المستشرق " سافاري " وحديثه عن القرآن (1,2)د. إبراهيم عوض

طارق منينة

New member
إنضم
19/07/2010
المشاركات
6,330
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
المستشرقون والقرآن

دراسة لترجمات نفر منالمستشرقين الفرنسيين للقرآن وآرائهم فيه

ترجمة "سافاري (1)"



إلى القارئ الكريم:
حينما فكَّرت في إعدادِ هذه الدراسةِ، لم يكن يَخطُر ببالي أن هؤلاءِ المستشرقينَ - الذين يَنتَقِدونَ القرآنَ ويخطِّئونه وينفِّرون الناسَ منه - لا يُحسِنون فهمَه على هذا النحو المُخزِي الذي تكشَّف لي بعد ذلك.

لقد كنتُ أظنُّ أن أخطاءَهم هي من تلكَ الأخطاءِ العاديةِ التي لا يَنجُو منها جهدٌ بشريٌّ، أما هذا الجهل الفادح، وهذا العنادُ الحَرُون، وهذا الالتواءُ في النيةِ الذي سيَلمَسُه قارئ هذه السطور بنفسه، فهو في الحقيقةِ شيءٌ لم يكن يَخطُر لي ببالٍ.

لقد أقبلتُ على هذا البحثِ بعقلٍ مفتوحٍ، ظانًّا أني سأَقرأُ كلامًا إن لم يوافِق اعتقادي، فهو كلام موزونٌ، أما هذا التهافتُ وهذه الجرأةُ الجاهلةُ التي سيَراها القارئُ بنفسِه من خلال عشرات الأمثلة -لاحِظ أنها مجرَّد أمثلة- فقد صَدَمتنِي، وخيَّبت ظني تخييبًا.

نقطةٌ أخيرةٌ أحبُّ أن أوضِّحها، هي: أني -وإن استعنتُ ببعض كتبِ التفاسيرِ والدراساتِ القرآنية- كنتُ حريصًا أن يكونَ لي رأيي المستقلُّ.

وسوف يرى القارئُ في عدَّة مواضعَ، كيف خالفتُ الرأيَ الشائعَ في: تحليلِ، وتفسيرِ، وتذوُّقِ هذه الآية أو تلك، أو تتبُّع الخيطِ الذي يَربِط بين الموضوعاتِ، التي تبدو للمتعجِّل متباعدةً في هذه السورةِ أو في تلك، بل إن هناك عدَّة آياتٍ لا أذكر أنِّي قرأتُ ما عنَّ لي فيها عند أحدٍ قبلي، وكان عمدتي في ذلك -إلى جانبِ استقلالِ التفكير- ذوقِي الأدبيُّ الذي غذَّته قراءاتي الأدبيةُ والنقديةُ؛ إذ إن هذا هو مجالُ تخصصي الأوَّل.

وبعد، فهل أنا بحاجةٍ إلى القول بأن القارئَ لن يَعْدَم في هذه الدراسة أخطاءً هنا وهناك؟


كلُّ الذي أرجوه ألا تكونَ هذه الأخطاءُ كثيرةً ولا فاضحةً، ولعل الله أن يسترَ على عُوار عبدِه الضعيفِ، وهو أكرم مسؤول.

ترجمة "سافاري"[1]

أول ما يلاحَظ على هذه الترجمةِ أن اسم "محمد "-صلى الله عليه وسلم- قد ذُكِر على الغِلاف بوصفِه مؤلِّفَ القرآن، ولست هنا أجادِل في حقِّ المترجِم أن يعتَقِد أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- هو مؤلِّف القرآن أو لا؛ فهذا أمرٌ يرجِع إليه هو، وليس لي أدنى حقٍّ في أن أحْجِر على ما يَعتَقِد، لكن الذي أَعرِفه هو أن الأمانةَ العلميةَ كانت تقتضيه أن يُغْفِل ذكرَ اسمِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم- على الغِلاف؛ لأن الأصلَ الذي ترجَم عنه لا يُوجَد فيه شيءٌ من هذا؛ فكان الواجبُ عليه في مثلِ هذه الحالةِ أن يَحتَرِم الأصل، ثم له في المقدِّمة والملاحظاتِ الكثيرةِ المثبَتةِ في هوامش الكتابِ مندوحةٌ؛ ليقرِّر ما يعتقدُه هو كما يَحلُو له.

ولعلنا لا نُضِيف جديدًا حين نقولُ: إنه كان يرى أن النبيَّ -عليه السلام- كان يؤلِّف القرآنَ سورةً بعد سورةٍ، أو مجموعةً من الآيات بعد أخرى على حسَب الظروفِ، وأنه تعمَّد أن يكون الوحيُّ منجَّمًا على هذا النحو حتى يكون في مُكْنَتِه أن يُضِيف إليه ما يَحلُو له حسبما يَجِدُّ من أحوالٍ، أو يَعترِض من مشاكل؛ فيكونُ في يديه دائمًا زمامُ توجيهِ الأمور، وهو رأيٌ يقولُ به معظم المستشرقين، وليس الردُّ عليه بالصعب, وقد كان الأحْجَى بهؤلاءِ الناس ومَن يَقْفُون آثارَهم -صمًّا وبكمًا وعميًا- أن يُدرِكوا أن هذا افتراضٌ معتسِّفٌ، لا يُسنِده دليلٌ مقنِع، لولا أن أمثالَ هؤلاءِ يُقبِلون على البحثِ في أمر القرآن والإسلام كلِّه بعقولٍ مغلقةٍ، وقلوب مضطغنةٍ.

وبرغمِ هذا لا يَسَعنِي إلا الاعترافُ بأن أسلوبَ هذه الترجمةِ سلسٌ وأنيقٌ، لكن هذه السلاسةَ والأناقةَ لا يُصَاحِبها سلامةُ الفهمِ ولا الدقةُ اللازمة في ترجمة كتابٍ كالقرآن، هو الكتابُ المقدَّس لأتباعِ أحدِ الأديانِ الكبرى في العالم؛ إذ المترجِم في كثيرٍ جدًّا جدًّا من الأحيانِ يَكتفِي بأداءِ المعنَى أداء إجماليًّا؛ فيَنقُل إلى القارئِ المعنى الكُلِّي، لكنه يُغفِل كثيرًا من التفصيلاتِ التي لا غنَى عنها، فمثلاً: في ترجمتِه قوله -تعالى-: ﴿ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ ﴾ [البقرة: 108].
يقول:
"Demandez – vous votre apotre ce que les juifs demaderent a Moise ? "
ومعناه بالعربية: "أتسألونَ رسولَكم ما سألَه اليهودُ من موسى؟".

فانظر كيف حَذَف من ترجمته عبارة "أم تريدون"، وتَرجَم الفعل المبنِيَّ للمجهول بمبنِيٍّ للمعلوم، وأضافَ لفظةَ "اليهود"، وهي ليست موجودةً في النص، كما أنه حوَّل "كما" إلى "ما".

وهذا كلُّه يُخِلُّ -ولا شكَّ- بالمعنى.

لقد كان يَستَطِيع أن يُحَافِظ على الأصلِ في درجِ الترجمةِ، ثم يَشرَح في الهوامش ما فَهِمه هو من النص من تلقائه، أو مما نقلَه من كتب المفسِّرين.

وفي ترجمةِ قوله -تعالى-: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ ﴾ [البقرة: 158].

على النحو التالي:
"sapha et Merva sont des monuments de Dieu. Celui qui aura fait le pelerinage de la Mecque , et aura visite la maison sainte sera exempt d'offrir une victime d'expiation , pourvu qu'il fasse la tour
de ces deux montagnes "
مترجمًا "شعائر الله" بـ "آثار الله"، مع أن المقصودَ هو: أن الطوافَ بالصفا والمروةَ شعيرةٌ دينيةٌ من شعائرِ الحجِّ، لا أن الجَبَلينِ المذكورينِ أثرانِ تذكاريانِ.

ومترجمًا قولَه- تعالى-: ﴿ حَجَّ الْبَيْتَ ﴾ بما معناه: "قام بالحجِّ إلى مكة", وهذا غيرُ دقيقٍ على الإطلاق؛ فإن الحجَّ ليس مجرَّد الذهاب إلى مكة، وإلا فالناسُ يذهبونَ إلى مكة كلَّ يومٍ بالآلاف، ولا يعدُّ هذا من الحجِّ في شيءٍ.

أما في قوله -تعالى-: ﴿ أَوِ اعْتَمَرَ ﴾، فقد استبدل بـ "أو" حرفَ عطفٍ آخرَ هو "الواو", وتَرجَم "اعتمر" بـ "زار البيت"، فأَصبَح المعنى "حَجَّ إلى مكةَ وزار البيتَ".

فانظر أي تشويهٍ للمعنَى! وكأن هذا غيرُ كافٍ؛ فتَرجَم: ﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾، بما يفيد أنه: "لا يجب عليه أن يضحِّي بشيء، بشرط أن يطوفَ بالصفا والمروة ".

وهو ما لا تدلُّ عليه العبارةُ القرآنيةُ أبدًا؛ إذ الآيةُ قد نَزلَت لتُذهِب عن نفوس المسلمين ما كانوا يَشعُرونَ به من حرج، تُجَاهَ التطويف بهذينِ الجَبَلينِ ظنًّا منهم أن هذا من أعمالِ الجاهليةِ التي ينبغي عليهم أن ينبذوها.

أما قوله -تعالى-: ﴿ كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ﴾ [البقرة: 167].
فيُتَرجِمه بما معناه: "سوف يُرِيهم أعمالَهم، وسوف يصعِّدون الزفرات"، وهو ما يُغْفِل من المعنَى دقائقَه، وذلك بتفصيص الجملةِ إلى جملتين؛ إذ المقصود أن أعمالَهم نفسَها سوف تتحوَّل إلى حسراتٍ.

وانظر إلى قوله: ﴿ عَلَيْهِمْ ﴾، وإشعاعاتِه التي تحومُ أمام عينيك، ولكنك لا تَستَطِيع عليها قبضًا! وأَرجُو كذلكَ ألا يَغِيب عن انتباهِك أن القرآنَ يَستَخدِم الزمنَ الحاضِرَ في ﴿ يُرِيهِمْ ﴾، فكأنَّك تُشاهِد المنظرَ وتَرَى لوقتِك أعمالَهم وحسراتِهم، وهو ما يَضِيع في الترجمة؛ من جرَّاء ما أَشرتُ إليه آنفًا، وأيضًا من جرَّاء استعمالِ المترجِم لزمن الاستقبالِ.

كذلكَ في قوله -تعالى-: ﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ ﴾ [آل عمران: 180].

يفوِّت المترجِم ما يعودُ عليه الضميرُ "هو"؛ إذ يَظنُّه عائدًا على﴿ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾، ولذلك يُتَرجِم الجملةَ كالآتي:

"Que l'avare ne regarde pas les biens qu'il resoit de Dieu comme une faveur , puisqu'ils causeront son Malheur ".


وليس هذا هو المرادَ، بل المرادُ أن عليهم أن يُفِيقوا من غَفلَتِهم؛ إذ يَحسَبُون أن بُخلَهم هو خيرٌ لهم، مع أنه في الواقعِ وبالٌ عليهم.

إن ما يَهَبُه الله لعبدٍ من عبادِه من أموال وأرزاقٍ ليس خيرًا في ذاتِه ولا شرًّا، بل نيةُ الإنسانِ وعملُه هما اللذان يَكتَسِبان هذينِ الوصفينِ.

هذا، وقد تكرَّرت ترجمتُه لقولِه - تعالى -:﴿ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ بـ "Exact"، وهو ما يُفيد أنه - سبحانه - دقيقٌ في محاسبةِ العبادِ، وليس هذا هو المقصودَ انظر: ص158، 175، 191، 269 على سبيل المثال، وإن كان قد ترجمها في ص264 ترجمةً صحيحةً، وذلك في قولِه - تعالى -: {﴿ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [إبراهيم: 51]، فلا أدري لِمَ لَمْ يَلتَزم هذه الترجمةَ الصحيحة في كلِّ الحالات!

ومثل هذا ترجمتُه لفظةَ "المنافقون "مرارًا ترجمةً خاطئةً، وبلا سببٍ مفهومٍ.

لقد ترجمها بـ "impies" ص171 , 437"، مع أنه استَعمَل هذه الكلمةَ بمعنى: ﴿ الذين كفروا ﴾ ص186"، وبمعنى: ﴿ الظالمين ﴾ ص189"، وبمعنى: ﴿ الذين ظلموا ﴾" ص310"، وبمعنى: ﴿ أثيم ﴾ ص364 ", وبمعنى: ﴿ المسرفين ﴾ ص427".

ومثل هذا الاضطرابِ يَجُور جورًا شديدًا لا على الدقة فقط، بل على أصل المعنى؛ إذ إن الظالمينَ غيرُ الآثمين، غير الذين كفروا، غير المسرِفين.

وهذا الجَور يَجِدُه القارئ أيضًا في ترجمة الكاتب لكلمةِ "الأعراب"بـ "les Arabes"، مع أن هذه غيرُ تلك، وهو من الوضوحِ والشهرة؛ بحيث لا أَدرِي كيف خَفِي عليه؟ إن كان قد خفي فعلاً، ولم يقصده قصدًا؛ انظر ص231، 437، 438، 441، وهي سياقاتٌ يَصِمُهم الله فيها بالنفاق، أو على الأقل بعدمِ مخالطة الإيمان قلوبَهم ودخولِهم في الإسلام ظاهرًا فقط.

فهل هذا يَصْدُق على العربِ جميعًا؟ فمَن الذي حَمَل أعباء الرسالة إذًا، وقام بها قومةَ الرجال، وحارب من أجلِها , وضحَّى في سبيلِها، ونَشَرها في العالمين؟ أليس عدمُ الدقةِ هنا إثمًا عظيمًا؟

إن هذا اللونَ من الترجمةِ الإجمالية، وغيرِ الدقيقةِ يَشِيع في الكتابِ شيوعًا بارزًا، ولو أردتُ لأتيتُ للقارئ لا بعشرات الأمثلة فحسْب، بل بالمئاتِ.

• • •

كذلك لاحظتُ أن المترجِم لا يَنطِق الكلماتِ العربيةَ نطقًا سليمًا، وهذا واضحٌ من الألفاظِ والعبارات التي أدَّاها بالحروف اللاتينية، وها هي ذي بعضُ الأمثلةِ السريعةِ: لقد سبق أن رأى القارئُ كيف كَتَب المترجِم لفظ "مروة" هكذا: "Merva " بكسر المِيم بدلاً من فتحها، وبإبدالِ الواو "فاء".

أوَ يدري أيضًا كيف يَنطِق اسم "أبي بكر"؟ إنه يَكسِر باءَ "بَكر"؟ مما يَنقُل هذه الكلمةَ عن معناها إلى معنى "عذراء"، وهو يَشرَح ذلك بأنه لما كان أبو بكرٍ والدَ الزوجة العذراءِ الوحيدة التي بَنَى بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد سُمِّي كذلك، فتأمَّل هذا التخريجَ المضحِكَ العجيب، "انظر هامش ص11 ".

أما "جلال الدين"، فيَنطِقه بكسر الجيم، وهو خطَّأ مطَّرد - ولا أدري سببَه - وإن كنتُ لاحظتُ عند بعض المستشرقينَ ميلاً إلى قلب الفتحة على الحرفِ الأول من بعض الكلماتِ إلى كسرةٍ.

كما يَنطِق الفاتحة: "fatahat"، والرحمن بضم الراء!" ص113-هـ2"، ومسلمون: "Meslemoun " بكسرِ الميم " ص113 - هـ 2"، ويَنطِق "أُحُد" "احد" ص152-هـ1، و153-هـ2"، ويَنطِق اللاتَ والعُزَّى ومَنَاةَ على النحو التالي: "Lat , Aza Menat" ص169-هـ 1"، "وقتادة "بضمَّ القافِ " ص192 هـ-1"، و"شُعَيْب" بفتح الشين وكسر العين "207 - هـ 3"، والزمخشري: "زَمْشَسْكِر"! "الموضع السابق، ومواضع أخرى كثيرة".

كما يَنطِق "الكهف" بفتح الكاف والهاء معًا " ص290 - هـ 1"، وذا الكفْل: "الكَفِل" ص315 - هـ 2"، وعُرْوَة "عَرُوَة " ص422 - هـ 2 ".

وكمثلِ خطئه في نطقِ اسم "أبي بكر"، وفي توجيه معناه، يُخطِئ في تفسير اسم "مالك"خازنِ النار؛ إذ يقولُ: إنه سُمِّي كذلك؛ لأنه واحدٌ من الملائكة، وهذه الكلمة تَعنِي "ملاكًا: ange ".

فمن أين له بهذا التوجيه المضحِك؟ "انظر ص424 - هـ 1 ".

أما صلاة "العشاء"، فيَنطِقها: "ache: عَشه"، قائلاً: إنها من طعام العَشَاء، "انظر ص444 - هـ 1"، وهو تخليطٌ عجيبٌ؛ فصلاةُ العِشاء بكسر العين، أما طعام العَشاء فبفتحها، ثم إنه إذا كانت إحدى الكلمتينِ مأخوذةٌ من الأخرى، فإن اسم الطعام هو المأخوذُ من اسم الوقتِ لا العكس، وهو يَنطِق "محمد": "Mahammed " ص740 - هـ 1 "و"الجُمعة "بكسر الجيم" ص471 - هـ 1"، ونَسْر: "naser" ص487- هـ 1"، وعلِّيِّين: "aliin"، و"تَسنيم" بكسر التاء، و "مُشركين "بفتح الميم" ص528 - هـ 3 ".

وليس خطؤه في النطقِ مقصورًا على الكلماتِ المفردةِ، أو على أسماء الأعلام، - كما ربما يتبادرُ إلى الذهن - بل يَشمَل نطقَ جملٍ كاملة يشوِّهها تشويهًا فظيعًا، حتى إني لأتساءل: كيف يتسنَّى له بعد ذلك أن يَفهَم النص القرآني؟
إنه مثلا يَنطِق: ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴾.. إلخ " على النحو التالي:

"والشَّمس وضُحَيْها * والقمرٍ إذا تَلَيْها * والنهار إذا جَلَيْها * والليل إذا يَغْشَيْها * والسماء وما يبْنَيْها * واللَّرضٍ وما طَحَيْها... إلخ".

فتأمَّل كيف ينوِّنُ ما دخَل عليه الألف واللام! وتأمَّل كيف يقلِب ألف "ضُحَاها، وتلاها... إلخ" ياءً ساكنةً! وتأمَّل كيف يَغفُل التضعيف في لام "جلاَّها"! وتأمَّل كيف يَكسِر ياءَ "يغشاها"، وتأمَّل كيف يُضِيف ياءً إلى "بناها"، وكيف يُضِيف لامًا أخرى بعد لامِ التعريفِ في الأرضِ، وهذا كلُّه في ما لا يتعدَّى سطرينِ.

إن كاتبَ مقدِّمة الترجمةِ يذكرُ أن المترجِم قد أَنفَق شطرًا من عمرِه مع المسلمين العربِ في بلادِهم، يَأخُذ عنهم القرآنَ ونطقَه، فهل هذه هي مقدرةُ مستشرقٍ يتصدَّى لترجمةِ القرآنِ، بعد أن خالطَ أتباعَ هذا القرآنِ وأصحابَ اللغة التي نزل بها أعوامًا؟

ترى أكانَ هذا المستشرقُ يُحسِن حقًّا اللغة العربية؟


إن الأمر جدُّ محَيِّر! إلا أنني - قبل أن أعدِّي عن الملاحظة الأولى الخاصةِ بعدم الدقة، واعتمادِ الكاتب الترجمةَ الإجماليةَ في مئات المواضع - أَوَدُّ ألا تفوتُنِي الإشارةُ إلى أن ذلك المستشرقَ، في حدودِ انتباهي، لم يُثْبت - ولو مرَّة واحدة - لفظ الجلالة "الله" كما هو، بل أدَّاه بألفاظٍ فرنسية لا تقوم مقامَه أبدًا، مثل: "Le Dieu " ص143"، و "L'Eternel " ص186"، و"Le Tout – puissant " ص218"، و"Le Ciel " ص219" و"Le TresHaut " ص244"، وهذه مجرَّد أمثلة فقط، وإلا فلفظُ الجلالة يتردَّد في القرآن مئاتِ المرات.

ألعلَّه يَنفِر من كلمة "الله"، التي لا يَستَعمِلها إلا المسلمون؟


ربما أوْحَى إليَّ بهذا التفسير قولُه " ص528 - هـ 2" تعليقًا على قولِه - تعالى -: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1]:
"لقد قضى محمدٌ شطرًا من عمره يُحارِب الوثنية ويَهدِم الأصنام، لكنه لما لم يكن يَستَضِيء بوحيٍ إلهيٍّ؛ فإنه - وإن أزاح ظلمات الجاهلية - قد أتى بأخطاءٍ جديدةٍ؛ إذ إنه في دعوتِه لوحدانية الله "Dieu"، قد حارب عقيدة التثليثِ.

إن المسلمين "Mahometans" يعتقدون بإلهٍ واحدٍ خالقٍ للسماءِ والأرضِ، يُعاقِب على الشر، ويَجزِي على الخير، لكنَّ تعاليمَ نبيِّهم المزيَّف جعَلتهم يرفضونَ الأسرارَ النصرانيةَ "les mysteres"، ويسمُّوننا بالمشركين "machrekin "؛ لأننا نعبدُ ثلاثةً في واحدٍ".

إن كلمة "الله" تدلُّ على المعبودِ الواحدِ الأحد، الذي لم يلد ولم يُولَد ولم يكن له كُفُوًا أحدٌ، فهل هذا هو سببُ هجرِه هذه الكلمةَ، واستبدالِ كلماتٍ أخرى بها؟

ذلك، ولا أُحبُّ أن أتعرَّض لاتهامه محمدًا بأنه نبِيٌّ مزيَّف قد أضل أتباعه، حين شدَّد على وحدانيةِ الله وهاجم التثليثَ، فهو كلامٌ لا يستحقُّ عناءَ تفنيدِه، لكن أليس مضحكًا أن يعابَ المسلمون لتوحيدِهم الله، وعدم إشراكِ أحدٍ من عبيده به؟

ومما يتعلَّق بمسألةِ الدقَّة أيضًا أنه يقسِّم الآيةَ الواحدةَ إلى آيتين وإلى ثلاث أحيانًا، ويشبكُ أحيانًا أخرى الآيتينِ والثلاثَ في آيةٍ واحدةٍ، ولم أَهتدِ قط إلى تفسيرٍ لهذا؛ فهو لا يُرَاعِي مثلاً أن تكون الكلمةُ التي يقسِّم عندها الآيةَ إلى آيتينِ منسجمةً موسيقيًّا مع بقيةِ الفواصلِ، أو أن يكون المعنى قد تَمَّ عندها.

إن هذا عبثٌ يُخِلُّ بالمسؤولية التي أخذها على عاتقه - حين أقدمَ على ترجمةِ القرآن - هو عبثٌ غيرُ مفهومٍ، ولا معذور؛ فإن الآياتِ القرآنيةَ محدَّدة تحديدًا واضحًا لا لَبْسَ فيه في المصاحف. والطريفُ في الأمرِ أنه - بقدرة قادر - قد حافَظ على عددِ آياتِ كلِّ سورةٍ كما هي، اللهم إلا في حالتينِ زاد العدد فيهما آية.

انتظروا الجزء الثاني من هذه الدراسة،،


رابط الموضوع: المستشرق " سافاري " وحديثه عن القرآن (1) - شبهات فكرية وعقدية - موقع آفاق الشريعة - شبكة الألوكة
المستشرقون والقرآن

دراسة لترجمات نفر من المستشرقين الفرنسيين للقرآن وآرائهم فيه

ترجمة "سافاري (2)"


إذا انتقلنا بعد الذي رأيناه من أخطاء في "الجزء الأول" إلى الأخطاءِ التي ارتكبها في فهمِ كثيرٍ من الآيات، وفي ترجمتها من الفرنسيةِ - وجدنا عجبًا: إنه يُخطِّئ مترجمًا قبله اسمه "مراكسي: Mar – racci" كان قد سَلَخ من عمرِه أربعين عامًا -فيما يقولون- يَدْرس القرآن ويخطِّئه، ويَستَعمِل في الحديثِ عن الإسلام ونبيِّه لغةً بذيئةُ، فجاء "سافاري"، وأشار إلى بعضِ أخطائه، وتهكَّم به؛ حيث بيَّن كيف أخطأ ذلك المستشرِق فهْمَ نصٍّ عربيٍّ، ثم استدار مع ذلك إلى صاحبِ هذا النص فسَخِر به وهاجمه، مع أن الخطأ خطؤه هو، والعيبُ في فهمِه هو.

فإذا كان "سافاري" يُعِيب أخًا له قد سبقه في هذا المجال، فلماذا لم يَحتَرِز من الوقوعِ في مثل أخطائه بإحسانِ اللغة التي اضطَلَع بترجمةِ كتابِها المقدَّس، وهو أروعُ وأعظمُ وأجملُ كتابٍ كُتِب بها؟ وسوف أُشِير -كعادتي- إلى أمثلةٍ قليلةٍ جدًّا مما تَمتَلِئ به هذه الترجمةُ من أخطاء:

فهو يترجِم لفظتي "سفيهًا أو ضعيفًا" في قوله - تعالى -: ﴿ فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا ﴾ [البقرة: 282]، كالآتي: "malade ignorant"، وهو ما يَعنِي: "جاهلاً أو مريضًا" ص141 ".

ويترجِم عبارةَ: ﴿ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [آل عمران: 45]، هكذا: "le confident du Tres – Haut " ص146"، وكأن الله -سبحانه- مَلكٌ من ملوكِ البشر الذين يُفْضُون إلى بعضِ وزرائهم بما عندهم من أسرارٍ، ويَجعَلونهم موضعَ ثِقتِهم، فضلاً عن صياغةِ العبارةِ الفرنسية التي تشير إلى أن عيسي -عليه السلام- هو وحده الذي يتمتَّع بهذا الامتياز، مع أن الآيةَ القرآنيةَ تَستَعمِل ﴿ مِنْ ﴾، التي تجعل من عيسي -عليه السلام- واحدًا فقط من المقرَّبين.

أما في قوله -تعالى-: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ﴾ [آل عمران: 166، 167].

فإنه يترجِم: ﴿ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾، بما بمعناه: "ليميِّز المنافقين".

يُضَاف إلى ذلك وَهْمُه أن الذين قيل لهم: ﴿ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا ﴾ [آل عمران: 167]، إنما هم المؤمنون؛ إذ يترجِمُها على النحو التالي:
"Lorsqu'on dit aux croyants: venez combattre sous: l'etendard de la foi , venez repousser l'ennemi ".

ثم إنه أَغفَل حرفَ العطفِ "أو" الذي يدلُّ هنا على الانتقالِ من الأعلى إلى الأدنى، بمعنى أنه "إذا لم تُقاتِلوا في سبيل الله، فعلى الأقلِّ تستطيعون أن تَدفَعوا" ص155".

أما الآيةُ التي تَلِي هذه، ونصُّها: ﴿ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آل عمران: 168]، وهي "بدل" من ﴿ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا.... ﴾ [آل عمران: 167] ", فقد فَصَلها عن الآية السابقة، وجعلها كلامًا مستأنفًا؛ مما أخلَّ بالمعنى.

كما أنه قد تَرجَم ﴿ أَطَاعُونَا ﴾، بمعنى: "صدَّقونا", وهذا غير ذاك.

وهو لا يَفهَم معنى قولِه -تعالى- مخاطبًا الأوصياء على اليتامى القُصَّر: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا ﴾ [النساء: 6]، وهذا واضحٌ من ترجمتِه إيَّاه على النحو التالي:
"Gardez vous de les dissiper en les pradiguant ou en vous hatant de les leur confier lorsqu' ils sont trop jeunes ".

ومعناه: "لا تضيِّعوها بالتبذير، ولا تتعجَّلوا في تسليمها إليهم، وهم لا يزالونَ صغارًا ".

إن هذا التحذيرَ الإلهيَّ قد تكرَّر قبل ذلكَ وبعد ذلكَ بما من شأنِه أن يتنبَّه ذلك المستشرقُ إلى معناه، فكيف لم يَفهَم هذه الآية، مع عدمِ غموض ألفاظِها ولا السياقَ الذي وَرَدت فيه؟

ونظيرُ ذلك ترجمتُه لقولِه -تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ﴾ [النساء: 19]، الذي يُشِير إلى ما كان شائعًا في الجاهليةِ من وراثةِ الابنِ زوجةَ أبيه -وكأنها متاعٌ لا رأيَ له ولا إرادةَ- فضلاً عما في التزوجِ بزوجةِ الأب من انحرافٍ لا يقرُّه الإسلامُ.

لقد ترجمه بما معناه: "لا يَحِلُّ لكم أن ترثوا شيئًا عن نسائكم ضدَّ إرادتِهنَّ"، ثم زاد الطين بِلَّة، فأضاف في الهامش هذا التوضيحَ: "أي: عندما تُطلِّقونَهن" ص160".

أما قولُه -تعالى- في نفس الآية: ﴿ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ، ﴾ فيتحوَّل عنده إلى: "فإن عَامَلتُموهنَّ بشدَّة"! "ص161".

وهو يؤدِّي قولَ الشيطان لربِّه: ﴿ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴾ [النساء: 118]، بما يعني: "سوف أهاجم بعضًا من عبادِك" ص169".

فهل نَفهَم من هذا: أن الشيطانَ يُوَسوِسُ لبعضِ الناس فقط، ولا يتعرَّض للباقِينَ؟ إن هذا ما تدلُّ عليه عبارة المترجِم، علاوة على أنه قد أَهمَل ترجمةَ كلمةِ ﴿ مَفْرُوضًا ﴾، كما هو واضح، وهذا خطأٌ كبيرُ؛ إذ الشيطان يُهاجِم الجميعَ، لكنه لا يَنجَح إلا مع بعضِهم، وهذا هو معنَى الآية.

أما قوله -تعالى-: ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 31]، فيؤدِّيه هكذا: "Ceux qui niaient la resurrection ne sont plus", ولا أَدرِي - بالضبط - ماذا يَقصِد بهذا الكلام.

أما بقيةُ الآيةِ: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ﴾ [الأنعام: 31]، فيترجمها هكذا: "لقد فَاجَأهم الموتُ بغتةً؛ فَصَاحوا: يا حسرتَنا على نسيانِنا هذه اللحظةَ المحتومةَ! إنهم سيَحمِلون أوزارهم؛ ألا ساء ما يَزِرون!" :
"La mort les surpit tout a coup , et ils s'ecrierent: Malherur a nous pour avair oublie ce moment fatal! Ils porteront le fardeau de leurs crimes , Malheur fardeau! ".

فانظر كيفَ قطعَ الكلامَ عما سَبَقه؛ إذ أسقطَ ﴿ حَتَّى إِذَا ﴾، وكيف تَرجَم الساعة بـ "الموت"، وكيف أسقطَ عبارةَ: ﴿ عَلَى ظُهُورِهِمْ ﴾، مما أفسد المعنى إفسادًا شنيعًا.

كما ترجم: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ [الأنعام: 21]، بما يَعنِي: "ومَن أظلمُ ممن جَعَل الله مشتركًا في كذبه؟" ص193".

فمَن يا تُرَى الكاذب الأصليُّ الذي أُشْرك الله - سبحانه وتعالى - معه في هذا الإثمِ؟

ومثل هذا الإفسادِ الشنيعِ نقلُه قولَه - تعالى - حكايةً عن المشركينَ:
﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الأنعام: 109، 110]، هكذا:
"Dis leur: les merveilles sont en sa puissance , mais il n'en produit pas ,parcequ' a leur vue vous resteriez dans l'incredilite. Nous detournerons leurs yeux et leurs cours de la verite. Ils n'ont pas cru au premier miracle...".


مترجمًا: ﴿ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ ﴾، بما يُفِيد أن الله يَقدِر على صنعِ المعجزاتِ، وليس هذا هو المرادَ؛ فإن المشركين لم يكونوا يشكُّون في قدرةِ الله، وإنما المرادُ هو أن الأمرَ ليس راجعًا إليَّ؛ إذ لستُ إلا رسولاً، أما الذي يقرِّر إرسالَ آيةٍ أو لا، فهو الله.

ومترجمًا كذلكَ: ﴿ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾، بما مفادُه: "ولكنه لن يرسلَ من ذلك؛ أي: مما يقترحُه المشركونَ من آياتٍ شيئًا؛ لأنكم في نظرِهم سوف تَبقون - مع ذلكَ - غيرَ مؤمنينَ" ص195".

وهو يَفهَم "الهاء" في قولِه -تعالى-: ﴿ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾، على أنها تعودُ على "المعجزة الأولى"، فأيُّ معجزةٍ أولى هذه يا ترى؟

إن هذه الهاءَ تُشِير إلى الوحيِ الذي سيكذِّبون به، وإن نَزَل عليهم من السماء ما يَقتَرِحونه من آياتٍ، كما قد كذَّبوا به قبل نزولِها.

وهذا مثالٌ آخرُ يُرِينا كيف يَقرَأُ هذا المستشرقُ القرآنَ ويَفهَمه ويترجمه، ثم يَأنَس -مع ذلك- من نفسِه القدرةَ على التهكُّم بالإسلام ونبيِّه وتعاليمِه.

إنه يترجِم قولَه - تعالى -: ﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ﴾[الأنعام: 148]، بالعبارة الآتية:
"Si Dieu eut voulu , dissent les idolatres , ni nous ni nos peres n'aurions offert de l'encens aux idoles. on ne nous en a point fait la defense ".


ومعناها: "سيَقُول عَبَدةُ الأوثانِ: لو شاءَ الله ما عَبَدنا الأوثانَ نحن ولا آباؤنا؛ فإننا لم نُمْنَع قطُّ من ذلكَ"، ص198 ".

فكأنَّه قرأ "حَرَّمنا" على أنها "حُرِمنا"، فهل للكلام على هذا النحو من معنًى؟

إن المقصود: هو أنهم يحيلون على الله -سبحانه وتعالى- مسؤوليةَ إشراكهم به، وتحريمَهم بعضَ الأنعامِ مما لم يُحرِّمه الله -تعالى- فتأمَّل كيف أغرَب المترجِم في الفهم، وتعجَّبْ!

وعند قوله - تعالى - لملائكته: ﴿ اسْجُدُوا لِآدَمَ ﴾، نراه يترجِمه إلي: "ado – rez Adam"؛ أي: "اعبُدُوا آدم"! ص116، 200 مثلاً "مع أنه عند ترجمةِ قولِه -تعالى- عن سحرةِ فرعونَ حين آمنوا بما جاء به موسى: ﴿ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ﴾ [الأعراف: 120]، قد ترجَمه على النحو التالي: "Les mages prosternes s'ecrierent:..."؛ فلماذا اختلفت الترجَمة هنا عنها هناك، مع أن سجودَ السحرةِ هو سجودٌ لله، قصدوا به إعلانَ إيمانِهم به وتحوُّلَهم عن عبادة فرعونَ إلى عبادته، أما سجودُ الملائكةِ لآدمَ، فليس فيه معنى العبادة إطلاقًا؟ ألا يوحِي هذا بأن المترجِم يريد الإساءةَ؛ إذ يدَّعي ضمنًا أن الله غيرُ مخصوصٍ بالعبادة في الإسلام؟

أما قولُه - تعالى -: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾ [التوبة: 128]، فقد ترجَمه بـ "Il est charge de vos fautes"؛ أي: أن الرسولَ يتحمَّل أخطاءَ البشرِ، وهو ما يُصادِم العقيدةَ الإسلاميةَ مصادمةً عنيفة " ص234".

مما سَبَق -من أمثلة قليلة جدًّا جدًّا- يرى القارئُ كيف يُخطِئ المترجِم فهمَ المعنَى؛ مما يترتَّب عليه أن تُشوَّه عقائدُ الإسلامِ وشرائعُه، وتقدَّم إلى الأوربيين على غيرِ حقيقتِها.

إنني أستطيعُ أن أستمرَّ في سردِ أمثلةٍ وأمثلةٍ أخرى من هذه الأخطاء، لكننِي أشعرُ بأن ذلك سوف يُملُّ القارئ، بل إننِي نفسي قد بدأتُ أحسُّ بالمللِ، ومع ذلك فليَسمَح لي القارئُ الكريم بأن استَشهِد بمثالين آخرينِ مضحكينِ؛ لأرفِّه عنه قليلاً، ثم نَستَأنِف جَولتَنا من ناحيةٍ أخرى من نواحي القصور الشديد في هذه الترجمة:

يقولُ القرآنُ عن إبراهيم -عليه السلام- إنه لما جاءته الملائكةُ في طريقِهم إلى لوطٍ لتدميرِ قومِه جزاءَ كفرِهم وشذوذِهم ظنَّهم بشرًا حَلُّوا عليه ضيوفًا؛ فقام فَشَوى لهم عجلاً سمينًا، وقدَّمه إليهم، ودعاهم إلى أن يأكُلُوا منه، لكنهم لم يَمُدُّوا أيديَهم إلى الطعام، فاستَغرَب منهم هذا التصرف وشعر بالخوفِ من مثل هؤلاءِ الضيوف الذين لا يتصرَّفون تصرُّف الضيوفِ.

ونص القرآنِ هو: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ ﴾[هود: 69، 70]؛ أي: إلى العجل الذي شَوَاه وقدَّمه لهم: ﴿ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ﴾ [هود:70]، فكيف فَهِمَ المترجِم هذه العبارةَ؟ لقد اختصَّها بتعليقٍ طويلٍ في الهامش، شَرَح فيه كيف يُحَيي الشرقيُّون بعضُهم بعضًا إذا التقوا في الطريق، وكيف أن كلاًّ منهم يَضَع يدَه على قلبِه بعد أن يقولَ: "السلام عليكم"، ويردُّ الآخرُ: "عليكم السلام"، ثم يتحاضنانِ، ثم يرسِل كلاهما الآخرَ، ثم يحضنه كرة أخري، كلُّ ذلك وهو يتمنَّى له الصحةَ والعافيةَ.

ثم يَمضِي المترجِم فيفرِّق بين هذه التحية التي لا تكون إلا بين المعارِف، وبين تحيةِ الغرباءِ التي يُكْتَفَي فيها بـ "السلام عليكم"، وتحية الكَفَرة، وهي -كما يقول-: "ليست أكثرَ من "Bonjour ".

ثم يَخلُص من ذلك كلِّه إلى أن إبراهيمَ حين رأى أن ضيوفَه لم يصافِحوه؛ فهكذا فهِم المترجِم قولَه -تعالى-: ﴿ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ ﴾ [هود: 70]؛ أي: إلى إبراهيم، وليس العجل! ظنَّهم غرباءَ، فأَوجَس منهم خيفةً؛ يعني: أن إبراهيم -عليه السلام- بعد أن حيَّا ضيوفَه وأَدخَلهم دارَه، قام وانتقى عجلاً سمينًا: ذبَحه وسلَخه، وشَوَاه، وأعدَّه للأكلِ، وأَحضَره إليهم، وعندئذٍ -وعندئذٍ فقط- أي: بعد مرورِ عدَّة ساعاتٍ على الأقلِّ -في ذلك الزمن الذي لم تكن قد اختُرِعت فيه "البوتاجازات"، ولا عُرفت فيه حلل "البرستو"، وكان الناس يَقضُون في شيِّ العجلِ كاملاً الساعاتِ الطويلةَ، يقلِّبونه على نار الحطب -عندئذٍ فقط تذكَّر إبراهيمُ أن هؤلاءِ الضيوفَ لم يُصافِحوه، وماداموا لم يُصافِحوه فهم إذًا غرباءُ- حَسَب نظرية هذا المستشرقِ في فنِّ الضيافة - وماداموا غرباءَ؛ فلابدَّ من أن يشعرَ بالخوفِ منهم"، ص248- هـ1".

فانظر كيف ذَهَب به الخيالُ السقيمُ كلَّ مذهبٍ، ويَبدُو لي أن هذا الخطأَ الفاحشَ ربَّما نَجَم أن المترجِم قد ترجَم هذه الآيةَ وفي ذهنه ما جاءَ في التوراةِ المحرَّفة من أن الملائكةَ قد أَكَلوا من الطعامِ الذي قدَّمه إبراهيم إليهم "تكوين - 15 - 6 – 8 ".

أما النادِرةُ الأخرى، فهي ترجمتُه لعبارةِ: ﴿ وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ من قوله - تعالى -: ﴿ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ [فاطر: 27]، وهي إشارةٌ إلى ما يُشاهَد في صخورِ الجبال، كما في: النباتِ، والبشرِ، وكلِّ شيء في الدنيا من تنوّع الألوان والشِّيَات، ولعلَّها تسليةٌ للرسولِ -صلى الله عليه وسلم- بالتلميحِ إلى أن الله قد خَلَق كلَّ شيءٍ مختلفًا، وخلق الناسَ كذلك مختلفينَ ما بين كافرٍ ومؤمنٍ؛ فلا يَحزَن.

أتدري كيف ترجَمها هذا المستشرِق؟
لقد ترجمها بـ "Le corbeau est noir "؛ أي: "الغراب أسود "! ص386.

• • • •
والآن فلنَنتَقِل إلى تصفُّح بعضِ ما أضافَه المترجِم من هوامشَ يُثبِت فيها ما فَهِمه من النص ، أو يَنقُل عن المفسِّرين ما يَرَاه لازمًا لتوضيحِه.

ولأبدأ بتعليقِه على الحروفِ المقطَّعة التي تُفتَتَح بها بعضُ السورِ، إنه يدَّعي أن مفسِّري القرآن يَقُولونَ: إن هذه الأحرفَ علاماتٌ غامضةٌ، لا يَنبَغِي البحثُ عن معناها، وأنهم يُؤمِنون بأن الله لم يَكشِف عن معناها إلا لرسولِه، وأنها ستَظَلُّ مجهولةً أبدًا لبقيةِ البشرِ، ثم يَنسِب هذا الكلامَ لـ "جلال الدين، وطالب؟ ص114- هـ1 ، وفي موضعٍ آخرَ " ص260- هـ1، يقول: إن "جلال الدين؟" -كعادته- يتخلَّص من مهمةِ شرحِ هذه العلامات بقوله: "إن الله يَعلَم ما تَعنِيه هذه الحروفُ"، وهو ما يُفِيد أن جلال الدين -"الجلالين"!- لا يَرَى أنه قادرٌ على التوصُّلِ إلى تفسيرٍ مقنعٍ لهذه الأحرفِ؛ فانظر كيف عمَّم الحكمَ، وجعَل جميعَ المفسِّرين يُؤمِنون بأن هذه الأحرفَ لا يَعرِفها -ولن يعرفها- أحدٌ أبدًا، بل لا يَنبَغِي أن يَعرِفها أحدٌ، مع أن من علماءِ المسلمينَ مَن يَرَى غيرَ هذا الرأي، ويقدِّم تفسيراتٍ متعدِّدة لهذه العلاماتِ، سواء اقتنعنا أو لم نَقتَنِع بما يقولونَ، بل إن أحدَ هذه التفسيراتِ على الأقلِّ لا يَخلُو من كثيرٍ من الوجاهةِ، وهو أن القرآنَ ليس مؤلفًا من شيءٍ آخرَ غيرِ حروفِ الألفباء التي هي في متناولِ كلِّ إنسانٍ، ومع ذلك ليس بمقدورِ أحدٍ أن يأتِيَ بمثل هذا القرآنِ.

وفي تعليقِه على سؤال إبراهيم -عليه السلام- لربِّه: ﴿ كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ﴾، وقول الله له: ﴿ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260] - يُورِد ما يقولُه بعضُ المفسِّرين عن هذا الطير وأنواعه وما فعله إبراهيم بالضبط، ثم يعقِّب بأن "المسلمينَ: Mahometans "بسببِ الجهلِ يؤمِنون بهذه الخرافاتِ ويعدُّونها وقائعَ حقيقيةً لا سبيلَ إلى الشكِّ فيها" ص139 هـ -1".

فهل هو يَرَى أن هذه القصةَ -كما وَرَدت في القرآنِ- خرافةٌ لا يُؤمِن بها إلا الجهلاء؟ أم هل يقصد التفصيلاتِ التي أضافَها المفسِّرون فحَسْب؟ أم هل يَقصِدُ هذه وتلك معًا؟

أغلبُ الظنِّ أنه يَقصِد القصةَ كلَّها، ما وَرَد منها في القرآن وما زَادَه مفسِّروه.


فأما إضافةُ المفسرينَ، فلا شأنَ لنا به، وأما ما جَاءَ في القرآن، فإن الإنسانَ لتأخذُه الدهشةُ البالغةُ وهو يرى هذا المستشرقَ يَصِفه بأنه خرافةٌ، وهو الذي يؤمِن طبعًا بكلِّ ما وَرَد في الكتابِ المقدَّس من مبالغاتٍ وتهاويلَ، مما تبدو هذه القصة معه -من الناحيةِ العقليةِ وحدَها- مقبولةً جدًّا.

كذلك فهو يَجِدُ في نفسِه الجرأةَ للتهكُّم بعقيدةِ الجنة عند المسلمين وما في الفردوسِ: من ظلالٍ وارفةٍ، وخضرةٍ دائمةٍ، وأنهارٍ جاريةٍ، وفواكهَ نادرةٍ، وحورٍ عِينٍ لا همَّ لهنَّ إلا الحبُّ، وكذلك السخرية بالمسلمين "Mahometens "، هؤلاءِ الناس الحِسِّيين - كما يقول " ص202 - هـ 1 ".

والحقُّ أننِي لا أَدرِي ما الذي يُعَاب في هذه الطيِّبات وغيرِها مما أكَّد القرآنُ -في مواضعَ كثيرةٍ- أنه سيكون جزاءَ المؤمنِ المخلصِ في العالَم الآخرِ.

إن مثلَ هذا الاعتراضِ كان يَسهُل فهمُه لو أن هذه الأشياءَ مما تعافُّها نفسُ الإنسانِ؛ فهل ثَمَّة مخلوقٌ -مخلوق واحد- سَوِيُّ النفسِ، يَنفِر من هذه الطيِّبات؟ إن القرآنَ والحديثَ يؤكِّدان أن هذه اللذائذَ ليست هي كلَّ شيءٍ، وأن هناك: رضوانَ الله، والنورَ الذي يَسعَي بين أَيدِي المؤمنينَ وبأيمانِهم، والملائكةَ الذين يَدخُلون عليهم من كلِّ بابٍ يُحَيُّونَهم بالسلام الذي سيعمُّهم ويعمُّ الفردوسَ كلَّه، فلا ضغنَ، ولا أحقادَ، ولا ملََلَ، ولا خوفَ، ولا قلقَ، بل حب وصداقة خالصة.

ثم إن هذه اللذائذَ لن تكونَ كما نعهدُها هنا على الأرضِ، بل ستكون لذائذَ خالصةً لا يصاحبُها أو يَعْقُبها ما يصاحبُ ويَعقُب لذاتِ الدنيا: من ألَمٍ، أو كظَّة، أو عسرِ هضمٍ، أو حتى حاجة إلى إخراجٍ؛ إذ إنها في هذه الحالةِ ستستحيلُ عطرًا يرشحُ من مسامِّ الإنسانِ.

إن العالَمَ الآخرَ لن يكونَ مثلَ عالَمِنا هذا، بل سوف تُبَدَّل الأرضُ غيرَ الأرضِ والسماواتُ، وهؤلاءِ المستشرقون هم آخرُ مَن يَحِقُّ لهم أن يَسخَروا بهذه اللذائذِ، بل هم آخرُ مَن يَنبغِي أن نص دِّقهم إذا زعموا ذلك؛ فهم ومجتمعاتُهم كلُّها كأنْ قد أصابَهم سعارٌ نحوَ: لذَّاتِ الجنسِ، والخمرِ، والطعامِ، والشرابِ، وإلا فلماذا كتب هذا المستشرقُ هذا الكلامَ؟ أليس من أجلِ التمكينِ لبلادِه ومساعدتِها على غزوِ بلاد المسلمين، والانفرادِ بما فيها من أرزاقٍ وخيراتٍ؟ أم تراهم حين جاؤوا إلى بلادنا واحتلُّوها، عاشوا عيشةَ المتبتِّلينَ، وتركوا لنا هذه اللذَّاتِ التي لا تَليقِ بالناس الشَّهوَانِيين؟

العجيبُ أنني لم أسمَع الزِّرَايةَ على جنةِ المسلمينَ إلا من الغارقينَ في شهواتِهم إلى أنوفِهم!


ثم إن لهذا الرجل تخريجاتٍ عجيبةً لا أَدرِي من أين يأتي بها عقلُه هذا الذي سيُورِده -بمشيئةِ الواحدِ الأحدِ- جحيمَ السعيرِ؟

إن القرآن إذا قال: ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ﴾ [الأعراف: 142]، أسرعَ هذا المستشرقُ إلى التساؤلِ: ولِمَ لَمْ يقلُ: "ثلاثين يومًا" بدل "ثلاثين ليلة

وبدلاً من أن يَستَنبِط هذا الاستنباطَ القريبَ والمُقنِعَ في آنٍ، وهو أن موسَى ربما بَقِي على الجبلِ أربعين ليلةً وتسعًا وثلاثين يومًا مثلاً، نَرَاه يَدخُل في مآزقَ حرجةٍ، لا أَعرِف كيف كان يَلِجُها؟ أو كيف كان يخرج منها؟ إذ يقولُ:
"إن العربَ يَستَعمِلون الليالي في قياسِهم للزمنِ بسببِ حرارةِ بلادِهم المفرِطةِ، وإن الليلَ عند العربيِّ هو كاليومِ بالنسبةِ لنا؛ فإنه لا يَخرُج من خيمتِه -عادةً- مادامت الشَّمس في السماءِ، أما حين تُوشِك أن تَغرُب فعندئذٍ يَخرُج من خيمتِه، ويَستَمتِع بجمالِ السماءِ ورقَّة النسيم، كذلك فإن شعراءهم لا يتغنَّوْن أبدًا بنهارٍ جميلٍ، أما كلمةُ "ليلي يا ليلي!"، فإنهم يردِّدونها في كلِّ أغانيهم".

فهل يَعقِل عاقلٌ أن العربِيَّ كان يَعِيش عيشةَ الخفافيشِ، فكيف يا تُرَى كان يَرعَى، ويُتَاجِر، ويُحَارِب، ويُسافِر؟ ومَن الذي يَصِف في شعرِه السرابَ والهاجرةَ إذًا؟

أما حكاية "ليلي يا ليلي!"، فهذا كلامُ الأغاني، والحمدُ للهِ أن نَسِي أنهم يقولون: "يا لِيل يا عِين!"، وإلا لتسائلَ: لم خصُّوا العَينَ من دونِ الجوارحِ جميعًا بذكرِها في أغانيهم؟ وأجاب بذكائه الخارِق: "لأنهم ليس لهم أنوفٌ، ولا آذانٌ، ولا أفواهٌ، بل عيونٌ فقط!".

ألم أَقُلْ: إن لهؤلاءِ الناسِ تخريجاتٍ عجيبةً! لقد كان يُمكِن أن يكونَ في كلام هذا المستشرق بعضُ المعنى، لو أن القرآنَ -الذي يعدُّه طبعًا كلامَ الرسول "عليه السلام"-لم يَستَخدِم في قياسِ الزمن إلا الليالي فقط، فهل هذا صحيحٌ؟ إن الغالبَ فيه هو استخدامُ "اليوم"، بل إن هذه الكلمةَ قد وَرَدت في القرآنِ أضعافَ أضعافِ المرَّات التي وَرَدت فيها كلمة "الليلة"، ويُمكِن التثبُّت من ذلك بالرجوعِ إلى أيِّ معجم لألفاظ القرآن.

وفضلاً عن هذا، فإن القرآنَ يقرِّر -بصريحِ العبارةِ- في أكثرَ من موضعٍ، مخاطبًا العربَ قبل غيرِهم، أنه ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ﴾ [يونس: 67]، كما يقول: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴾ [النبأ: 10، 11]، وغير ذلك؛ مما يُثبِت عكسَ ما يدَّعيه هذا المستشرق تمامًا.

على أن العجبَ لا يَنقَضِي من غرابةِ لفتاتِ ذهنِ ذلك الرجلِ، إنه في تعليقِه على المشهدِ الذي يصفُه القرآنَ حين دخل يوسف - عليه السلام - على امرأةِ العزيزِ وعندها بعضُ النساء اللاتي دَعَتهنَّ: ﴿ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ [يوسف: 31] - يقول بالنص - "ص254- هـ1" -:

"إن النساءَ المصريَّات يتزَاوَرن كثيرًا ويُقِمْنَ الولائمَ التي يُحَال بين الرجال وبينها، اللهمَّ إلا العبيد الذين يَقُومونَ بالخدمةِ الضروريةِ، وهنَّ في هذه الولائمِ يُرَاوِحن بين الموسيقا والرقصِ، اللذين يُحْبِبْنَها حبًّا جمًّا، وتعدُّ العوالِم واسطة َالعقدِ في هذه الولائم؛ فهنَّ يُغنِّين أغاني يَمدَحنَ فيها المدعوَّات، ويَختِمنَ بأخرى عاطفيةٍ، ثم يَقُمْن بعدئذٍ فيَرقُصنَ رقصًا مثيرًا تتجاوزُ فيه الخلاعةُ حدَّ المعقول".

هذا هو الهامشُ بنصِّه -لم أَزِد فيه ولم أُنقِص منه- فهل من صلةٍ بين القصةِ القرآنيةِ، وبين هذا الكلامِ الذي ينفعُ الباحثَ مع ذلك نفعًا جزيلاً؛ لأنه يكشف عن نفسيةِ هذا المستشرقِ المنافِق، الذي يَعِيب لذَّاتِ الجنَّة، ثم يأتِي مثلُ ذلك الكلامِ ليفضحَه، وإلا فلماذا أَورَد كلَّ هذا هنا؟

إن مكابرةَ هذا المستشرقِ وأضرابِه -فيما يتعلقُ بأمورِ الإسلام- تتجاوزُ كلَّ حدٍّ، ومن ذلك: أنه في تعليقِه على تنبؤِ القرآن بانتصارِ الرومِ على الفرس في بضعِ سنينَ -يقولُ: "إن المسلمينَ بعد أن تحقَّقت هذه النبوءةُ قد اتَّخذوها حجةً قاطعةً على نبوَّة محمدٍ" ص365 - هـ2"، ثم يَمضِي فيُكَابِر قائلاً: "ولكن من السهلِ إدراكُ تهافتِ مثلِ هذه الحججِ القائمة على نبوءةٍ غامضةٍ كهذه، كان بمقدورِ أيِّ إنسانٍ- يَعرِف حالةَ الإمبراطورية الرومانيةِ، وإمبراطوريةِ الفرسِ - أن يتنبَّأَها بدقةٍ ".

لكنَّ الأمرَ ليس بهذه السهولةِ التي يَزعُمها هذا المكابِر، وإلا فهل كان الرسولُ-صلى الله عليه وسلم- يَعرِف من حالةِ الإمبراطوريتينِ أكثرَ مما كان يَعرِفه أبو سفيانَ، وغيرُه من دُهاةِ قريشٍ المضرَّسين، الذين كانوا يَجُوبُون الشامَ والعراقَ بتجارتِهم، وكان بعضُهم يُقابِلون الحكَّام والولاةَ هناك؟ فلماذا إذًا عَرَف الرسول -عليه السلام- ذلك، ولم يَعرِفه قومُه، الذين تحدَّوا أبا بكرٍ على إبلٍ تكذيبًا منهم بخبرِ القرآن عن انتصارِ الروم على الفرس في بضعِ سنينَ؛ فكَسَبها أبو بكرٍ! إن من السهل مثلاً أن يحسَّ الإنسانُ الخبيرُ إحساسًا عامًّا أن ثَمِّة حربًا قادمةً بين دولتينِ متعاديتينِ، أما أن يتنبَّأ بوقوعِها في مدًى لا يتجاوزُ تسعَ سنواتٍ، ويتنبَّأ بانتصارِ الجانبِ الذي انهزم من فورِه، ويحصل تحدٍّ له؛ فيَخسَر متحدُّوه، وتَقَع الأمور بالضبطِ كما تنبَّأ، فهذا هو غيرُ المعقولِ، وبخاصَّة إذا عَلِمنا أن هذه النبوءةَ لو لم تتحقَّق لكان لها على مستقبلِ الإسلام أوخمُ العواقبِ.

إن أجهزةَ المخابراتِ العصريةِ -بعقولِها البشرية المتخصصة، وعقولِها الألكترونية المعقَّدة- لتخطئُ في مثلِ هذه الأمور، ثم إن هذا المستشرقَ يَصِف النبوءةَ بالغموضِ، فأين هذا الغموضُ يا تُرَى؟

ثم هل هذه هي النبوءةُ الوحيدةُ التي تنبَّأ بها القرآنُ، ثم وقعت كما تنبَّأ؟


ألم يتَحَدَّ القرآنُ أعداءَ الإسلامِ أن ينالوا من الرسول-صلى الله عليه وسلم- أو من دعوتِه منالاً؟

ألم يَقْرَع القرآنُ أسماعَهم بهذا التحدِّي من البداية إلى النهايةِ؟

ألم يَجهَد المشركونَ، واليهودُ، والمنافقونَ، والعالَم كلُّه جهدَهم، ثم فَشِلوا جميعًا فشلاً ذريعًا، وانتصر الإسلام؟

إن هذه النبوءةَ وحدَها تَكفِي، ولا دَاعِي للمُضيِّ في تَعدادِ بقيَّة النبوءاتِ القرآنيةِ، وكلُّها وَقَعت كما هي.

ومن الملاحظِ أيضًا أن ذلك المستشرِقَ يغيِّر فيما يَنقُله عن المفسِّرين، ومن ذلك: أنه في تعليقِه على قولِه -سبحانه-: ﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ [الصافات: 107]، يَنسِب إلى جلالِ الدين -"الجلالين!"- أن إسحاقَ قد وَضَع جبهتَه على الأرضِ، وأمسكَ إبراهيمُ بالسكِّين هامًّا أن يذبَحه؛ فأَوقَفه نداءٌ من السماءِ.

ولقد رَجَعت إلى تفسيرِ الجلالينِ -الذي أرجِّح أنه هو المقصودُ- فوجدتُه ينص على أن في تفسيرَ "الصغير" في: ﴿ فَدَيْنَاهُ ﴾ قولينِ؛ أي: أن بعضَ المفسرينَ يقولُ إنه إسماعيلُ، وبعضُهم يقولُ إنه إسحاقُ؛ فاختيارُ المترجِم أحدَ الرأيين ونسبتُه إلى أحدِ مفسري المسلمين يُوهِم أن علماءَ الإسلامِ يُوافِقون أهلَ الكتابِ على أن الذبيحَ هو إسحاقُ، وليس إسماعيلَ" انظر ص395 - هـ 1".

وعن اتِّهام قريشٍ السخيفِ للقرآنِ بأنه شعرٌ -يقولُ المترجِم، وقد فاته مَغزَى هذا الاتهامِ الذي أطلقه مجرَّد العنادِ الأحمق؛ إذ قَصَد المشركون به أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- إنما يتلقَّى قرآنَه عن هواتفِ الشياطينِ التي تُوحِي للشعراءِ بما يَنظِمون من قصيدٍ:

"إن اتهامَ الكفارِ محمدًا بأنه شاعرٌ لم يكن قائمًا على غيرِ أساسٍ: فالقرآن مؤلَّفٌ من آياتٍ، والسورُ الأولى منه نثْر مُقَفًّى، أما السورُ الأخيرةُ: فبعضُها شعرٌ صريحٌ، كما أن محمدًا قد أَبدَع في تأليفِ قرآنِه، مستخدمًا ما في البلاغةِ والشعرِ من ثروات فنيةٍ" ص442 - هـ 1 ".

والحقُّ أن الادعاءَ بأن بعضَ السورِ الأخيرةِ من القرآن شعرٌ صريحٌ - هو كلامٌ باطلٌ، لا يقوله إلا مثلُ هذا المستشرقِ الجاهلِ بعِلمَي العَرُوض والقَافِية.

أما في ص175 - هـ1، فإنه يخرِّف قائلاً: "وعندما يطلِّق المسلمُ زوجتَه، فإنه يَعتَزِل فراشَها، أما الزوجةُ فحين يَصلُها الخبرُ، فإنها تتغطَّى بنقابٍ، وتَنسَحِب إلى مسكنِها، ولا تَظهَر بعد ذلك لزوجِها، وحين تَمُرُّ الأشهر الأربعة المحدَّدة للصلحِ؛ فإن كلَّ الصِّلات بين الطرفينِ تَنقَطِع وتَستَرِدُّ المرأة حريتَها، وتَحصُل على المهرِ المنصوص عليه في العقد.

"فأما البناتُ فيَذهَبْن مع أمِّهنَّ، وأما الأولاد فيَبقَوْن مع أبيهم".

فهل هناك شيءٌ بعد الطلاقِ اسمُه فترةُ الصلحِ؟
حتى لو سامحناه في هذه -وقلنا إنه يقصدُ به "العِدَّة"- فهل العِدَّة أربعةُ أشهرٍ؟ تُرَى من أين أتى ذلك المستشرقُ بهذا الكلام؟ إن القرآنَ -الذي تصدَّى لترجمتِه- قد فصَّل القولَ في هذه العِدَّة، وبيَّن بما لا يَشوبُه ذرةٌ من غموضٍ أنها مختلفةٌ من حالة إلى أخري، وليس من بين هذه الحالات أبدًا ما تعتدُّ فيه الزوجةُ أربعةَ أشهرٍ.

أما عِدَّة المتوفَّى عنها زوجُها، فهي أربعةُ أشهرٍ وعشر، وليست أربعةً فقط.

أما حكايةُ تقسيمِ الأولاد والبنات على هذا النحوِ الهَزلِيِّ -وكأن المسألة شَرْوةُ طَمَاطم- فلا أَدرِي أيُّ شيطان سوَّلَها له!


رابط الموضوع: المستشرق " سافاري " وحديثه عن القرآن (2) - شبهات فكرية وعقدية - موقع آفاق الشريعة - شبكة الألوكة
 
عودة
أعلى