محمود عبد الصمد الجيار
New member
بسم الله الرحمن الرحيم
المجامع اللغوية ومؤسسات التعليم
من جلسات مؤتمر المجمع في دورته الثالثة والسبعين، يوم الأحد: 6 من ربيع الأول
سنة 1428 هـ، الموافق 25 من مارس «آذار» سنة 2007 م]
بسم الله الرحمن الرحيم
فهذا موضوع لا يقتضي تاريخا ولا توثيقا؛ لأن علاقة المجامع اللغوية بالمؤسسات التنفيذية غائبة غيابا يكاد يكون مطلقا، وما أريد أن أجري هذا التعميم على المجامع كلها، غير أني أحكم بما غلب عليه ظني من أمر علاقة المجمع القاهري -وهو المجمع الأكبر- بهذه المؤسسات.
ولست أعرف من الناحية الأخرى حهة تنفيذية ما حاولت أن تتصل بالمجمع في شأن من شؤون العربية مما يعرض لها من مشكلات في الاستعمال، وقد يكون من النوادر ما جرى من وزارة الداخلية في المملكة العربية السعودية حين لجأت إلى كلية اللغة العربية جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية -وليس في الممكلة مجمع للغة العربية- تستفتيها في إلحاق أسماء الأعلام «أل» التعريفية مثل: السالم، والراجح، والعبد الله، والعبد العزيز.
وقد تكون هذه حالة إيجابية يتيمة لعلاقة جهة تنفيذية ما بمجمع لغوي أو ما يقوم مقامه في أمور العربية.
والحق أن التصور الشائع الذي وقر عند الناس وعند الهيئات التنفيذية على وجه الخصوص أن مجمع اللغة العربية مكان بعيد تلتقي فيه رؤوس كبيرة تنكب على لفظة ما، أوصياغة تعبير ما، أو إيجاز استعمال ما، ومن الخير لهذه الهيئات أن تنأى بأنفسها عن المجمع لما «توجسه» في نفسها مما قد توقعها فيه هذه العلاقة من عنت. بل إن تعريب المصطلحات الذي يجري في اللجان المتخصصة بالجمع -وهي من أكثر اللجان نشاطا وإنجازا- يظل حبيس المعاجم التي يصدرها المجمع، ولا تتدفق هذه المصطلحات عروق الحياة العلمية في مصر لتكتسب الحياة من التنفس الطبيعي في الاستعمال، ولا يزال تعريب المصطلحات يجري على يد الباحث المفرد، أو الهيئة المفردة في أحسن الأحوال.
أيها السادة:
ما ينبغى لي أن أفيض في هذا الأمر فهو معلوم من الواقع بالضرورة.. ومن ثم أدلفت مباشرة إلى موضوع هذا الحديث..
أيها السادة:
ليس من بينناأحد يشك في أن أهم قضية تواجه العالم العربي قضية التعليم، فإما أن يكون لدينا تعليم حقيقي ملائم وإما ما تعلمون جميعا، وليس من بيننا أحد يشك في أن تعليم اللغة الأولى قلب أي تعليم، وحين يصيب هذا القلب خلل ما ينهار هذا التعليم من أساسه.
ووضع «العربية» في التعليم الآن وضع ينذر بسوء العاقبة مما لا تكفي معه الاستعاذة ونحن صامتون.
وتعليم اللغة -أيها السادة- أصبح الآن «علما» له أصوله ومنهجه وأدواته، وهو من أهم العلوم «البينية»inter disciplinary في عصرنا، وإذا كان يقال إن «اللغة» أخطر من أن تترك للغويين فإننا نؤكدأن تعليم اللغة أكثر خطورة من أن يترك للتربويين. غير أني أود أن أسرع فأؤكد أيضا أن مجمع اللغة العربية ليس «بيت خبرة» في تعليم العربية إذا قصدنا إجراءات التعليم في تأهيل المعلم وإعداد المواد التعليمية واختيار الطرق وغير ذلك، لكن مسؤولية المجمع تسبق كل ذلك فيما نوضحه بعد قليل. وهنا قد تسمحون أن أن أشير إلى مصطلحين:
الأول: مصطلح «السلطة اللغوية» linguistic authority وقد أطلقه بعض المعاصرين يناقشون به أحقية المجامع في فرض ما تصدره من قرارات عن الألفاظ والتراكيب، وكلنا يعلم ألا سلطة في اللغة إلا سلطة الاستعمال. غير أني أود أن نبسط هذا الاصطلاح لنعني به أن تكون للجمع «سلطة» ما حقيقية ومؤثرة حين يتصل الأمر بالقرارات الكبرى في شأن شؤون العربية.
الثاني: مصطلح «التخطيط اللغوي» language planning وهو مصطلح كان اللغويون يعنون به أول الأمر ما يعرض لبعض المجتمعات من مشكلات لغوية خطيرة كانتشار لغات مختلفة في بيئة ما، واختلاط اللغات في المناطق الحدودية وغير ذلك. لكن هذا المصطلح يعني الآن ضرورة وجود هيئة حكومية عالية تنوب عنها هيئة علمية مختصة تكون مسؤوليتها الأولى بحث القضايا الكبرى في كل أمر من أمور اللغة القومية، وفي صدرها أوضاع هذه اللغة في التعليم.
ويكاد يجمع أصحاب علم اللغة التطبيقي الذي ينتمي إليه تعليم اللغات أن القرارات التي تتصل بتعليم اللغة تجري على مستويات ثلاثة؛ أولها المستوى السياسي والتشريعي، وثانيها المستوى الإداري، وثالثها المستوى الإجرائي في قاعة الدرس.
والمستوى الأول الأول أهمها جميعا؛ لأنه يحدد مستوى الأداء اللغوي في تعليم اللغة القومية، ويحدد اللغات الأجنبية التي يُسمح بتدريسها، ومتى يُبدأ في تعليمها إلى جانب اللغة الأولى، ويحدد الميزانيات الكافية للتنفيذ.
وهنا نرى مسؤولية مجمع اللغة العربية، إذ ينبغي أن يكون الهيئة التي تنوب عن الحكومة في التخطيط اللغوي للعربية، أو على أقل تقدير في الاشتراك الفاعل في هذا التخطيط، وأن تكون له فى الوقت نفسه «سلطة» لغوية ذات تأثير.
وتواجهنا في هذا الأمر مشكلات عاجلة لا تحتمل تأخيرا ولا تحتمل الارتكان إلى «الرجاء» بل تقتضي جهادا حقيقيا أصبح فريضة حاضرة واجبة الأداء.
أما الأولى فهي مشكلة العربية في التعليم العام، ولا نفيض في وصف المشكلة فقد أفاض فيهاكثيرون وأشار إليها الأستاذ الدكتور كمال بشر في مُفتتح العيد الماسي؛ على أنه ينبغي أن «نبرز» التحول الخطير في التعليم العام حين يصبح «التعليم الخاص» هو الأساس، وهو الذي يسعى أولياء الأمور إلى إلحاق أبنائهم به، والتعليم الخاص -شأنه شأن أي مؤسسة اقتصادية- ينهمك في التنافس جذبا لأكبر عدد من العملاء، غير أن هذا التنافس يكاد يتوجه وجهة واحدة هي الاجتهاد في صبغ التعليم صبغة أجنبية من حيث اللسان، بل لا نكاد نسمع عن «حضانة» أو«روضة من رياض الأطفال» تحمل اسما عربيا، وأصبحت الأسر المصرية -على اختلاف مستوياتها الاقتصادية والاجتماعية- تتفاخر بإلحاق أبنائها هذا النوع من التعليم. على أن التعليم الحكومي نفسه قد انجرف إلى هذه الكارثة، فبدأنا نرى مدارس حكومية تسمى مدارس لغات نموذجية، ووصفها بالنموذجية يصم المدارس العربية بالعبثية والتخلف بما يفضي إليه من مشكلات نفسية قد يصعب علاج آثارها في المستقبل القريب.
أيها السادة:
إن أهم خصائص «المواطنة» أن يشترك الناس جميعا في أمور وطنهم، ولا يتحقق ذلك إلا بوجود «أساس» ثقافي ومعرفي مشترك يطلق عليه المختصون «الجذع» الثقافي للوطن، وهذا الجذع يتأكل كل يوم بفعل الواقع البائس للتعليم العام.
وتجنبا للإفاضة في الموضوع نقترح أن تكون أمام المجمع الآن مهمة عاجلة ينكب فيها على دراسة أوضاع العربية في المرحلة الأولى من التعليم العام. ونعني بها مرحلة ما قبل المدرسة ثم المرحلة الابتدائية، ونقترح فيها ما يلي:
1- تحريم استخدام الورق والقلم في مرحلة رياض الأطفال والاقتصار على اكتساب مهارتي الاستماع والحديث.
2- تحريم تعليم اللغات الأجنبية قبل سن التاسعة وهو ما نرجو أن نعرض عليكم في الدورة المقبلة إن شاء الله الدراسات العالمية في هذا الشأن بناء على بحوث في «المخ» وفي علم النفس العصبي neuropsgch ology وفى علم الفسيولوجيا الكهربية.
3- تحريم تعليم المواد الأخرى كالعلوم والرياضيات بلغة أجنبية.
4- تعريض التلاميذ لأكبر قدر من العربية في إطار متكامل من المهارات الأربع من تقديم المعالم الكبرى للإبداع في التراث العربي فى لغة «ميسرة» منتفعين بما اكتسبته الأمم الأخرى من خبرات علمية في هذا المجال.
أيها السادة:
إن التصدي للمرحلة الأولى في التعليم العام قد يعيننا أن نتخطى المشكلات المزمنة في التعليم المتوسط والتعليم الثانوي وبخاصة فيما نحن فيه من بؤس تعدد الشهادات التي تؤهل للتعليم الجامعي من ثانوية مصرية وشهادة إنجليزية وألمانية وفرنسية ودبلومة أمريكية ثم تدعون إلى ثقافة «المواطنة» فأنى يستجاب لكم...
أما المشكلة الثانية وهي مشكلة التعليم الجامعي فلن أعرض لها في هذا الحديث، لكني أكتفي بتذكيركم بمادة واحدة من قانون الجامعات في مصر...
تقول المادة )168 (من الباب الخامس:
«اللغة العربية هي لغة التعليم فى الجامعات الخاضعة لهذا القانون وذلك مالم يقرر مجلس الجامعة في أحوال خاصة استعمال لغة أخرى.
ويكون أداء الامتحان باللغة التي يدرس بها المقرر، ولمجلس الكلية في أحوال خاصة أن يرخص للطالب في الإجابة بلغة أخرى بعد أخذ رأي مجلس القسم أو الأقسام المختصة.
وتوضع رسائل الماجستير والدكتوراه باللغة التي يحددها مجلس الكلية بعد أخذ رأي مجلس القسم المختص. وفي جميع الأحوال يجب أن تكون الرسائل مشفوعة بموجز واف باللغة العربية وآخربلغة أجنبية».
أيها السادة:
إن قراءة هذه المادة كافية وحدها في تصوير المشكلات الكبرى في التعليم الجامعي في مصر وفي العالم العربي، ولعلنا حين نراجع قوانيننا وبخاصة في التعليم فلن نجد مادة تخلو من كلمة «إلا» أو«يجوز» أو«مالم...»، وحين يرى الناس هذه التعبيرات في قانون ما فإنهم يدركون -على الفو- أن مابعد «إلا» هوالأصل وأن ما قبلها هو المستثنى... بل يدركون أن تحت هذه التعبيرات تنشط شياطين العبث والفساد...
أيها السادة:
خلاصة القول أننا ندعو أن تتخلص المجامع اللغوية من أوضاعها الراهنة، وأن تسعى إلى أن تكتسب واجباتها الحقيقية بأيديها، بأن تكون هيئات ذات سلطة لغوية تشرف بها على «التخطيط» لكل شؤون العربية، وأن تنغمس في إجراء دراسات شاملة عن تعليم اللغة الأولى في العالم العربي وفي البلاد المتقدمة، ومن ثم تكون المرجع الأساسي في القرارات السياسية والتشريعية في أمور العربية كلها.
أ.د.عبده الراجحى
عضو المجمع