المصحف (تعريفه والأحكام المتعلقة به )

إنضم
18/07/2007
المشاركات
627
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
[align=justify]
المصحف (تعريفه والأحكام المتعلقة به )

الموسوعة الفقهية / الجزء الثامن والثلاثون

مصحف

التّعريف :

1 - المُصحف بضمّ الميم , ويجوز المِصحف بكسرها , وهي لغه تميمٍ , وهو لغةً : اسم لكلّ مجموعةٍ من الصحف المكتوبة ضمّت بين دفّتين , قال الأزهري : وإنّما سمّي المصحف مصحفاً لأنّه أُصْحِف , أي جعل جامعاً للصحف المكتوبة بين الدّفّتين .
والمصحف في الاصطلاح : اسم للمكتوب فيه كلام اللّه تعالى بين الدّفّتين .
ويصدق المصحف على ما كان حاوياً للقرآن كلّه , أو كان ممّا يسمى مصحفاً عرفاً ولو قليلاً كحزبٍ , على ما صرّح به القليوبي , وقال ابن حبيبٍ : يشمل ما كان مصحفاً جامعاً أو جزءاً أو ورقةً فيها بعض سورةٍ أو لوحاً أو كتفاً مكتوبةً .
الألفاظ ذات الصّلة :
القرآن :
1 - القرآن لغةً : القراءة , قال اللّه تعالى : { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } .
وهو في الاصطلاح : اسم لكلام اللّه تعالى المنزّل على رسوله محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم المتعبّد بتلاوته , المكتوب في المصاحف المنقول إلينا نقلاً متواتراً .
فالفرق بينه وبين المصحف : أنّ المصحف اسم للمكتوب من القرآن الكريم المجموع بين الدّفّتين والجلد , والقرآن اسم لكلام اللّه تعالى المكتوب فيه .
الأحكام المتعلّقة بالمصحف :
تتعلّق بالمصحف أحكام منها :

لمس الجنب والحائض للمصحف :
2 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا يجوز للمحدث حدثاً أكبر أن يمسّ المصحف , روي ذلك عن ابن عمر رضي اللّه عنهما , والقاسم بن محمّدٍ والحسن وقتادة وعطاءٍ والشّعبيّ , قال ابن قدامة : ولا نعلم مخالفاً في ذلك إلا داود .
وسواء في ذلك الجنابة والحيض والنّفاس , فلا يجوز لأحدٍ من أصحاب هذه الأحداث أن يمسّ المصحف حتّى يتطهّر , إلا ما يأتي استثناؤه .
واستدلوا بقوله تعالى : { لا يَمَسُّهُ إََِلا الْمُطَهَّرُونَ } .
وبما في كتاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لعمرو بن حزمٍ رضي اللّه عنه إلى أهل اليمن , وهو قوله : « لا يمس القرآن إلا طاهر » , وقال ابن عمر : قال النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « لا يمس القرآن إلا طاهر » .
لمس المحدث حدثاً أصغر للمصحف :
4 - ذهب عامّة الفقهاء إلى أنّه لا يجوز للمحدث حدثاً أصغر أن يمسّ المصحف , وجعله ابن قدامة ممّا لا يعلم فيه خلافاً عن غير داود .
وقال القرطبي : وقيل : يجوز مسه بغير وضوءٍ , وقال القليوبي من الشّافعيّة : وحكى ابن الصّلاح قولاً غريباً بعدم حرمة مسّه مطلقاً .
ولا يباح للمحدث مس المصحف إلا إذا أتمّ طهارته , فلو غسل بعض أعضاء الوضوء لم يجز مس المصحف به قبل أن يتمّ وضوءه , وفي قولٍ عند الحنفيّة : يجوز مسه بالعضو الّذي تمّ غسله .
مس الجنب والمحدث للمصحف بغير باطن اليد :
5 - يسوّي عامّة الفقهاء بين مسّ المصحف بباطن اليد , وبين مسّه بغيرها من الأعضاء , لأنّ كلّ شيءٍ لاقى شيئاً , فقد مسّه إلا الحكم وحمّاداً , فقد قالا : يجوز مسه بظاهر اليد وبغير اليد من الأعضاء , لأنّ آلة المسّ اليد .
وفي قولٍ عند الحنفيّة : يمنع مسه بأعضاء الطّهارة ولا يمنع مسه بغيرها , ونقل في الفتاوى الهنديّة عن الزّاهديّ أنّ المنع أصح .
مس جلد المصحف وما لا كتابة فيه من ورقه :
6 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يمتنع على غير المتطهّر مس جلد المصحف المتّصل , والحواشي الّتي لا كتابة فيها من أوراق المصحف , والبياض بين السطور , وكذا ما فيه من صحائف خاليةٍ من الكتابة بالكلّيّة , وذلك لأنّها تابعة للمكتوب وحريم له , وحريم الشّيء تبع له ويأخذ حكمه .
وذهب بعض الحنفيّة والشّافعيّة إلى جواز ذلك .
حمل غير المتطهّر للمصحف وتقليبه لأوراقه وكتابته له :
7 - ذهب الحنفيّة والحنابلة , وهو قول الحسن وعطاءٍ والشّعبيّ والقاسم والحكم وحمّادٍ , إلى أنّه لا بأس أن يحمل الجنب أو المحدث المصحف بعلاقة , أو مع حائلٍ غير تابعٍ له , لأنّه لا يكون ماساً له فلا يمنع منه كما لو حمله في متاعه , ولأنّ النّهي الوارد إنّما هو عن المسّ ولا مسّ هنا , قال الحنفيّة : فلو حمله بغلاف غير مخيطٍ به , أو في خريطةٍ - وهي الكيس - أو نحو ذلك , لم يكره .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة والأوزاعي , وهو رواية خرّجها القاضي عن أحمد إلى أنّه لا يجوز ذلك , قال المالكيّة : ولا يحمله غير الطّاهر ولو على وسادةٍ أو نحوها , ككرسيّ المصحف , أو في غلافٍ أو بعلاقة , وكذا قال الشّافعيّة في الأصحّ عندهم : لا يجوز له حمل ومس خريطةٍ أو صندوقٍ فيهما مصحف , أي إن أعدّا له , ولا يمتنع مس أو حمل صندوقٍ أعدّ للأمتعة وفيه مصحف .
ولو قلّب غير المتطهّر أوراق المصحف بعود في يده جاز عند كلٍّ من الحنفيّة والحنابلة , ولم يجز عند المالكيّة على الرّاجح , وعند الشّافعيّة صحّح النّووي جواز ذلك لأنّه ليس بمسّ ولا حملٍ , قال : وبه قطع العراقيون من أصحاب الشّافعيّ .
وقال التّتائي من المالكيّة : لا يجب أن يكون الّذي يكتب القرآن على طهارةٍ لمشقّة الوضوء كلّ ساعةٍ .
ونقل عن محمّد بن الحسن أنّه كره أن يكتب المصحف المحدث ولو من غير مسٍّ باليد , لأنّه يكون ماساً بالقلم .
وفي تقليب القارئ غير المتطهّر أوراق المصحف بكمّه أو غيره من الثّياب الّتي هو لابسها عند الحنفيّة اختلاف .
قال ابن عابدين : والمنع أولى لأنّ الملبوس تابع للابسه وهو قول الشّافعيّة .
وقال الحنفيّة : لو وضع على يده منديلاً أو نحوه من حائلٍ ليس تابعاً للمصحف ولا هو من ملابس الماسّ فلا بأس به , ومنعه المالكيّة والشّافعيّة ولو استخدم لذلك وسادةً أو نحوها . على أنّه يباح لغير المتطهّر عند المانعين حمل المصحف ومسه للضّرورة , قال الشّافعيّة : يجوز للمحدث حمله لخوف حرقٍ أو غرقٍ أو تنجسٍ أو خيف وقوعه في يد كافرٍ أو خيف ضياعه أو سرقته , ويجب عند إرادة حمله التّيمم أي حيث لا يجد الماء , وصرّح بمثل ذلك المالكيّة .
من يستثنى من تحريم مسّ المصحف على غير طهارةٍ :أ - الصّغير :
8 - ذهب الحنفيّة وهو قول عند المالكيّة إلى أنّه يجوز للصّغير غير المتطهّر أن يمسّ المصحف , قالوا : لما في منع الصّبيان من مسّه إلا بالطّهارة من الحرج , لمشقّة استمرارهم على الطّهارة , ولأنّه لو منعوا من ذلك لأدّى إلى تنفيرهم من حفظ القرآن وتعلمه , وتعلمه في حال الصّغر أرسخ وأثبت .
قال الحنفيّة : ولا بأس للكبير المتطهّر أن يدفع المصحف إلى صبيٍّ .
وذهب المالكيّة في قولٍ آخر عندهم إلى أنّ الصّغير لا يمس المصحف إلا بالطّهارة كالبالغ . وقال الشّافعيّة : لا يمنع الصّبي المميّز المحدث ولو حدثاً أكبر من مسّ ولا من حمل لوحٍ ولا مصحفٍ يتعلّم منه , أي لا يجب منعه من ذلك لحاجة تعلمه ومشقّة استمراره متطهّراً , بل يستحب .
قالوا : وذلك في الحمل المتعلّق بالدّراسة فإن لم يكن لغرض , أو كان لغرض آخر منع منه جزماً .
أمّا الصّبي غير المميّز فيحرم تمكينه من ذلك لئلا ينتهكه .
وذهب الحنابلة في المذهب إلى أنّه لا يجوز للصّبيّ مس المصحف , أي لا يجوز لوليّه تمكينه من مسّه , وذكر القاضي روايةً بالجواز وهو وجه في الرّعاية وغيرها .
وأمّا الألواح المكتوب فيها القرآن فلا يجوز على الصّحيح من المذهب عندهم مس الصّبيّ المكتوب في الألواح , وعنه يجوز , وأطلقهما في التّلخيص .
وأمّا مس الصّبيّ اللّوح أو حمله فيجوز على الصّحيح من المذهب .
ب - المتعلّم والمعلّم ونحوهما :
9 - يرى المالكيّة أنّه يجوز للمرأة الحائض الّتي تتعلّم القرآن , أو تعلّمه حال التّعليم مسّ المصحف سواء كان كاملاً أو جزءاً منه أو اللّوح الّذي كتب فيه القرآن , قال بعضهم : وليس ذلك للجنب , لأنّ رفع حدثه بيده ولا يشق , كالوضوء , بخلاف الحائض فإنّ رفع حدثها ليس بيدها , لكنّ المعتمد عندهم أنّ الجنب رجلاً كان أو امرأةً , صغيراً كان أو بالغاً يجوز له المس والحمل حال التّعلم والتّعليم للمشقّة .
وسواء كانت الحاجة إلى المصحف للمطالعة , أو كانت للتّذكر بنيّة الحفظ .
مس المحدث كتب التّفسير ونحوها ممّا فيه قرآن :
10 - اختلف الفقهاء في حكم مسّ المحدث كتب التّفسير , فذهب بعضهم إلى حرمة ذلك , وذهب غيرهم إلى الجواز .
والتّفصيل في مصطلح : ( مس ف 7 ) .
مس غير المتطهّر المصحف المكتوب بحروف أعجميّةٍ وكتب ترجمة معاني القرآن:
11 - المصحف إن كتب على لفظه العربيّ بحروف غير عربيّةٍ فهو مصحف وله أحكام المصحف , وبهذا صرّح الحنفيّة ففي الفتاوى الهنديّة وتنوير الأبصار : يكره عند أبي حنيفة لغير المتطهّر مس المصحف ولو مكتوباً بالفارسيّة , وكذا عند الصّاحبين على الصّحيح . وعند الشّافعيّة مثل ذلك , قال القليوبي : تجوز كتابة المصحف بغير العربيّة لا قراءته بها , ولها حكم المصحف في المسّ والحمل .
أمّا ترجمة معاني القرآن باللغات الأعجميّة فليست قرآناً , بل هي نوع من التّفسير على ما صرّج به المالكيّة , وعليه فلا بأس أن يمسّها المحدث , عند من لا يمنع مسّ المحدث لكتب التّفسير .
[/align]
 
يتبع : من الموسوعة الفقهية

مصحف

صيانة المصحف عن الاتّصال بالنّجاسات :
12 - يحرم تنجيس المصحف , فمن ألقى المصحف في النّجاسات أو القاذورات متعمّداً مختاراً يحكم بردّته , قال الشّافعيّة : يحرم وضع أوراق المصحف على نجسٍ , ومسها بشيء نجسٍ ولو عضواً من أعضائه , ويجب غسل المصحف إن تنجّس ولو أدّى غسله إلى تلفه , ولو كان لمحجور عليه , ويحرم كتابته بشيء نجسٍ , وصرّح بمثل ذلك الحنابلة . وذكر الشّافعيّة والحنابلة أنّه يحرم مس المصحف بعضو نجسٍ قياساً على مسّه مع الحدث , أمّا إن كانت النّجاسة على عضوٍ ومسّه بعصو آخر طاهرٍ فلا يحرم , وذكر الحنابلة أيضاً أنّه يحرم كتابة القرآن بحيث يتنجّس ببول حيوانٍ أو نحو ذلك .
ويحرم كتابة المصحف في ورقٍ نجسٍ أو بمداد نجسٍ .
دخول الخلاء بمصحف :
13 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّه يكره - ولا يحرم - أن يدخل الخلاء ومعه خاتم عليه اسم اللّه تعالى أو شيء من القرآن تعظيماً له , قال القليوبي : هو مكروه وإن حرم من حيث الحدث , وهو ظاهر كلام الحنابلة , لما ورد أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : « كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه » , قال في شرح المنتهى : وجزم بعضهم بتحريمه في المصحف , وقال صاحب الإنصاف : لا شكّ في تحريمه قطعاً من غير حاجةٍ .
وذهب المالكيّة إلى أنّه يحرم دخول الخلاء سواء أكان كنيفاً أو غيره بمصحف , كاملٍ أو بعض مصحفٍ , قالوا : لكن إن دخله بما فيه بعض من الآيات لا بال له - أي من حيث الكثرة - فالحكم الكراهة لا التّحريم .
قالوا : وإن خاف ضياعه جاز أن يدخل به معه بشرط أن يكون في ساترٍ يمنع وصول الرّائحة إليه , ولا يكفي وضعه في جيبه , لأنّه ظرف متّسع .
جعل المصحف في قبلة الصّلاة :
14 - يكره عند المالكيّة والحنابلة جعل المصحف في قبلة المصلّي لأنّه يلهيه , قال أحمد : كانوا يكرهون أن يجعلوا في القبلة شيئاً حتّى المصحف , لكنّ المكروه عند المالكيّة تعمد جعله في القبلة ليصلّي إليه , ولا يكره إن لم يتعمّده , كما لو كان ذاك موضعه الّذي يعلّق فيه عادةً .
ولا يكره ذلك عند الحنفيّة إن لم يكن جعله ليقرأ منه , قالوا : لأنّ الكراهة فيما يكره استقباله في الصّلاة باعتبار التّشبه بعبادها , والمصحف لم يعبده أحد , واستقبال أهل الكتاب مصاحفهم للقراءة منها لا لعبادتها , ومن هنا كره أبو حنيفة القراءة في الصّلاة من المصحف .
القراءة من المصحف في الصّلاة وغيرها :
15 - ذهب أبو حنيفة إلى أنّه ليس للمصلّي أن يقرأ من المصحف , فإن قرأ بالنّظر في المصحف فسدت صلاته مطلقاً , أي قليلاً كان ما قرأه أو كثيراً , إماماً كان أو منفرداً , وكذا لو كان ممّن لا يمكنه القراءة إلا منه لكونه غير حافظٍ .
وقد اختلف الحنفيّة في تعليل قوله , فقيل : لأنّ حمل المصحف والنّظر فيه وتقليب الأوراق عمل كثير , وقيل : لأنّه تلقّن من المصحف , فصار كما إذا تلقّن من غيره , وصحّح هذا الوجه في الكافي تبعاً لتصحيح السّرخسيّ , وعليه فلو لم يكن قادراً على القراءة إلا من المصحف فصلّى بلا قراءةٍ فإنّها تجزئه .
وذهب الصّاحبان إلى تجويز القراءة للمصلّي من المصحف مع الكراهة لما في ذلك من التّشبه بأهل الكتاب .
وذهب المالكيّة إلى أنّه يكره للمصلّي القراءة من المصحف في فرضٍ أو نفلٍ لكثرة الشّغل بذلك , لكنّ كراهته عندهم في النّفل إن قرأ في أثنائه , ولا يكره إن قرأ في أوّله , لأنّه يغتفر في النّفل ما لا يغتفر في الفرض , قال ابن قدامة : ورويت الكراهية في ذلك عن ابن المسيّب والحسن ومجاهدٍ والرّبيع .
وأجاز الحنابلة القراءة في المصحف في قيام رمضان إن لم يكن حافظاً , لما ورد عن عائشة رضي اللّه عنها في مولىً لها اسمه ذكوان كان يؤمها من المصحف , ويكره في الفرض على الإطلاق , لأنّ العادة أنّه لا يحتاج إليه فيه , ويكره للحافظ حتّى في قيام رمضان , لأنّه يشغل عن الخشوع وعن النّظر إلى موضع السجود .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ المصلّي لو قرأ في مصحفٍ ولو قلّب أوراقه أحياناً لم تبطل صلاته , لأنّ ذلك يسير أو غير متوالٍ لا يشعر بالإعراض .
أمّا في غير الصّلاة فإنّ القراءة من المصحف مستحبّة لاشتغال البصر بالعبادة , وقد ذهب بعض الفقهاء إلى تفضيل القراءة من المصحف على القراءة عن ظهر قلبٍ , لأنّه يجمع مع القراءة النّظر في المصحف , وهو عبادة أخرى , لكن قال النّووي : إن زاد خشوعه وحضور قلبه في القراءة عن ظهر قلبٍ فهو أفضل في حقّه .
اتّباع رسم المصحف الإمام :
16 - ذهب جمهور فقهاء الأمّة إلى وجوب الاقتداء في رسم المصاحف برسم مصحف عثمان رضي اللّه عنه , لكونه قد أجمع الصّحابة عليه .
سئل الإمام مالك : أرأيت من استكتب مصحفاً اليوم , أترى أن يكتب على ما أحدث النّاس من الهجاء اليوم ؟ فقال : لا أرى ذلك , ولكن يكتب على الكِتْبَة الأولى , وروي أنّه سئل عن الحروف الّتي تكون في القرآن مثل الواو والألف , أترى أن تغيّر من المصحف إذا وجدت فيه كذلك ؟ فقال : لا , قال الدّانيّ : يعني الواو والألف الزّائدتين في الرّسم المعدومتين في اللّفظ ، قال : ولا مخالف لمالك في ذلك من علماء الأمّة , وقال أحمد : تحرم مخالفة مصحف الإمام في واوٍ أو ياءٍ أو ألفٍ أو غير ذلك .
وقال البيهقيّ في شعب الإيمان : من كتب مصحفاً فينبغي أن يحافظ على الهجاء الّذي كتبوا به هذه المصاحف ولا يخالفهم فيه , ولا يغيّر ممّا كتبوا شيئاً , فإنّهم كانوا أكثر علماً وأصدق لساناً وأعظم أمانةً منّا , فلا ينبغي أن نظنّ بأنفسنا استدراكاً عليهم .
ومن هنا صرّح الحنابلة وغيرهم أنّه لا ينبغي أن يقرأ في الصّلاة بما يخرج عن مصحف عثمان كقراءة ابن مسعودٍ رضي اللّه عنه وغيرها , لأنّ القرآن ثبت بالتّواتر , وهذه لم يثبت التّواتر بها , فلا يثبت كونها قرآناً , واختلفوا في صحّة صلاته إذا قرأ بشيء منها ممّا صحّت به الرّواية , كبعض ما روي من قراءة ابن مسعودٍ رضي اللّه عنه .
وصحّح المحقّقون من أئمّة القراءة بأنّ القراءة الصّحيحة لا بدّ أن توافق رسم مصحف عثمان رضي اللّه عنه ولو احتمالاً .
والخلاف في هذه المسألة منقول عن عزّ الدّين بن عبد السّلام فقد نقل عنه الزّركشي قوله : لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسوم الأولى باصطلاح الأئمّة لئلا يوقع في تغيير الجهّال .
وتعقّبه الزّركشي بقوله : لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه لئلا يؤدّي إلى دروس العلم , وشيء أحكمته القدماء لا يترك مراعاةً لجهل الجاهلين , ولن تخلو الأرض من قائمٍ للّه بالحجّة .
ونقل عن أبي بكرٍ الباقلانيّ مثل قول ابن عبد السّلام .
آداب كتابة المصحف :
17 - استحبّ العلماء كتابة المصاحف , وتحسين كتابتها وتجويدها , والتّأنق فيها . واستحبوا تبيين الحروف وإيضاحها وتفخيمها , والتّفريج بين السطور , وتحقيق الخطّ وكان ابن سيرين يكره أن تمدّ الباء من بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إلى الميم حتّى تكتب السّين , قال : لأنّ في ذلك نقصاً .
ونقلت : كراهة كتابة المصحف بخطّ دقيقٍ , وتصغير حجم المصحف عن عمر بن الخطّاب وعليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنهما .
ويحرم أن يكتب المصحف بمداد نجسٍ أو في ورقٍ أو شيءٍ نجسٍ .
ونقل أبو عبيدٍ بسنده عن ابن عبّاسٍ وأبي ذرٍّ وأبي الدّرداء رضي اللّه عنهم أنّهم كرهوا كتابته بالذّهب , ونقل السيوطيّ عن الغزاليّ أنّه استحسن كتابته بالذّهب , وأجاز البرزليّ والعدويّ والأجهوريّ من المالكيّة ذلك , والمشهور عند المالكيّة كراهة ذلك لأنّه يشغل القارئ عن التّدبر .
إصلاح ما قد يقع في كتابة بعض المصاحف من الخطأ :
18 - ينص الحنفيّة والشّافعيّة على أنّ إصلاح ما قد يقع في بعض المصاحف من الخطأ في كتابتها واجب , وإن ترك إصلاحه أثم , حتّى لو كان المصحف ليس له بل كان عاريّةً عنده , فعليه إصلاحه ولو لم يعلم رضا صاحبه بذلك , وقال ابن حجرٍ : لا يجوز ذلك إلا برضا مالكه , وقال القليوبي : محل الجواز إذا كان بخطّ مناسبٍ وإلا فلا .
النّقط والشّكل ونحو ذلك في المصاحف :
19 - نقل عن بعض السّلف من الصّحابة والتّابعين كراهة إدخال شيءٍ من النّقط ونحوه , وأمروا بتجريد المصحف من ذلك , فعن ابن مسعودٍ رضي اللّه عنه أنّه قال : جرّدوا المصحف ولا تخلطوه بشيء , وكره النّخعيّ نقط المصاحف , وكره ابن سيرين النّقط والفواتح والخواتم .
وكان المصحف العثماني خالياً من النّقط حتّى إنّ الباء والتّاء والثاء مثلاً كانت بصورة واحدةٍ لا تتميّز في الكتابة , وإنّما يعرفها القارئ بالمعنى .
والنّقط كان أوّلاً لبيان إعراب الحروف , أي حركاتها , وهو الّذي عمله أبو الأسود الدؤليّ , ثمّ استعملت علامات الشّكل الّتي اخترعها الخليل بن أحمد , واستخدم النّقط لتمييز الحروف المتشابهة بعضها عن بعضٍ كالباء والتّاء والثّاء .
وورد عن بعض التّابعين وتابعيهم التّرخيص في ذلك , قال ربيعة بن أبي عبد الرّحمن : لا بأس بشكله ، وقال مالك : لا بأس بالنّقط في المصاحف الّتي تتعلّم فيها العلماء , أمّا الأمّهات فلا .
وقال ابن مجاهدٍ والدّانيّ : لا يُشْكَل إلا ما يُشْكِل .
وقال النّووي : نقط المصحف وشكله مستحب لأنّه صيانة له من اللّحن والتّحريف , قال : وأمّا كراهة الشّعبيّ والنّخعيّ النّقط فإنّما كرهاه في ذلك الزّمان خوفاً من التّغيير فيه , وقد أمن من ذلك اليوم فلا منع .
وعلى هذا استقرّ العمل منذ أمدٍ طويلٍ في المصاحف , وأمّا في غيرها فالعمل على قول ابن مجاهدٍ والدّانيّ .
التّعشير والتّحزيب والعلامات الأخرى في المصاحف :
20 - التّعشير : أن يجعل علامةً عند انتهاء كلّ عشر آياتٍ , والتّخميس : أن يجعل علامةً عند انتهاء كلّ خمسٍ , والتّحزيب أن يجعل علامةً عند مبتدأ كلّ حزبٍ .
ومن أوّل العلامات الّتي أدخلت في المصاحف جعل ثلاث نقاطٍ عند رءوس الآي , قال يحيى ابن كثيرٍ : ما كانوا يعرفون شيئاً ممّا أحدث في المصاحف إلا النقط الثّلاث عند رءوس الآي , وقال غيره : أوّل ما أحدثوا النقط عند آخر الآي , ثمّ الفواتح والخواتم , أي فواتح السور وخواتمها , وقد أنكره بعض السّلف ( انظر : تعشير ف 3 ) , ورخّص فيه غيرهم واستقرّ العمل على إدخال تلك العلامات لنفعها لقرّاء القرآن , وأدخلت أيضاً علامات السّجدات والوقوف وأسماء السور وعدد الأجزاء وعدد الآيات وغير ذلك , لكن بوضع يميّزها عمّا هو كلام اللّه تعالى .
أخذ الأجر على كتابة المصحف :
21 - اختلف النّقل عن السّلف في أخذ الأجرة على كتابة المصحف , فقد أخرج ابن أبي داود في كتاب المصاحف عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما أنّه كره أخذ الأجرة على كتابة المصاحف , ومثله عن أيوب السّختيانيّ ومحمّد بن سيرين .
وأخرج عن سعيد بن جبيرٍ وابن المسيّب والحسن أنّهم قالوا : لا بأس بذلك .
وإلى هذا الأخير ذهب الحنفيّة , ففي الفتاوى الهنديّة : لو استأجر رجلاً ليكتب له مصحفاً وبيّن الخطّ جاز .
تحلية المصاحف :
22 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى جواز تحلية المصاحف بالذّهب والفضّة سواء كانت للرّجال أو النّساء لما في ذلك من تعظيم القرآن , لكن قال المالكيّة : إنّ الّذي يجوز تحليته جلده من خارجٍ لا كتابته بالذّهب , وأجازه بعضهم , وأجازوا أيضاً كتابته في الحرير وتحليته به .
وذهب الشّافعيّة في المعتمد عندهم إلى جواز تحلية المصحف بالفضّة مطلقاً , وبالذّهب للنّساء والصّبيان , وتحريمه بالذّهب في مصاحف الرّجال .
وذهب الحنابلة إلى كراهة تحليته بشيء من النّقدين , وهو قول أبي يوسف من الحنفيّة . وذهب الشّافعيّة في قولٍ إلى تحريم تحلية القرآن بالذّهب , وقال ابن الزّاغونيّ من الحنابلة : يحرم سواء حلاه بذهب أو فضّةٍ .
 
[align=justify]
يتبع : من الموسوعة الفقهية

مصحف

بيع المصحف وشراؤه :
23 - اختلف العلماء سلفاً وخلفاً في بيع المصاحف وشرائها , فذهب البعض إلى كراهة بيعها وشرائها تعظيماً لها وتكريماً , لما في تداولها بالبيع والشّراء من الابتذال , وهو قول المالكيّة وقول للشّافعيّة , ورويت كراهية بيعها عن ابن عمر وابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهم وسعيد بن جبيرٍ وإسحاق والنّخعيّ , قال ابن عمر : وددت أنّ الأيدي تقطع في بيعها , وورد عن عبد اللّه بن شقيقٍ أنّه قال : كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يشدّدون في بيع المصاحف .
وذهب بعض السّلف إلى إجازة بيعها , منهم محمّد بن الحنفيّة , والحسن , وعكرمة , والشّعبي , لأنّ البيع يقع على الورق والجلد وبدل عمل يد الكاتب , وبيع ذلك مباح , قال الشّعبي : لا بأس ببيع المصحف , إنّما يبيع الورق وعمل يديه .
وفرّق الشّافعيّة في الأصحّ - ونقلوه عن نصّ الشّافعيّ - والحنابلة في معتمدهم بين البيع والشّراء , فكرهوا البيع - وفي روايةٍ عند الحنابلة يحرم ويصح - وأجازوا الشّراء والاستبدال , وروي عن ابن عبّاسٍ قال : اشتر المصاحف ولا تبعها , ووجه ذلك أنّ في البيع ابتذالاً بخلاف الشّراء , ففيه استنقاذ المصحف وبذل للمال في سبيل اقتنائه وذلك إكرام , قالوا : ولا يلزم من كراهة البيع كراهة الشّراء , كشراء دور مكّة ورباعها , وشراء أرض السّواد , لا يكره , ويكره للبائع .
إجارة المصحف :
24 - ذهب الحنفيّة والحنابلة وابن حبيبٍ من المالكيّة إلى عدم جواز إجارة المصحف .
أمّا الحنفيّة فعلّة المنع عندهم أنّه ليس في القراءة في المصحف أكثر من النّظر إليه , ولا تجوز الإجارة لمثل ذلك , كما لا يجوز أن يستأجر سقفاً لينظر إلى ما فيه من النقوش أو التّصاوير , أو يستأجر كرماً لينظر فيه للاستئناس من غير أن يدخله , ومن أجل ذلك لا تجوز عندهم أيضاً إجارة سائر الكتب .
وأمّا الحنابلة في الوجه المعتمد عندهم فقد بنوا تحريم إجارته على تحريم بيعه , قالوا : ولما في إجارته من الابتذال له .
وأمّا ابن حبيبٍ فقد منع إجارته على الرّغم من أنّه يرى جواز بيعه , لأنّ الأجرة تكون كالثّمن للقرآن , أمّا بيعه فهو ثمن للورق والجلد والخطّ .
وذهب المالكيّة إلى جواز إجارة المصحف للقراءة فيه , قالوا : ما لم يقصد بإجارته التّجارة , وإلا كرهت .
ووجه الجواز عندهم أنّه نفع مباح تجوز الإعارة فيه , فجازت فيه الإجارة كسائر الكتب الّتي يجوز بيعها .
رهن المصحف :
25 - القاعدة : أنّ ما جاز بيعه جاز رهنه , وما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه , ولذا يصح رهن المصحف عند كلّ من جوّز بيعه , لأنّه يمكن بيعه واستيفاء الدّين من ثمنه , وأمّا من لم يجوّز بيعه فلا يجوز عنده رهنه لعدم الفائدة في ذلك , وهو المعتمد عند الحنابلة نصّ عليه أحمد .
وقف المصحف :
26 - يجوز وقف المصاحف للقراءة فيها عند محمّد بن الحسن , استثناءً من عدم جواز وقف المنقولات لجريان التّعارف بوقف المصاحف , وإلى قوله هذا ذهب عامّة مشايخ الحنفيّة وعليه الفتوى عندهم , وهو مقتضى قول غيرهم بجواز وقف المنقولات .
وذهب أبو حنيفة إلى عدم جواز وقفها كسائر المنقولات غير آلات الجهاد .
ثمّ إن وقفه على مسجدٍ معيّنٍ يجوز , ويقرأ به في هذا المسجد خاصّةً , نصّ عليه الحنفيّة , وفي قولٍ عندهم : لا يكون مقصوراً على هذا المسجد بعينه .
إرث المصحف :
27 - يورث المصحف على القول المفتى به عند الحنفيّة وهو مقتضى قواعد غيرهم من أنّ كلّ مملوكٍ يورث عن مالكه .
وفي قولٍ عندً الحنفيّة : لا يورث , وهو قول النّخعيّ , فلو كان للميّت ولدان أحدهما قارئ والآخر غير قارئٍ , يعطى المصحف للقارئ .
القطع بسرقة المصحف :
28 - ذهب الحنفيّة , وهو قول أبي بكرٍ والقاضي أبي يعلى من الحنابلة إلى أنّ سارق المصحف لا يقام عليه الحد , قال ابن عابدين : لأنّ آخذه يتأوّل في أخذه القراءة والنّظر فيه , ولأنّه لا ماليّة له لاعتبار المكتوب فيه وهو كلام اللّه تعالى , وهو لا يجوز أخذ العوض عنه , وإنّما يقتنى المصحف لأجله , لا لأجل أوراقه أو جلده .
ويسري ذلك عند الحنفيّة على ما على المصحف من الحلية لكونه في حكم التّابع له , وللتّابع حكم المتبوع , كمن سرق صبياً عليه ثياب قيمتها أكثر من نصابٍ فلا يقطع بها , لأنّها تابعة للصّبيّ ولا قطع في سرقته , وفي الفتاوى الهنديّة نقل عن السّراج الوهّاج : لا قطع في سرقة المصحف ولو كان عليه حلية تساوي ألف دينارٍ .
واختار أبو الخطّاب , وهو ما استظهره ابن قدامة من كلام الإمام أحمد إلى أنّه يقطع بسرقة المصحف , لعموم آية السّرقة , ولأنّه متقوّم تبلغ قيمته نصاباً فوجب القطع بسرقته , ككتب الفقه والتّاريخ وغيرها .
منع الكافر من تملك المصحف والتّصرف فيه :
29 - لا يجوز أن يشتري الكافر مصحفاً , لما في ذلك من الإهانة فإن اشتراه فالشّراء فاسد , واحتجّ الفقهاء لذلك بحديث ابن عمر : « نهى النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدوّ مخافة أن تناله أيديهم » .
والشّافعيّة يرون حرمة بيع المصحف للكافر , لكن إن باعه له ففي صحّة البيع عندهم وجهان :
أظهرهما : لا يصح البيع , والثّاني : يصح ويؤمر في الحال بإزالة ملكه عنه .
قال القليوبي : ولو وكّل الكافر مسلماً بشراء مصحفٍ لم يصحّ لأنّ الملك له يقع , ولو وكّل المسلم كافراً بالشّراء صحّ لأنّه يقع للمسلم , وكذا لو قارض مسلم كافراً فاشترى الكافر مصحفاً للقراض صحّ , لأنّه للقراض , ولا ملك للمضارب فيه .
ولا تصح هبة الكافر مصحفاً ولا الوصيّة له به .
ولا يصح وقف المصحف على كافرٍ .
ويحرم أن يعطي كافراً مصحفاً عاريّةً ليقرأ فيه ويردّه , ولا تصح الإعارة , وقال الرّملي : تصح الإعارة فيه مع الحرمة .
مس الكافر المصحف وعمله في نسخ المصاحف وتصنيعها :
30 - يمنع الكافر من مسّ المصحف , كما يمنع منه المسلم الجنب , بل الكافر أولى بالمنع , ويمنع منه مطلقاً , أي سواء اغتسل أو لم يغتسل , وفي الفتاوى الهنديّة : أنّ أبا حنيفة قال : إن اغتسل جاز أن يمسّه , وحكي في البحر عن أبي حنيفة وأبى يوسف المنع مطلقاً .
ويمنع الكافر من العمل في تصنيع المصاحف , ومن ذلك ما قال القليوبي : يمنع الكافر من تجليد المصحف وتذهيبه , لكن قال البهوتيّ : يجوز أن ينسخ الكافر المصاحف دون مسٍّ أو حملٍ .
السّفر بالقرآن إلى أرض العدوّ :
31 - لا يجوز أن يخرج المسلم بالمصحف إلى بلد العدوّ الكافر , سواء كان في جهادٍ أو غيره , لئلا يقع في أيديهم فيهينوه أو يمسوه وهم على كفرهم , وإلى هذا ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة , لحديث ابن عمر رضي اللّه عنهما مرفوعاً : « لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدوّ مخافة أن تناله أيديهم » .
قال ابن عبد البرّ من المالكيّة : أجمع الفقهاء أن لا يسافر بالمصحف في السّرايا والعسكر الضّعيف المخوف عليه .
أمّا إن كان يؤمن على المصحف في ذلك السّفر من نيل العدوّ له فقد اختلف الفقهاء في ذلك , فأجاز الحنفيّة السّفر به , وذكروا من ذلك صورتين :
الأولى : أن يكون الخارج به في جيشٍ كبيرٍ يؤمن عليه فلا كراهة حينئذٍ .
الثّانية : إذا دخل إليهم مسلم بأمان , وكانوا يوفون بالعهد , جاز أن يحمل المصحف معه . وقال المالكيّة : يحرم أيضاً لنصّ الحديث ولو في جيشٍ آمنٍ , لأنّه قد يسقط منهم ولا يشعرون به فيأخذه العدو فتناله الإهانة , وقال المالكيّة أيضاً : ولو أنّ العدوّ طلب أن يرسل إليهم مصحف ليتدبّروه , حرم إرساله إليهم خشية إهانتهم له , فلو أرسل إليهم كتاب فيه آية أو نحوها لم يحرم ذلك , وقد أرسل النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى هرقل كتاباً في ضمنه الآية : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } الآية .
استثناء المصحف من جزاء الغالّ بحرق متاعه :
32 - إن غلّ أحد الغانمين في الجهاد شيئاً من الغنيمة فقد ذهب الأوزاعي والحنابلة - خلافاً للجمهور - إلى أنّه يحرق متاعه , لكن لا يحرق المصحف , لما روى صالح بن محمّد بن زائدة , قال : دخلت مع مسلمة بن عبد الملك أرض الروم , فأتي برجل قد غلّ , فسأل سالماً عنه فقال : سمعت أبي يحدّث عن عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « إذا وجدتم الرّجل قد غلّ فأحرقوا متاعه واضربوه » , قال : فوجدنا في متاعه مصحفاً , فسأل سالماً عنه فقال : بعه وتصدّق بثمنه .
الرّدّة بإهانة المصحف :
33 - إذا أهان المسلم مصحفاً متعمّداً مختاراً يكون مرتداً ويقام عليه حد الرّدّة .
وقد اتّفق الفقهاء على ذلك , فمن صور ذلك ما قال الحنفيّة : لو وطئ برجله المصحف استخفافاً وإهانةً يكون كافراً , وكذا من أمر بوطئه يكون كافراً .
ولو ألقى مصحفاً في قاذورةٍ متعمّداً قاصداً الإهانة فقد ارتدّ عند الجميع , قال الشّافعيّة : وكذا لو مسّه بالقاذورة ولو كانت طاهرةً كالبصاق والمخاط .
فإن كان ذلك عن سهوٍ أو غفلةٍ أو في نومٍ لم يكفر .
وكذا إن كان مكرهاً أو مضطراً ففعله لا يكفر .
الحلف بالمصحف :
34 - يرى الحنفيّة أنّ الحلف بالمصحف ليس بيمين لأنّه الورق والجلد وليس صفةً للّه تعالى ولا اسماً له , وقد قال النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « من كان حالفاً فلا يحلف إلا باللّه » .
وعلى هذا لو حلف به لا تنعقد يمينه وليس فيها كفّارة إن لم يف , وقال ابن عابدين : إن تعارف النّاس الحلف بالمصحف ورغب العوام في الحلف به لم يكن يميناً أيضاً , وإلا لكان الحلف بالنّبيّ والكعبة يميناً لأنّه متعارف , وكذا بحياة رأسك ونحوه , ولم يقل بذلك أحد , قال ابن عابدين : لكن لو أقسم بما في هذا المصحف من كلام اللّه تعالى يكون يميناً .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الحلف بالمصحف يمين .
قال النّووي في الرّوضة : يندب وضع المصحف في حجر الحالف به وأن يقرأ عليه : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً } .
وقال ابن قدامة : ولم يكره ذلك إمامنا وإسحاق لأنّ الحالف بالمصحف إنّما قصد الحلف بالمكتوب فيه وهو كلام اللّه تعالى , ونقل عن قتادة أنّه كان يحلف بالمصحف .
آداب تناول المصحف وتكريمه وحفظه :
35 - اختلف العلماء في تقبيل المصحف فقيل : هو جائز , وقيل : يستحب تقبيله تكريماً له , وقيل : هو بدعة لم تعهد عن السّلف , وانظر : ( تقبيل ف 17 ) .
وأمّا القيام للمصحف فقال النّووي وصوّبه السيوطيّ : يستحب القيام للمصحف إذا قدم به عليه , لما فيه من التّعظيم وعدم التّهاون به , ولأنّ القيام مستحب للفضلاء من العلماء والأخيار , فالمصحف أولى , وقال الشّيخ عز الدّين بن عبد السّلام : هو بدعة لم تعهد في الصّدر الأوّل .
وذكر العلماء أنواعاً من تكريم المصحف :
فمن ذلك تطييبه , وجعله على كرسيٍّ لئلا يوضع بالأرض , وإن كان معه كتب أخرى يوضع فوقها ولا يوضع تحت شيءٍ منها .
وأمّا توسد المصحف فقال الشّافعيّة والحنابلة : يحرم توسد المصحف لأنّ ذلك ابتذال له , وأضاف الشّافعيّة : ولو خاف سرقته أي فالحكم كذلك .
وقال الحنفيّة : يكره وضع المصحف تحت رأسه إلا لحفظه من سارقٍ وغيره .
وأمّا مد رجليه إلى جهة المصحف فقال الحنفيّة - كما ذكر ابن عابدين - يكره تحريماً مد رجليه أو رجلٍ واحدةٍ , سواء كان من البالغ أو الصّبيّ عمداً ومن غير عذرٍ .
وفي الفتاوى الهنديّة : مد الرّجلين إلى جانب المصحف إن لم يكن بحذائه لا يكره , وكذلك لو كان المصحف معلّقاً في الوتد .
وقال الشّافعيّة : يجوز مد رجله إلى جهة المصحف لا بقصد الإهانة في ذلك .
وقال الحنابلة : يكره مد الرّجلين إلى جهة المصحف .
ما يصنع بالمصحف إذا بلي :
36 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ المصحف إذا بلي وصار بحال لا يقرأ فيه يجعل في خرقةٍ طاهرةٍ ويدفن في محلٍّ غير ممتهنٍ لا يوطأ , كما أنّ المسلم إذا مات يدفن إكراماً له , وقال الحنفيّة : ولا يهال عليه التراب إلا إذا جعل فوقه سقف بحيث لا يصل إليه التراب .
وقالوا : ولا يجوز إحراقه بالنّار , ونقل ذلك عن إبراهيم النّخعيّ , ووافقهم القاضي حسين من الشّافعيّة , وقال النّووي : يكره ذلك .
وقال المالكيّة : يجوز إحراقه , بل ربّما وجب , وذلك إكرام له , وصيانة عن الوطء بالأقدام , قال القرطبي من المالكيّة : قد فعله عثمان رضي اللّه عنه حين كتب المصاحف وبعث بها إلى الأمصار , فقد أمر بما سواها من صحيفةٍ أو مصحفٍ أن يحرق , ووافقه الصّحابة رضوان اللّه عليهم على ذلك .
وقال الحنابلة : لو بلي المصحف أو اندرس دفن نصاً , ذكر أحمد أنّ أبا الجوزاء بلي له مصحف فحفر له في مسجده فدفنه , وفي البخاريّ أنّ الصّحابة حرّقته لمّا جمعوه , وقال ابن الجوزيّ ذلك لتعظيمه وصيانته , وذكر القاضي أنّ أبا بكر بن أبي داود روى بإسناده عن طلحة بن مصرّفٍ قال : دفن عثمان المصاحف بين القبر والمنبر , وبإسناده عن طاووسٍ أنّه لم يكن يرى بأساً أن تحرق الكتب , وقال : إنّ الماء والنّار خلق من خلق اللّه .
[/align]
 
عودة
أعلى