المستشرقون ومناهجهم في دراسة علوم القرآن الكريم

إنضم
16/04/2012
المشاركات
20
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
الإقامة
الرياض
بسم الله الرحمن الرحمن الرحيم

فبين أيديكم الكريمة جهد مقل بحثت فيه عن : ( المستشرقون ومناهجهم في دراسة علوم القرآن )
أسأل الله النفع والفائدة , وأن يكون خالصاً لوجهه الكريم . فما كان من توفيق وصواب فمن الله وحده . وماكان من خطأ وتقصير فمن نفسي والشيطان وأستغفر الله على ذلك .
المقدمة
بسم الله نحمده ونستعينه , ونستهديه , ونستغفره ونتوب إليه , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا , ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فهو المهتد , ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا . وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه , وخليله , بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة فكشف الله على يديه الغمة , صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وعلى كل من استن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد اهتم المستشرقون بدراسة علوم القرآن والتفسير اهتماما بالغا على اعتبار كونها علوما خادمة للقرآن ومعينة على فهم مقاصده وأغراضه , ولاشك أن القرآنيات تشكل المجال الخصب الذي تواردت عليه أقلام كثير من المستشرقين سواء بالدراسة والبحث أم بالتحليل والنقد . وقد استأثرت الدراسات الاستشراقية بمزيد اهتمام الباحثين المسلمين في العقود الثلاثة الأخيرة , وانصب جانب كبير من هذا الاهتمام على مناقشة تلك الدراسات والرد عليها , وتفنيد مضامينها ذات الابعاد التشكيكية في معطيات الإسلام وتعاليمه السامية.
لكن الدارسين من المستشرقين للقرآن الكريم ليسوا سواء , فقد ظهرت دراسات استشراقية تنتقد افتراءات ومواقف المستشرقين من الإسلام وكتابه وسنة رسوله . ولعل من أبرزهم ( هنري ستوب ) الذي انتدب نفسه للدفاع عن الرسول الكريم عليه أتم الصلاة والتسليم من تشويهات القوم وتبرئة الإسلام من اتهامات وشبه المستشرقين .

مفهوم المنهج الاستشراقي
المنهج لغة : مصدر من نَهَجَ يَنْهَجُ منْهَجَاً ومنْهاجاً . يقول ابن منظور : نَهْج طريقٌ نَهْجٌ بَيّنٌ واضحٌ , وهو النَّهْجُ ...والجمعُ نهجاتٌ ونُهُجٌ ونُهُوجٌ .. ومَنْهَجُ الطريق وَضَحَهُ . والمنهاج : كالمنهج . وفي التنزيل : ( لكل جعلنا شرعة ومنْهاجا ) .واسْتَنْهَجَ الطريقُ : صار نَهْجاً . وفي حديث العباس (رضي الله عنه ) : لم يمت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )حتى ترككم على طريق ناهجة , أي واضحةٌ بَيّنة .
ويقول الفيروز آبادي النَهَجُ بالتحريك : البُهُرُ وتتابعُ النفس والفعل : كفَرحَ وضَرَبَ .
اصطلاحا : ( الطريق الذي يسلكه المعلم والمتعلم للوصول إلى الأهداف المنشودة ) .

الاستشراق لغة :مشتق من الشرق , وبالأخص الشرق العربي الإسلامي .
ويعرفه القاموس الفرنسي بأنه : مجموعة المعارف التي تتعلق بالشعوب الشرقية ولغاتهم وتاريخهم وحضارتهم .

واصطلاحا : هو مصطلح أو مفهوم عام يطلق عادة على اتجاه فكري يعنى بدراسة الحياة الحضارية للأمم الشرقية بصفة عامة , ودراسة حضارة الإسلام والعرب بصفة خاصة .

وأما المستشرق : فهو " الباحث في فرع من فروع المعرفة التي تتعلق من قريب أو من بعيد بهذا الشرق , ويسمى مستشرقا " .
ويقول مالك بن نبي : " إننا نعني بالمستشرقين الكتاب الغربيين الذين يكتبون عن الفكر الإسلامي وعن الحضارة الإسلامية . ثم علينا أن نصنف أسماءهم في شبه ما يسمى بالطبقات على صنفين :
1- من حيث الزمن : طبقة القدماء مثل جربر دوريياك , والقديس توماس الإكويني , وطبقة المحدثين مثل كاره دوقو وجولد تسهير .
2- من حيث الاتجاه العام نحو الإسلام والمسلمين لكتاباتهم : فهناك طبقة المادحين للحضارة الإسلامية , وطبقة المنتقدين لها المشوهين لسمعتها ".

الدوافع الى الاستشراق
تفاوتت ردود الفعل تجاه الاستشراق بين معجب منبهر راغب , الى غيور معارض مكابر , وظل صوت الاعتدال خفيضا أسيرا بين الموقفين المتعنتين المتطرفين . إن دراسة قضية الدوافع والأهداف المبتغاة من وراء أبحاث المستشرقين لا تتم كاملة بمعزل عن التبصر بالبنية الفكرية , والتركيبة النفسية التاريخية التي صممت عن وعي أو دون وعي فلسفة هذه الاهداف واتجاه هذه المرامي لدى الغرب المنصبة اهتماماته على الشرق الإسلامي بالذات .
إن للاستشراق دوافعه وأسبابه واهدافه يأتي في قمتها الدافع الديني بألوانه المتعددة .
ثم تأتي ثانيا الدوافع السياسية والاستعمارية والتجارية . ولعل الدوافع والأهداف السامية الوحيدة هي الأسباب العلمية النزيهة التي لم يخل الاستشراق منها بأي حال , بل إن هذا الدافع يزداد مع ضمور الدوافع الأخرى . ثم تأتي رابعا البواعث النفسية والشخصية والتاريخية والأيديولوجية غير الدينية كالمستشرقين الشيوعيين الذين تدفعهم أيديولوجيتهم الى الاتجاه الى الاستشراق .

نشأة الاستشراق
مر الاستشراق بعدة مراحل في طور نشأته يمكن توزيعها على النحو التالي :

أولا : المرحلة المبكرة
وهي المرحلة التي نقل فيها الكنسيون فيها علوم الكنيسة وفلسفة اليونان من حاضرة العرب ( بغداد ) وغيرها من البلدان العربية الى روما حيث كانت الكنيسة في احتضار فكري .
فبتوسع الدولة الاسلامية والازدهار الحضاري لها واهتمامها بتدوين العلوم المختلفة من علوم القرآن الكريم والسنة المطهرة , والتاريخ , واللغة , الفلك , والفيزياء , والكيمياء , والحساب, وغيرها من العلوم المختلفة , اهتم المسلمون أيضا بترجمة الكتب اليونانية وتناولوها بالنقد والمناقشة . واستفاد الفلاسفة المسلمين من الفلسفة اليونانية ومزجوها بالفكر الاسلامي , مع أن الفكر الاسلامي لم يكن بحاجة لهذه الفلسفة . فكان الفضل للإسلام على الكنيسة في روما في ترجمة آثارها اليونانية والرومانية وخاصة في العصر الذي أطبق الجهل فيه على شعوب أوربا في ما يسمى ب ( العصور المظلمة ) .
فبدأت رحلات كتاب الكنيسة على بغداد لينهلوا من العلوم الاسلامية ويصلوا الى المؤلفات اليونانية ومناقشات العرب المسلمين عليها ليترجموها الى لغة الكنيسة آنذاك .
وفي موجتهم الاستشراقية الأولى هذه , تعلموا اللغة العربية , ونقلوا علومها الى شعوبهم , ولكنهم نقلوا أفكارا مشوهة عن العرب والمسلمين ودينهم ونبيهم وشوهوا صورة الإسلام فيهم , وأنه مستقى من أصول مسيحية ويهودية . ولعل تفصيل هذه الصور قد دونها القديس يوحنا الدمشقي الذي عاش في العصر الأموي في دمشق , وبعضها في رسالة نشرها مؤلف يدعي أنه كان مسلما وأرتد عن الإسلام وآمن بالمسيحية اسمه عبد المسيح بن إسحاق وقد أعاد المبشرين المسيحيين نشرها لتخدم اغراضهم وتساعدهم في التأجيج للحروب الصليبية ضد المسلمين بهدف :
1- تهديم معالم الإسلام , وإنهاء دوره الذي طغى على دور الكنيسة آنذاك .
2- إيجاد مستعمرات في الأراضي العربية ينقلون إليها مراكز حكمهم بعد أن اشتد الصراع بين الحكام ورجال الكنيسة .
وجدير بالذكر ان الدراسات الاستشراقية للعرب وشبه الجزيرة العربية قد سبقت الحروب الصليبية وكانت تعود الى نهاية القرن الأول للميلاد .

ثانيا : مرحلة التبشير
وتعتبر هذه المرحلة هي حركة الاستشراق بالمعنى العلمي الذي اصطلح عليه , بدأت في القرن السابع عشر , حيث نشطت الكنيسة في إرسال أعضائها الى مناطق عديدة في آسيا وافريقيا وبخاصة الى البلدان العربية فيها . وكان عملهم ناجحا في المجال الثقافي والاجتماعي والسياسي أكثر من المجال الديني , وبالتالي فقد أفلس رجال الكنيسة الغربية الى تحويل المسلمين الى مسيحيين مما جعلهم ينقمون عليهم وينقلون تراثهم الى أوربا بصورة مشوهة لا تعكس الحقيقة وجعلوا الاوربيين ينظرون الى المسلمين العرب بحقد واز
ويمكن تلخيص دور أولئك المبشرين من المستشرقين في الأمور التالية :
1- إن دراساتهم قد كونت صورة مشوهة عن الإسلام في أوربا وكانت تستمد موادها الأولية من مصادر سبقهم الى كتابتها المستشرقون الأوائل الذين ذكروا دورهم أثناء وبعد الحروب الصليبية .
2- إن تلك الدراسات قد كونت شكلا منهجيا وإطارا فكريا في أوربا عدها جميعهم مسلمات وحقائق على الرغم مما توصل إليه كثيرون من نقائض لها في بحوثهم .
3- تعتيم أجواء الاستشراق بحقد دفين على الأمة الإسلامية على الرغم مما تدعيه تلك الدوائر من الموضوعية والعلمية .
وقد أساءوا الى مقدسات التراث الإسلامي وعظمائه , فحين يتكلمون عن نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم  ) يصفونه بانه زير نساء وداعية للإباحية . متناسين أن تعدد الزوجات كان موجودا في القرن المسيحي الأول ومنعته الكنيسة في القرن الثاني . ولم يقفوا عند هذا الحد بل تعدى هجومهم الى القرآن الكريم فراحوا يصفونه بأنه مستقى من أصول مسيحية ويهودية تلقاها النبي( صلى الله عليه وسلم ) من أحبار اليهود والرهبان . وإذا جاءوا الى تفسير آياته يترجمون الكلمات التي تحتمل أكثر من معنى في لغاتهم الى المعنى الذي يتفق وأهدافهم التبشيرية دون الرجوع الى تفسير المفسرين المسلمين للاستفادة من المعاني التي ذكروها . كما أساءوا الى أمتنا العربية ووصفوها بالعجز , وأن سبب ظهور البحث العلمي والفلسفة عند العرب أبان العصور الوسيطة يعود الى الأجانب الذين دخلوا في الإسلام . وهذا الرأي ملموس في كل المدارس الاستشراقية . فهم يتغنون بفضل الرومان والكنيسة الغربية والفرس على الفكر العربي ويعزون اليهم تقدمه .

ثالثا : مرحلة الاستعمار
وهنا لابد من التقرير بأن المستشرقين جميعا قديمهم وحديثهم خدموا بشكل أو بآخر أغراض الاستعمار . فعندما بدأت أوربا بالانتعاش الاقتصادي , وصارت لها الاساطيل الحربية القوية , بدأ ملوكها بأرسال علمائها الى الأقطار العربية لدراسة أوضاعها وتراثها , وقد صاحب ذلك حملة قوية لتعلم العربية , حتى نادى رجال الكنيسة أنفسهم بفتح مراكز لتعليم العربية في جامعات أوربا المختلفة , فقد كانت الكنيسة قد تطوعت لخدمة الأغراض الاستعمارية بإرسال بعثاتها الدبلوماسية التي بدأت تؤدي دورها الاستشراقي أيضا , فكثير من أعضائها وقناصلها كانوا من العاملين في حقل الاستشراق وكتبوا عن العرب الشيء الكثير .

أهداف الاستشراق
يمكن حصر أهداف المستشرقين في دراساتهم العربية والاسلامية في أمرين :
الأول : أن يتعرفوننا فتكون معرفتهم بنا صورة ينقلونها الى بلدانهم وشعوبهم , تلك الصورة التي تشكل مجموعة من المعرفة الحضارية , والنفسية , والتاريخية , والثقافية .
الثاني : أن تعاد إلينا تلك الصورة التي كونوها عنا بعد أن ركزوا على الماضي منها فقط , ففصلوا الحاضر عنها متقصدين خلق هوة سحيقة تفصل بين ذلك الماضي وبين الحاضر الذي أهملوه . هذا بوجه عام . أما الهدف الرئيس من كل ذلك هو تحطيم أسس العلوم القرآنية وركائزها المتمثلة في المرويات المتصلة بالصحابة والتابعين , بقصد الخلوص الى نتيجة مفادها أن التراث التفسيري لم يدون إلا في مرحلة متأخرة من العصور الأولى . وقد نهج المستشرقون في كل ذلك طرائق عدة تمثلت في التشكيك في الروايات الصحيحة والتقليل من أهمية أعلام التفسير ومكانتهم

المناهج الاستشراقية في بحث علوم القرآن وقضاياه :
كان للقرآن الكريم مركزاً جوهرياً في الدراسات الاستشراقية التي بدأت بترجمته لأهدافٍ دينية معادية مكشوفة ومعلنة مثل ترجمته الأولى إلى اللغة اللاتينية التي أشرف عليه ( بيتروس فينيرا بيليس ) الملقب ب ( بطرس المبجل) رئيس دير ( كلوني ) , ولا يخفى علينا الغرض الأساس من هذه الترجمات هو دراسة القرآن الكريم وفق مناهج معينة ساروا عليها بما تخدم آرائهم وأفكارهم ورغباتهم .
ولعل من أبرز المناهج الاستشراقية في بحث علوم القرآن وقضاياه كانت كالآتي :

المنهج الأول : منهج التشكيك فيما هو قطعي
لقد انساق المستشرقون المعاصرون مع أسلافهم في اتباع منهج الشك والمبالغة في إثارة الشكوك حول الوقائع التاريخية الثابتة، والروايات الصحيحة المرتبطة بتاريخ القرآن وعلومه، واعتمدوا في ذلك على عملية الانتقاء بطريقة مغرضة وهادفة إلى ما يصبون إليه من نتائج عكسية، كما أن عدم ثقتهم في صحة النص القرآني دفعهم إلى الشك في أمانة نقله وسلامة تبليغه، إضافة إلى الشك في جمعه وترتيبه، وهكذا يدعي كثير من المستشرقين أن النص القرآني الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم قد نالته - بعد إفضائه به إلى الناس - تعديلات بالزيادة والنقصان خاصة في صورته المكتوبة ، ووجدوا في موضوع اختلاف المصاحف الخاصة التي كانت بأيدي بعض الصحابة ميداناً يخبُّون فيه ليشفوا رغبة في صدورهم: هي زلزلة العقيدة وفتح أبواب الشكوك والارتياب .
وهؤلاء المستشرقون يعرفون أن الشك في نص يوجب الشك في آخر؛ ولذلك فهم يلحون في طلب روايات الاختلاف، وينقلونها في غير تحرز، ويؤيدونها غالباً، ولا يمتحنون أسانيدها، ولا يلتفتون إلى آراء علماء المسلمين فيها.
وقد جمع المستشرق الإنجليزي آرثر جفري الاختلافات المنسوبة إلى المصاحف الفردية لبعض الصحابة أمثال ابن مسعود، وأبي بن كعب، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وحفصة، وأنس بن مالك، وزيد بن ثابت، وغيرهم - رضي الله عنهم - كما جمع الاختلافات المنسوبة إلى بعض مصاحف التابعين، وقد جمع ذلك من مختلف المصادر القديمة التي احتفظت بالروايات الآحاد والشاذة المنسوبة إليهـم، وبخاصة تفسير الطبري الذي استقصى الشيء الكثير من ذلك.
ومع أن بعضهم لا يجدون مناصاً من الاعتراف بأن بعض الاختلافات تبدو مستحيلة من الناحية اللغوية، وبعضها الآخر يشعر أنها مما اخترعه بعض اللغويين الذين نسبوها لهؤلاء الصحابة والتابعين، فإنهم يصفون مصحف عثمان (رضي الله عنه) بأنه أقرب المصاحف إلى الأصل ، ولا يقولون إنه الأصل الموثوق به نفسه، فهم يتحاشون الاعتراف بأن القرآن الكريم قد جُمع وفق منهج علمي رصين قوامه التوثيق والدقة والتثبت .

المنهج الثاني : الانتقاء في استعمال المصادر :
لا شك أن فعالية المنهج المتبع في أية دراسة، تتوقف على قيمة المصادر والروافد المعتمدة ؛ إذ هي القاعدة المغذية والمادة الخام التي ترتكز عليها الدراسة ، فكلما كانت المصادر رئيسة وأصيلة وذات علاقة مباشرة بالموضوع ،كانت الدراسة أقرب إلى حصول المراد المنشود والمبتغى المقصود من طرف الباحث.
وفي إطار البحث الاستشراقي يتبين أن المنهج المتبع في انتقاء المصادر المعينة على بحث الموضوعات المرتبطة بالقرآنيات يتنوع ويختلف تبعاً لطبيعة الموضوعات المطروقة من جهة، ولمدى موضوعية المستشرق وأمانته العلمية أو حياده على الأقل في توظيف تلك المصادر والنقل عنها من جهة ثانية.
وسأذكر فيما يلي بعض النقاط التي تبرز لنا الخلل المنهجي الذي ينال أحيانا دراسات المستشرقين في هذا المضمار , مع أن بعض دراسات المستشرقين في القرآنيات ليست كغيرها _ لا لشيء _ إلا لكونها منصبةَّ على موضوع يرتبط بمسألة الوحي المنزل َعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يؤمن به الباحث، ولا يمكن أن يتعاطف معه مبدئياً، وبالتالي لابد من أن تؤثر فيه قناعاته الدينية في البحث .
ولعل أبرز مواطن الخلل التي يمكن الإشارة إليها ما يلي:

1- اعتماد عدد معين ومحدود من مصنفات علوم القرآن دون غيرها.
وهذا أمر يمكن أن يلاحظه كل من تتبع بدقة بعض دراسات المستشرقين في القرآنيات، فعدد المصنفات العربية المتعلقة بعلوم القرآن المعتمدة من طرف المستشرقين محدودة جدا، وهي في معظمها كتب جامعة لم تتحر الصحة والنقد والرواية السليمة وهكذا نجد أن ولدكه، وبيل، وبلاير، وبورتون في جمع القرآن الكريم لا يتجاوزون كتب المصاحف لابن أبي داود ، والإتقان للسيوطي، والفهرست لابن النديم، في حين لا نجد عندهم اعتمادا يذكر على الروايات الصحيحة الواردة في كتب الصحاح والسنن أو في مقدمات المفسرين . فاقتصروا على دراسة تفاسير محددة ( الطبري – الزمخشري-ابن عربي..( ولم يستقصوا بيان مذاهب التفسير كله وقد يكون من حق الباحث أن يسلك هذا الطريق طوال بحثه، وألا يؤمن ببعض المنهج ويكفر بالبعض الآخر، ولو فعل المستشرق ذلك واستقصى جوانب التفسير المذهبي كلها من تشريعية فقهية، إلى لغوية نحوية، أو أثرية موسوعية من خلال جميع كتب التفسير التي كانت – على الأقل- في وقته لتكشَّفت له حقيقة مغايرة، وهي أن النص القرآني خصيب متجدد وثري. فليس سهواً إذن أن يغفل جولد تسيهر عن آثار أخرى في التفسير ، وإنما هو التجاهل المتعمد ليبدو محصول المسلمين من التفسير في النهاية رذاذا متناثر اً فرقته الأهواء الحزبية والفكرية

2- انتقاء الروايات الضعيفة والمنقطعة من مصادر علوم القرآن.
يكاد يتفق منهج المستشرقين العام في الدراسات القرآنية على تعمد اختيار الأخبار الضعيفة والروايات المنقطعة في بطون المصادر العربية قصد بناء أحكامهم عليها، على مقاصد وأغراض معينة. ولقد وجد المستشرقون في كتب معينة ما أفادهم في مبتغاهم هذا .
توليد النصوص والشواهد بتصيّدها من كتب الأدب والتاريخ وغيرها.
يختلف البحث الاستشراقي في حق القرآنيات عن المنهج الإسلامي المؤسس على ضرورة اعتماد الموثوق من المصادر والمشهود له بالأولية والتميز , فالمصادر القرآنية الموثوقة ليس فيها ما يسعفهم في تسويغ ما يَصْبون إلى تأكيده من أحكام مغرضة ، واستنتاجات مغلوطة وخاطئة أريد لها أن تكون كذلك، ولهذا يلجئون إلى مصادر أخرى بحثاً عما يعينهم على بلوغ مأمولهم فيجدون بغيتهم في كتب الأدب والتاريخ وغيرها دون أدنى اكتراث بما يشكله اعتماد تلك المصادر في قضايا جوهرية ترتبط بالدراسات القرآنية, والواقع أن كثيراً من المستشرقين ودعاة التغريب قد ألحوا على اعتماد مثل هذه الكتب , وأولوها الاهتمام البالغ وأعادوا طبعها وأذاعوا بها , وحرضوا الباحثين من التغريبيين على اعتمادها مصادر ومراجع ؛ وذلك لأنها تفسد الحقائق وترسم صورا غير صحيحة ولا موثوقة عن واقع الأمور .
3- إهمال المصادر القرآنية الأصيلة والاحتفاء بدراسات المستشرقين السالفة.
يبدو أن من أخطاء منهج المستشرقين في اعتماد مصادر ومراجع معينة تعمُّد عدم الاكتراث بموثوقيتها وأولوية بعضها؛ لهذا نجد أن المستشرق الذي يسعى إلى فرض فكرة معينة وتكريسها لا يلقي بالا إلى المصادر التي ترمي مضامينها إلى ما يذهب إليه ، وهو يعمد في الغالب إلى تقديم كتب ثانوية وغير موثوقة على ما هو معروف من كتب موثوقة , وهذا المنهج الخاطئ كفيل بأن يؤدي إلى نتائج مغلوطة وخاطئة ,ويبدو أن من أعظم أخطاء هذا المنهج المتمثل في عدم ترتيب المصادر حسب موثوقيتها وقيمتها هو تقديم كتب المستشرقين على غيرها من كتب العلماء المسلمين الأوائل في نقل الروايات، والنصوص القديمة.

المنهج الثالث : منهج الأثر والتأثر
هذا المنهج يعني الأخذ بالنَّزعة التأثيرية، وهي نزعة دراسية يأخذ بها معظم المستشرقين الذين اعتادوا رد كل عناصر منظومة الإسلام بعد تجزئتها إلى اليهودية والنصرانية.
لقد كان المستشرقون القدامى أكثر اهتماماً بهذه النـزعة في كتاباتهم، حتى إن أحدهم وهو اليهودي أبراهام غايغر أصدر عام 1833م كتابا يحمل عنوانا مثيرا هو: ((ماذا أخذ القرآن عن اليهودية؟)) وقد كان هذا الكتاب إيذاناً ببداية حقبة جديدة في البحث الاستشراقي تهدف إلى التنقيب عن كل ما قد يبدو للمستشرقين في القرآن منقولاً ومستقى من اليهودية، وقد أقبلت أبحاث هؤلاء تفكك مضامين القرآن الكريم؛ لتردها إلى عناصر توراتية _ يهودية مزعومة.
ومما لاشك فيه أن الأحكام التعسفية المرتبطة بهذا المنهج تكون حاضرة في كتابات المستشرقين كلما وجد تشابه بين الموضوعات القرآنية والموضوعات المبثوثة في الإنجيل أو التوراة. وهكذا تكون القصص القرآنية مأخوذة _ في زعمهم _ عن القصص اليهودية والنصرانية. ويذهب بعض المستشرقين إلى أن كثيراً من الأعلام الواردة في القرآن ذات أصل عبراني، حتى إن أحدهم وهو المستشرق الفرنسي اليهودي أندري شوراكي قد أصدر منذ أكثر من عشر سنوات ترجمة لمعاني القرآن انتقدها المستشرقون قبل غيرهم من المسلمين، وقد احتفظ فيها بالأصول العربية لبعض الألفاظ من غير ترجمة؛ إمعاناً منه في بيان أصلها العبراني كما يزعم .
كما أنه يعطي كثيراً من الألفاظ القرآنية دلالات غريبة باللغة الفرنسية، وعند البحث العميق يتبين أن الرجل يريد القفز على المعاني المعروفة والمتداولة - والتي اتفق عليها مترجموا معاني القرآن - إلى معان شاذة هي في الأصل إحدى المعاني اللغوية لأصل اللفظة، لكن لا يصلح استعمالها لكي تؤدي وظيفة الترجمة المناسبة للفظة القرآنية.
هذا المنهج الذي يجعل القرآن متأثراً ومقتبساً من التوراة والإنجيل، ينفي بطبيعة الحال كل أصالة للدين الإسلامي ولربانية المصدر القرآني. والمستشرقون عندما يطبقون هذا المنهج على القرآن فإنهم يرجعون أسسه ومبادئه ومضامينه إلى أصول يهودية ونصرانية.
إن تشبع المستشرقين بمنهج الأثر والتأثر راجع إلى كون هذا المنهج قد طبق بصورة صارمة في بيئتهم، ذلك أن النهضة الأوروبية قد تأسست على الحضارة اليونانية التي تعدُّ الميراث القديم للفكر الغربي، وهكذا كلما أنشئ مذهب فكري وديني جديد وجد له نظير في الحضارة اليونانية القديمة، ومن خلال هذا تم تطبيق هذا المنهج على كل معطيات التراث الإسلامي ومنها حقل القرآنيات، وذلك من غير اكتراث بأصالة التراث الإسلامي ذي الأصول والأسس الواضحة المؤسسة على معايير دينية أصيلة، مستمدة مباشرة من الوحي الإلهي المنَزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم  ) .

المنهج الرابع : المنهج الافتراضي .
إذا كان المستشرقون في منهجهم التشكيكي في الوقائع القطعية يشككون-كما سبق أن رأينا- فيما هو أدنى إلى الصدق، فإنهم في أخذهم بالمنهج الافتراضي يصدقون ما هو أدنى وأقرب إلى الكذب.
ولعل أبرز حقل قرآني مارس فيه المستشرقون هذا المنهج هو ما تعلق بترتيب الآيات والسور في القرآن، إذ نجد معظم المستشرقين قد أبدوا في مسألة ترتيب الآيات على وجه الخصوص موقفاً مخالفاً لما هو مقرر لدى المسلمين من كون ترتيب الآيات أمراً توقيفياً لا خلاف فيه فهم إذن، وانطلاقاً من منهجهم التاريخي الذي يفترض ترتيباً منطقياً يقبله العقل البشري، حاولوا افتراض ترتيبات جديدة يحكمها الهوى المجرد، وهذا الترتيب الجديد الذي قادهم إليه سلوكهم للمنهج التاريخي قد علق عليه المستشرقون أخطر النتائج في حقل القرآنيات، واتخذوه أكبر مدخل للطعن في صحة القرآن، وتضارُب أحكامه وخضوعه إلى الظروف الزمانية والمكانية.
فالمستشرق الانجليزي آرثر جفري يأتي مثلاً بفرضية حول سورة الجن فيقول: ((إن الآيات الخاتمة للسورة تختلف كثيراً في الشكل والأسلوب، وتظهر وكأنها قطعة غريبة وضعها جامعوا القرآن أو كتبته)) .
فجفري يريد أن يؤكد للقارئ وجود اختلاف وعدم تناسب وتناسق بين الآيات الخاتمة (يرمي بدون شك إلى الآيات 19 فما بعدها من السورة) والتي قبلها من خلال التلميح _ بشكل عرضي وكأنه أمر طبيعي _ إلى أن كتبة الوحي هم الذين أضافوا المقطع الذي لا يتناسب –حسب زعم جفري - مع الآيات السابقة، وهذه طريقة معروفة لدى المستشرقين في مخاطبة قرائهم.
ولو رجع جفري إلى كتب التفسير، وكتب علم التناسب القرآني؛ لتبين له أن لاضطراب ولا اختلاف بين طرفي السورة .
وهذا رودويل الذي انطلق من كون الآيات التي نزلت مع أول الوحي تتسم بالقصر قد حاول أن يضع على أساسها ترتيباً جديداً للسور المختلفة، فنراه مثلاً يعلق على سورة الملك بقوله: (من الواضح أن الآيات من (8) إلى (11) قد نزلت متأخرة عن بقية السورة، ثم ألحقت بها؛ لأن كلاً منها أطول من بقية آيات السورة) .
ويستعمل المستشرق الفرنسي أنري ماسيه مصطلح ( الافتراض ) حين ينسب لعثمان بن عفان رضي الله عنه هدفاً سياسياً صبا إليه وهو يأمر بجمع القرآن، فيقول: ( يمكن الافتراض أنه كان لعثمان هدف سياسي بعمله هذا يعادل الهدف الديني، فقد وصل إلى الخلافة بجهد، وكان أن عَزَّز مركزه بإقراره نصاً لا يتغير للكتاب المقدس ).
ويكفي للرد على افتراضاتهم أنه إذا كانت تلك الآيات لم تنْزل في الوقت الذي أنزلت فيه بقية السورة، فما هو إلا دليل صريح على أن ما جـاء في المصحف من ترتيب للآيات على غير الترتيب التنْزيلي إنما هو من عند الله الحكيم الخبير، وكفى.
ولا شك أن الردَّ على مثل هذه الافتراضات والتصورات لا يحتاج إلى جهد كبير، ولاسيما أنها قد بلغت من الشذوذ إلى حد إنكارها واستغرابها من قبل المستشرقين قبل غيرهم من المسلمين. فكفى الله المؤمنين القتال .
إن مما لا شك فيه أن للمستشرقين في كل موضوع من موضوعات القرآن التي يناقشونها ويدرسونها هدفاً وغاية يدور فلكها حول الهدف الأكبر الذي هو إثبات بشرية القرآن بكل الوسائل. وإزاء موضوع ترتيب آيات وسور القرآن الكريم ، يتضح أن هدفهم من افتراض ترتيبات جديدة ومحاولات مبتكرة على بساط البحث والدرس يرمي إلى إظهار التناقض المزعوم في القرآن سواء من حيث الموضوع أو من حيث الأسلوب.

المنهج الخامس : المنهج الاسقاطي
عند دراسة القرآن الكريم وعلومه , مارس المستشرقون عملية الإسقاط متأثرين بخلفياتهم العقدية وموروثاتهم الفكرية , ومندفعين بدافع نفسي يهدف الى رمي القرآن الكريم بما ثبت في حق كتبهم المقدسة ودياناتهم المحرفة , محاولين بذلك الانتقاص من قدر هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . وقد حاول الباحث تصنيف هذه العلميات الإسقاطية على القرآن الكريم وعلومه من قبل أساتذة الغرب بالنظر إليها من زاويتين :
الأولى : بالنظر الى موضوعاتها .ويمكن تصنيفها الى الموضوعات الاتية :
1- إسقاط المفاهيم الاستشراقية على التعريف بالقرآن الكريم .
1- إسقاط المفاهيم الاستشراقية على تاريخ القرآن الكريم .
2- إسقاط المفاهيم الاستشراقية على العقائد القرآنية .
3- إسقاط المفاهيم الاستشراقية على الشرائع القرآنية .
الثانية : بالنظر الى منطلقاتها المذهبية .ويمكن تصنيفها الى المنطلقات الآتية :
1- المنطلقات الدينية : وتشمل المفاهيم اليهودية والمفاهيم النصرانية .
2- المنطلقات الفكرية : وتشمل المفاهيم المادية والمفاهيم الصوفية .
وجدير بالذكر ان عمليات الإسقاط في الجانب العقدي نالت اهتمام الأساتذة الغربيون بما لديهم من حيل إسقاطية , محاولين بذلك تشويهها أو تحريفها . لكن وعد الله ان يتم نوره ولو كره الكافرون .
المنهج السادس: التركيز على المرحلة التأسيسية للحقل القرآني
إن من أبرز ما تميز به الاستشراق المعاصر عن الاستشراق القديم اهتمامه بشكل دقيق ومفصل بالمرحلة التأسيسية للعلوم القرآنية وعلى رأسها علم التفسير، فبعد الاهتمام البالغ بمراحل جمع القرآن وتكوين مصحف إمام، أخذ الاهتمام الاستشراقي يتوجه إلى بحث البدايات الأولى لظهور علم التفسير مع جيلي الصحابة والتابعين، ويبدو الهدف الرئيسي من كل ذلك تحطيم أسس العلوم القرآنية وركائزها المتمثلة في المرويات المتصلة بالصحابة والتابعين؛ قصدَ الخلوص إلى نتيجة مفادها أن التراث التفسيري لم يدون إلا في مرحلة متأخرة عن العصور الأولى. وقد نهج المستشرقون في كل ذلك طرائق عدة تمثلت في التشكيك في الروايات الصحيحة والتقليل من أهمية أعلام علم التفسير ومكانتهم، كابن عباس ومجاهد، ورواد الجمع القرآني، كزيد بن ثابت وأبي بكر وعثمان رضي الله عنهم.
لقد تبين لهؤلاء المستشرقين أن العلوم الإسلامية وعلى رأسها العلوم القرآنية قد استوت معالمها ومرتكزاتها على أساس وبناء صَرح المرحلة التأسيسية في عهد الصحابة والتابعين؛ من أجل ذلك تفتقت أذهان القوم على التفكير في إعادة بحث ودراسة تلك المرحلة التي يرتكز عليها تاريخ القرآن بكل أطواره بصورة تهدف إلى تحطيم أسسها وإثارة مختلف الشبهات حولها.
أما فيما يتعلق بجمع القرآن فإن المستشرقين المعاصرين لم يتركوا مرحلة من مراحله الثلاث إلا ونسجوا حولها سياجاً من الافتراءات، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يجمع القرآن في مصحف؛ لأنه لم يكن يفكر إلا في الحاضر، ولأنه أيضاً كان يتوقع قرب قيام الساعة فلا داعي إذاً لجمعه ، وزيد بن ثابت (رضي الله عنه) لم يكن ذلكم الرجل المؤهل والموثوق بأمانته في مهمة جمع القرآن في عهد أبي بكر (رضي الله عنه)، ومصاحف الصحابة الخاصة التي انفردوا فيها بقراءات شاذة كانت أكبر دليل على عدم تواتر القرآن وموثوقيته إلى غير ذلك من الشبهات .
أما ما وُجِّه إلى زيد بن ثابت من اتهام فلا أساس له من الصحة، إذ لا يخفى مدى ما بلغه من الثقة والضبط منذ أن كان كاتباً للوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن توفي رضي الله عنه عام (45ه)، وقد شهد كثير من الصحابة بفضله وجلالة قدره.
وعلاوة على ذلك فإن زيداً رضي الله عنه قد شهد العرضة الأخيرة للقرآن في حياته صلى الله عليه وسلم، كما أنه كان من أشهر الصحابة إتقاناً لحفظ القرآن ووعياً لحروفه وأداءً لقراءاته. أما مصاحف الصحابة الخاصة فقد كانت مخالفة لسواد المصاحف التي أجمعت عليها الأمة خلال الجمع العثماني، وكان أصحابها واعين لتلك القراءات الشاذة والتفسيرات المدرجة .

المنهج السابع: منهج النفي
يعد هذا المنهج معلماً بارزاً في كثير من أبحاث المستشرقين التي تتناول المرويات الصحيحة المرتبطة بالدراسات القرآنية وعلوم القرآن على وجه الخصوص، ثم إنهم ينفون العديد من الروايات لهذا السبب أو ذاك، بينما نجدهم يتشبثون –بالمقابل- بكل ما هو ضعيف شاذ، ويشير أحد أبناء جلدتهم وهو المستشرق الفرنسي إميل درمنغهم إلى هذا الأمر قائلاً: "من المؤسف حقاً أن يكون قد غالى بعض هؤلاء المتخصصين من أمثال موير ومرجليوت ونولدكه وسبرنجر ودوزي وغريم وجولدزيهر وغيرهم في النقد أحياناً، فلم تزل كتبهم عامل هدم ونفي على الخصوص، ولا تزال النتائج التي انتهى إليها المستشرقون سلبية ناقصة...."
إن منهج النفي يهدف إلى نفي الحقائق القرآنية والوقائع التاريخية المرتبطة بنُزوله وجمعه وغير ذلك، ويتم ذلك من خلال إثارة الشكوك والمبالغة في النقد إلى حد الإلغاء والنفي الكيفي لكل ما يتعارض مع وجهات النظر الاستشراقية.
فهذا سبرنجر مثلاً يرى أن اسم النبي ( صلى الله عليه وسلم  ) قد ورد في أربع سور من القرآن هي آل عمران والأحزاب ومحمد والفتح، وهي جميعها سور مدنية، ومن ثم فإن لفظة (محمد) لم تكن اسم علم للرسول قبل الهجرة. وبهذا ينفي ويُلْغي بسهولة كل الروايات التاريخية والسنن المأثورة التي ورد فيها ذكر اسم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في الفترة المكية، لا لشيء إلا لكون الاسم لم يرد في القرآن المكي ، ومعلوم أن كثيراً من المستشرقين ينفون أحداثاً ووقائع معينة من السيرة النبوية ما دامت لم ترد في القرآن الكريم، وكأن القرآن كتاب تاريخي خاص بتفاصيل حياة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا ما مكنهم من عملية انتقاء متعسفة ذات طابع هدمي وإقصائي يرمي إلى نفي كل رواية أو واقعة لا يرد ذكرها أو الإشارة إليها في القرآن الكريم.
من جهة أخرى يعمد كثير من المستشرقين إلى تجاوز ونفي الوقائع التاريخية المرتبطة بعلوم القرآن والتي أجمع عليها علماء الإسلام وذلك من خلال اقتناص وتصيد روايات ضعيفة ومنقطعة وبناء أحكام باطلة عليها، ولا شك أن الوقوف عند الروايات الضعيفة التي لا تتفق مع الروايات والوقائع الصحيحة يكون مدعاة لنفي ونقض ما هو صحيح وثابت أو إدخال الشك والارتياب _ على الأقل _ في النفوس من خلال المبالغة في نقد الصحيح إلى حد إلغائه ونفيه.
ومما يدلُّ على ذلك إثارتهم الخلاف حول أول من جمع القرآن، وذلك بالاستناد إلى روايات منقطعة . وقد يعمدون إلى ضرب بعض الروايات ببعض؛ قصد كشف تناقضها وتعارضها حسب زعمهم، وبالتالي التشكيك في مصداقية النص القرآني. وفي سبيل ذلك يستند المستشرقون إلى بعض الأحاديث الضعيفة من أجل استنتاج كون القرآن قد سقطت منه بعض الآيات أثناء كتابته وجمعه ، وقد يسعون إلى إحداث نوع من البلبلة والتشويش من خلال استعراض مختلف الروايات الضعيفة في الموضوع الواحد كما هو الشـأن في أول من جمـع القرآن . ولا شك أن كثرة اعتماد ورجوع بعض المستشرقين أمثال نولدكه , وبلاشير , وولش , إلى الكتب التي تَعُج بالروايات الضعيفة والمنقطعة والمتناقضة ، تبين لنا طبيعة المنهج المسلوك لدى المستشرقين الذي يتجلى في تصيّد ما يخدم آراءهم ؛ من أجل نفي ما هو صحيح ومجمَع عليه.

ترجمة لبعض المستشرقين ممن عنوا بدراسة القرآن الكريم :
1- ثيودور نولدكه (1836 - 1930) يعد شيخ المستشرقين الألمان. ولد عام 1836 في هامبورغ، أتقن العربية، العبرية، والسريانية. درس في غوتنغن وفيينا وبرلين وليدن. حصل على الدكتوراه عام 1856م وهو في سن العشرين عن تاريخ القرآن. عين مدرساً للتاريخ الإسلامي في جامعة جوتنجن عام 1861. وأستاذ التوراة واللغات السامية في كييل عام 1864. توفي عام 1930م , من تلامذته :كارل بروكلمان .
أبرز مؤلفاته : (تاريخ القرآن ) في ثلاثة أجزاء . و ( تاريخ الشعوب السامية ) . و ( هل كان لمحمد معلمون نصارى؟ ) . ( وتراجم المسلمين ) . كما عاون شبرنجر في كتابه (سيرة محمد) .

2- آرثر جفري ( 1310 - 1379 ه‍ / 1892 - 1959 م ) هو مستشرق أسترالي.
من مؤلفاته : ( مصادر تاريخ القرآن ) صدر بالإنجليزية في سنة 1937 م. و ( الكلمات الدخيلة في القرآن ) صدر بالإنجليزية . و ( القرآن ككتاب ديني ) صدر بالإنجليزية في سنة 1952 م.

3- توماس اكوي ناس ، القديس توما الإكويني (1225 - 1274 م) كان كاهن دومينيكان و فيلسوف و لاهوتي إيطالي من الكنيسة الكاثوليكية يعتبر ممثل للفلسفة الاسكولائية . من أشهر تلاميذ البرت الكبير في باريس ، وذهب وراء كولون في سنة 1248 و رجع الى باريس وبقي استاذا في اللاهوت . عارض الفلسفة اللاتينية و قضى اخر ايام حياته في نابولي.
يمتاز مذهب توماس الإكويني بالتفريق بين الفلسفة و اللاهوت حيث انه كان يعتبر أن الفلسفة تعتمد على العقل وحده لكن اللاهوت يعول على الوحى من غير انكار للعقل ، وبهذه الطريقة قرب بين الفلسفة و الدين. يثق بالعقل الذي يستطيع أن يبرهن على وجود الاله و صفاته و يوصل للمعرفة اليقينية. استعان بأفكار ارسطو و افلاطون و ابن رشد لأنهم عنده كانوا يعتمدون على العقل السليم .له مؤلفات كثيرة تتناول الفلسفة و اللاهوت و فسر معظم كتب ارسطو وشرح اجزاء من الكتاب المقدس و كتب في التربية و القانون. ولا زالت فلسفته حيه في التعليم الديني و عند طائفة من الفلاسفة المعاصرين مثل جيلسون و مارتيان.

4- إجناتس جولد سيهر (1850 - 1921 م ) مستشرق يهودي مجري .يعتبر على نطاق واسع بين مؤسسي الدراسات الإسلامية الحديثة في أوروبا. تلقى تعليمه في جامعة بودابست، برلين، لايدن بدعم وزير الثقافة الهنغاري. أصبح جامعيا في بودابست في عام ( 1872). في العام التالي تحت رعاية الحكومة الهنغارية ، بدأ رحلة عبر سوريا وفلسطين ومصر، واستغل الفرصة لحضور محاضرات المشايخ المسلمين في مسجد الازهر في مدينة القاهرة. وكان أول يهودي في العالم ليصبح استاذا في جامعة بودابست (1894)، وممثل الحكومة الهنغارية وأكاديمية العلوم في مؤتمرات دولية عديدة. أصبح عضوا في العديد من من الجمعيات في هنغاريا وغيرها ، عين أمينا للجالية اليهودية في بودابست.
أول مستشرق قام بمحاولة واسعة شاملة للتشكيك في الحديث النبوي كان المستشرق اليهودي "جولد سيهر" الذي يعده المستشرقون أعمق العارفين بالحديث النبوي. اْلف الكتب وكتب المقالات بهدف الطعن في السنة وليس البحث العلمي، ومكث سلطانه وسلطان مدرسته متسلطا على كثير من المستشرقين والذين ينتمون إلى هذا الدين . واعتبروا كتبه المرجع الأساس في دراساتهم للأحاديث والسنن ولم يخرج عن متابعته في كل ما قاله الا فئة قليلة جدا من المستشرقين المتأخرين عنه فقد تحرروا من متابعته وناقشوه في بعض ما قال ورأوا في أحكامه على السنة جورا وظلما.
وقد نقل عبد الحليم النجار كتاب «العقيدة والشريعة في الإسلام» لجولدتسيهر الى العربية.

5- أبراهام جيجر(1810 -1874 م) هو حَبْر يهودي ألماني تناول بالدراسة المشابه بين القرآن وبين الكتب المقدسة عند اليهود.

6- هنري ستوب : ولد هنري ستوب في انجلترا لرجل دين مسيحي بروتستانتي صاحب رأي ،فقد تمسك بعقيدة عدم وجوب تجديد العماد ومن ثم طرد من كنيسته وبلده .
لقد أثارت افتراءات المستشرقين شعور الدكتور هنري ستوب ،وأحرجت ضميره ،فانتدب نفسه للدفاع عن محمد (  ) وتبرئته من تشويهات وافتراءات القوم . وكم كان هذا الرجل شجاعاً إذ وقف ضد التيار الجارف في الغرب , لقد امتلأت روحه وعقله وضميره بالحرج أمام ركام الزيف من الخرافات والأساطير التي نسجها المسيحيون الغربيون حول الإسلام ورسوله ،وتوطنت عقول العامة والخاصة منهم ، وتجذرت في مشاعرهم ووجداناتهم حتى كادت أن تتميز كرهاً وخوفاً. فألف أول كتاب إنجليزي يدافع عن الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته ضد افتراءات المفترين , ويعد الوثيقة التاريخية الفريدة والنادرة التي ألفها د. هنري ستوب، أحد علماء القرن 17 م تحت عنوان (دفاع عن الرسول والإسلام)، وهو أول كتاب باللغة الإنجليزية، ولعله أول كتاب غربي قام بهذه المهمة النبيلة التي تفضح مواقف كثير من النصارى الأوروبيين من الإسلام ورسوله والذي خرج عن السياق النمطي المألوف الذي انزلق فيه كبار المستشرقين ، أمثال: دانتي وشكسبير وفولتير وغيرهم؛ لكن صاحبنا كان يتمتع بعقل حر وتفكير مستقل تمثل في كراهيته للتقليد والجمود وتجافيه عن التعصب الأعمى والانغلاق على الذات، ما دفعه للاعتراف بالآخر وتقديره بأمانة وموضوعية كما هو في الواقع المتعين وليس كما تهوى الأنفس ويمليه الظن السيئ فإن الظن لا يغني عن الحق شيئاً، فقد ألف كتابه في القرن (17) م، أي في عصر الجهالة في موقف الغرب من الإسلام.
ومما يؤسف له أن هذا الكتاب قد بقي ،لأمر ما ، مخطوطاً قرابة قرنين ونصف من الزمان ،إلى أن هيأ الله له نزيل لندن الهندي حافظ شيراني فقام على تحقيقه وتوثيقه ونشره في لندن سنة 1911،ثم أعادت تصويره مكتبة أكسفورد وكمبردج ونشرته دار Orientalia في لاهور سنة 1975م.


الخاتمة
وفي ختام هذا الجهد المتواضع من البحث والاستقراء تبين لي :
- ان الاستشراق بنشأته له جذور تاريخية تمتد الى عصر التدوين , وبالأحرى إلى عصر الترجمة في القرن الثاني والثالث الهجري , أما مسماه العلمي فقد رافق الحملات الصليبية في القرن الأول الميلادي .
- وأن المنهج الإستشراقي العام في دراسة تاريخ القرآن وعلومه يكاد يكون لا علميا ومفصولا عن سياق الموضوعية والحياد المطلوبيْن في كل بحث، وبالتالي في كل منهج علمي... ولقد بات من المألوف أن كل ما تعلق بالقرآن في دراساتهم لا يمكن الاعتداد به ؛ لأنه لا محالة محطم للمسلمات التي يجزم بها المسلمون ومشكك في البديهيات التي يؤمنون بها.
- كما تبين لي ان مناهج المستشرقين في دراسة القرآن الكريم تتمثل في :
1- منهج التشكيك فيما هو قطعي : والمبالغة في إثارة الشكوك حول الوقائع التاريخية , والروايات الصحيحة , واعتمدوا في ذلك على عملية الانتقاء بطريقة هادفة الى ما يصبون إليه من نتائج عكسية .
2- منهج الانتقاء في استعمال المصادر : وذلك من خلال اعتماد عدد معين ومحدود من مصنفات علوم القرآن دون غيرها، وانتقاء الرّوايات الضّعيفة والمنقطعة من مصادر علوم القرآن، وتوليد النّصوص والشّواهد بتصّيدها من كتب الأدب والتاريخ وغيرها، وإهمال المصادر القرآنية الأصيلة والاحتفاء بدراسات المستشرقين السالفة.
3- منهج الأثر والتأثر: الذي يعني ردّ كل عناصر منظومة الإسلام بعد تجزئتها إلى اليهودية والنّصرانية وهو ما يسميه المؤلف بالنزعة التأثيرية التي يأخذ بها معظم المستشرقين خطأَ.
4- المنهج الافتراضي : فإذا كان المستشرقون في منهجهم التشكيكي في الوقائع القطعية يشككون فيما هو أدنى إلى الصّدق , فإنهم في أخذهم بالمنهج الافتراضي يصدقون ما هو أدنى وأقرب إلى الكذب.
5- المنهج الإسقاطي : وهو تفسير الوقائع والنّصوص بإسقاط الواقع المعيش عليها. وهكذا تُفَسَّرُ تلك الوقائع وفق المشاعر الإنسانية الخاصة والانطباعات التي تتركها بيئة ثقافية معيّنة، فالمستشرق الباحث عندما يضع في ذهنه صورة معينة يحاول إسقاطها على صور ووقائع معينة يخضعها لما ارتضته مخيلته وانطباعاته.
6- منهج التركيز على المرحلة التأسيسية للحقل القرآني : أي مرحلة تأسيس علوم القرآن وفي مقدمتها علم التفسير، فهم يحاولون إعادة بحث ودراسة تلك المرحلة التي يرتكز عليها تاريخ القرآن بكل أطواره بصورة تهدف إلى تحطيم أسسها وإثارة مختلف الشبهات حولها.
7- منهج النفي : الذي يعتبر معلما بارزا في كثير من أبحاث المستشرقين التي تتناول المرويات الصّحيحة المرتبطة بالدراسات القرآنية وعلوم القرآن على وجه الخصوص. إنّهم ينفون العديد من الروايات والمأثورات لهذا السبب أو ذاك، بينما نجدهم يتشبثون بالمقابل بكل ما هو ضعيف شاذ.
هذا فما كان من صواب فبتوفيق من الله وحده , وما كان من خطأ فمن نفسي والشيطان
وأستغفر الله على ذلك .
وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على سيدنا محمد ما تنزلت رحماته على الرحماء ,وعصفت الشقاوة بالطغاة فقصموا وعادوا أصاغر, وما تعاقب الليل والنهار ,وما خفقت أعلام لا إله إلا الله في المحافل ,وما صعدت في السماء ( الله أكبر ) من المآذن ,وساد الأمن والإيمان , والطمأنينة والرخاء , بتحكيم شرع الله في القرى , والهجر , والفلوات , وفي المدائن .

المراجع
1- آليات المنهج الاستشراقي في الدراسات الإسلامية – د. جسن عزوزي – نسخة إلكترونية .
2- الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية – قاسم السامرائي – الطبعة الأولى – ( 1983 ) .
3- الاستشراق ومناهجه في الدراسات الإسلامية – أ.د. سعدون الساموك – دار المناهج - الطبعة الأولى – ( 1431 – 2010 ) .
4- إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث – مالك بن نبي – دار الإرشاد – بيروت – الطبعة الأولى – ( 1388 – 1969 ) .
5- الفهم الاستشراقي في الدراسات الإسلامية – د. حسن عزوزي – نسخة إلكترونية .
6- القاموس المحيط – مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي – دار المعرفة – بيروت – الطبعة الثالثة – ( 1429 – 2008 ) .
7- لسان العرب – الامام العلامة ابن منظور – دار الحديث – القاهرة – المجلد الثامن – ( 1423 – 2003 ) .
8- المبشرون والمستشرقون في موقفهم من الإسلام – أ.د. محمد البهي – مطبعة الأزهر – نسخة إلكترونية .
9- المستشرقون والقرآن , دراسة نقدية لمناهج المستشرقين – عمر لطفي العالم – مركز دراسات العالم الإسلامي – الطبعة الأولى – ( 1991 ) .
10- المستشرقون والقرآن الكريم – بحث للدكتور إسحاق بن عبدالله السعدي –عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام – على موقع ملتقى أهل التفسير على الرابط :
11- مناهج المستشرقين البحثية في القرآن الكريم – د. حسن عزوزي – نسخة إلكترونية .
12- منهج الإسقاط في الدراسات القرآنية عند المستشرقين – محمد عامر عبد الحميد مظاهري – نسخة إلكترونية .
 
عودة
أعلى