فروقا جوهرية.
يقول الباحث:" ولعل أول إشارة إلى انزياح النص القرآني وخروجه عما هو مألوف وردت في كتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة (210ه) حيث قال: "ففي القرآن ما في الكلام العربي من الغريب والمعاني، ومن المحتمل من مجاز ما اختصر، ومجاز ما حذف، ومجاز ما كف عن خبره، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الواحد ووقع على الجميع، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الجميع ووقع معناه على الاثنين...ومجاز المقدم والمؤخر"ثم يعلق على ذلك قائلا: فهو يقصد بالمجاز الانزياح أو لعدول عما ألفه الناس من أساليب التعبير وأنماط الصياغة، والاتجاه إلى أساليب وعادات لم تجر بها الأنماط اللغوية، مما يكسب الكلام مزية من غيره"[32]
ثم هو أيضا يقول" ولعل أول محاولة منهجية - فيما أعلم- لجمع أنواع الانزياح والعدول في النص القرآني، ودراستها في باب واحد يجمع شتاتها، وتحت مصطلح واحد يجمع سماتها العامة، جاءت في كتاب "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة (276هـ) حيث خصص لها بابا عنوانه"باب مخالفة ظاهر اللفظ معناه"تحدث فيه عن المعاني السياقية لبعض الأساليب الإنشائية.."[33] ويسميه الرماني (386هـ)"نقض العادة"[34] ثم يذكر أن الباقلاني (403هـ) أيضا كان" من الموفقين كثيرا في الوقوف على مستويات الانزياح في هذا النص الذي كان سببا في ظهور الدراسات العربية التي كانت تهدف إلى تمرين الألسنة على قراءته، والعقول على التمعن والتدبر في أسمى معانيه.."[35]
فما الإضافة التي أضافتها الدراسة ؟ وماذا لو أنه سماها بالعدول أو الانحراف أو خلاف مقتضى الظاهر منذ البداية؟
وقد ألفينا الخلط نفسه في بحث بعنوان " أسلوبية الانزياح في سورة الحديد المبارکة " لمجموعة من الباحثين "مرتضى قائمي، إسماعيلي يوسفي، و جواد محمد زاده" [36]يقول :
يسعی هذا البحث إلی الإجابة عن عدة أسئلة رئيسية وهي:
- أي نمط من أنماط الانزياح يعد أكثر انتشاراً في السورة؟
- ما هي جمالية أنماط الانزياح والغرض الرئيسي من العدول؟
- ما هو معيار التنزيل للخروج عن المتداول والمألوف؟
فنلاحظ أنه عبر عن الانزياح بالعدول ، مما يدفعنا للتساؤل :ما قيمة استخدام المصطلح الغربي إذن؟ كما أنني بحثت في قائمة المراجع عن كتب أجنبية بلغتها أو مترجمة فلم أجد ، فهل يعني ذلك أن الباحثين لم يطالعوا عن النظرية الغربية أي كتاب غربي؟
وفي رسالة علمية بعنوان "الانزياح في النص القرآني"[37] لنيل درجة الدكتوراه مقدمة من الطالب أحمد غالب الخرشه، بجامعة مؤتة ، لم يقدم الباحث جديدا ، بل إنه تناول النصوص القرآنية تناولا بلاغيا لا يخرج عن تناول ظاهرة العدول العربية المعروفة .بل إنه هدف إلى أن يبين الترابط بين الانزياح الأسلوبي والعدول العربي، يقول في المقدمة "وقصدت من هذا الترتيب الدلالة على أن ما قاله الأسلوبيون المحدثون في تناولهم للانزياح هو ما نجد له إشارات في كتب التراث البلاغي عند المتقدمين"[38]
مصطلح السيميائية:
لهذا المصطلح مسميان اختلاف حولهما العلماء: السيميوطيقا ، والسيميولوجيا .فهما مترادفان "فالسيميولوجيا إذن مرادفة للسيميوطيقا ،وموضوعهما دراسة أنظمة العلامات أيا كان مصدرها لغويا أو سننيا أو مؤشريا " [39] وعندما نظرنا في الدراسات التطبيقية لم نجد إضافة لما قاله العرب، ففي دراسة بعنوان"بنية الخطاب السردي في سورة يوسف: دارسة سيميائية" [40]: للباحثة دفة بلقاسم عالجت الدراسة قصة يوسف عليه السلام من خلال ما أسمته بالتمفصلات التالية:
الوحدات السيميائية الدلة على بشائر النبوة.
الوحدات السيميائية الدلة على الكيد وتدبير المؤامرة.
الوحدات السيميائية الدالة على العلم وتأويل الرؤى.
الوحدات السيميائية الدالة على التحقيق في المؤامرة والبراءة.
الوحدات السيميائية الدالة على إنعام الملك على يوسف بخزائن مصر.
الوحدات السيميائية الدالة على انفراج الأزمة واللقاء المثير بين يوسف وأبويه وإخوته.
وقد كان ذلك خلال ثلاث وحدات سيميائية هي:
"القميص" حضور في القصة، وفيها ثلاث دلالات:
حين جاء الإخوة على قميص يوسف بدم كذب... وحين قدَّ قميص يوسف من دبر... وحمل ريح يوسف إلى أبيه، وألقي على وجهه فارتد بصيرا بإذن الله تعالى. نجد أن هذه الوحدة "قميص" أصبحت أداة أساسية في البناء السردي... وهكذا استحال "القميص" إلى نواة مركزية، نسجت حولها أحداث القصة.
"السكين" عن موقعها في قصة يوسف عليه السلام، إذ هي من منظور دلالي تتصل بمعاني التقطيع، والذبح، والقتل، والدم. وكل هذه المعاني لها أثر في نفس المتلقي،حيث توقظ انتباهه وإحساسه، وتنشط انفعالاته، فيصبح مستعدا لفهم الرسالة والتفاعل معها. أما بنيتها العميقة فتومئ إلى دلالات الحقد، والكره، والقسوة، وحب الانتقام، وكلها صفات سيطرت على نفسية امرأة العزيز، وهي تدعو النسوة إلى حضور مأدبة أقامتها لهن في قصرها.
"الذئب" عن معان ترمز إلى المكر، والخبث، والخيانة، ومخالفة العهد، والافتراس، وكلها صفات ذميمة اتصف بها إخوة يوسف الكبار.
وقد استنكر الباحث د.إياد عبدالله في بحثه الدراسات السيميائية للقرآن الكريم [41] هذا التأويل ذاكرا أن مفسرين كبارا ذكروا هذه الدلالات من قبل أن تكون السيميائية موجودة فقال:" حين أشار أبو السعود (ت 882 ) إلى القميص بقوله: "كان في قميص يوسف –عليه السلام- ثلاث آيات:
كان دليلا ليعقوب على كذبهم، وألقاه على وجهه فارتد بصيرا ، ودليلا على براءة يوسف –عليه السلام"
ثم علق قائلا: "ويمكن القول، إن أي من تلك الوحدات والعلامات السيميائية برغم دورها في القصة؛ لا يصح أن نوليها اهتماما يفوق الدروس المتوخاة المتمثلة في الصراع بين الحق والباطل، والحسد والغيرة، وحب الانتقام، وثبات يعقوب عليه السلام وصبره، وانتصار الحق في نهاية المطاف. فإذا كان للقميص من دور فعلي في القصة فينبغي أن لا يطغى على دور صاحبه الذي عانى من ظلم إخوته له. أما السكين فكانت مكيدة ما كانت لتتم لولا حسن سيدنا يوسف ووسامته، إذ أدركت زوجة العزيز أن النسوة حين يستعملن السكين ويظهر عليهن يوسف سوف ينبهرن بحسنه وطلعته ويغفلن عن استعمال السكين بشكل صحيح ويجرحن أيديهنّ. وبدون تلك الوسامة لم يكن للسكين قيمة في تلك القصة سوى تقشبر الفاكهة. أما الذئب فلم يكن له وجود حقيقي في القصة. فجاءت الدارسة السيميائية بهذه النتائج المتواضعة؛ لأنه ليس بمقدور هذا العلم أو المنهج أن يأتي بشيء أفضل مما جاء آنفاً، لا سيما حينما يطبق في محيط خارج المجال الذي ولد فيه.
وبعد هذا النقد للتحليل السيميائي يقول الباحث: "لذلك يعتقد الباحث أننا نضيع جوهر القصة ومغزاها حين نلتفت إلى تلك الوحدات والعلامات السيميائية؛ فالسورة حافلة بمشاهد تتجلى فيها انفعالات الغيرة، والحزن، والغضب، والخوف، والسرور، وبحوادث ابتلاء يوسف - عليه السلام - ابتلاء بغيرة إخوته، وابتلاء بالفتنة، وابتلاء بالسجن، وابتلاء بالملك والقوة، وفي السورة أيضاً ابتلاء يعقوب -عليه السلام- بفقدان ابنه، وفقدان بصره، وماعانى من صبر طويل، مع عدم تسرب اليأس إلى نفسه وعدم فقدان الأمل. فمهما طال الابتلاء لا يعني اليأس من روح الله. كذلك مغزى تعلم يوسف لتأويل الأحاديث وكيف تحققت رؤى صاحبَيْ يوسف"[42]
فأي إضافة أضافها هذه الدراسة للدراسات البلاغية ، فهي لم تقدم جديدا ، ولكنها اتخذت من التفاسير وكتب البلاغة العربية مراجعا لها ، وكنا ننتظر أن تقدم إضافة تُضاف لما جاء بهذه المراجع.
الخاتمة:
المصطلحات الحداثية يمكن أن تُستثمر إن وجدت باحثين يستطيعون الإلمام التام بفلسفتها وسياقاتها التي ولدت وترعرت خلالها ، ولكنها في الغالب تُشكل قطيعة معرفية متعددة الاتجاهات:
- قطيعة مع التراث ؛ بحيث استعضنا بها عن المصطلح التراثي.
- قطيعة مع الآخر ؛ لأننا ظننا أننا نمارس الحداثة ونحن نعيش في وهم الحداثة ، فلقد اكتسبت المصطلحات الحداثية معاني غير التي كانت لها في بيئتها.
- قطيعة مع الذات ؛ بحيث أصبح الباحثون في وطن واحد يتناولون المصطلح الواحد بأكثر من طريقة .
ولذا فإن الباحث في البلاغة العربية لابد وأن يكون ذا دراية باللعة الأصلية للمصطلحات وأن يُلم بفلسفتها وسياقاتها ، وألا يعتمد على الدلالات الوسيطة ، لأن الذي نقل هذه الدلالات ربما أعطاها من ثقافته ووجهة نظره.
المراجع
- أحمد غالب النوري:أسلوبية الانزياح في النص القرآني، رسالة دكتوراة غير منشورة، جامعة مؤتة ، 2008م
- أحمد محمد ويس:الانزياح من منظور الدراسات الأسلوبية،مؤسسة اليمامة الصحفية، الرياض، ط1، 2003
- أحمد مطلوب: في المصطلح النقدي: مطبعة المجمع العلمي، بغداد، 1423هـ، 2002م،
- إياد عبدالله وآخرون :الدراسات السيميائية للقرآن الكريم ، بحث منشور بمجلة قرآنيكا، مجلة عالمية لبحوث القرآن ، المجلد الثامن العدد الأول ،يوليو 2016م
- أيمن أبومصطفى: الحجاج في القرآن الكريم رؤية جديدة، بحث منشور بمجلة كلية الآداب، جامعة بنها، العدد 40 لسنة 2015م.
- محمد كريم الكواز البلاغة والنقد ، الانتشار العربي، بيروت ط1 سنة 2006م
- دفة بلقاسم: بنية-الخطاب-السردي-في-سورة-يوسف/منشور بالكتاب الرابع من كتاب محاضرات الملتقى الوطني الرابع "السيمياء والنص الأدبي" بجامعة محمد خيضر بسكرة ،كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، 28-29 نوفبر 2016م.
- سعد مصلوح : في البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية آفاق جديدة، لجنة التأليف والنشر والتعريب، الكويت، طـ1، 2003
- سعيد حسن بحيري: علم لغة النص المفاهيم والاتجاهات، الشركة المصرية العالمية للطباعة والنشر، لونجمان، طـ1، 1997
- شوقي جلال : الترجمة في العالم العربي الواقع والتحدي ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، 1999م
- صلاح فضل : بلاغة الخطاب وعلم النص، المجلس الوطني للثقافة واالفنون والآداب، الكويت،1992
- عبد السلام المسدي :اختلاف المصطلح بين المشرق والمغرب ، كتاب العربي ، الكويت ، أكتوبر 2006.
- عبد القادر عبد الجليل: الأسلوبية وثلاثية الدوائر البلاغية ،دار الصفاء ، ط1 سنة 2002م ،
- عبدالسلام المسدي :الأسلوبية والأسلوب ،دار الكتاب الجديد المتحدة ،2006م
- عبدالله الحراصي :دراسات في الاستعارة المفهومية ،مؤسسة عمان للصحافة ،2002م
- عمار ساسي :المصطلح في اللسان العربي، عالم الكتب الحديث، الأردن، 2009م[SUP][SUP][1][/SUP][/SUP] د.عبد
- عيد بلبع : التداولية البعد الثالث فى سميوطيقا موريس من اللسانيات إلى النقد الأدبى والبلاغة ص24 وما بعدها ـ بلنسية للنشر والتوزيع ـ الطبعة الأولى 2009 م .
- غازي مختار طليمات:على محك لغة النقد ، جريدة البيان الإماراتية ، الخميس 13 مايو 2002م
- فاضل ثامر:إشكالية المصطلح النقدي في الخطاب العربي الحديث ، صـ8،7.
- فيردناند دي سوسير ، محاضرات في علم اللسان العام ، ترجمة عبدالقادر قنيني ط 1 ، 1987م ، أفريقيا الشرق ، الدار البيضاء
- مجدى وهبة ، كامل المهندس : معجم المصطلحات العربية فى اللغة والأدب ، مكتبة لبنان ـ بيروت ، لبنان ـ الطبعة الثانية ( منقحة ومَزيدة ) 1984.
- محمد العبد :حبك النص من منظورات التراث العربي، مجلة فصول، العدد 59
- محمد العمري: البلاغة العربية ، أصولها ، وامتداداتها ، أفريقيا الشرق المغرب سنة 1999م ،
- محمد خطابي : لسانيات النص "مدخل إلى انسجام الخطاب" ، المركز الثقافي العربي ، بيروت، طـ1، 1991
- محمد مفتاح : تحليل الخطاب الشعري، دار التنوير والدار البيضاء ،بيروت ،1985م
- مرتضى قائمي، إسماعيلي يوسفي، و جواد محمد زاده":" أسلوبية الانزياح في سورة الحديد المبارکة، مجلة إضاءات نقدية (فصلية محكّمة) ،إيران، السنة السادسة العدد الرابع والعشرون شتاء ١٣٩٥ ش/ کانون الأول ٢٠١٦ .
- يوسف وغليسي:إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ط1، 1429هـ- 2008م