"المستشرقون الجُدُد"دانيال بايِبْس وبقية أفراد العصابة د. إبراهيم عوض

طارق منينة

New member
إنضم
19/07/2010
المشاركات
6,330
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
"المستشرقون الجُدُد"
دانيال بايِبْس وبقية أفراد العصابة
د. إبراهيم عوض

صدر هذا العام (2007م) عن الدار المصرية اللبنانية للدكتور مصطفى عبد الغنى (المحرر الأدبى بجريدة "الأهرام" المصرية) كتاب بعنوان "المستشرقون الجدد- دراسة فى مراكز الأبحاث الغربية" يقع فى نحو 150 صفحة بما فيها الملاحق الإنجليزية التى نشرها فى نهايته، واستغرقت حَوَالَىْ خمسٍ وأربعين من تلك الصفحات. وفى هذا الكتاب يتناول الدكتور عبد الغنى ما يراه ظاهرة طارئة فى عالم الاستشراق، ألا وهى تحول المستشرق التقليدى إلى خبير فى مراكز البحث التى تعتمد عليها الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، فى رسم سياساتها تجاه العالم العربى والإسلامى. والمقصود بـ"مركز البحث" ما تكررت إشارة المؤلف إليه باسمه فى الإنجليزية: "a think tank"، وهو مصطلح كان يعنى فى أوائل القرن الماضى: "الذهن"، ثم تطور معناه منذ أواسط ذلك القرن فأصبح يعنى ما يمكن أن نسميه بـ"صهاريج الفكر"، على أساس أن معنى "tank" هو الصهريج أو الخزان الكبير الذى نودع فيه ما نحتاج إليه من ماء أو نفط أو ما إلى ذلك. والمقصود "مؤسسات البحث"، أو "المراكز البحثية" كما ورد فى كتاب الأستاذ المؤلف حسبما نوّهنا قبل قليل، وهى مؤسسات تلجأ إليها بعض الحكومات والهيئات للاسترشاد بما يمكن أن تمدها به من أفكار وأبحاث وتحليلات وتوقعات واقتراحات فى حل ما يواجهها من مشاكل أو فى رسم ما يتعين عليها انتهاجه من سياسات وخطط فى المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية الهامة، وإن كان المؤلف قد ترجم ذلك المصطلح أحيانا بـ"دبابات الفكر" لـَمْحًا منه لدور تلك المراكز المدمر بالنسبة للدول الصغيرة التى كُتِب عليها الاكتواء بنار السياسة المبنية فى ضوء ما يبديه العاملون فيها من أفكار واقتراحات مجرمة ظالمة. ومعروف أن كلمة "tank" تعنى، فيما تعنيه، "الدبابة"، وإن كان الأصل فيها هو المعنى الأول. وإلى القارئ حصادَ ما تقوله خمسة من المعاجم الإنجليزية شرحا لمعنى ذلك التعبير، الذى قد يُسْتَعْمَل بدلا منه تعبير مشابه هو: "a think factory":
1- a research institute or organization employed to solve complex problems or predict or plan future developments, as in military, political, or social areas. Also called think factory (Dictionary.com Unabridged).
2- A group or an institution organized for intensive research and solving of problems, especially in the areas of technology, social or political strategy, or armament (American Heritage Dictionary).
3- a company that does research for hire and issues reports on the implications (WordNet).
4- or organization dedicated to problem-solving and research, especially in such areas as technology, social or political strategy, and the military. For example, The congressional leaders rely too heavily on that conservative think tank. This term originated about 1900 as a facetious colloquialism for brain and was given its new meaning about 1950 (American Heritage Dictionary of Idioms by Christine Ammer).
5- An institution in which scholars pursue research in public policy. Largely funded by endowments and grants, think tanks work to improve public awareness of policy issues (through publications) and to influence the government to act upon issues of national importance (American Heritage New Dictionary of Cultural Literacy, Third Edition).

وفى دائرة المعارف المشباكية: "الويكيبيديا: wikipaedia" نقرأ تحت ذات العنوان:
"A think tank is an organization, institute, corporation, or group that conducts research, typically funded by governmental and commercial clients, in the areas of social or political strategy, technology, and armament.
History of think tanks:
Since "think tank" is a term that has only found use since the 1950s, there is still some debate over what constitutes the first think tank. One candidate is the Fabian Society of Britain, founded in 1884 to promote gradual social change. The Brookings Institution, founded in the US in 1916 is another candidate for the first think tank. The term think tank itself, however, was originally used in reference to organizations that offered military advice, most notably the RAND Corporation, formed originally in 1946 as an offshoot of Douglas Aircraft and which became an independent corporation in 1948.
Until around 1970, there were no more than several dozen think tanks, mostly focused on offering non-partisan policy and military advice to the United States government, and generally with large staffs and research budgets. After 1970, the number of think tanks exploded, as many smaller new think tanks were formed to express various partisan, political, and ideological views.
Etymology and usage:
Until the 1940s, most think tanks were known only by the name of the institution. During the Second World War, think tanks were referred to as "brain boxes" after the slang term for the skull. The phrase "think tank" in wartime American slang referred to rooms in which strategists discussed war planning. The first recorded use of the phrase to refer to modern think tanks was in 1959, and by the 1960s the term was commonly used to describe RAND and other groups assisting the armed forces. In recent times, the phrase "think tank" has become applied to a wide range of institutions, and there are no precise definitions of the term. Marketing or public relations organizations, especially of an international character, sometimes refer to themselves as think tanks, for example".
وقد تعرض كاتب المادة إلى أهم المراكز البحثية فى الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال واليونان وروسيا وبولندا وسويسرا والسويد والدانمارك والصين وهونج كونج وتركيا وإيران والبرازيل، ولكنه لم يتطرق إلى ذكر أى مركز عربى رغم وجود مثل تلك المراكز فى بلاد العرب بطبيعة الحال. لكن السؤال هو: هل يهتم صناع القرار السياسى والعسكرى والاقتصادى عندنا بالرجوع إلى تلك المراكز لاستطلاع آرائها والأخذ بما تقدمه من دراسات ومقترحات وحلول؟ أم هل ينظرون إليها نظرهم إلى قطعة أثاث جىء بها لمجرد الزينة والاستعراض ومجاراة الآخرين حتى لا يقال إننا متخلفون عنهم، بغض النظر عن إدراكنا لقيمتها واستفادتنا منها أو لا؟ وأغلب الظن من شواهد الحال أن الاحتمال الثانى هو الأقرب إلى الصواب، وهى ظاهرة مؤسفة، إذ معنى ذلك أن حكامنا لا يكتفون بإهمال رأى شعوبهم، بل لا يَرَوْن فى أنفسهم حاجة إلى استشارة العقول الكبيرة فى البلاد المنكوبة بهم، طبعا لاعتقادهم العميق فى أنهم مُلْهَمون يُوحَى إليهم بما ينبغى لرعاياهم من حلول وسياسات. وهذا هو السر فى أن الوزراء والمسؤولين الحكوميين فى بلادنا يقولون دائما، كلما نوَوْا أو تظاهروا بأنهم يهمون أن ينجزوا شيئا، إنهم يفعلون ذلك "بتوجيهات جلالة الملك أو سيادة الرئيس". ذلك أن حكامنا إنما خُلِقوا ليوجِّهوا شعوبهم ولا يحتاجون إلى من يستشيرونه فى شىء، إذ ما الحكمة من مثل تلك الاستشارة ما داموا يَتَلَقَّوْن الوحى من السماء مباشرة رغم أن النبى محمدا المتصل بالسماء حقا وصدقا كان حريصا على استشارة من حوله فى كل صغيرة وكبيرة؟ بل ما جدوى تلك الاستشارة إذا كان الشعب نفسه لا يهتم بشىء من ذلك، بل هو لا يقدّر أصلا هؤلاء الحكماء الذين ينبغى لحكّامه استشارتهم، لكنهم لا يفعلون، ولا يشعر لهم بأية قيمة أو فائدة؟ إن شعوبنا بوجه عام إنما تعيش فى مستوى غرائزها ولا تتطلع إلى ما هو أعلى من ذلك!
ولعله من المستحسن فى هذا السياق أن نورد ما قاله الكاتب الصحفى الأستاذ سلامة أحمد سلامة فى "أهرام" الخميس 3/ 5/ 2007م فى عموده اليومى: "من قريب" تحت عنوان "فساد البيزنس والسياسة"، إذ بعد أن تكلم عن تدخل رجال الأعمال بغشم وجهل فى أمور السياسة وتأثيرهم السئ فى إصدار القرارات قال: "غير أن تحالف السلطة والمال‏‏ ليس هو الوحيد‏،‏ فهناك تحالف يسانده‏‏ بين السلطة وفريق من المثقفين والبيروقراط من الخبراء وأساتذة الجامعات ومراكز الأبحاث يوظفون خبراتهم في تطويع القوانين وتقديم الأفكار‏،‏ ليس لتحقيق التقدم والدفع إلى الأمام‏،‏ ولكن لتبرير وتمرير القوانين‏‏ ووضع الخطط الكفيلة بالانتقال من التدبير في الخفاء إلى العلن والمواجهة‏، ومن طور البحث والطهي في الغرف المغلقة إلى طور العرض علي اللجان البرلمانية والقنوات الرسمية والإعلامية‏. أين يقف المثقف والمفكر من هذه المعضلة؟ وهل يستطيع أن يؤدي دوره في مجتمعه‏,‏ محتفظا بصفاء عقله وضميره‏‏ واستقلاليته‏،‏ يقول رأيه ويمضي دون انتظار لمكافأة أو ثناء؟ أم يخضع رأيه وموقفه لحساب المكسب والخسارة‏‏، وما تمليه عليه ضرورات الرزق والأمان الفردي والاجتماعي‏،‏ وما يلقاه من تقدير أو ازدراء‏،‏ خصوصا في مناخ القلق الاجتماعي والسياسي الراهن؟ هذه المعضلة ظلت تؤرق مضاجع المثقفين منذ أجيال‏.‏ وفي كل مرحلة من مراحل التحول السياسي والاجتماعي تتجدد المشكلة ويعاد طرح السؤال من جديد‏.‏ وفي المرحلة الحالية ازدادت الفجوة ودخلت إلى الحلبة فئات اعتادت أن تنأي بنفسها عن السياسة مثل القضاة والأطباء وأصحاب المهن الحرة وبدرجة أكبر أساتذة الجامعات‏.‏ وأصبح من الضروري أن يقرر كل فرد لنفسه ما يختار‏:‏ هل ينضم إلى منظومة السلطة ليصبح جزءا منها يركب الموج ويتخلي عن قناعاته‏،‏ أم يترك نفسه للذوبان في تشكيلات لا يملك فيها من أمره شيئا‏، أم يحافظ علي استقلالية رأيه ويحاول التأثير والتغيير في النظام والمجتمع دون أن ينعزل عن الواقع؟".
وعلى أية حال فالمعروف أن عددا من حكام العرب والمسلمين أميون أو يكادون أن يفكوا الخط فى أحسن الأحوال، وفى كل الأحوال لا يُعْرَف عن أى منهم أنه يقرأ شيئا. وعلى أية حال أيضا فإنهم لا يُدْنون منهم فى العادة إلا من يُسْمِعونهم الكلام المعسول وينافقونهم ولا يصدّعون أدمغتهم بالحقائق المرة التى تفقأ عين كل من عنده عين! ثم إنهم ضعفاء عاجزون أو شبه عاجزين أمام القوى الكبرى، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى هذا فحتى لو افترضنا المستحيل وقلنا إنهم يريدون الاستفادة من تلك المراكز وما فيها من خبراء فإن تلك القوى تجبرهم على نبذ هذه النية وتئدها لهم فى ضمائرهم قبل أن ترى النور، وتأمرهم بعمل ما تريد هى فيأتمرون دون أن يتنحنحوا مجرد نحنحة! وقد ذكر الدكتور مصطفى عبد الغنى من هذه المراكز مركز الشيخ زايد فى الإمارات، ذلك المركز الذى كان تابعا للجامعة العربية وأثار منذ قريب ضجة عالمية حين اتهمته الدوائر الغربية بتشجيع الإرهاب.
ولكى يكون القارئ معى فى الصورة سأنقل له ثلاثة نصوص لا غير مما عثرت عليه وأنا بصدد إعداد هذه السطور: فأما أولها فهذا البيان الذى وجدته فى واجهة موقع الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الرئبس الراحل لدولة الإمارات العربية المتحدة: "http://www.alshamsi.net/zayed/zayed_human.html"، وهو بعنوان "زايد وحقوق الإنسان": "اختصر الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان كافة القوانين والدساتير المتعلقة بحقوق الإنسان وتجاوزها فعلا بقرارات حكيمة ومبادرات طيبة وضعها من خلال نظرته الثاقبة وفكره المتوقد للحفاظ على أغلى ثروة يمتلكها الوطن. كما قال سموه دائما إن الإنسان هو أغلى ثروة يمتلكها الوطن. ومنذ البداية قطعت دولة الإمارات العربية المتحدة العهد على نفسها بألا تنمية بدون تنمية الإنسان أولا، ومن هنا كان مسعاها نحو العمل بكل جهد وإخلاص من أجل كفالة حقوق الإنسان وصيانة حريته ورفاهيته وتوفير كل السبل الممكنة للنهوض بقدراته نحو الأفضل، وهيأت كل المستلزمات التي تمكن من أن يكون هذا الإنسان في مقدمة خططها الآنية والمستقبلية، وسنت لهذا الغرض العديد من القوانين الدستورية والقوانين ذات الاختصاص من أجل ذلك الهدف.
وكان الهاجس الأول لصاحب السمو رئيس الدولة حفظه الله هو تنمية الإنسان، فكان دستور حمايته ورفاهيته وصيانة مكتسباته حاضرا في ذهنه منذ زمن بعيد، وقبل أن يوضع دستور مكتوب. فقد عمل وبكل تفان وإخلاص من أجل أن ينهض بهذا الشعب نحو العزة والوحدة، وكان إيمانه بالوحدة والسعي نحو تحقيقها هو الهدف الذي من أجله قاد الكفاح من أجل الإنسان لأنه أدرك منذ زمن بعيد بأن الوحدة قوة، والإنسان هو هدفها وغايتها. فالإنسان عند صاحب السمو رئيس الدولة هو أساس أي عملية حضارية حيث يقول إن الاهتمام بالإنسان ضروري لأنه محور كل تقدم حقيقي مستمر، فمهما أقمنا من مبانٍ ومنشآت ومدارس ومستشفيات، ومهما مددنا من جسور وأقمنا من زينات، فإن ذلك كله يظل كيانا ماديا لا روح فيه وغير قادر على الاستمرار. إن روح كل ذلك هو الإنسان القادر بفكره وفنه وإمكانياته على صيانة كل هذه المكتسبات والتقدم بها والنمو معها.
وأوضحت إحدى الدراسات الصادرة عن مركز الشيخ زايد للتنسيق والمتابعة أن دولة الإمارات العربية المتحدة هي من الدول التي آمنت أن أساس التنمية هو الإنسان، وبناء عليه سعت إلى كفالة حقوقه وحرياته وصاغت في سبيل ذلك العديد من القوانين الدستورية المشرعة لكل الحقوق والحريات، ودعمتها بالقوانين الوزارية، وسعت بكل ما تملك إلى وضع القوانين التي تحقق المصلحة العامة حيث سعى صاحب السمو رئيس الدولة منذ قيام اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة إلى أن يضع لهذه البلاد دستورا يعبر عن إيمانه بهذا الشعب ويعبر كذلك عن طموحاته الهائلة من أجل هذا الشعب وتأمين حقوقه المدنية والسياسية، ولم يغفل ذهنه المتوقد أي جانب من جوانب هذه الحقوق.
وقد جاء دستور دولة الإمارات العربية المتحدة معبرا حقيقيا عن كرامة هذا الإنسان، فقد حرم التعذيب والمعاملة القاسية احتراما لكيان هذا الإنسان، ورفض الاستعباد وفرض العمل بالقوة وحق الحرية والسلامة الشخصية والإقامة والانتقال وحق المساواة أمام القضاء وفق القانون. وأنصف دستور دولة الإمارات الإنسان أيما إنصاف، فقد كفل حريته الخاصة في المنزل والمراسلات والفكر والضمير والديانة والحق في الرأي والتعبير وحق العائلة في التمتع بالحماية في المجتمع والدولة والمساواة المطلقة أمام القانون، وحظر استبعاده عن بلاده ومصادرة أمواله وحقه في الجنسية والعقوبة الشخصية وحرية المسكن.
ومن أبرز ما جاء به دستور الإمارات في صيانة حقوق الإنسان استقلال القضاء وحق المواطن في مخاطبة السلطات العامة وحق تشكيل الجمعيات واحترام الملكية وحق اللجوء السياسي، ولم يغفل الدستور حقوق الطفل والمرأة، وأكد على العنصرين الاساسيين في الأسرة، وهما المرأة والطفل، وصيانة حقوقهما، ووفر كل السبل من أجل رعايتهما من مستشفيات ومدارس ورياض أطفال ومراكز رعاية الأسرة، وكفل حقوقهما في القانون الدستوري للدولة احتراما لمكانتهما في المجتمع وحب القائد لهما. وشملت أكثر من 23 مادة في الدستور الحريات الشخصية للإنسان، فضلا عن الحريات الفكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية. واعتبر الدستور أن المساواة والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص لجميع المواطنين والمواطنات من دعامات المجتمع الأساسية. كما نص الدستور على أن الاسرة هي أساس المجتمع، ويكفل القانون كيانها ويصونها ويحميها. وقد استعرضت الدراسة ما نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومفهوم حقوق الإنسان عالميا وإسلاميا وعربيا، وكذلك الآليات الإقليمية والدولية لحماية حقوق الإنسان والموقف العربي من العالمية والخصوصية في حقوق الإنسان. وأوضحت هذه الدراسة بالجداول والأرقام مقارنة بين الحقوق المدنية والسياسية الواردة في الدستور المؤقت لدولة الإمارات والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والتي تؤكد على أن تشريعات دولة الإمارات العربية المتحدة شاهدة على تقدم وتمدن هذه الدولة واحترامها لحقوق الإنسان وإطلاقها لهذه الحقوق والحريات وعدم تقييدها من خلال تبني وإقرار عدة ضمانات من أجل الإنسان وحقوقه وحرياته في مختلف المجالات وكافة الظروف. كما أكدت الدراسة على أن دولة الإمارات تعتبر من الدول العربية القليلة الملتزمة بتقديم تقرير سنوي لاجتماعات الاتفاقية الدولية المتعلقة بإزالة جميع أنواع التمييز العنصري والتفرقة العنصرية. وأكملت دولة الإمارات انضمامها الرسمي للعديد من الاتفاقيات الدولية كان آخرها الانضمام إلى الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل مطلع العام 1997، وشاركت بفعالية وإيجابية في الحوار الدولي لحقوق الإنسان من خلال المؤتمرات الدولية التي نظمتها الأمم المتحدة.
كما أنه لم تسجل تقارير المنظمات الدولية العربية والعالمية أي انتهاكات لحقوق الإنسان بالإمارات، ووثقت الدراسة لعدد من الاتفاقيات والعهود والوثائق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، ومنها وثيقة انضمام حكومة دولة الإمارات إلى اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل.
ومن الجدير بالذكر أن الدراسات التي يقدمها مركز زايد للتنسيق والمتابعة عن الإنسان وحقوقه في القانون الدولي تناولت عناوين بارزة هي على صلة بالواقع الدولي لحقوق الإنسان من أبرزها: حقوق الإنسان- ثوابت المبدأ ومتغيرات الزمن، والميثاق العربي لحقوق الإنسان، وحقوق الإنسان في الإسلام، وأيضا المصادر الحقيقية لحقوق الإنسان، وكذلك القانون الأساسي لمنظمة العفو الدولية، والاتفاقيات الدولية التخصصية في حقوق الإنسان، وكذلك الحماية الإقليمية لحقوق الإنسان، وغيرها من الدراسات العظيمة التي قدمها هذا المركز ومازال يقدمها في خدمة الإنسان والإنسانية (من دراسة أعدها مركز الشيخ زايد للتنسيق والمتابعة ونقلاً عن موقع جريدة الإتحاد على الإنترنت بتصرف)".
ولا يسع المرء حين ينتهى من ذلك الكلام إلا أن يتساءل: ترى ما جدوى إنشاء مثل ذلك المركز إذا كان الحاكم من حكامنا لا يحتاجه ولا يحتاج شيئا آخر غير ما تثمره عبقريته التى لم تلدها ولادة، أكرر: لم تلدها ولادة، نعم لم تلدها ولادة، لأنه ببساطة لا وجود لمثل تلك العبقرية ولا لأية موهبة بالمرة؟ ولا أظن أنه قد نُسِىَ بَعْدُ ذلك الحاكم العربى الذى أنفق واقفا فى واحد من مؤتمرات حرب الخليج الأولى (كأى تلميذ غبى بليد ثخين العقل غليظ الإحساس لا أمل فى أن يتطور من المرحلة الديناصورية إلى المرحلة الإنسانية) دقائق عصيبة بل قاتلة مرت كأنها دهر، وهو يحاول أن يتهجى بضع كلمات لا راحت ولا جاءت كتبوها له بحروف فى ضخامة الفيل كى يقرأها فى ذلك المؤتمر أمام عدسات التصوير التى يشاهدها العالم كله، وهو يتهته ويفأفئ ويبأبئ ويتأتئ ويمأمئ ويفسفس ويبسبس ويمسمس، ولا يتتعتع (رغم كل هذه التأتآت والبأبآت والمأمآت والفأفآت والفسفسات والبسبسات والمسمسات) من موضعه ولا فيمتو مليمتر واحد فى الساعة، وكانت فضيحة مدوية! وكنت، والله العظيم، وأنا أشاهد ما يجرى، أتمنى لو انشقت الأرض وبلعتنى، تعاطفا مع المسكين. وتساءلت: ألم يكن الرجل، بدلا من هذه الشحططة والمرمطة، قادرا على ارتجال كلمة من تلك الكلمات السخيفة التى يزعجنا بها حكامنا فى الفاضية والملآنة ويظل المذياع والمرناء يحرق بها أعصابنا أياما وليالى ويفقع مصاريننا ومرارتنا أيضا بالحديث عن اهتمام العالم كله: العلوى منه والسفلى، والظاهر والخفى، وعالم الجن وعالم الإنس وعالم الملائكة، وعالم الحيوانات والطيور والحشرات والزواحف والديناصورات المنقرضة من قبل أن نصطبح بخلقة هؤلاء العباقرة بملايين السنين، إن كان لنا أن نصدق علماء الأحياء وطبقات الأرض فى موضوع عمر الأرض، وكيف أن العالم أجمع لا يهنأ له نوم ولا يروق له بال، ولا يهدأ له بلبال، إلا إذا شنّف آذانه كل يوم عدة مرات لعدة أسابيع بسماع الكلمة العبقرية التى لم يمر لها مثيل من قبل ولن يجود الدهر بهذا المثيل مستقبلا؟ لكن يبدو أن المسكين أراد أن يثبت للغرب أنه واحد من أولئك الذين يستطيعون فك الخط، فلم ينجح للأسف فى ادعائه، بل لم يقيض له الله أن يحصل ولو على ملحق. ثم يقولون: مراكز بحثية فى العالم العربى! شىء لله يا مراكز!
نعم هناك مراكز بحثية فى العالم العربى، لكن الذى يستفيد منها هو الغرب والولايات المتحدة بوجه خاص، وهذه هى الحقيقة الناصعة، بل الحقيقة الوسخة التى لا يفلح فيها أومو ولا بِرْسِيل ولا أى منظف كَحْيان عَدْمان من منظفاتنا التى كُتِب عليها السوء والرداءة كأى عمل نمارسه وأية صناعة ننتجها، أما حكامنا فهم فى الغالب يديرون أمور حياتنا كما كان يفعل أى فلاحٍ فى كفر من الكفور المصرية أيام زمان حين يتربع على المصطبة، وهات يا فتاوى فى كل أمور الحياة، وهو لا يعرف الألف من كوز الذرة. ألم يقولوا فى المثل: سكة أبو زيد كلها مسالك؟ فحكامنا، والحمد لله، سالكون تمام التمام و"جِدْعان آخر مجدعة"، ويعجبونك جدا، ومقطِّعون السمكة وذيلها، ويفهمونها وهى طائرة، ولا يحتاجون لشىء اسمه المراكز البحثية التى لو كان لدينا ذرة صدق وإنصاف لبللناها وشربنا عصيرها على الريق كى نستفيد شيئا مما أنفقناه عليها ولا نخرج من المولد بلا حمّص.
وأحب، قبل أن أترك هذه النقطة، أن أقول لمن سينخرط الآن فى فاصل من النقد للرجل وأمثاله: إنه ليس وحده هكذا، بل معظمنا كذلك بدرجات متفاوتة، وما المدارس والمعاهد والجامعات وما يُنْفَق عليها من مليارات سوى واجهات زائفة لا تخفى وراءها علمًا ولا جِدًّا ولا اهتماما بشىء، وإنما هو الوقت نضيعه دون تحصيل علمٍ جِدّىٍّ أو تطهير عقلٍ حقيقىٍّ أو اكتساب مهارة جديدة. وكلنا نعرف هذا، لكننا لا نريد أن نُقِرّ به رسميا، فهنيئا لنا! وقس على التعليم الانتخابات والمجالس النيابية والتأمين الصحى... وهلم جرا.
وهنا أجد لزاما علىّ رغم هذا أن أشير إلى ما نبّه إليه الدكتور مصطفى عبد الغنى من أهمية مثل تلك المراكز بما تمثله من سمة إيجابية "لأية دولة تسعى إلى النهوض وتحافظ على مكتسباتها القومية بأدوات البحث ورموزه، خاصة فى بلادنا العربية بكل ما تواجهه الآن من مخاطر. ففى هذا القرن من الزمان الذى شهد تطورا هائلا فى مختلف الميادين والحقول عُرِفَتْ عمليات الاهتمام المعرفى وتبادل المعلومة والمعرفة والخبرة العلمية ضمن إطارٍ مؤسَّسِىٍّ دائم هو ما نطلق عليه اليوم: "مراكز البحوث والدراسات"، فأصبحت الشعوب والأمم والحضارات تتبادل معارفها وتحافظ على مميزاتها وخصائصها انطلاقا من وِرَش العلم البحثية المنتشرة فى أرجاء المجتمعات المتحضرة. كما أصبحت مراكز البحث وسيلة فُضْلَى لعرض الـمُنْجَز الفكرى والعلمى والحضارى لأية أمة من الأمم. ويمكن أن تلعب فى حالتنا، حالة الصراع العربى الإسرائيلى، دورا إيجابيا إذا أحسنّا التعامل معها وبها" (ص 10). وهذا كلام طيب، بيد أنه يتعلق بما ينبغى أن يكون لا بما هو كائن فى بلادنا فعلا، اللهم إلا إذا كان قصده استفادة المثقفين لا الحكام، إذ لا أظن أن حكامنا بحاجة إلى مثل تلك المراكز أصلا للسببين اللذين سبق ذكرهما.
أما النص الثانى الذى عثرت عليه وأنا أعد هذه الفقرات، وأحببت أن أقدمه للقارئ هنا، فهو المقال الذى قرأته منذ عدة ليالٍ فى صحيفة "المصريون" الضوئية، وهو عن مواعيد امتحانات الثانوية العامة فى آخر هذا العام. و سوف يتسم الكلام هذه المرة بالتواضع لأننا لن نتناول فيه حاكما عظيما ممن يفهمونها وهى طائرة ويأتون بالذئب والثعلب أيضا فوق البيعة، ومعه الأسد (نعم الأسد الذى يغنى له الأطفال: ملك الغابة، يا ملك الغابة. تلاعبنى ملك والاّ كتابة؟)، بل وزيرًا "كُلّشِنْكَانًا" لا يهشّ ولا ينشّ من "العشرة بمليم" كالليمون فى الأيام الخوالى، أيام أن كان الليمون بعد العصر لا ينباع، وعنوان المقال هو "بلد عشوائيات"، وتاريخه 25 إبريل 2007م، وكاتبه جمال سلطان. يقول المقال، أو كاتبه إذا أردتَ الدقة: "بابتسامته العفوية الجميلة ظهر لنا الدكتور يسري الجمل وزير التعليم قبل أسابيع وهو يزف لنا بشرى أن جدول امتحانات الثانوية العامة هذا العام سيكون وفق اختيار أولياء الأمور والطلاب وبما يناسب الجميع، وبالتالي تم طرح صيغة مقترحة للجدول لتلقي المقترحات. ثم بعد أن تم الحصول على الملاحظات والمقترحات خرج علينا الدكتور يسري بنفس الصورة الحلوة المبتسمة وهو يعلن بسعادة وفخر عن إصدار جدول امتحانات الثانوية العامة الجديد. وعمم الخبر مع صورته الجميلة على الصحف القومية والمستقلة، لكن يبدو أن "الحلو" لا يكتمل، فبعد أن تأهل الطلاب والطالبات نفسيا للجدول الجديد، حيث تتم عملية رياضية ذهنية مثيرة جدا للفروق الوقتية بين المادة وأختها، إذا بنا نفاجأ بمعالي الدكتور يسري يعلن بشكل عاجل إلغاء الجدول الذي تم اعتماده، وذلك، حسب قوله، بناءً على شكاوى من بعض أولياء الأمور. طبعا ليس أي أولياء أمور، وإنما هم من أولياء الأمور الذين يملكون حق "الفيتو" في هذا البلد المغلوب على أمره. ثم أكد معالي الوزير على أن الجدول "المعدل" تم تعديله بعد حوار عبر "الفيديو كونفرانس" بحيث يأخذ صيغته الأخيرة. ثم خرج الدكتور يسري بنفس صورته الحلوة المبتسمة ليزف بشرى صدور الجدول، وبالتالي تعميمه على مديريات التعليم التي وزعته على المدارس التي قامت بطبعه، ومن ثم توزيعه على الطلاب. وما إن بدأ الطلاب يستقرون نفسيا بعد هذا القلق والتوتر حتى فاجأ الدكتور يسري الجميع أمس بنفس صورته الحلوة المبتسمة وهي تعلن أنه، بكل أسف، أن الجدول "المعدَّل" الذي تم اعتماده لامتحانات الثانوية العامة وتعميمه على المديريات والمدارس والطلاب لن يصلح وتم إلغاؤه، حيث خرج عباقرة الوزارة، بدون مشورة أولياء الأمور هذه المرة، بجدول جديد، يا رب يكون الأخير، خلطوا فيه المواعيد وأربكوا ما استقر في وعي الطلاب وذهنهم من ترتيبات. وقالوا إن الجدول الجديد "المطور" تم وضعه بناء على ظروف انتخابات مجلس الشورى المقبلة، وكأن جهابذة الوزارة وجيش مستشاريها لم يكونوا يعرفون أن انتخابات الشورى ستكون في هذا التوقيت. والحقيقة أن الناس ما زالت في حيرة: هل هذا آخر كلام الوزير أم أنه سوف يخرج بعد عدة أيام لكي يفتح الباب من جديد للحوار و"الفيديو كونفرانس" أو أن يأتيه الوحي في النهاية من قيادة نافذة تطلب منه تعديل الجدول من جديد فيظهر لنا الجدول "المحسَّن"؟ هذا الذي حدث يكشف عن مدى العشوائية التي تدار بها البلد. موضوع الثانوية العامة مسألة ذات حضور طاغٍ في الأسرة المصرية، ولها أولوية قصوى على كثير من شؤون الحياة. وهذا في تصوري خطأ، وأسبابه متراكمة، والمسؤول عنه أكثر من طرف، سواء في الجهاز الإداري والتعليمي أو التوظيف السياسي الفِجّ للعملية التعليمية أو في وعي المجتمع نفسه. فإذا كان العبث يتم في مسألة بهذا القدر من الخطر والحساسية، وإذا كانت هذه العشوائية تتم في قضية لا تحتمل عشوائية أصلا لأن المناهج والسياسات لم تتغير من عدة سنوات فيما يخص الثانوية العامة، فكيف بنا في تعاملنا مع بقية شؤون البلد؟ أو بمعنى آخر: كيف يذهب خيالنا إلى مدى العشوائية التي تتم في الأمور الأخرى التي لا نراها ولا نتابعها إلا صدفة وبدون قصد؟ لك الله يا شعب مصر".
هذا، ولى تعليق سريع وتافه على المقال ملخَّصُه أننا كلنا تقريبا ذلك الوزير، فلا ينبغى أن نتصور أننا طاهرون بُرَءَاءُ وأنه هو وحده المعيب، بل الكل يتصرف عشوائيا كالوزير وأَزْفَت منه. كما أن الميت لا يستحق كل هذه الجنازة الحارة، فالطلبة فى الجامعة على سبيل المثال لا يتعلمون شيئا يستأهل، بل كل ما هنالك أنهم يحفظون بعض الملخصات آخر العام يُسْقَوْنَها سقيا بملعقة ملوثة من كوز قذر لينسَوْها تَوَّ خروجهم من الامتحان، ثم هم لا يعرفون كيف يكتبون جملة واحدة، لا أقول: سليمة، بل جملة لها معنى، أما الخط فحدث ولا حرج، فهو فى غالب الأحيان شىءٌ مقئٌّ لا يمت إلى الكتابة بصلة، ولا أدرى من أين تعلمه هؤلاء المعاتيه الرسميون. وبالمناسبة فالملخصات يكتبها لهم واحد منهم أو طالب فاشل عنده كَمٌّ من الجرأة بل الوقاحة يخيِّل له أنه قادر على تلخيص مواد ومقررات لا يفقه فيها شيئا لأنه من نفس العينة والسلالة التى منها سائر الطلاب، فمن أين يأتيه الفهم والتحصيل؟ إن هو إلا عَتَهٌ رسمى بشهادة مختومة بخاتم النسر، الذى اقترح أن يستعيضوا عنه بأبى فصادة حتى يوافق شَنٌّ طبقة، وكان الله يحب المحسنين، ويكره الكسالى الثرثارين! ووضْع الطلاب هنا كوضْع من تدعوه إلى أكلة نظيفة شهية فى مطعم فخم فيؤثر عليها شطائر الفول والبطاطس من عربة فى الشارع مربوطة إلى حمار يغسل صاحبها أطباقه فى جردل موضوع تحت فم الحمار وأنفه، فهو (أى الحمار، أو صاحب الحمار: لا فرق) يشمه ويعطس فيه ويشرب منه، فضلا عن أسراب الذباب والغبار والهباب الذى يحط على الطعام ويغرم بها صاحبنا غراما وانتقاما! ولكن ماذا تقول فى الذوق الفاسد والطبع المعوجّ؟ مرة أخرى: هنيئا لنا!
وأخيرا هذا هو النص الثالث الذى وعدت القراء به، وهو يعطينا فكرة عن أحد المستشارين المقربين إلى رئيس أكبر دولة عربية. يقول د. عماد عبد الرازق تحت هذا العنوان الجانبى: "أسامة الباز متلعثما تليفزيونيا- أول وآخر مرة!" من مقال منشور بجريدة "القدس العربى" اللندنية يوم السبت 30 مارس 2007م بعنوان "الأعمال الكاملة لانتحاري إرهابي مسيحي، والمتلعثم الرسمي باسم الحكومة المصرية يتلعثم": "لو كنت من رئاسة الجمهورية المصرية لاستصدرت حكما قضائيا بالحجر على د. أسامة الباز ومنعه منعا باتا من الظهور على شاشة التليفزيون، أي تليفزيون، محلي أو عربي أو حتي يبث في كوكب عطارد. من أجل هذا الرجل المخضرم في عالم السياسة يجب استحداث منصب جديد خصيصا أقترح تسميته: "المتلعثم الرسمي"، وهو تنويع على وظيفة المتحدث الرسمي. لقد شاهدت الدكتور الباز ضيفا على برنامج "اليوم السابع" وكادت الدموع أن تفر من عيني حزنا وكمدا عليه. فما رأيت رجلا قط في مثل هذا الحيص بيص وهو يرد علي أسئلة محمود سعد. واحد من أكثر المذيعين المصريين لزوجة ومطاطية، فهو المترفق دوما، الحنون للغاية علي ضيوفه، تأخذه الشفقة بهم حتي تخاله سيركع أمامهم ويقبل أياديهم طلبا للصفح والمغفرة إذا ما تسبب أحد أسئلته في إحراجهم أو إزعاجهم أو أي شبهة من هذا القبيل. ولهذا أيضا تجده يسبغ عليهم من كرم الضيافة أطنانا من عبارات المديح والإطراء. يتحسس طريقه نحو الأسئلة بعد أن يخففها ويهندمها ويهذبها ويقلمها ويشذبها، ويطعمها بجمل وعبارات اعتراضية واستطرادية من قبيل: "علي سبيل المثال" أو "لنفترض جدلا أو لنتخيل، و أنا لا أقول إنك قلت كذا أو فعلت كيت"... وهكذا إلى أن يبعد جميع الشبهات والشكوك والايحاءات عن فحوى السؤال حتي يصير مائعا ساقعا لا طعم له ولا لون ولا رائحة. مع كل هذا كان د. أسامة الباز كارثة تليفزيونية بكل المقاييس. نعم كان الرجل أشبه ببطل تراجيدي في إحدى المآسي اليونانية العظيمة الخالدة، البطل الذي كان نبيلا حتي سقط سقطته التراجيدية نتيجة علة أو خلل في شخصيته، فحلت عليه لعنة الآلهة وسقط من عليائه مضرجا في أهواله التي صنعها مزيج من قدره الغشوم وحمقه أو النقيصة الأخلاقية المتأصلة فيه. على الرغم من أن د. الباز لم يكن في يوم من الأيام بطلا ولا يحزنون، لكن هكذا على الأقل كان الناس يحسنون الظن به، وأنا واحد منهم مع كل هذه المناصب التي شغلها في قمة الهرم السلطوي لأكثر من ثلاثين عاما، إلى أن شاهدته متحدثا تليفزيونيا. نعم أحسست بالشفقة كما نحس بالشفقة على أوديب الذي فقأ عينيه أو هاملت غارقا في جحيم شكوكه وهلوساته وانجرافه نحو هاوية الجنون، يطارده شبح أبيه المغدور بالتآمر بين أمه وعمه الخؤون، أو الملك لير وقد استبد به الجنون والخرف. أشفقت علي الدكتور الباز ولعنت من نصحه بالموافقة على الظهور في البرنامج ليدلي بهذه الإجابات المهترئة، والتبريرات المهلهلة لسياسات لا يجرؤ حتى على تبنيها أو ادعاء أنه كان من صانعيها، وحين ينبري للدفاع عنها (كلمة "ينبري" كبيرة إلى حد ما)، حين تساوره نفسه الأمارة بالسوء أن يدافع عنها، تكون الطامة الكبرى وينكشف المستور. كان الرجل يتلعثم تلعثم من ضبط متلبسا كما ولدته أمه في وضع مخل بالآداب، يهرف بكلمات وعبارات لا تعني شيئا البتة، ومضيفه المسكين يجاهد ويكابد في أن يستخرج المعاني من وسط ركام الهراء الذي ينسكب من فم الرجل الباز (وياللمفارقة في اسمٍ ليس علي مسمي بالمرة، فهو أبعد ما يكون عن "الأسامة" وعن "الباز"). وكلما شط الدكتور واشتط يعيده محمود سعد بأدبه المتصنع لدرجة التزلف إلى لب الموضوع ويعيد على مسامعه السؤال عينه بشحمه ولحمه ودمه، ولكن دون جدوى تذهب جهوده المضنية أدراج الرياح. إنه حتى لا يجيد التهرب من الأسئلة، ولم يدل بتعليق واحد تشتم منه رائحة الذكاء أو الألمعية. تتعقد منه الخطوط، ويتوه في الزحام وتخونه الكلمات وتضيع منه الأفكار، ونضيع معه ونحن نعتصر جباهنا لنتأكد أن البلاهة لم تحط علينا فجأة، ونفرك آذاننا لنتأكد أن الصمم لم يعترها بعد، ونحملق في الشاشة ونفرك عيوننا لنتأكد أن هذا هو د. أسامة الباز مستشار رئيس أكبر دولة عربية للشؤون السياسية بشحمه ولحمه ودمه وقده وقديده، حامل الدكتوراه من بلاد العم سام. ويا ميت ندامة ع الفرع العدل لو مال. كانت المناسبة مرور "عُشْرُمِيت" سنة علي مبادرة الرئيس السادات وزيارته للقدس".
كذلك أبرز كاتب مادة "think tank" فى "الويكيبيديا" ما يوجَّه إلى هذه المراكز البحثية من نقد، وهو ما لم يفت مؤلفنا فذكره فى كتابه ونبّه إلى الأخطار والمصائب التى تقع على رؤوسنا من وراء المراكز الأمريكية بالذات. ومن هذا النقد أن أعضاء تلك المراكز لن يمكنهم مقاومة الرغبة الطبيعية فى استمرار الدعم المالى الذى تقدمه هذه الجهة أو تلك ويدخل بطبيعة الحال جيوبهم، فنراهم يتخَلَّوْن بدرجة أو أخرى عن الحيادية المطلوبة منهم أو على الأقل: المفترضة فيهم، ويقدمون من النتائج ما يرضى أولئك المموِّلين محوِّلين من ثَمّ تلك الأجهزة إلى توابعَ أيدلوجيةٍ لمن يدفعون لهم، توابعَ تعمل على تشكيل الرأى العام وتوجيهه إلى الناحية التى يريدها هؤلاء حتى لو كان فيها مخالفة صريحة للعلم ونتائجه، كما هو الحال مثلا فى عمل بعض تلك المراكز على التشكيك فى أن يكون التدخين السلبى مؤذيا لصاحبه على عكس ما انتهت إليه الأبحاث العلمية فى هذا السبيل، وذلك خدمةً لشركات الدخان. يقول كاتب المادة:
"Critics such as Ralph Nader have suggested that because of the private nature of the funding of think tanks their results are biased to a varying degree. Some argue members will be inclined to promote or publish only those results that ensure the continued flow of funds from private donors. This risk of distortion similarly threatens the reputation and integrity of organizations such as universities, once considered to stand wholly within the public sector. Defenders state that think tanks arose to challenge the liberal orthodoxy of the universities in place starting in the 1970s.
Some critics go further to assert think tanks are little more than propaganda tools for promoting the ideological arguments of whatever group established them. They charge that most think tanks, which are usually headquartered in state or national seats of government, exist merely for large-scale lobbying to form opinion in favor of special private interests. They give examples such as organizations calling themselves think tanks having hosted lunches for politicians to present research that critics claim is merely in the political interest of major global interests such as Microsoft, but that the connections to these interests are never disclosed. They charge, as another example, that the RAND Corporation issues research reports on national missile defense that accelerate investment into the very military products being produced by the military manufacturers who control RAND. Critics assert that the status of most think-tanks as non-profit and tax exempt makes them an even more efficient tool to put special interest money to work.
In recent years, many think tanks have begun to promote causes which are contrary to established scientific opinion. For example, The Advancement of Sound Science Coalition was formed in the mid 1990s as part of the tobacco industry's attempt to cast doubt on EPA studies showing that secondhand smoke could cause cancer. According to an internal memo from Philip Morris, "the credibility of the EPA is defeatable, but not on the basis of ETS (environmental tobacco smoke) alone. It must be part of a larger mosaic that concentrates all the EPA's enemies against it at one time."
The Advancement of Sound Science Coalition has also worked to cast doubt on the scientific consensus regarding human-caused global warming, as have a number of conservative think tanks such as the American Enterprise Institute, the Heritage Foundation, the Cato Institute, the Hoover Institution, and the Competitive Enterprise Institute--all of whom receive large contributions from petroleum industry companies like ExxonMobil and the Charles G. Koch Charitable Foundation.
Finally, the Discovery Institute has been instrumental in putting the idea of Intelligent design into public debate, even though most biologists do not accept the theory as scientific".
وعن المراكز البحثية يقول د. مصطفى عبد الغنى إن "مراكز الأبحاث والمعاهد البحثية الواعية... سمة من السمات الإيجابية لأية دولة تسعى إلى النهوض وتحافظ على مكتسباتها القومية بأدوات البحث ورموزه، خاصة بلادنا العربية بكل ما تواجهه الآن من مختلف الميادين والحقول عرفت عمليات الاهتمام المعرفى وتبادل المعلومة والمعرفة والخبرة العلمية ضمن إطار مؤسسى دائم هو ما نطلق عليه اليوم: "مراكز البحوث والدراسات"، فأصبحت الشعوب والأمم والحضارات تتبادل معارفها وتحافظ على مميزاتها وخصائصها انطلاقا من وِرَش العمل البحثية المنتشرة فى أرجاء المجتمعات المتحضرة. كما أصبحت مراكز البحث وسيلة فضلى لعرض المنجز الفكرى والعلمى والحضارى لأية أمة من الأمم، ويمكن أن تلعب فى حالتنا، حالة الصراع العربى الإسرائيلى، دورا إيجابيا إذا أحسنّا التعامل معها وبها. ومراكز الأبحاث فى الجامعات أو المراكز العربية لها دلالة كبيرة فى هذا الصدد، وأبرز مثال لها ما عرفناه أخيرا: "مركز زايد" لهذا الدور الإيجابى الذى قام به، وكان يمكن أن يستمر صعوده لولا تآمر المراكز والجهات الصهيونية عليه، وفى مقدمتها "مركز ميمرى". ومع ذلك فإنه، على الرغم من كل شىء، ما زال المركز العربى باقيا من خلال إصداراته من إنتاجه الفكرى لا المؤسسى ونتاجه الذى تنوع كثيرا. هذا هو الوجه الأول المضىء للمراكز البحثية، وهو غير الوجه الآخر المظلم الذى يمثله الآن عدد كبير من المستشرقين الجدد، فقد استُبْدِل بالمستشرق التقليدى الآن: "الخبير الجديد"، الذى لعب دورا كبيرا فى هذه المراكز انطلاقا من بواعث تبشيرية واستعمارية قديمة. مراكزنا البحثية كانت واعية دفاعية، فى حين كانت المراكز الغربية عدوانية... معنى هذا أنه إذا كانت لدينا مراكز بحثية فهى لا تقوم بنفس الدور الاستعمارى، فضلا عن أن دورها العربى فى البحث والحضارة ومناوأة العقل الاستعمارى أو الصهيونى يجعلها تختلف عن هذه المراكز العربية، خاصة بعد 11 سبتمبر، وهو ما يجعلنا نتمهل هنا عند هذه المراكز البحثية الغربية التى لعبت دورًا مغايرًا إبّان صعود المستشرق الجديد (الخبير) كما سنرى فى الحقبة الأخيرة". وممن توقف إزاءهم من هؤلاء الخبراء الخطرين فى المراكز البحثية فى أمريكا برنارد لِوِيس ودانيال بايِبْس وكريمر وفوكوياما وهانتنجتون، مبرزا الدور الشيطانى الذى قاموا ويقومون به منذ تسعينات القرن الماضى حتى الآن من خلال عملهم فى مثل تلك المراكز وتعاونهم الآثم مع المخابرات الأمريكية فى سبيل إخضاع الأمة العربية والإسلامية واحتلال بلادنا وسرقة ثرواتنا وإقحام أصابعهم الدنسة فى مقرراتنا الدراسية وفهمنا لديننا (ص 9- 11).
ومن المناسب لهذا الذى نقلناه عن المؤلف هنا بخصوص المراكز البحثية فى بلادنا ومثيلاتها فى الغرب، وبالذات فى الولايات المتحدة، وتآمر القوى الصليبهيونية على مركز الشيخ زايد المشار إليه، أن نشير إلى مقال منشور فى مجلة "العالم الإسلامى" الأسبوعية بتاريخ يوم الاثنين 4 رجب 1424هـ- أول سبتمبر 2003م عنوانه "إغلاق مركز الشيخ زايد لن يكون آخر مطالبهم!" بقلم منير حسن منير، يجرى على النحو التالى: "أسفت كغيرى من المتابعين لخبر إغلاق "مركز الشيخ زايد للتنسيق والمتابعة"، وذلك لأن هذا المركز كاد خلال فترة وجيزة من تأسيسه أن يكون أهم مركز للدراسات والمتابعة على امتداد الدول العربية، إذ ظل مواكبا لكل ما يحدث على جميع الأصعدة بدقة وموضوعية نفتقدها في معظم جامعاتنا ودُورنا الأكاديمية والبحثية. وتعود خلفية إغلاق المركز وتصفيته لاحتجاج مجموعة صغيرة من الطلاب ذوى الأصول اليهودية في جامعة أمريكية كانت قد قبلت تبرعا من سمو رئيس دولة الإمارات، وادعت هذه المجموعة والتي قادتها طالبة يهودية أن الشيخ زايد يموّل المركز الذى يعتبر، حسب ادعائهم، معاديا للسامية لمجرد أن باحثا كان قد شكك في محاضرة له نظمها المركز في حدوث محارق لليهود في عهد النازية (الهولوكوست)! وهكذا فقد تطور الاحتجاج ليأخذ شكل حملة ضد منظمة المركز ونشاطاته وانتهى الأمر بتصفيته وإغلاقه! ورغم أن واشنطن نفت أنها أمرت بإغلاق المركز، إلا أن قضية إغلاقه وتصفية نشاطه لا شك مرتبطة بالتهمة السالفة والباطلة.
إن في أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية مئاتِ مراكز البحوث والدراسات، وآلافَ الجامعات والمعاهد العلمية والاكاديمية، ومئاتِ الآلاف من الصحف والمطبوعات التي "تنفث" كل يوم جديد سموما وتهما باطلة ضد العرب والمسلمين، تتهمهم بكل سئٍّ ومشين، فلم يطالب أحد في العالمين العربى والإسلامي بإغلاق هذه المراكز والجامعات، ولا بتصفية نشاطاتها أو حتى بمساءلتها، وذلك لأن أمريكا تطلق حرية كاملة لمثل هذه الدور. أما صحافة أمريكا وإعلامها من تلفزيون ومؤسسات سينمائية فإنها تتسابق دوما في نشر كل ما يسيء للعرب والمسلمين معا حتى أنهم أصبحوا مادة للسخرية و"التنكيت" والإساءة والاستهزاء دون أن يفتح الله على أحد منا حكوماتٍ ومسؤولين لكى يثور لكرامة هذه الأمة التى تُهْدَر جهارا نهارا! إن الإعلام الأمريكي لا يزال يصور العرب مجموعة من المتخلفين والأوباش، في حين يكيل للمسلمين اتهامات وأوصافا أقلها أنهم إرهابيون، ولديننا أنه دين دموى يقوم على الإرهاب، ويسيء بعضه لعقيدتنا ولرسولنا الكريم بدعوى حرية الإعلام. أما مراكز بحوثهم ودراساتهم فإنها لا تنفك تدرس سبل زعزعة أنظمة الحكم في بلادنا، وتأليب الشعوب على حكامها وتأليب الإدارة الأمريكية لتأمر بتعديل مناهجنا الدراسية، وللضغط لتغيير خطابنا الديني، وأخيرا لمعاقبة كل من لا يلتزم بكل هذا! وآخرون نادَوْا ونشروا دعوات لـ"هدم" الكعبة المشرفة، ولدكّها بالقنابل النووية، ولمهاجمة مكة، أو لاحتلال بلد أو تغيير نظام ما.
إن الرضوخ لضغوط إغلاق مركز زايد إنما هو رضوخ لمطالب قوى الضغط الصهيوني داخل الإدارة الأمريكية، واستجابة لمشيئة اللوبى اليهودي داخل أروقة هذه الإدارة. وهي، في النهاية، مطالب لن تنتهى، وهي حلقة في سلسلة طويلة قادمة من المطالب المجحفة لن تتوقف عند مركز بحث علمي، ولكنها ستطال أشياء كثيرة ربما وصلت إلى ضرورة عرض قائمة طعامنا وبرنامج تحركنا اليومي على سادة البيت الأبيض وسادتهم من أساطين اللوبي الصهيوني!".
والآن إلى كلمة عن كل من برنارد لِوِيس ودانيال بايِبْس ومارتن كِريمر وصامويل هَنْتِنْجتُون وفرانسيس فوكوياما، أولئك الخبراء الشيطانيين الذين يضعون أنفسهم فى خدمة المشروع الاستعمارى بل الاستئصالى الأمريكى الذى يتغيا العرب والمسلمين والذين صوب الدكتور مصطفى عبد الغنى إصبع الاتهام فى وجوههم. ونبدأ ببرنارد لِوِيس (Bernard Lewis)، وهو يهودى بريطانى الأصل وُلِد فى لندن سنة 1916م، وإن كان قد اكتسب الجنسية الأمريكية فيما بعد عام 1982م، وتخرج من مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن (SOAS) عام 1936م حيث دَرَس تاريخ الإسلام فيها وحصل على الدكتورية منها فى نفس الموضوع وأصبح من أساتذتها. ثم انتقل فى 1974م إلى العمل بجامعة برنستون بالولايات المتحدة الأمريكية، ثم أربع سنوات فى جامعة كُرْنوِيل قبل أن يعتزل. وهو مقرَّب من الحكومة الأمريكية الحالية ورجالها، إذ يعتمدون على آرائه ومشورته. ولم لا، والمتحكمون فى أمريكا الآن هم الصهيوصليبيون الكارهون للعرب والإسلام والمنحازون قلبـًا وقالبـًا وكُلاًّ وجزءًا إلى اليهود والذين قد تكون نهاية أمريكا كقوة عظمى على أيديهم إن شاء الله بتوريطهم لها فى كل مكان على ظهر الأرض وإغرائهم إياها باستثارة عداء المسلمين والعرب ضدها والدخول فى حروب ومعارك لا تنتهى اغترارا بقوة الولايات المتحدة واقتصادها وتقدمها العسكرى والصناعى، غير دارين صحة المثل البلدى القائل: "خذ من التلّ يختلّ". وأمريكا بما تنفقه على الدوام من جهود وأموال وبما يُقْتَل من جنودها وضباطها وما تفقده من طياراتها وصواريخها ومدافعها فى أثناء ذلك وما يترتب عليه من تشتيت الانتباه وإثارة السخط فى قلوب آباء الجنود والضباط وأمهاتهم وإخوتهم وأخواتهم وأبنائهم إنما تحفر قبرها بيدها، ولو على المدى الطويل، وإن كنا نرجو ألا يطول الانتظار. والمهم أن يكون العرب والمسلمون مستعدين لذلك اليوم ولا أخال، إذ كل المؤشرات تقول بصوتٍ بَيِّنٍ فصيحٍ إنهم لا يزالون نياما فى كهوف التخلف والجهل والضلال ولا يظهر حتى الآن ما يدل على أنهم عما قريبٍ مُفِيقون.
وفى كتابات لِوِيس نجده يتهم المسلمين بأنهم وحدهم سبب التخلف الذى هم فيه، وذلك لشعور الغطرسة الذى يعانون منه ويمنعهم من التعلم مما فى يد الآخرين ويحرمهم مما تستلزمه هذه العملية من مرونة كما يقول، وأنْ ليس للغرب أى يد فى هذا الذى يقاسونه. وهذا المنطق مغلوط إلى حد بعيد، لا لأننى أنكر أن العرب والمسلمين مسؤولون عما هم فيه، بل لأنه من غير المنطقى ولا الإنسانى تبرئة الغرب من مسؤوليته هو أيضا عن هذا التخلف وتلك المعاناة بعد هاتيك القرون التعيسة التى احتل فيها بلادهم ونزح ثرواتهم واستعبدهم ودمر ثقافتهم وأنزل بأحرارهم العسف والتنكيل وساعد حكامهم المستبدين ضدهم ومكّن لهم من رقابهم كى يقوموا على مصالحه ويسهروا على رعايتها، وبَذَر بذور الشقاق والفتن فى كل مكان فى بلادهم ومسح شيئا اسمه فلسطين وجلب شذاذ اليهود من كل صقع وأفق وأسكنهم فيها وأقام لهم دولة يحميها وينصرها فى الحروب والمحافل الدولية... إلى آخر ذلك كله إن كان له آخر، ثم يأتى برنارد لِوِيس فيمحوه بجرة قلم سخيفة، ويريدنا أن نصدق تحليلاته!
نعم، المسلمون والعرب هم المسؤولون رقم واحد عما هم فيه من مأزق حضارى لأنهم استكانوا إلى الشكلانية فى الدين واستناموا إلى البلادة والخمول والكسل وكرهوا بذل المجهود فى تحصيل العلم وفى الإبداع وفى إتقان ما يعملونه وينتجونه على قلته وتفاهته غالبا، ووهموا أنهم يحسنون بذلك صنعا، فأضحت حياتهم تعيسة ذليلة خانعة خاضعة، ولم يفكروا لحظة فيما سيقولونه لربهم يوم القيامة أو فى الألم الذى يسببونه لرسولهم رغم الجهود الهائلة التى بذلها فى تبليغ رسالته وتطبيقها وتبيينها والتحذير من مغبة التهاون فى الأخذ بها مما يحصدون الآن ومنذ قرون ثماره المرة بل فى الحقيقة: ثماره السامة، وسمحوا لهؤلاء الغربيين أن يدخلوا بلادهم ويسودوهم ويركبوهم كما تُرْكَب الحمير والبغال ويسوموهم سوء الهوان والعذاب، وفوّتوا على أنفسهم الفرصة تلو الفرصة للتخلص من هذا العار دون أن يفترصوها، وأحسنوا الظن بأعدائهم الملاعين وصدّق فريق منهم أنهم يريدون بهم خيرا فتعاونوا معهم ضد أمتهم وانحازوا لهم وكانوا لهم إلبا. لكن هذا وغير هذا لا يمكن أن يغطى على الإجرام الذى ارتكبه الغربيون وما زالوا يرتكبونه فى حقنا. كل ما هنالك أن المجادلة مع الغرب لن تؤتى أية ثمرة، بل القوة والتقدم والسلاح الذى ينبغى أن نصنعه بأيدينا والقوت الذى يجب أن نزرعه فى أرضنا ونكتفى به فلا نمد أيدينا إلى ذلك العدو ليَمُنّ علينا ويستذلنا ويفرض برغم أنوفنا فى الوحل والطين شروطه المجحفة المذلة فلا نجد بدا من الرضى الذليل بها رغم أننا نقدم له فى مقابلها ما هو أكثر بكثير من الفتات الذى يمن ويشمخ به علينا.
ويبذل لِوِيس كل ما لديه من وسع فى تأريث نار العداوة بين الغرب والعالم الإسلامى قائلا إنها طويلة طول تاريخ الإسلام، إذ ترجع إلى بداية ظهور ذلك الدين منذ أربعة عشر قرنا وأنها تزداد التهابا الآن. كذلك فهو صاحب المصطلح الذى انتشر بعد ذلك حين تبناه صمويل هانتنجتون وتوسع فى الكلام فيه وجعله عنوانا لكتابه الشهير: "صدام الحضارات: Clash of Civilizations". وبالمناسبة فقد نبه الدكتور مصطفى عبد الغنى بحق إلى أن اللفظة الإنجليزية هى "صدام" لا "صراع" الحضارات، وهأنذا أكتشف أن المصطلح هو من صياغة لِوِيس لا هانتنجتون، وذلك فى مقاله: "The Roots of Muslim Rage "، الذى نشره عام 1990م. وهو كذلك دائم التحريض على إيران زاعما أنها، فى أنثاء إعدادها الرد المنتظر على مطالبة الدول الغربية لها بالتوقف عن أنشطتها النووية، إنما تخطط لتدمير إسرائيل ومحوها من الوجود، وربما العالم كله على بكرة أبيه أيضا.
ولا يطيق لِوِيس أن يمس أحد إسرائيل أو ممارساتها العنصرية الإجرامية بكلمة، ومن هنا ألفيناه يؤلف كتابا عن معاداة السامية يحمل فيه على كل من تسول له نفسه بانتقاد أى توحُّشٍ تقترفه إسرائيل فى حق الفلسطينيين المساكين الذين شردهم اليهود بمساعدة الغرب عن بلادهم وصادروا أراضيهم وهدموا بيوتهم على رؤوسهم واغتصبوا نساءهم وقتلوا أطفالهم وروّعوا كل إنسان هناك، مطبّقين بهمة إبليسية تعاليم توراتهم المحرَّفة القاضية بمحو كل شىء يخص أعداءهم من الوجود ولا يتركوا نَفْسًا تتنفس، بشرا كانت هذه النفس أو حيوانا.
والطريف أنه يلجأ فى دفاعه عما قامت وتقوم به إسرائيل من عدوان على العرب والمسلمين فى فلسطين وخارج فلسطين إلى القول بأن المسلمين يقاسون من ويلات أخرى لا تقل عن تلك التى تنزلها العصابات الصهيونية على رؤوسهم كالغزو السوفييتى لأفغانستان والحرب العراقية الإيرانية وما إلى ذلك. جميل! لكن من قال له إننا نرحب بتلك الويلات ولا نعمل على القضاء عليها؟ ثم إنه لأمر عجيب أن يحاججنا اللص بأننا لا ينبغى أن نعمل على استرداد ما سرقه منا بحجة أن آخرين سواه قد سرقونا أيضا! ولقد نجح المسلمون فى إخراج السوفييت من أفغانستان، فهل تركهم الأمريكان فى حالهم؟ كما أننا نعرف الدور الإبليسى الذى قام به الأمريكان فى الحرب العراقية الإيرانية وتأليبهم كل فريق على الآخر وتسهيل وصول السلاح لهم حتى لا يتوقفوا عن إفناء بعضهم بعضا، وإن كنا لا نبرئ المسلمين من المسؤولية أبدا، فلولا غباؤهم وقصر نظرهم وانخداعهم بأعدائهم ومسارعتهم إلى التقاتل فيما بينهم بدلا من اتحادهم على قلب رجل واحد لمقاتلة أمريكا وإسرائيل والقضاء على شرورهما كما قَضَوْا على شرور السوفييت فى أفغانستان ما حصل شىء من ذلك الذى يعايرنا به برنارد لِوِيس!
ولكل هذا يتهمه إدوارد سعيد وغيره من الأساتذة الأمريكان بالتحيز والتمركز حول الذات والجهل بالشرق الأوسط والعالم العربى، الذى لم يضع قدمه فى أى بلد منه منذ ما يزيد على أربعين عاما كما قال، وكذلك بمحاولة إشعال ما انطفأ من نيران الحروب الصليبية بحيث تستمر إلى ما لا نهاية، والعمل على وضع الإسلام والمسلمين على الدوام موضع الاتهام دون أمل فى النهوض مما هم فيه لأنهم معيبون طبيعة ودينا حسب اتهاماته لهم، وهو ما ليس هناك من أمل فى علاجه والتخلص منه طبقا لما يزعم! وبالمثل كان برنارد لويس وراء قرار الحرب ضد العراق فى أمريكا، وكان تسويغه الشيطانى لها بأنها السبيل لتحديث منطقة الشرق الأوسط إحدى الحجج التى تذرع بها المحافظون الجدد فى الولايات المتحدة.
وبعد برنارد لِوِيس يأتى دانيال بايِبْس (Daniel Pipes) الصحفى والأستاذ الجامعى المتخصص فى التاريخ الإسلامى والمستشار المقرَّب من رئيس الولايات المتحدة ودوائر صنع القرار فيها. وهو أمريكى من مواليد 1947م، ويهودى صهيونى متعصب مثل لِوِيس يكره الإسلام والمسلمين ولا يترك فرصة تسنح إلا ويهتبلها لتهييج الرأى العام والمسؤولين فى أمريكا ضدنا ناشرا الكراهية فى كل سطر بل فى كل كلمة يحبرها قلمه، فإذا بها سم زعاف. وبلغ من بغضه للإسلام وأتباعه أنه يكرر فى مقالاته وكتبه أن الدين المحمدى النبيل لا يمكن أن يقوم بينه وبين الديمقراطية أى تفاهم، وأن اندماج المسلمين فى المجتمعات الأوربية والأمريكية أمر مستحيل مهما بُذِلت فى ذلك الجهود ووُضِعت المشروعات. كما أنه منحاز على طول الخط والوقت لإسرائيل، مصورا الفلسطينيين بأنهم شياطين لا يستحقون الرحمة، وزاعما أنه لا مكان فى الشرق الأوسط لدولتين: إحداهما إسرائيلية، والأخرى فلسطينية، وأنه لا سبيل إلى الأمن والسلام فى المنطقة وفى العالم إلا بمنع الفلسطينيين من إقامة دولة لهم وأخذ الطريق عليهم كيلا يتمكنوا من ذلك، وإلا فلو وقعت الفأس فى الرأس وسُمِح لهم بإنشاء دولة فلن يكون هناك إلا أحد أمرين اثنين لا ثالث لهما: فإما دمرت تلك الدولة نفسها، وإما دمرت إسرائيل. ومن هنا فلا حل إلا منعهم بتاتا من إنشاء مثل تلك الدولة حتى لا تدمر إسرائيل.
كذلك فهذا الرجل يحرض المسؤولين والرأى العام فى الولايات المتحدة على كل أستاذ جامعى أو كاتب أو مفكر لا يوافق على العسف والظلم والجبروت والإجرام الذى تقترفه إسرائيل فى كل لحظة من نهار أو ليل فى حق الفلسطينيين الذين استولت على بلادهم وشردتهم فى الآفاق وقتلتهم ودمرت بيوتهم وسرقت مزارعهم ونكلت بهم، وتُعَامِل من بقى منهم على أرضهم معاملة العبيد المسحوقين، فتراه ينشر أسماء أولئك الكتاب الشرفاء فى بعض المواقع المشباكية التى يسيطر عليها ويشوه سمعتهم ويفترى عليهم الأكاذيب متهما إياهم بمعاداة السامية، محاولا بذلك كله تكميم الأفواه إلا أفواه من يسبحون بحمد إسرائيل ليل نهار، وهو ما أثار عليه قطاعا من الأساتذة والمفكرين الأحرار مما اضطره إلى حذف القائمة السوداء التى كانت تحتوى على أسمائهم والتحريض عليهم من الموقع المذكور. وبسبب من تلك التصرفات الحاقدة المتعصبة التى لا ترى للآخر أى حق فى الحياة والكرامة فإن مؤسسة "كير: CAIR" الإسلامية الأمريكية لا تنى تنبه إلى ما فى مقالاته ومواقفه وتحريضاته من خطر داهم على جميع فئات الشعب الأمريكى بما فيهم المسلمون الأمريكان، أولئك الذين لا يقول بايبس فيهم ولا فى عاداتهم وتقاليدهم وتصرفاتهم كلمة طيبة، حتى إنه ليسخر من أطعمتهم وملابسهم ويصمها بالشذوذ متهكما عليهم ومحرضا الذوق العام ضدهم ومؤكدا أنه لا مكان لعاداتهم وتقاليدهم وأطعمتهم وملابسهم الغريبة الشاذة فى أمريكا ولا فى أوربا، وأنه لا بد من تشديد الخناق على المساجد والعمل على معرفة كل ما يدور بداخلها والتدخل فى الخُطَب التى تلقى فيها يوم الجمعة ومراقبة أئمتها باستمرار.
أما عمامة السيخى التى تثير السخرية والسارى الهندى الذى يكشف عن قبح بطن المرأة الهندية وظهرها وعُكَنها وبشرتها الزرقاء، وبخاصة إذا كانت امرأة كبيرة تجاوزت سن الجمال والنضارة، وأما الخنزير القذر المنتن رمرام الزبالة ذو المنظر الكريه والذى لا تطاق رائحة لحمه حين يطبخ، والدجاج المخنوق اللذان يأكلهما كثير من الأمريكيين والغربيين وينفر منهما اليهودى أشد نفور، وأما طاقية اليهودى السخيفة التى يلصقها بقعر رأسه والضفائر اللولبية التى تتدلى من خدوده إذا تدين وتبدو أكثر إغراقا فى السخافة، فهذا كله عسل وسكر على قلب بايبس المنافق، الذى سمعت الدكتور محمد السيد سعيد يصفه، فى الندوة التى نوقش فيها الكتاب الحالىّ بمبنى نقابة الصحفيين منذ أيام، بالجهل والضحالة والحقارة وممارسة البكش وما هو أشد من هذا مما أرى أنه يستحقه وأكثر منه. وبالمناسبة فقد فهمت من كلام د. سعيد أنه يعرف بايبس عن قرب، فهو إذن لا يلقى الكلام على عواهنه. وأنا، حين أقول ما أقول عن ملابس الهنود وبشرتهم، لا أقصد معاذ الله التنقص منهم، بل كل ما هنالك أننى أنظر بعين هذا البايبس الذى لا يعجبه العجب فى المسلمين وأسلوب حياتهم، وإلا فأنا،والحمد لله، من سعة الأفق بحيث أعرف أن كلا منا يرى فيما شب عليه وتعود على فعله الخير والذوق كله. كما أن الجمال والقبح الشكلى إنما هو إرادة الله، فلا يحق لى أنا المسلم أن أسخر من أحد لهذه الاعتبارات أو أقلل من شأنه، على الأقل: خشية أن يبتلينىالله بما أعيبه به!
وهذا البايبس دائم الزعم بأن المسلمين ينوون القضاء على الحضارة الغربية وأنه لو ظل باب الهجرة المسلمة إلى أمريكا مفتوحا لجاء يوم يصبح فيه النصارى أقلية من الماضى ويُنْظَر إلى كنائسهم كشىء من مخلفاته، إلى أن تأتى حكومة متعصبة فتحولها إلى مساجد أو تفجرها وتأتى عليها من القواعد. ولو كان المسلمون يفعلون هذا لما بقيت كنيسة أو معبد يهودى واحد فى أى بلد من بلادهم، وإنما غيرهم هم الذين يفعلون ذلك، وإلا فأين ذهبت المساجد التى تركها المسلمون خلفهم فى الأندلس؟ والمسلمون الأندلسيون، لمن لا يعرف، كانوا كلهم تقريبا أوربيين لا عربا كما يحاول المتعصبة الحاقدون أن يقنعوا عوام المسلمين وعوامهم هم بطلانا وبهتانا، إذ كان العرب هناك لا يمثلون إلا قطرة فى بحر لأن من دخل منهم تلك البلاد لا يزيد عن بضعة عشر ألفا على أكثر تقدير. أى أنهم لم يكونوا يمثلون سوى قطرة من بحر وسط سكانٍ يُعَدُّون بالملايين دخلوا طوعا دين محمد، لكنهم أُخْرِجوا منه بأساليب محاكم التفتيش التى يعرفها كل من له أدنى إلمام بالتاريخ، فكان عليهم بعد انتهاء الحكم الإسلامى هناك أن يتنصروا أو يتركوا البلد ويرحلوا، وإلا قُتِلوا أو سِيمُوا سوء التنكيل الرهيب الذى لا يمكن تصوره. ثم مع الأيام وتوالى التضييق والتعذيب لم يستطع من بقى منهم هناك بعد التظاهر باعتناق النصرانية خوفا ورعبا الاستمرار على هذا الوضع فترك دين محمد! كذلك فقد هدم الهنود المجانين أقدم مسجد بالهند فى عدة ساعات، فأين كانت أصوات بايبس وأشباهه؟
والواقع أن كلام بايبس عجيب غاية العجب، فاليهود الذين ينتمى إليهم ذلك الرجل يكذّبون بالسيد المسيح ويقولون فيه وفى أمه الطاهرة البتول ما يقولون مما يعرفه كل أحد، وينظرون إلى النصارى على أنهم كفار مارقون، ومن ثم فمعابدهم عندهم هى معابد الضلال، فأَنَّى له إذن تلك الغيرة الطارئة على كنائس النصارى، وهى ليست من شِنْشِنَة يهود؟ ألا يذكّر هذا الكلامُ السادةَ القراءَ بما صنعه اليهود اليثربيون حين هاجر رسول الله إلى المدينة وكتب صحيفة تساوى بين جميع الطوائف هناك دون أية تفرقة بين مسلم ويهودى، وقنّن التعاون على الخير بين الجميع حتى تمضى سفينة الدولة والمجتمع بسلام وأمان، فكان أنْ بدأوه بالعدوان والمؤامرات ومحاولة الاغتيال وتحريض القرشيين الوثنيين ضده والذهاب إليهم فى مكة ومنافقتهم كفرا وخبثا مؤكدين لهم أن وثنيتهم خير من التوحيد الذى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ليس هذا فحسب، بل يبدو الرجل ومن يسير فى خَطّه وكأنهم ممن كشف الله عنهم الحجاب، فهم يَرَوْن المستقبل قبل وقوعه ويطّلعون على أحداثه بالشَّمّ على ظهور أيديهم، إذ نجده قبل الحادى عشر من سبتمبر 2001م بأربعة أشهر فقط يتنبأ، فى صحيفة الـ"وول ستريت"، هو وصحفى آخر اسمه ستيفن إمرسن، يسير معه فى نفس الاتجاه ويشاركه ذات التعصب ضد العرب والمسلمين ويعمل مثله فى تحريض المسؤولين الأمريكان على كل ما هو مسلم وإسلامى، بأن تنظيم القاعدة يخطط لشن هجمات على أمريكا بتحريض إيران ومساعدتها يدمّر فيها عددا من المبانى الضخمة. الله أكبر! فمن أين لـ"بسلامته" معرفة الغيب؟ مجرد سؤال نرجو من بعض الباحثين أن يحاولوا الجواب عليه! وهذا الذى أقوله هنا تقوله المادة التى خصصتها موسوعة "الويكبيديا" المشباكية وأكثر منه، وإن كانت قد ذكرت فى ذات الوقت أسماء بعض من يرافئونه على آرائه ومواقفه، ومنهم أحمد صبحى منصور الشيخ الأزهرى الضال المضلّ الذى يكفّر المسلمين بدءا من صحابة رسول الله فنازلا، والذى يعقد دائما المقارنات بين المشايخ المسلمين والقساوسة فى كل مكان فتكون كفة الأخيرين هى الراجحة على الدوام، والذى لا يقتنع بالصلاة فى مساجد المسلمين ولا يجد أحدا يعاونه على إنشاء مسجد خاص يصلى فيه هناك إلا مجدى خليل النصرانى وأمثاله حسب كلامه، والذى انتهى به المطاف إلى أمريكا وتسخير قلمه وفكره لخدمة مشاريعها الإجرامية الإبليسية فى بلاد العرب والمسلمين زاعما أن بايِبْس يشاركه همومه الإصلاحية ويحارب مثله الإرهاب الإسلامى ويعمل على صيانة العالم من شروره. شىء لله يا هموم إصلاحية!
أما مارتن كريمر المولود فى واشنطن سنة 1954م فهو يهودى تلقى تعليمه بين الدولة العبرية ودولة رعاة البقر، وكان من تلاميذ برنارد لِوِيس المقربين وحصل على الدكتورية تحت إشرافه، واشتغل بعد ذلك أستاذا فى عدد من الجامعات الإسرائيلية والأمريكية، فضلا عن كتابة المقالات فى بعض الصحف والمواقع المشباكية. وهو من المنحازين فى فجاجةٍ عاريةٍ إلى إسرائيل ولا يطيق أن تتعرض لأى نقد مهما تكن بشاعة الجرائم التى ترتكبها فى حق الفلسطينين والعرب. كما أنه أحد الذين ساندوا بايِبْس فى المشروع الخاص بمراقبة أفكار الأساتذة الأمريكان وإعداد قائمة سوداء بأسماء من يخالفونهما وأمثالهما فى الرأى أو الموقف السياسى ونشرها فى أحد المواقع المشباكية تشنيعا عليهم وإرهابا لهم، بالإضافة إلى تعضيده طائفة المحافظين الجدد، وهو ما جلب عليه سخط عدد من الأساتذة والمفكرين وانتقاداتهم له واتهامهم إياه بالعمل على تسييس الجامعات وتكميم أفواه الجامعيين وخنق حرياتهم ومصادرة حقهم فى التفكير والتعبير عما يعتنقونه من آراء ويتخذونه من مواقف، فضلا عن الضحالة التى تتسم بها تحليلاته واستنتاجاته.
ونصل إلى صامويل فيليبس هانتنجتون (Samuel Phillips Huntington) المولود فى مينابوليس بولاية مينيسوتا الأمريكية سنة 1927م، وهو أستاذ فى العلوم السياسية بجامعة هارفارد تقوم شهرته على تحليل العلاقة بين العسكر والحكومة المدنية، وببحوثه الخاصة بانقلابات الدول ونظريته القائلة بأن الثقافات لا الدول القومية هى التى ستقوم بدور اللاعبين السياسيين المركزيين فى القرن الحالى الواحد والعشرين. كما أنه من المعارضين للهجرة اللاتينية إلى أمريكا والمحذرين من مخاطرها، ناسيا أن من يسمَّوْن بـ"الأمريكان" ليس لهم حق أصلا فى الوجود فى القارة الأمريكية وأن هؤلاء الذين يرى منعهم من الهجرة إليها هم أحق منه ومن أمثاله بالعيش فيها. وقد تعرض لتلك المسألة فى كتابه: "من نحن؟ التحديات التى تهدد هوية أمريكا القومية: Who Are We? The Challenges to America's National Identity" الصادر عام 2004م، فضلا عن أنه، بوصفه مستشارا للرئيس الأمريكى الأسبق ليندون جونسون أيام الحرب الفييتنامية التى محق فيها الأمريكان الأخضر واليابس فى فييتنام الشمالية وقتلوا الملايين من مواطنيها على عادتهم الإجرامية ووفق طبيعتهم الوحشية فى التعامل مع الآخرين، كان من المبرّرين لإمطار الريف فى جنوب فييتنام بالقنابل بغية إكراه الفلاحين الفييتناميين الموالين للفييت كونج على النزوح إلى المناطق الحضرية. فهو إذن من المفكرين المجرمين الخطرين على الإنسانية المنزوع من قلوبهم الرحمة رغم الشهادات التى حصل عليها والمناصب التى تبوأها والكتب والدراسات التى ألفها. ولا شك أن التهمة التى وُجِّهَتْ إليه بأنه يعانى من "رُهَاب الأجانب: xenophobia"، أى النفور والخوف المرضى منهم، أقل كثيرا جدا مما ينبغى أن يوجَّه إليه من انتقادات ومآخذ، فالمسألة أخطر من ذلك كما هو واضح، وما رُهَاب الأجانب (وهم ليسوا فى الحقيقة أجانب، بل هو وأمثاله) سوى عَرَضٍ لمرضٍ أخلاقىٍّ وإنسانىٍّ أبعدَ غورا فى نفسه وفى نفوس الأمريكان عموما وأخطرَ أثرا فى واقع الحياة من مجرد ذلك الشعور الشاذ.
لقد أتى من يُطْلَق عليهم الآن اسم "الأمريكان" إلى أمريكا منذ قرون قليلة فارّين من القارة العجوز يلتمسون ملجأ آمنا، سواء منهم من كانوا يتعرضون هناك للاضطهادات المذهبية أو الجشعون الذين تجحظ عيونهم ويسيل لعابهم تطلعا إلى الذهب فى الأرض البكر أو المجرمون الهاربون من قبضة العدالة على السواء، فإذا بهم لا يشكرون الله والسكان الأصليين من الهنود الحمر على أنهم رحّبوا بهم ولم يجدوا أية غضاضة فى أن يقاسموهم خيرات بلادهم ويزاحموهم على العيش فيها، بل يبدأون فى الحال فى تنفيذ خطة جهنمية منظمة لمحو أولئك المساكين حتى ينفردوا هم وحدهم بما فى البلاد من خيرات ونعم، وهو ما تم للمجرمين فعلا على نحو لم يكن إبليس ذاته يتوقعه، فضلا عن أن ينجح فيه، إذ قضوا على مئات الملايين منها، وأضحى الهنود الحمر أثرا بعد عين، اللهم إلا بقايا من بقاياهم يجدها الإنسان فى بعض المحميات كأنهم حيوانات تُعْرَض على السائحين للتسلية والمتعة ليس إلا. ثم إن المجرمين عديمى الإنسانية لم يكتفوا بذلك، بل صنعوا الأفلام والروايات التى تقلب الحقائق وتصور الهنود الحمر على أنهم غدارون معادون للحضارة والرقى والرحمة وأنهم هم الذين يعتدون على الأوربى الأبيض بَغْيًا وقسوةً بلا أى مسوغ. والعجيب أننا، ونحن صغار، كنا نصفق ونهلل فرحا وإعجابا كلما استطاع الرجل الأبيض فى أحد تلك الأفلام، وما كان أكثرها فى دور السينما المصرية آنذاك، أن يطلق الرصاص على الهندى ويعاجله بالقتل قبل أن يفوّق هذا سهمه إليه، وننفر من الريش الملون الذى كان الهندى يتحلى به رغم أنه أجمل وأروع من سحنة الأوربى المجرم وملابسه.
على أن أهم ما لفت الأنظار إلى هانتنجتون هو مقاله المطول الذى نشره عام 1993م فى مجلة "العلاقات الخارجية: Foreign Affairs" عنوانه "صدام الحضارات: The Clash of Civilisations" والذى وسّعه بعد ذلك ونشره عام 1996م فى كتاب مستقل اسمه " صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمى: The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order". وفى هذا الكتاب نراه يؤكد أن الصراعات فى القرن الواحد والعشرين سوف تقوم على أساس ثقافى وحضارى لا على أساس عقائدى كما كان الحال أيام الحرب الباردة بين المعسكرين: الرأسمالى والشيوعى. أى أن الحروب ستكون بين الحضارة الغرب والحضارة الإسلامية والحضارة الهندوسية والحضارة الصينية، وهو ما دفع منتقديه من بعض الغربيين أنفسهم إلى اتهامه بأنه يعمل على دفع الغرب بقيادة أمريكا إلى العدوان على الصين والعالم الإسلامى.
والواقع أن الصراعات والحروب بين الدول أعقد مما يتصور هانتنجتون، فهى لا ترجع إلى سبب واحد، بل تمتزج فيها عوامل متعددة. ثم إن الصراعات السابقة أو الحالية بين البشر لم تكن بمعزل يوما عن العامل الثقافية والحضارية. أوكانت الحروب الصليبية مجرد حروب دينية؟ فلماذا لم تقم مثل تلك الحروب بين الإسلام وبين كل الدول النصرانية فى العالم آنذاك؟ لماذا كانت الحروب محصورة بين المسلمين ونصارى أوربا وحدهم؟ أليس ذلك سببه تقارب الثقافة فى الدول الأوربية؟ ألم يكن الرجل الأبيض، فى شَنّه الحرب على الأمم غير الأوربية واحتلاله لبلادها، يزعم أنه إنما يفعل ذلك من أجل القيام برسالته فى تمدين الشعوب الأحرى؟ أليس هذا سببا ثقافيا بغض النظر عن صدقه أو كذبه؟ ثم هل تنفصل الثقافة عن الإيديولوجيات والأديان؟ أليس الدين والإيديولوجية جزءا من ثقافة أى مجتمع، بل فى كثير من الأحيان هو الجزء الرئيسى فيها؟ وإلا فإذا صح ما يقوله هانتنجتون من أن الثقافة شىء آخر غير الدين والإيديولوجيا، هل ينتهى الصراع بين العرب وبين دولة إسرائيل، التى قامت على أساس دينى وعنصرى فتفكك إسرائيل نفسها وتلتحق بأوربا وتصبح جزءا منها على اعتبار تقاربها الثقافى والجنسى مع الأوربيين أم ماذا؟ أم هل سينتهى الصراع بين الهند وباكستان على أساسه الدينى الذى يعود إلى تقسيم شبه القارة الهندية إلى دولتين فى أواخر الأربعينات؟ أولن نشهد من الآن فصاعدا صراعات بين الدول التى تنتمى إلى ثقافة واحدة كما هو الوضع بين الفييتنامَيْن والكوريتَيْن، وبين إيران والعراق، بل بين العراق والكويت، وبين الجزائر والمغرب... إلخ؟ أولن نرى بعد ذلك صراعات داخل الوطن الواحد كما هو الحال فى الصراع بن الدولة والباسك فى إسبانيا، أو بين الجنوب والشمال فى السودان، أو بين السود والبيض فى الولايات المتحدة الأمريكية، أو بين المواطنين الأصلاء وبين المتجنسين والمهاجرين فى فرنسا، أو بين الكاثوليك والبروتستانت فى المملكة المتحدة البريطانية، أو بين المسلمين والنصارى فى الفيليبين، أو بين المتدينين والمستغربين فى بعض الدول العربية والإسلامية أو بين الشعب والحكومة فى الدول الاستبدادية أو بين اليمين واليسار داخل الأمة الواحدة؟ أولن تقوم من هنا إلى يوم القيامة صراعات وحروب بين الدول بسبب العوامل الاقتصادية كالحصول على البترول والمواد الخام الأخرى بأسعار زهيدة أو بلا أسعار على الإطلاق إن أمكن، وتصريف المنتجات الوطنية فى الأسواق العالمية؟ أونفهم من هذا أنه لن تكون هناك أطماع بشرية مالية فى الحال والمآل؟ أما أنا فلا أظن ذلك، ولا أظن أن الإنسان سوف يتغير كثيرا من هذه الناحية، ولسوف تظل الصراعات تشتعل بين الدول لأسباب مختلفة لا تقتصر على العامل الثقافى أو الحضارى وحده. ثم إن الصراعات الثقافية ليست شيئا مجردا، بل عناصر متعددة تتجسد فى تلك الأشياء التى ذكرتها هنا وأشباهها، أما القول بغير ذلك فلا أستطيع أن أفهمه، فضلا عن أن أقتنع به! كذلك فإن القول بالصراعات وحدها، أيا كان لونها، هو قول ناقص، إذ الحياة كما تقوم على الصراع حتى فى داخل الأسرة الواحدة والبيت الواحد، بل حتى داخل النفس البشرية الواحدة، فإنها تقوم أيضا على التعاون والتكامل الذى تشهد العلاقات بين الدول والأمم ضُرُوبًا كثيرةً ومتنوعةً منه. وليس شرطا أن يتم التعاون بين البشر بغية أهداف مثالية، بل قد يكون ذلك بحكم الضرورة والواقع: فدولة تنتج شيئا لا تنتجه غيرها، وهذه تملك شيئا لا تملكه تلك، فتتبادلان ما ليس عندهما بالذى عندهما. وفى القرآن الكريم حديث عن التدافع، ولكن فيه أيضا دعوة حارة إلى توخِّى التعاون على البر والتقوى. بل كثيرا ما تضطرنا دنيا الواقع اضطرارا إلى ذلك التعاون حتى لو لم نكن بررة أتقياء، وإلا توقفت الحياة أو صارت صعبة مُعْنِتة فى أقل الأحوال. ونحن الآن نرى بأم أعيننا ونسمع بأم آذاننا الدول الغربية تطالب الحكومات العربية والإسلامية بالتعاون معها على مكافحة ما يسمونه: "الإرهاب"، والمقصود به الجماعات والهيئات الإسلامية التى تنهص بأعمال الخير أو تقاوم المشروع الأمريكى فى استذلال المنطقة واستعبادها، وهى جماعات وهيئات تنتمى إلى نفس الثقافة التى تنتمى إليها حكوماتها، ومع هذا لم يمنع الحكوماتِ المذكورةَ الثقافةُ المشتركةُ بينها وبين تلك الجماعات والهيئات من الوقوف فى ذات الخندق الذى تقف فيه الدول الغربية ذات الثقافة المخالفة لثقافة أممها. فماذا يقول هانتنجتون فى هذا؟ ونحن حين نقول ذلك لا نسوغه ولا نرضى عنه، بل نرى أنه لا ينبغى أبدا لأية دولة عربية أو إسلامية أن تمد يد التعاون إلى أولئك المجرمين ضد من يخرجون على إجرامهم ويحاولون أن يدفعوا شرورهم عن أمتهم، بل نريد فقط أن نبين للقارئ تهافت منطق هانتنجتون ومن يوافقونه على ما كتب. ولنتصور للحظة أن الصلات بين الدول لا تعرف إلا الصراع ولا تقوم إلا عليه، فأية حياة تلك يا ترى؟ إنها الجحيم بعينه! وإذا كان البشر رغم ما فى الحياة من تعاون وتعاضد لا يكفون عن الشكوى من قساوتها وأهوالها، فماذا تكون الحال لو كانت كلها صراعا خالصا وحروبا لا يهدأ لها أُوَار؟ إن هذا لأمر يبعث على الجنون.
ونصل لفرنسيس فوكوياما (Francis Fukuyama) الأمريكى ذى الأصل اليابانى الذى يوصف بـ"الفيلسوف" ضمن أشياء أخرى. "حاجة ببلاش كده" مثل أغطية "توبس" الواقية! وهو من مواليد شيكاغو 1954م، ومتخصص فى العلوم السياسية وحاصل على درجة الدكتورية فيها. وأهم كتبه، كما هو معلوم من الفلسفة بالضرورة، كتابه: "نهاية التاريخ وآخر البشر"، وهو الكتاب الذى أثار ضجيجا وعجيجا وغبارا كثيفا حين ظهر فى 1992م وزعم فيه أن التاريخ قد توقف عند الليبرالية الغربية ولن يبارحها إلى الأبد. لماذا يا مستر فوكوياما؟ لأن الاتحاد السوفييتى الذى كان يعارض المعسكر الرأسمالى الليبرالى قد انهار وانهار معه سور برلين وتوحدت الألمانيتان فى نظام واحد ليبرالى! بَيْدَ أن فوكوياما، ككل مخبول يعمى عن حجمه ويأخذه الغرور فيتأله، سرعان ما تراجع عن خيالاته المخبولة إلى القول بأن العلم مستمر لن يتوقف، ومن ثم فإن التاريخ سوف يستمر فى طريقه دون أن يتوقف هو أيضا. كتب هذا فى كتابه الآخر: "Our Posthuman Future: Consequences of the Biotechnology Revolution". أمَا كان من الأول؟ أليس من المضحك أن يسارع الفيلسوف (أم نقول بالأحرى: "المتفلسف"؟) بالتنبؤ بما يقول إنه سوف يظل سائدا إلى أبد الآبدين؟ إنه لا يقدم على هذا العبث إلا مخبول. ولقد رأيت صورته فى بعض المواقع المشباكية فكأنى قد لمحت فى عينيه خليطا من الخبث وشىء من التخلف الذهنى. كيف؟ الله وحده يعلم! واستغربت أن يفقد كثير من البشر عقولهم ويصدقوا بسهولةٍ هذا الهراء. ولكن ماذا نفعل، ولكل ساقطة لاقطة كما يقال؟ وكما نعرف فعلماء الطبيعة يقولون إن عمر الكون يقدر بملايين السنين، فكيف يتصور فوكوياما أن بمكنته الإحاطة بمستقبل البشر كله إلى آخر الزمان؟ أقصد: إلى ما لا نهاية، لأن أمثال فوكوياما لا يؤمنون بيوم آخر تنتهى عنده الدنيا، بل يعتقدون أن حياة الأرض سوف تستمر إلى الأبد! ألا يعرف هؤلاء شيئا اسمه التواضع والتأنى ومراجعة النفس والتشكك فيما يطقّ فى أدمغتهم من أفكار شاذة مضحكة؟ ومن قال له إن الليبرالية هى غاية الحياة التى لا غاية ولا تطور بعدها؟ وهل الليبرالية أصلا هى سبيل السعادة البشرية؟ فمن يشعل كل تلك الحروب وألوان الدمار فى العالم ويستعبد البشر ويقتلهم ويذلهم ويسرق ثرواتهم ويعمل على القضاء عليهم بالسلاح النووى؟ أليسوا هم الليبراليين؟ أليس هو، وهو الفيلسوف الليبرالى، من حَرّض على غزو العراق بذريعة أنه يمتلك أسلحة نووية، وألح على هذا الغزو فى كل الأحوال حتى لو لم يثبت أنه يمتلك تلك الأسلحة؟ فإذا كان، وهو الفيلسوف الليبرالى، بهذا الإجرام والتوحش، فكيف يريدنا أن نصدق بتخريفاته المجنونة المنفلتة من عقال الفكر والرحمة والإنسانية والمتسربلة بسربال الوحشية؟ صحيح أنه عاد وأدان غزو العراق، لكن بعد ماذا؟ بعد خراب بصرة، ومعها الكوفة وبغداد وغيرها من مدن العراق الأبىّ الذى نتمنى أن تكون "نهاية تاريخ الغطرسة الأمريكية" على أيدى أبطاله بمشية الله؟ ولكن لأن الزمار يموت وإصبعه يلعب، فما زلنا نرى فوكوياما لا يرفض التدخل الأمريكى العسكرى فى الدول الأخرى التى لا تريد أن تتصرف كما يتصرف الأولاد المهذبون الذين رباهم آباؤهم على الذل والطاعة وسماع الكلام وتنفيذه دون اعتراض، وتحاول التفلفص من قبضة القوى الغربية وتبدبدب برجلها فى الأرض رافضة أن تحتسى الديمقراطية التى تسقيهم أمريكا إياها بـ"الملعقة الصينى"، أو "اليابانى" بالأحرى! على أية حال فنحن لم نكد ننسى كارل ماركس ونبوءاته العلمية جدا التى ما إن قامت الثورات الشيوعية حتى استبان لكل ذى فهم أنها نبوءاتٌ فالصو، إلى أن هل علينا بطلعته غير البهية السيد فوكوياما، الذى لم يتعلم الدرس وقعد هو أيضا مقعد عالم الغيب والنجوى والسر وما هو أخفى و"تنحنح للفلسفة وحَكَّ اسْتَه وتمثل الأمثالا" حسبما يقول عمنا الكبير جرير الشاعر الأموى، الذى من حسن حظ فوكوياما أنه لم يكن يعيش فى عصره، وإلا لسلقه بما يستحقه من هجاء يفضحه فى العالمين ولَلَفَتَ إليه نظر الحجاج بن يوسف الثقفى فجاء به من قفاه وخبطه على وجهه زوجا من الأقلام التمام جزاءً وفاقًا لهذه الهلوسات الزائغة وعرَّفه أن الله حق وأعاد له عقله وجعله يمشى على العجين فلا يلخبطه! لكن فوكوياما، بكل أسف، يعيش فى أمريكا بلد التقاليع والجنون رغم كل ما فيها من علمٍ وجِدٍّ وإبداعٍ، وبخاصة إذا كان المجنونُ صاحبُ التقليعة يرى فى أمريكا جبل الأولمب الذى كانت تسكنه الآلهة فى سالف الدهر السحيق، ويرى فى الأمريكان أولئك الآلهة أنفسهم! وإذا كانت أمريكا قد رَسَّمت "المآبين" بطارقةً، فهل يُسْتَغْرَب أن تظهر فيها فكرةٌ شاذةٌ كهذه الفكرة الفوكويامية؟ وها هم حكام أمريكا الحاليّون ينقلبون على لُبّ لُبَاب الديمقراطية ويحاولون إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، فيأخذون الناس فى بلادهم بكثير من القيود والعنت معيدين ما عرفه الأمريكان من ترويعٍ مكارثىٍّ فى خمسينات القرن المنصرم. فإذا كان هذا يحدث بين الأمريكان أنفسهم، فكيف يضمن فوكوياما أن البشر من هنا إلى ما لا نهاية لن يزيغوا عن صراط الديمقراطية المستقيم؟ أم تراه يقول بأن الأمريكان والأوربيين بوجه عام سوف يتحكمون فى عقول الناس وقلوبهم وضمائرهم بحيث لا يفكر أحد من خلق الله فى غير الليبرالية؟ لكن من يضمن لنا ذلك؟ ومن يضمن بالذات أن غير الغربيين سوف يقبلون هذا الوضع وأنهم لن يثوروا عليه أو على الأقل: لن يتحمسوا له ببلادتهم المعهودة وكراهيتهم الفطرية (حسبما يظن الغربيون) للديمقراطية والليبرالية، ومن ثم لا ينجح؟ وهل الغربيون أنفسهم قد خَلَوْا من العيوب وتحولوا ملائكة أبرارا أطهارا لا يشغلهم ولا يؤرق بالهم فى يقظتهم ومنامهم إلا التفكير فى مصلحة عباد الله والعمل بكل وسيلة على دَمْقَرَتهم وعدم خروجهم على النص الليبرالى؟ يا سلام سَلِّمْ على شرباتك يا فوكوياما؟ أضحكتنى والله فى زمنٍ عَزّ فيه الضحك على العرب والمسلمين! وهذا الذى قلناه هنا عن هؤلاء الكتاب قد اعتمدنا فيه على المعلومات الموجودة فى المواد الخاصة بهم وبكتبهم فى "الويكيبيديا" وغيرها من الموسوعات والدراسات التى تعرضت لهم ويجدها القارئ منشورة فى المواقع المشاكية المختلفة، فيُرْجَع إليها لمزيد من التفصيل والتحليل.
على أن كلام الدكتور مصطفى عبد الغنى عن تحوّل المستشرق التقليدى إلى خبير إستراتيجى يتعاون مع أجهزة الاستخبارات الغربية والأمريكية منها بالذات قد يُوهِم العجلان غير الملمّ بأطراف الموضوع أن المستشرق التقليدى كان رجلا طيبا ينصرف إلى العلم دون التورط فى مثل ذلك التعاون الشرير. بيد أن الواقع يقول شيئا آخر غير ذلك، إذ كان هناك مستشرقون كثيرون يقومون بنفس تلك الأدوار الدنسة. بل إن عمل المستشرقين التقليديين فى الحقيقة كان بوجه عام أخطر وأشد تدميرا، فقد كان همهم كلهم تقريبا إثارة التشكيك بكل طريق فى ماضينا وديننا ورموزنا وإنجازاتنا، وإفقادنا ثقتنا بأنفسنا تمهيدا لزعزعة بنائنا النفسى والاجتماعى والسياسى والعقيدى، حتى إذا حلت اللحظة المرتقَبة من جانبهم أَلْفَوْا كل شىء منهارا، أو على وشك الانهيار، فدخلوا الديار والأوطان دون جهد كبير أو خسائر ذات قيمة وعاثوا فيها الفساد كله. ولدينا "دائرة المعارف الإسلامية" التى تَضَافَر على كتابتها عُتَاة المستشرقين على مدى عشرات السنين وأودعوها خلاصة الفكر الاستشراقى فلم يَذَرُوا شيئا مما يخصنا إلا وشككوا فيه، باحثين فى الزوايا والأركان المظلمة عن أى شىء يستندون إليه لخلق تلك الشكوك، تاركين الروايات الوثيقة التى يعرفها كل إنسان إلى روايات شاذة لا يقول بها أحد يستحق الاطمئنان أو الاحترام، وفاصلين العبارات عن سياقها كى تعنى شيئا آخر غير ما تعنيه فى الحقيقة، ولاجئين إلى التخيلات والإيهامات الإبليسية بدلا من حقائق التاريخ التى لا يخر منها الماء، وهو ما أثبتُّه على مدار عدة مئات من الصفحات فى كتابى: "دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل". وهم فى هذا كله لا يتعففون عن الكذب إذا اقتضى الأمر كذبا، أو يلوون النصوص عن معناها المستقيم، أو يترجمونها بما يفيد هدفهم ويوصلهم لغايتهم. فكيف يمكن أن يتصور عاقل أن المستشرق التقليدى كان أكثر عدلا وإنصافا أو أكبر نصيبا من الإنسانية فى التعامل معنا والنظر إلى حضارتنا؟ لا نكران أنه كان هناك ولا يزال طائفة من المستشرقين لم تفقد الحس الإنسانى، بل تحترم العلم ومنهجه وتتعامل معنا برجولة وإخلاص، إلا أن نسبة هذا الصنف الرجولى منهم قليلة. ذلك أن الغربى، بوجه عام، لا يرى فى الوجود إلا نفسه وإلا الأمم التى ينتسب إليها. وقد كنت أقرأ منذ يومين كتاب "الحضارة" للدكتور حسين مؤنس، وكان رحمه الله متزوجا بالمناسبة من سيدة أوربية، فكان فى كل مناسبة يلح على هذا المعنى مبيّنا أنهم هكذا كانوا قديما، وهكذا هم حاليا، وأن كل ما ينادون به من قيم ومبادئ إنما هو للاستهلاك الداخلى، أى لهم هم أنفسهم ولا يصح تصديره إلى الخارج، فهم قوم أنانيون متكبرون، لا ينجو من هذا العيب إلا القليل منهم بما فيهم كبار مفكريهم وفلاسفتهم وعلمائهم ورجال دينهم (انظر مثلا ص 261- 262، 267، 295- 296، 298- 305 من طبعة "عالم المعرفة" من الكتاب المذكور).
وهذا الذى يقوله الدكتور مؤنس يقوله كل من احتك بالحضارة الغربية وبَشَرها وعرفهم واطلع على خباياهم رغم عدم نكراننا لما فيهم من فضائل، إلا أنها فى الغالب فضائل لا ينعم بها إلا هم، فهى فضائل غير قابلة للتصدير كما قلنا. ولا بأس أن نستشهد فى هذا السياق بكلمة لسيد قطب تدور فى ذات المدار وتقول نفس الكلام على رغم الشُّقّة الواسعة التى تفصل بين مؤنس وقطب. يقول المرحوم قطب، والكلمة منقولة عن مقال د. محمد عباس: "الإخوان المسلمون آخر سدٍّ عالٍ، وبانهياره تنهار الأمة" الموجود على موقعه المشباكى: "وكلهم سواء أولئك الغربيون: ضمير متعفن، وحضارة زائفة، وخدعة ضخمة اسمها "الديمقراطية" يؤمن بها المخدوعون! تلك كانت عقيدتي في الجميع، في الوقت الذي كان بعض الناس يحسن الظن بفريق ويسيء الظن بفريق، وكانت أمريكا في الغالب هي التي تتمتع بحسن الظن من الكثيرين. فها هي أمريكا تتكشف للجميع. هذا هو ترومان يكشف عن "الضمير الأمريكاني" في حقيقته، فإذا هو نفسه ضمير كل غربي، ضمير متعفن لا يثق به إلا المخدوعون! إنهم جميعًا يَصْدُرون عن مصدر واحد، هو تلك الحضارة المادية التي لا قلب لها ولا ضمير، تلك الحضارة التي لا تسمع إلا صوت الآلات، ولا تتحدث إلا بلسان التجارة، ولا تنظر إلا بعين المرابي، والتي تقيس الإنسانية كلها بهذه المقاييس... يقول نبي الإسلام الكريم صلى الله علي وسلم: "لا يُلْدَغ المؤمن من جحر مرتين"، وها نحن نُلْدَغ من الجحر الواحد مرات ثم نعود في كل مرة إلى هذا الجحر نفسه مغمضي الأعين نتطلب "الشهد" من جحور الأفاعي، ولا نجرب مرة واحدة أن نحطم هذه الجحور، وأن ندوس هذه الأفاعي، وأن ننفض عن نفوسنا ذلك الوهم الذي يقودنا المرة بعد المرة إلى تلك الجحور!".
على أن ما قلته هنا عن موقف الغربيين منا إنما هو كلام عام منا عن موقفهم العام منا، فلندلف إذن إلى أمثلة خاصة محددة يتعاون فيها المستشرق التقليدى مع القوى الاستعمارية الشريرة التى تعمل وما زالت على تحطيمنا بل إفنائنا إذا ما استطاعت، فنراه يستعمل أساليب الدعاية الباطلة ويكذب ويلجأ إلى كل وسيلة باطلة لتشتيت عقول الجماهير العربية والمسلمة ويتجسس وينخرط فى القوات العسكرية ويدل قومه على مواضع عوراتنا ويبصرهم بالوسيلة التى تكفل لهم تدميرنا وسحقنا: فمن ذلك على سبيل المثال شيخ الضلال والكفر، كبير المستشرقين الفرنسيس فى أيامه سلفستر دى ساسى، الذى كان يتعاون مع حكومة بلاده فى مشاريعها الاستعمارية ضد المسلمين، إذ رافق الحملة الفرنسية على مصر، وكان يترجم البيانات الفاجرة التى نشرتها عند دخولها أرض الكنانة عام 1797، وكذلك عند احتلال فرنسا للجزائر بعد ذلك ببضعة عقود (قاسم السامرائى/ الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية/ دار الرفاعى/ الرياض/ 1403 هـ). كما استعان به جاك مينو القائد الثالث والأخير لتلك الحملة حين عاد إلى فرنسا بعد فشلها نهائيا وخروجها مدحورة من أرض الكنانة، ومعه زبيدة زوجته المصرية الرشيدية المسلمة التى وضعت طفلهما بعد أيام من تلك العودة وأراد هو تعميده بوصفه طفلا نصرانيا بعد أن كان هو نفسه قد ارتد إلى الكفر مرة أخرى، والعياذ بالله، وظهر على حقيقته ورمى العمامة التى كان يلبسها فى مصر واستبدل بها القبعة، ونبذ اسمه الذى كان قد انتحله أيام إعلانه الإسلام فى مصر، وهو اسم "عبد الله"، ورجع إلى اسمه الأول: "جاك"، فأبت فى البداية، لكنه حاول أن يقنعها أن الأديان جميعا واحدة، وأن العبرة بالعمل الطيب، وأن هذا هو ما يقوله دينها نفسه، إلا أنها تشبثت بموقفها... إلى أن أرسل فى طلب دى ساسى، الذى جاء وخدعها مفهما إياها أن الإسلام يقول ذلك فعلا، والدليل هو قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" (البقرة/ 62). وبهذا استغفلها ذلك الثعبان الأرقط وضحك على عقلها مستغلا قلة إلمامها بدينها، وظل وراءها بعد ذلك يخادعها حتى ليقال إنها خرجت هى أيضا من الإسلام وهى لا تدرى أن ما قاله لها ساسى كذب فى كذب وأن من يكفر بأى نبى من الأنبياء فهو كافر فى نظر الإسلام وتحرم عليه الجنة، فما بالنا بالكفر بمحمد والارتداد عن دينه إلى دين الصليب والتثليث مما حمل عليه القرآن وأحاديث النبى حملة شعواء لا تترك خرم إبرة لأى مخادع كى يزعم أن الأديان الأخرى بعد بزوغ شمس الإسلام تتساوى معه فى إدخال صاحبها الجنة؟ وحتى لو وافقناه جدلا على هذا السخف، فلم كان عليها أن تترك الإسلام وتدخل النصرانية ما دامت جميع الأديان واحدة؟ ثم لماذا انتحل هو الإسلام عندما كان فى مصر ورماه بعد أن عاد إلى بلاده إذا كان الأمر كما يقول؟ ولكن ماذا نقول فى خنازير الاستعمار والاستشراق وخبثهم وانحطاط أخلاقهم؟ (انظر رفاعة رافع الطهطاوى/ تخليص الإبريز فى تلخيص باريز/ وزارة الثقافة والإرشاد القومى/ القاهرة/ 1958م/ 101- 102 حيث يروى رفاعة قصتها وتغرير دى ساسى بها مع ألمه الشديد لما حصل، حاكما بالكفر على من يرتد عن الإسلام، ومؤكدا أن كل دين سواه هو دين باطل).
هذا، وأجب أن أفترص هذه الفرصة فأبين موقف الإسلام من أتباع الديانات الأخرى الذين زعم جاك مينو وسلفستر دى ساسى أنهم داخلون الجنة فأقول: أما قوله تعالى الذى استشهد به ذانك الكذابان المراوغان على أن اليهود والصابئين والنصارى لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فلا يعنى أن أولئك الأقوام داخلون الجنة حتى لو بَقُوا على أديانهم المنحرفة، بل يعنى أن الباب فى الإسلام مفتوح أمام أهل الأرض جميعا للإيمان بدعوة محمد والنجاة من ثمّ فى الآخرة حتى لو لم يكونوا من العرب الذين آمنوا فى البداية بمحمد، إذ العبرة فى الدين الخاتم أنه دين عالمى لا دين عصبية قبلية أو قومية مثلا. ولهذا نجد أن الإسلام قد علَّق تلك النجاة على إيمانهم بالله واليوم الآخر وعملهم الصالحات: "إن الذين آمنوا، والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (المائدة/ 69). وفى البقرة آية أخرى مشابهة لهذه هى الآية 62. والإيمان بالله واليوم الآخر لا يصحّ إلا إذا آمن الشخص بجميع الأنبياء والمرسلين بما فيهم، بل وعلى رأسهم، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك واضح من الآيات التالية: "إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله ويقولون: نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعضٍ ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا* أولئك هم الكافرون حقا، وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينا" (النساء/ 150- 151)، "وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ مصدِّقُ الذى بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها. والذين يُؤْمِنون بالآخرة يُؤْمِنون به، وهم على صلاتهم يحافظون" (الأنعام/ 92)، "قال: عذابى أُصِيبُ به من أشاء، ورحمتى وسِعَتْ كل شىء، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون* الذين يتَّبِعون الرسولَ النبىَّ الأُمّىَّ الذى يجدونه مكتوبًا عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويُحِلّ لهم الطيبات ويُحَرِّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصْرَهم والأغلالَ التى كانت عليهم. فالذين آمنوا به وعزَّروه ونصَروه واتَّبَعوا النور الذى أُنْزِل معه أولئك هم المفلحون" (الأعراف/ 156- 157)، وغير ذلك. وما من مرة أثنى القرآن على أحد من أهل الكتاب إلا كان بعد دخوله الإسلام، إلا أن بعض ذوى الأهواء يَبْغُون منا أن نقرأ النصوص القرآنية بقلوب مريضة وعيون عمياء، لكن كيف يبصر الأعمى ومن فى قلبه مرض؟ وعلى هذا ينبغى أن نقرأ كتاب الله فى كُلّيّته وشموله ولا نجعله عِضِين. وإذا دقق القارئ فى الطريقة الترقيمية التى كُتِبَتْ بها الآية السابقة فسوف يتضح له ما أقصد. ونستطيع أن نعيد كتابتها بطريقة ترقيمية أخرى كى تزداد الأمور اتضاحًا: "إن الذين آمنوا (والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ). ذلك أنه لا معنى لاشتراط الإيمان بالله واليوم الآخر فى حالة المؤمنين، أى المسلمين، وهم الطائفة المذكورة فى بداية الكلام، إذ هم مؤمنون فعلا، على عكس الحال مع اليهود والصابئين والنصارى الذين لم يؤمنوا بمحمد بعد، ومن ثم فلا يُعَدّون مؤمنين كما بيّنّا قبلا من خلال آيات القرآن الكريم.
كذلك أذكر أنى قرأت فى نهاية سبعينات القرن الماضى فى أكسفورد كتابا من تأليف شاب فرنسى تظاهر بالإسلام ليقترب من خلاله إلى الأمير عبد القادر الجزائرى أيام جهاده ضد الاستعمار الفرنسى ويحصل منه على رسالة تزكية بغية تقديمها إلى علماء المسلمين فى بعض البلاد العربية من أجل الحصول على فتوى تفيد مجرمى المستعمرين الفرنسيس. حتى إذا حصل على ما يريد من الفتوى المنشودة ارتد إلى الكفر الذى كان عليه. وكان عنوان الكتاب، إذا كان لى أن أعتمد على ذاكرتى بعد كل تلك السنين، هو "Dix Ans à travers L'Islam: عشرة أعوام فى بلاد المسلمين".
ومن المستشرقين الذين وضعوا أيديهم مباشرة فى يد القوى الاستعمارية المجرمة أيضا المستشرق البريطانى إدوارد هنرى بالمر مترجم القرآن الكريم الذى كان يعيش فى القرن التاسع عشر والذى وضع نفسه، قبيل غزو الإنجليز لمصر فى أول ثمانينات ذلك القرن، تحت أمر الاستخبارات الإنجليزية لتجنيد البدو السينائيين وإغرائهم بخيانة عرابى والخروج عليه والانضمام إلى قوات الاحتلال البريطانى وتسهيل مهمة احتلالها أرض الكنانة، بوصفه خبيرا استشراقيا بسيناء وجغرافيتها وتاريخها وسكانها وصاحب علاقات واسعة مع الناس هناك. وقد استطاع ذلك المجرم فعلا أن يكسب إلى صفه بالمال السحت عددا من مشائخ القبائل الخونة، لكن انتهى به المطاف إلى أن اغتيل هو وعدد من أولئك الخائنين، لعنة الله عليه وعليهم وعلى كل خائن أمس واليوم وغدا، وألقيت جثثهم المنتنة من فوق الجبل إلى الوادى السحيق، سحق الله عظام كل كلب فى نار جهنم. ويجد القارئ حكاية هذا الخنزير النجس بشىء من التفصيل فى الترجمة الخاصة به فى "موسوعة المستشرقين" للدكتور عبد الرحمن بدوى، وقد نقلها بدوره عن كتاب "Oriental Essays: Portraits of Seven Scholars" للمستشرق البريطانى المعروف آرثر جون آربرى (A. J. Arberry)، الذى قال تعقيبا على نهاية مواطنه ورصيفه المجرم الغدار إنه يؤمن "بكل قوة ورسوخ أن المهمة الحقيقية للعالم هى العلم وليس السياسة"، ولذلك لم ير فيما حدث لبالمر شيئا غير مستحق حسبما ذكر بدوى فى نهاية ترجمة بالمر (انظر الحكاية كاملة ص 69- 71 من "موسوعة المستشرقين"/ ط3/ دار العلم للملايين/ بيروت/ 1993م). وبالمناسبة ففى مكتبتى الخاصة نسخة من ترجمته للقرآن، وكذلك نسخة من ترجمة آربرى أيضا، اشتريتهما وأنا أدرس فى أكسفورد للحصول على الدكتورية فى النصف الأخير من سبعينات القرن الماضى. وبالمناسبة أيضا هناك على المشباك جزء من كتاب آربرى الذى يترجم فيه لبالمر، ومنه صفحات غير قليلة من هذه الترجمة كنوع من الدعاية المغرية للقراء بشراء الكتاب، إلا أن الصفحات الأخيرة منها، وهى التى تهمنا هنا، للأسف غير موجودة.
والمضحك أن آربرى الذى ينتقد بالمر لنشاطه السياسى اشتغل هو أيضا فى ذلك المجال ولنفس الغاية، ألا وهى التمكين للاستعمار البريطانى فى بلاد الشرق العربى والإسلامى. وقائل هذا هو الدكتور بدوى نفسه فى ترجمته له بموسوعته التى نحن بصددها الآن، إذ قال: "لما قامت الحرب العالمية الثانية فى أول سبتمبر 1939 انتُزِع آربرى من أعماله العلمية المفيدة ونُقِل إلى قسم الرقابة على البريد التابع لوزارة الحرب فى ليفربول، فأمضى فيه ستة أشهر نُقِل بعدها إلى وزارة الإعلام فى لندن، فبقى فى هذا العمل طوال أربع سنوات يصدر بنفسه أو مع غيره منشورات لا نهاية لها للدعاية البريطانية فى الشرق الأوسط باللغتين العربية والفارسية. بل إنه ظهر فى فلم للدعاية البريطانية" (ص 6 من الموسوعة المذكورة). وإلى نشاطه هذا اكتفت "الموسوعة الإيرانية: Encyclopaedia Iranica" فى المادة التى خصصتها له بالإيماء مجرد إيماء دون أن تدخل فى أية تفاصيل، إذ كل ما قالته هو: "With the outbreak of war in 1939 he was transferred to the War Office and then to the Ministry of Information in London"، وهذا كل ما هنالك!
وممن ينبغى ذكرهم هنا فى هذا السياق العفن المستشرق الهولندى سنوك هرخرونيه، الذى حصل على الدكتورية فى 1879م برسالته عن شعائر الحج فى الإسلام زاعما أن تلك الشعيرة هى بقية من بقايا الوثنية الجاهلية، ثم اشتغل فى أندونيسيا بدءا من عام 1891م مستشارا للسلطات الاستعمارية الهولندية للشؤون الإسلامية باذلا كل جهده فى التمكين لتلك السلطات فى استغلال أهل البلاد ووضع الخطط التى تساعدها فى التنكيل الوحشى بمن يثور منهم طلبا للاستقلال، وهو مما ترتب عليه قَتْل ما بين خمسين ألفا ومائة ألف من الأندونيسيين وجَرْح نحو مليون منهم فى إحدى الحروب بينهم وبين المحتلين الهولنديين كما جاء فى المقال الخاص به فى "الويكبيديا" على النحو التالى:
"In 1889 he became professor of Malay at Leiden University and official advisor to the Dutch government on colonial affairs. He wrote more than 1,400 papers on the situation in Aceh and the position of Islam in the Dutch East Indies, as well as on the colonial civil service and nationalism. As the adviser of J. B. van Heutsz, he took an active part in the final part of the Aceh War. He used his knowledge of Islamic culture to devise strategies which significantly helped crush the resistance of the Aceh inhabitants and impose Dutch colonial rule on them, with the price variously estimated at between 50,000 and 100,000 inbitants dead and about a million wounded".
وهناك كذلك المأبون المسمَّى كذبا وبهتانا: "لورانس العرب"، بمعنى "صديقهم والعامل من أجل مصلحتهم"، ذلك الذى أشعل الثورة فى بلاد العرب ضد الأتراك موهما الزعماء والقبائل الذين التفوا حوله بأنه يسعى إلى تخليصهم من النير العثمانى وإعادة مجدهم التالد عن طريق إقامة دولة عربية يحكمون أنفسهم فيها بأنفسهم. وما إن نجحت الثورة فى القضاء على نفوذ الترك حتى ظهر المستور وقُسِّمت الدول العربية فى الشام ما بين الاحتلال البريطانى ونظيره الفرنسى، وشرب العرب مقلبا لم يشربوا مثله من قبل. وهم، بحمد الله الذى لا يُحْمَد على مكروه سواه، لم ينفطموا حتى الآن عن عادتهم فى شر المقالب رغم وضوح التآمر لكل من له عينان، وكذلك لكل من ليست له هاتان العينان.
ثم عندنا أيضا لويس ماسينيون، المستشرق الفرنسى الذى انخدع وما زال ينخدع فيه البعض فيظنون أنه من محبى العرب والمسلمين، حتى إن الكاتب والمحامى المعروف محمد لطفى جمعة، الذى كان يعرفه معرفة شخصية ويتبادل معه الرسائل، ظن يوما أنه قريب جدا من الإسلام وأنه يبذل جهوده فى خدمة ذلك الدين، مما اضطرنى فى تقديمى لكتاب جمعة: "حوار المفكرين" (عالم الكتب/ 2000م/ 51- 54) أن أقول ما أعرفه عنه من أنه كان يشتغل فى الاستخبارات الفرنسية فى بلاد الشام أثناء الحرب العالمية الثانية (كولونيلاً فيما أذكر) بغية تجنيد العرب هناك لنصرة الاستعمار الفرنسى موزِّعًا المال المسروق منهم فى إغواء خَوَنتهم المستعدين لبيع ضمائرهم المسوَّسة النخرة والتعاون مع أعداء بلادهم ودينهم لقاء عَرَضٍ من الدنيا تافهٍ حقيرٍ مثلهم. وهذا ما قاله الصحفى اللبنانى إسكندر الرياشى فى كتابه المسمَّى: "رؤساء لبنان كما عرفتهم"، وهو مذكور فى فصل عنوانه: "الصندوقجى كان اسمه ماسينيون" (ص 211- 254 من الكتاب المذكور/ منشورات المكتب التجارى/ بيروت/ 1961م). كذلك جاء فى كتاب القس القبطى المسلم الأستاذ إبراهيم خليل أحمد: "المستشرقون والمبشرون فى العالم العربى والإسلامى" (مكتبة الوعى العربى/ 73- 74) أن ماسينيون كان يشتغل مستشارا لوزارة المستعمرات الفرنسية فى شؤون شمال إفريقية والراعى الروحى للجمعيات التبشيرية الفرنسية فى مصر، وهو ما يقوله أيضا لطفى حداد كما سنرى بعد قليل، بالإضافة إلى ما ذكره الكاتب الجزائرى مالك بن نبى، من واقع تجربته الشخصية فى فرنسا أيام أن كان يطلب العلم هناك، وذلك فى كتابه: "مذكرات شاهد القرن" عن دور الرجل فى اصطياد الطلاب الجزائريين فى فرنسا.
هذا، وأحب أن أزجى إلى القارئ هذه الكلمة السريعة عن الرياشى، وهى لصاحب دار "أطلس للنشر والتوزيع" ناشر الطبعة الجديدة من كتاب "رؤساء لبنان" المذكور آنفا، ويجدها القارئ فى موقع "أدب وفن": "إسكندر رياشي "البلاي بوي" الأنيق، سمسار الفرنسيين وعميلهم باعترافه، لاعب القمار مع كبار السياسيين، والآكل على موائدهم، ومشاركهم في حفلاتهم "الرومانية" الصاخبة وصفقاتهم، والشاهد على فضائحهم الجنسية كان أفضل مؤرخ لتلك الحقبة من تاريخ لبنان الممتدة من نهاية الحرب العالمية الأولى إلى سنة 1958 وتبوُّء الرئيس الراحل فؤاد شهاب سدّة الحكم في لبنان. الفرق بين رياشي وسواه من أبناء عصره أنه كان حراميا "جنتلمان"، في حين كان معظم أترابه من سياسيين وصحافيين حراميين حاف". وواضح أن الرياشى كان متين الصلة بالفرنسيين ونشاطاتهم فى المنطقة، ومعنى ذلك أنه حين يتحدث عن ماسينيون وجهوده فى ميدان الاستخبارات والمؤامرات الاستعمارية وما إلى ذلك فإنما يتحدث حديث العارف المعايش لا حديث السامع من بعيد. وإنصافا لمحمد لطفى جمعة أرى من واجبى الإشارة إلى أنى وجدته بعد ذلك قد تراجع عما كان قاله فى ماسينيون وأبدى تحفظاته فيه.
ويقول لطفى حداد عنه فى مقال له بعنوان "لويس ماسينيون: مسلم على مذهب عيسى" المنشور بموقع "عشاق الله": "يُعْتَبَر لويس ماسينيون 1883 – 1962 من أكبر مستشرقي فرنسا وأشهرهم، وقد شغل عدة مناصب مهمة كمستشار وزارة المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال أفريقيا، وكذلك الراعي الروحي للجمعيات التبشيرية الفرنسية في مصر"، ثم يضيف قائلا إن "ارتباطاته الفرنسية قد جعلته موضع شبهة، فهناك الكثير من الآراء السلبية عنه وعن تصرفاته وأقواله... أما ارتباطه بالاستعمار الفرنسي للشرق العربي وكذلك حملات التطهير للبسطاء والأميين فهو مثار جدل، وقد يكون حقيقيا".
والغريب أننا، بعد هذا كله، لا نزال نجد كلاما كالكلام الآتى عن الرجل، وصاحبه هو أحمد عبد الحليم عطية، الذى ألقاه ضمن بحث له فى ندوة عقدتها كلية الآداب بجامعة القاهرة بالتعاون مع المركز الفرنسي للثقافة والتعاون والجمعية الفلسفية المصرية في الأيام من 13-15 آذار 1999م، والذى يقول فيه عن ذلك المستشرق إنه "ليس مجرد مستشرق منصف فحسب، محب للعرب والمسلمين مدافعا عنهم مناصرا لقضاياهم، بل هو الصوفي الروحاني. ويمكن القول، ربما مع شيء من التجاوز، إن صورته لدى غالبية الأساتذة العرب المعاصرين في مجال الدراسات الإسلامية، هي صورة الباحث المتوحد بموضوعه المخلص له. والموضوع الذي أخلص له هو الإسلام وتجلياته المختلفة وصولاً إلى الواقع الإسلامي المعاش الذي جاب معظم بلدانه وأتقن عددا من لغاته: العبرية والفارسية والتركية، وصادق الكثير من علمائه. ارتبط ماسينيون بعلاقات واسعة مع عدد من العلماء والباحثين العرب والمسلمين، وقد ملك قدرة كبيرة جدا وجذبهم إليه وتحول حبهم وعونهم له إلى علم ومعرفة. وكان الدين الإسلامي الإبراهيمي هو الموضوع الذي عاش به ومن أجله دارسا منقبا وباحثا متحريا بل وصوفيا عاشقا، فهو العاشق لتجلي المطلق عبر ديانات التوحيد، ومنها الإسلام. إن هذا الحب الصادق الذي عاش به ومن أجله للإسلام جعل كثيرا من الباحثين يصلون إلى قناعة في صدق حبه للإسلام، فقال أحد الباحثين بأنه يؤمن برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قال ذلك وأثبته مرات متعددة في كتبه، ويؤمن بالوحي والقرآن حتى أذاع عنه بعض عارفيه أنه اعتنق الإسلام. ولكن الحقيقة أنه لم يفعل ذلك جهارا، ولكن أحاديثه تدل على كثرة اشتغاله بأدق مسائل الإسلام" (نقلا عن مقال "ماسينيون والشيبي: اقتلوني ياثقاتي، إن قتلي حياتي: يوميات متأخرة للشيخ الفرنسي في بغداد" لطالب مهدي الخفاجي، والمقال منشور بمجلة "ألف ياء" المشباكية).
ويمكننا أيضا أن نذكر فى هذا السياق باول كراوس المستشرق اليهودى التشيكوسلوفاكى الأصل الذى هاجر إلى فلسطين وعاش فى إحدى المستوطنات المبكرة هناك وتعلم فى المدرسة والجامعة فيها مشاركا فى اغتصاب الأرض المقدسة من أصحابها العرب والمسلمين بإجرام وتوحش ونذالة، والذى عُيِّن رغم ذلك كله أستاذا فى الجامعة المصرية فى 1936م بفضل طه حسين، الذى كان عميدا لكلية الآداب آنذاك! وهى "مأثرة" من "مآثر" الدكتور طه حبيب الصهاينة والصليبيين الحميم تسجَّل له فى صحائف العار والشنار الخالدة! وقد انتهت حياة هذا المجرم قتلاً فى سبتمبر 1944م: انتحارا حسبما يقول أحد المقربين إليه آنذاك، وهو د. عبد الرحمن بدوى، الذى فسر وجوده مشنوقا بشقته فى الزمالك بالقاهرة بأنه كان، فيما يبدو، عضوا بعصابة شتيرن اليهودية الإرهابية التى كانت تشيع الرعب فى قلوب الفلسطينيين وتغتالهم وتدمر مزارعهم وبيوتهم كى تكرههم على النزوح من ديارهم فيخلو الجو لليهود المغتصبين ويقيموا دولتهم على تراب مسرى نبينا محمد، وأنه قد كُلِّف باغتيال اللورد موين، الذى كان اليهود يَرَوْن فيه حجر عثرة فى سبيل أطماعهم فى فلسطين فصمموا على اغتياله وأسندوا تلك المهمة إلى كراوس، إلا أنه آثر أن ينتحر على أن ينفذ عملية الاغتيال فيُعْدَم كما هو متوقع. هذا تفسير الدكتور بدوى، وهو تفسير غير مقنع بالمرة، إذ إن القبض على كراوس إذا قام بعملية الاغتيال وإعدامه ليس إلا مجرد احتمال مهما تكن قوته، بخلاف الانتحار، فإنه موت أكيد. كما كان من الممكن لكراوس أن يقوم باغتيال موين ثم ينتحر إذا صح تفسير بدوى، وبهذا يكون قد جمع بين الحُسْنَيَيْن، أو بوجهٍ أَحْرَى: بين السُّوأَيَيْن، لعنة الله على الجميع من مجرمين عتاة لا يرقبون فى العرب والسلمين إلاًّ ولا ذمّة. وأيا ما يكن الأمر فقد كان الرجل، على ما تفيد شواهد الحال وتفسير صديقه عبد الرحمن بدوى، الذى كان تلميذا من تلاميذه فى الجامعة المصرية آنذاك، مرتبطا بالعصابات الصهيونية الإجرامية القاتلة ومنغمسا فى النشاطات السياسية والعمل السرى القذر خدمةً لقومه بنى صهيون (انظر "موسوعة المستشرقين"/ 466- 467 فى آخر الصفحات المخصصة لترجمته).
ويؤكد د. مازن بن صلاح مطبقاني، فى مقال له منشور على المشباك بموقع "www.zawag.tv/islam_ma3arf" عنوانه: "الاستشراق"، كل ما سبق ذكره عن المستشرقين بعامّةٍ قائلا: "لقد خدم الاستشراق الأهداف السياسية التوسعية للدول الغربية، فقد سار المستشرقون في ركاب الاحتلال. وهم، كما أطلق عليهم الأستاذ محمود شاكر رحمه الله، "حملة هموم الشمال المسيحي، فقدموا معلومات موسعة ومفصلة عن الدول التي رغبت الدول الغربية في استعمـارها والاستيلاء على ثرواتها وخيراتها. وقد اختلط الأمر في وقت من الأوقات بين المحتل والمستشرق، فقد كان كثير من موظفي الاحتلال على دراية بالشرق لغةً وتاريخًا وسياسةً واقتصـادًا. وقد أصدر، على سبيل المثال، مستشرق بريطاني كتابا من أربعة عشر مجلدا بعنوان "دليل الخليج الجغرافي والتاريخي". وكان موظف الحكومات المحتلة لا يحصل على الوظيفة في إدارة الاحتلال ما لم يكن على دراية بالمنطقة التي سيعمل بها.
واستمر الارتباط بين الدراسات العربية الإسلامية وبين الحكومات الغربية حتى يومنا هذا بالرغـم من أنه قد يوجد عدد محدد جدا من الباحثين الغربيين دفعهم حب العلم لدراسة الشرق أو العالم الإسلامي. ومن الأدلة على هذا الارتباط أن تأسيس مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجـامعة لندن قد أُسِّسَت بناءً على اقتراح من أحد النواب في البرلمان البريطاني. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية رأت الحكومة البريطانية أن نفوذها في العالم الإسلامي بدأ ينحسر، فكان لا بد من الاهتمام بالدراسات العربية الإسلامية، فكلفت الحكومة البريطانية لجنة حكومية برئاسة الإيرل سكاربورو (Scarbrough) لدراسة أوضاع الدراسات العربية الإسلامية في الجامعات البريطانية. ووضعت اللجنة تقريرها حول هذه الدراسات وقدمت فيه مقترحاتها لتطوير هذه الدراسات واستمرارها. وفي عام 1961 كونت الحكومة البريطانية لجنة أخرى برئاسة السير وليام هايتر (Sir William Hayter) لدراسة هذا المجال المعرفي، وقامت اللجنة باستجواب عدد كبير من المتخصصين في هذا المجال، كما زارت أقسام الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات البريطانية وفي عشر جامعات أمـريكية وجامعتين كنديتين. وكانت زيارتها للولايات المتحدة بقصد التعرف على التطورات التي أحدثها الأمريكيون في هذا المجال، وكان ذلك بتموين من مؤسستي روكفللر وفورد.
ومما يؤكد ارتباط الدراسات العربية الإسلامية بالأهداف السياسية الاحتلالية رغم انحسار الاحتلال العسكري أن الحكومة الأمريكية موّلت عددا من المراكز للدراسات العربية الإسلامية في العديد من الجامعات الأمريكية، وما زالت تمول بعضها إما تمويلاً كاملاً أو تمويلاً جزئيًّا وفقا لمدى ارتباط الدراسة بأهداف الحكومة الأمريكية وسياستها. كما يستضيف الكونجرس، وبخاصة لجنة الشؤون الخارجية، أساتذة الجامعات والباحثين المتخصصين في الدراسات العربية الإسلامية لتقديم نتائج بحوثهم وإلقاء محاضرات على أعضاء اللجنة. كما ينشر الكونجرس هذه المحاضرات والاستجوابات نشرا محدودا لفائدة رجال السياسة الأمريكيين".
[email protected]
http://awad.phpnet.us/
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9
 
عودة
أعلى