المدينة ... في القرآن واللغة

إنضم
31/08/2004
المشاركات
112
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
العمر
63
الإقامة
فلسطين
الموقع الالكتروني
http

المدينة ... في القرآن واللغة


طارق حميدة - مركز نون للدراسات القرآنية/ فلسطين​



قال ابن فارس في معجم مقاييسه:
( دين: أصل واحد إليه يرجع فروعه كلّها، وهو جنس من الانقياد والذلّ. فَالدِّينُ: الطاعة، يقال دان له ديناً، إذا أصحب وانقاد وطاع. وقوم دين أى مطيعون منقادون. والمَدِينَةُ كأنّها مَفْعِلة، سمّيت بذلك لأنّها تقام فيها طاعة ذوى الأمر، و المدينة: الأَمَة. و العبد مدين).

وخلص المصطفوي في التحقيق إلى القول: ( انّ الأصل الواحد في هذه المادّة: هو الخضوع والانقياد قبال برنامج أو مقرّرات معيّنة. و يقرب منه الطاعة والتعبّد والمحكوميّة والمقهوريّة والتسليم في مقابل أمر أو حكم أو قانون أو جزاء.
ولازم أن نتوجّه بأن المعنى الحقيقىّ هو ما قلناه، ولا بدّ من اعتبار القيدين الخضوع وكونه في مقابل برنامج).


وإذا جمعنا كلام ابن فارس مع خلاصة المصطفوي، تحصّل لدينا أن مدينة الرسول عليه السلام قد سُمّيت بذلك لأنها تعني المكان القائم على طاعة وانقياد وفق قانون وبرنامج ، وهو قانون الله تعالى وشرعه.تحت إمرة وقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما المدينة بشكل عام فهي - كما ذكر ابن فارس- المكان الذي تقام فيه طاعة أولي الأمر، أياً كان شرعهم، وتبقى ميزة مدينة الرسول أنها قائمة على الانقياد لشرع الله تعالى، وهي الأنموذج في ذلك.


يُلحظ أن كثيراً من اللغويين يجعلون أصل الكلمة من الجذر ( مدن) لا من الجذر ( دين)، فلعل السبب أنهم استغربوا العلاقة بين الانقياد والخضوع من جهة وفكرة التمدن، ولعلهم مثل كثير من الدارسين قد نظروا إلى الجانب المادي في المدينة دون الجانب الحضاري التشريعي .. أو إلى فكرة الاستقرار التي رأوا أنها من خصائص المدينة وأن معنى الجذر مَدًن كعَدَن، فأحسب أنها من توهماتهم، لأن القرية في الاصطلاح القرآني تدل على هذا المعنى وهي في مقابلة البدو والبادية.


ولعل مما زاد في توهمهم أنه صار ينتزع ويشتق من المدينة اشتقاقات عكسية فيقال ( مدّن، وتمدّن)، وما أدق تعبير ابن فارس وهو يشكك في احتمال أن تكون المدينة من الجذر مدن حيث يقول: ( الميم والدال والنون ليس فيه إلا مدينة، إن كانت على فعيلة، ويجمعونها مدناً، ومدّنتُ مدينة).


وبالتالي فإن فكرة الانقياد لبرنامج وتشريع هي أهم ما يميز المدينة، وإذا كان أشرف الناس هم العباد الذين يدينون لله تعالى بالطاعة والانقياد والاستسلام، فإن أشرف التجمعات البشرية وأكثرها تمدناً وحضارة هي التي تدين لله تعالى وتخضع لشريعته، وهي المدينة الفاضلة التي يسعى لها البشر منذ القدم.


وللشيخ بسام جرار كلام نفيس في الحديث عن أسرار اسم المدينة، وأهمية الدين باعتباره المقوم الأساس لقيام المدينة الفاضلة.
وقد حاول الباحثون في دراسة التجمعات السكانية والدراسات الاجتماعية، التفريق بين المدينة والقرية، وما هي الخصائص والصفات التي تميز المدينة، وتلك المشتركة بين التجمعات التي وصفت بأنها مدن، لكن وُجد أن جانب النظام والإدارة يعتبر من أبرز ما لفتهم.
ولا يعنينا هنا السؤال عن التفريق بين التجمعات المعاصرة أيها مدن وأيها أرياف وقرى وما هي العناصر التي تتحول بموجبها القرية إلى مدينة؟ ذلك أن المطلوب يتعلق بالأبعاد اللغوية والقرآنية، وإلى حد ما، التاريخية.


من الناحية التاريخية فإن جانب الإدارة والنظام يكاد يكون مشتركاً في الكثير من المدن التاريخية، وكان هناك ما أُطلق عليه : الدولة المدينة، ولا يخفى جانب النظام والإدارة في هذا النمط.


بالمناسبة فإن مفهوم القرية الذي يعني الريف، يختلف عن المفهوم القرآني للقرية والذي يعني الحاضرة المستقرة، وهو يضاد البداوة ويشمل حتى الدولة كما في قوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ) [ سورة يوسف: 109]، وقوله سبحانه ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ) [ سورة يوسف: 82]. وقوله: ( وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا) [الكهف: 59].


والقرية كما قال صاحب المفردات: اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس، وللناس جميعاً، ويستعمل في كل واحد منهما.
وفي التفريق بينها وبين المدينة وردت اللفظتان في القصة الواحدة في قصة موسى والخضر، وقصة أصحاب القرية ، وغيرهما.
فقد ابتدأت قصة أصحاب القرية بالقرية ( واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية) ثم في وسطها قال سبحانه ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) .. ومعنى ذلك أن اسم القرية يشمل كل التجمع السكاني، لكن يبدو أن هذا الرجل ينتمي إلى المنطقة التي فيها رجالات الحكم والإدارة.


ومثل ذلك حديث القرآن عن أن موسى ( دخل المدينة على حين غفلة) وبعدها: ( فأصبح في المدينة خائفا يترقب) وبعدها ( وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى) فموسى عليه السلام يدخل مركز الحكم والنظام والإدارة، ولذلك كان دخوله على حين غفلة من أهل الحكم، ولذلك أصبح خائفاً لأن رجال الدولة على مقربة منه، ثم إن الرجل القادم من أقصى المدينة ومعه أخبار ائتمار الملأ بموسى ليقتلوه، ما يؤكد أنه، لكونه في المدينة، قريب من رأس الهرم ورجالات السلطة والإدارة والنظام.


وبالمنطق نفسه نتفهم حرص الخضر على إقامة جدار الغلامين الموجود في القرية حيث لا نظام ولا قانون ويمكن أن تضيع حقوق الغلامين، بينما الغلامان في المدينة.


وقد وُصف مسكن قوم لوط بالقرية في قوله تعالى ( وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ) [ الأنبياء: 74]. وفي اليوم الذي زاره فيه الملائكة على شاكلة البشر، قال سبحانه في شأنهم: ( وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ، قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ ) [ الحجر: 67 – 68] ، وقد يفيد هذا التغاير أن القرية تشمل كل تجمعاتهم السكانية، وأما المدينة ففيها علية القوم ورؤساؤهم، ومعنى مجيء أهل المدينة أن الانحراف الذي عليه قوم لوط ليس هامشياً بل ويتقدمه يتزعمه أولوا الأمر منهم.


وقد يوحي النص بأن لوطاً عليه السلام كان يسكن المدينة ليكون تأثيره من خلال رأس الهرم، والله أعلم.
وفي الحديث عن ثمود قوم صالح قال سبحانه: ( وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) [ النمل: 48]، والمدينة هنا حيث مركز النظام والسلطة والإدارة، وهو ما يتناسب مع كون الملأ هم أعداء النبي ودعوته.

وفي قصة فتية الكهف جاء قولهم ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا ) [ الكهف: 19]، باعتبار المدينة مركز الحاضرة، وفيها نظام وإدارة بدلالة ( الورِق: العملة الفضية)، وبدلالة وجود الذين غلبوا على أمرهم فيها.


وكذلك فإن تأكيد الرسول على اسم المدينة يمكن أن يستشف منه أنه لا مجال للتسوية بين مكانين لا نظام في أحدهما أو فيه شرعة الجاهلية، ويقام في الآخر شرع الله تعالى، ومن هنا جاء في البخاري قوله عليه السلام ( يقولون يثرب وهي المدينة).
 
ما شاء الله تبارك الله

طرقت سبيلا قليل السائرين وأظهرت معاني وأسرارا مشرقة وأثرت البحث في جذر مدينة مدن أم دين
 
شكر الله لك تقديرك لما قرأت ... هناك الكثير من المصطلحات والمفردات القرآنية ينبغي إعادة النظر في دلالاتها، وبالنسبة للمدينة فلعل الله تعالى يعين الكاتب أو غيره لمزيد تجلية وبيان
 
شكر الله لك أخي إبراهيم إشارتكم إلى هذه الحوارات حول الفرق بين القرية والمدينة، ولعلني أناقش أبرز ما فيها في الأيام القادمة بإذنه تعالى، علما بأنني ما زلت على سابق قولي بأن المدينة أقرب ما تكون للعاصمة أو مركز الحكم والنظام والإدارة،
 
عودة
أعلى