محمد بن إبراهيم الحمد
New member
[align=justify]المتضاد نوع من المشترك، ويقال له: الأضداد، والتضاد.
أولاً: تعريفه:
أ - المتضاد في اللغة: أصل المادة: ضَدَدَ: وضد الشيء خلافه، والجمع أضداد، وقد ضادَّه فهما متضادان، والتضاد مصدر[1].
ب - وفي الاصطلاح: 1- هو دلالة اللفظ الواحد على معنيين متضادين.
مثاله: الجون: يطلق على الأسود، والأبيض.
2- وهناك تعريف آخر وهو: الكلمات التي تؤدي إلى معنيين متضادين بلفظ واحد.
3- وقال ابن فارس -رحمه الله-: (ومن سنن العرب في الأسماء أن يسموا المتضادين باسم واحد)[2].
4- وقيل: هو أن يطلق اللفظ على المعنى وضده[3].
ثانياً: الفرق بين المشترك والمتضاد: 1- أن المشترك أعم من المتضاد؛ فالمتضاد نوع منه، فكل متضاد مشترك، ولا عكس.
2- أن المشترك يدل على عدة معان، ولا يلزم أن تكون متضادة.
أما المتضاد فيدل على معنيين، ولا بد أن يكونا متضادين.
فمثلاً: كلمة (العين) تدل على معانٍ عديدة، ولا يلزم منها التضاد؛ فهي -بهذا الاعتبار- مشترك، لا متضاد.
وكلمة الغابر: تطلق على الماضي وتطلق على الباقي؛ فهي بهذا الاعتبار متضاد؛ لأنها دلت على معنيين متضادين.
ثالثاً: كيف يفهم المراد من اللفظ إذا كان متضاداً؟
يفهم من خلال السياق، مثال ذلك كلمة: (جلل) فهي تدل على الشيء اليسير الحقير، وتدل على الشيء العظيم.
فمن الأول: قول لبيد -رضي الله عنه-:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
كل شيء ما خلا الله جلل = والفتى يسعى ويلهيه الأمل[/poem]ومن الثاني قول الشاعر:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
قومي هُمُ قتلوا أميمَ أخي = فإذا رميت يصيبني سهمي
فلئن عفوت لأعفون جللاً = ولئن سطوت لأوهنن عظمي[/poem]
فمن خلال سياق الكلام في البيت الأول نعلم أن المقصود بـ:(الجلل): الأمر اليسير الحقير، ومن خلال السياق في البيتين الأخيرين نعلم أن المقصود بقوله: (جللاً) أنه الأمر العظيم؛ لأن الإنسان لا يفخر بصفحه عن ذنب حقير يسير وهكذا. . . [4]
وهذا ما أجاب به ابن الأنباري عن اعتراض من اعترض على وجود الأضداد؛ حيث قال -رحمه الله-: (ويظن أهل البدع والزيغ، والإزراء بالعرب أن ذلك كان منهم؛ لنقصان حكمتهم، وقلة بلاغتهم، وكثرة الالتباس في محاوراتهم وعند اتصال مخاطباتهم؛ فيسألون عن ذلك، ويحتجون بأن الاسم منبئٌ عن المعنى الذي تحته، ودالٌ عليه، وموضحٌ تأويلَه، فإذا اعتورَ اللفظة الواحدة معنيان مختلفان لم يعرف المخاطب أيهما أراد، وبطل بذلك معنى تعليق الاسم على المسمى.
فأجيبوا عن هذا الذي ظنوه وسألوا عنه بضروب من الأجوبة:
أَحَدُهن: أن كلام العرب يصحح بعضه بعضاً، ويرتبط أوله بآخره، ولا يعرف معنى الخطاب منه إلا باستيفائه، واستكمال جميع حروفه؛ فجاز وقوع اللفظة على المعنيين المتضادين؛ لأنها يتقدمها، ويأتي بعدها ما يدل على خصوصية أحد المعنيين دون الآخر، ولا يراد بها في حال المتكلم والإخبار إلا معنىً واحدٌ)([5]).
ثم ضرب مثالاً لذلك، وهو من الأبيات الآنفة الذكر.
وضرب أمثلة أخرى من القرآن الكريم فقال: (وقال الله - عز وجل - وهو أصدق قيل: [الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ] أراد الذين يتيقنون ذلك؛ فلم يذهب وهمُ عاقلٍ إلى أن الله - عز وجل - يمدح قوماً بالشك في لقائه)([6]).
رابعاً: الخلاف في وقوع الأضداد:
اختلف العلماء في وقوع الأضداد:
1- فمنهم من قال بإمكان وقوعها، وعدَّ وضْعَها في مألوف القوانين اللغوية، والمواضعات الاصطلاحية؛ وذلك لأن المعاني غير متناهية، والألفاظ متناهية.
وذكروا من عللها وأسبابها وشواهدها الشيء الكثير.
ومن هؤلاء: الأصمعي، وأبو عبيدة، وابن السِّكِّيت، وقطرب، وابن فارس، وابن الأنباري وغيرهم - رحمهم الله - .
2- ومنهم من أنكر الأضداد، وتأول ما ورد منها في اللغة، ونصوص العربية.
وأشهر هؤلاء: ابن دَرَسْتَويْه -رحمه الله- فإن له مصنفاً في إبطال الأضداد.
قال السيوطي -رحمه الله-: (قال ابن درستويه في شرح الفصيح: النوء: الارتفاع بمشقة وثقل، ومنه قيل للكوكب: قَدْ ناء: إذا طلع.
وزعم قوم من اللغويين أن النوء السقوط - أيضاً - وأنه من الأضداد.
وقد أوضحنا الحجة عليهم في ذلك في كتابنا في إبطال الأضداد. انتهى.
فاستفدنا من هذا أن ابن درستويه ممن ذهب إلى إنكار الأضداد، وأن له في ذلك تأليفاً)[7].
3- ومنهم من قال بوجود الأضداد إلا أنهم عدوها منقصة للعرب، ومثلبة من مثالبهم، واتخذوها دليلاً على نقصان حكمتهم وقلة بلاغتهم، وزعموا أن ورودها في كلامهم كان سبباً في كثرة الالتباس عند المخاطبات.
وهؤلاء هم الشعوبية، أو من يسميهم ابن الأنباري (أهل البدع والزيغ والإزراء بالعرب).
وقد مر في الفقرة الماضية رده عليهم.
وممن رد على هؤلاء ابن فارس حيث قال: (وأنكر ناس هذا المذهب، وأن العرب تأتي باسم واحد لشيء وضده.
وهذا ليس بشيء؛ وذلك أن الذين رووا أن العرب تسمي السيف مهنداً، والفرس طِرْفاً هم الذين رووا أن العرب تسمي المتضادين باسم واحد.
وقد جرَّدنا في هذا كتاباً ذكرنا فيه ما احتجوا به، وذكرنا ردَّ ذلك، ونقضه؛ فلذلك لم نكرره)[8].
4- ومنهم من قال بوقوعه، وأنكر على من تعسف في إنكاره، غير أنه يرى أن وروده لم يكن بتلك الكثرة التي ذهب إليها من يراه بإطلاق؛ ذلك أن كثيراً من الأمثلة التي ظن هذا الفريق أنها من قبيل الأضداد يمكن تأويلها على وجه آخر يخرجها عن هذا الباب.
ففي بعض الأمثلة قد استعمل اللفظ في ضد ما وضع له لمجرد التفاؤل كالمفازة في المكان الذي تغلب فيه الهلكة؛ فقد سميت بذلك تفاؤلاً، وكالسليم للملدوغ، وكالريان والناهل للعطشان.
وفي بعضها قد استعمل اللفظ في ضده لمجرد التهكم، أو لاتقاء التلفظ بما يُكره التلفظ به، أو بما يمجه الذوق، أو بما يؤلم المخاطب.
وذلك كإطلاق لفظ العاقل على المعتوه أو الأحمق، والخفيف على الثقيل، وهكذا...
وقد مال إلى هذا الرأي بعض المحدثين كالدكتور علي عبدالواحد وافي[9].
خامساً: المؤلفات في الأضداد: حاول العلماء حصر كلمات الأضداد، وجمعها من كلام العرب في شعرهم ونثرهم، وفيما ورد منها في القرآن، والحديث، ثم أفردوها بالتأليف والتصنيف، وأصبحت مصدراً أصيلاً من مصادر المعجمات.
وممن ألف في الأضداد - كما ذَكر السيوطيُّ - قطربٌ، والتوزيُّ، وأبو البركات ابن الأنباري، وابن الدهان، والصغاني[10].
هذا عدا الفصول التي وردت في كتاب الجمهرة لابن دريد، والغريب المصنف لأبي عبيد، والصاحبي لابن فارس، والمخصص لابن سيدة، وفقه اللغة للثعالبي، وديوان الأدب للفارابي، والمزهر للسيوطي[11].
ولكن أعظم هذه الكتب خطراً، وأوسعها كَلِماً، وأحفلها بالشواهد، وأشملها للعلل هو كتاب أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري المعروف بابن الأنباري[12] ت327هـ.
حتى قيل: إن كتاب أبي بكر بن الأنباري لم يؤلف مثله في الأضداد.
وقد اشتمل الكتاب على 357 لفظاً من الأضداد؛ فأتى على جميع ما ألف قبله، وأربى عليه، وجاء بالعجيب من أراجيز العرب، وشواهد القرآن والحديث والشعر في كثرة بالغة، وإسهاب كثير، مع عذوبة المورد، ووضوح التعبير، وإشراق الدلالة، واطراد التنسيق.
وقد أعانه على ذلك كثرة محفوظه، ووفرة روايته، ووضوح الفكرة في عقله مع دقة التعليل، وقوة الحجاج.
وقد قدم لكتابه ببحثٍ ضافٍ شامل انتصر فيه للعرب فيما أورد على ألسنتهم من ألفاظ الأضداد، وأبان عن حكمتهم فيما أرادوا، وعلل ذلك تعليلاً دقيقاً أميناً؛ فجاء كتابه أشمل كتاب، وأوفاه في هذا الموضوع[13].
والكتاب يقع في مجلد واحد وفي 517 صفحة، وبتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ومن مطبوعات المكتبة العصرية - بيروت.
سادساً: أمثلة وشواهد للأضداد: هذه أمثلة للأضداد مختارة باختصار دون تفصيل من كتاب الأضداد لابن الأنباري-رحمه الله-.
1- القرء: حرف من الأضداد، يقال: القرء للطهر وهو مذهب أهل الحجاز، والقرء للحيض، وهو مذهب أهل العراق.
2- عسعس: يقال: عسعس الليل إذا أدبر، وعسعس إذا أقبل.
3- المولى: المُنْعِم المُعْتِق، والمولى: المُنْعَم عليه المُعْتَق.
4- بسل: للحلال، وللحرام.
5- اشتريت: بمعنى قبضته وأعطيت ثمنه، وبمعنى بعته.
6- بعت: على المعنى المعروف عند الناس، وبعت الشيء إذا ابتعته أي اشتريته.
7- السارب: المتواري والظاهر.
8- عَنوة: إذا أخذ الشيء غصباً وغلبة، ويطلق على ما إذا أخذه بمحبة ورضاً.
9- الصريخ والصارخ: للمغيث، وللمستغيث.
10- الدائم: يقال للساكن دائم، وللمتحرك دائم.
11- الصريم: يقال لليل: صريم، وللنهار: صريم؛ لأن كل واحد منهما يصرم صاحبه.
12- طرب: إذا فرح، وطرب إذا حزن.
13- السليم: يقال: سليم للسالم، وسليم للملدوغ.
14- السُّدْفة: بنو تميم يذهبون إلى أنها الظلمة، وقيس يذهبون إلى أنها الضوء.
15- الناهل: للعطشان، وللريان.
16- أمَمَ: يقال: أمر أمم إذا كان عظيماً، وأمر أمم إذا كان صغيراً.
17- خائف: يقال: رجل خائف إذا كان يخاف غيره، وسبيل خائف إذا كان مخوفاً.
18- الحميم: للحار، والحميم للبارد.
19- عزَّرت: يقال: عزرت الرجل إذا أكرمته، وعزرته إذا لُمته وعنَّفته.
20 - قَلصَ: يقال: قلص الشيء إذا قَصُر وقل، وقلص الماء إذا جمَّ وزاد.
21- الغريم: الذي له الدَّيْن، والغريم: الذي عليه الدَّيْن.
22- الحزوَّر: يقال للغلام اليافع الذي قارب الاحتلام: حزوَّر، ويقال للشيخ: حزوَّر.
23- التلعة: يقال لما ارتفع من الوادي وغيره: تلعة، ويقال لما تسفَّل وجرى الماء فيه؛ لانخفاضه: تلعة.
24- البَعْل: يقال لما تسقيه السماء: بعل، ويقال لما يشرب بعروقه: بعل.
25- بلهاء: يقال: امرأة بلهاء: إذا كانت ناقصة العقل، فاسدة الاختيار.
وامرأة بلهاء: إذا كانت كاملة العقل عفيفة صالحة لا تعرف الشر، ولا تعلم الرِّيب.
26- الخابط: النائم، والخابط الذي يخبط بيده ورجليه.
27- نسيت: يكون بمعنى غفلت عن الشيء، ويكون بمعنى: تركت متعمداً من غير غفلة لحقتني فيه، فيكون بمعنى الغفلة فلا يُحتاج فيه إلى شاهد.
وكونه بمعنى الترك شاهده قول الله - عز وجل -: [نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ] معناه: ترك إثابتهم ورحمتهم؛ لأنه قد جل وعلا عن الغفلة والسهو.
28- أفاد: يقال: أفاد الرجلُ مالاً إذا استفاده هو، وقد أفاد مالاً: إذا كسَّبه غيره فهو مفيد في المعنيين.
ــــــــــــــــــــــ
[1] انظر لسان العرب مادة ضدد 3/263-264.
[2] الصاحبي ص60.
[3] انظر فقه اللغة د. وافي ص148.
[4] انظر الأضداد لابن الأنباري ص1-2.
[5] الأضداد ص3.
[6] الأضداد ص3.
[7] المزهر 1/396.
[8] الصاحبي ص60.
[9] انظر كتابه فقه اللغة ص149-150.
[10] انظر المزهر 1/397.
[11] انظر مقدمة محقق الأضداد ص ب - ج، وتاريخ آداب العرب 1/198-199.
[12] أبو بكر بن الأنباري غير أبي البركات بن الأنباري، وكلاهما ألف في الأضداد إلا أن الأخير لم يصل إلينا كتابه.
[13] انظر مقدمة الأضداد ص ج.[/align]
أولاً: تعريفه:
أ - المتضاد في اللغة: أصل المادة: ضَدَدَ: وضد الشيء خلافه، والجمع أضداد، وقد ضادَّه فهما متضادان، والتضاد مصدر[1].
ب - وفي الاصطلاح: 1- هو دلالة اللفظ الواحد على معنيين متضادين.
مثاله: الجون: يطلق على الأسود، والأبيض.
2- وهناك تعريف آخر وهو: الكلمات التي تؤدي إلى معنيين متضادين بلفظ واحد.
3- وقال ابن فارس -رحمه الله-: (ومن سنن العرب في الأسماء أن يسموا المتضادين باسم واحد)[2].
4- وقيل: هو أن يطلق اللفظ على المعنى وضده[3].
ثانياً: الفرق بين المشترك والمتضاد: 1- أن المشترك أعم من المتضاد؛ فالمتضاد نوع منه، فكل متضاد مشترك، ولا عكس.
2- أن المشترك يدل على عدة معان، ولا يلزم أن تكون متضادة.
أما المتضاد فيدل على معنيين، ولا بد أن يكونا متضادين.
فمثلاً: كلمة (العين) تدل على معانٍ عديدة، ولا يلزم منها التضاد؛ فهي -بهذا الاعتبار- مشترك، لا متضاد.
وكلمة الغابر: تطلق على الماضي وتطلق على الباقي؛ فهي بهذا الاعتبار متضاد؛ لأنها دلت على معنيين متضادين.
ثالثاً: كيف يفهم المراد من اللفظ إذا كان متضاداً؟
يفهم من خلال السياق، مثال ذلك كلمة: (جلل) فهي تدل على الشيء اليسير الحقير، وتدل على الشيء العظيم.
فمن الأول: قول لبيد -رضي الله عنه-:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
كل شيء ما خلا الله جلل = والفتى يسعى ويلهيه الأمل[/poem]ومن الثاني قول الشاعر:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
قومي هُمُ قتلوا أميمَ أخي = فإذا رميت يصيبني سهمي
فلئن عفوت لأعفون جللاً = ولئن سطوت لأوهنن عظمي[/poem]
فمن خلال سياق الكلام في البيت الأول نعلم أن المقصود بـ:(الجلل): الأمر اليسير الحقير، ومن خلال السياق في البيتين الأخيرين نعلم أن المقصود بقوله: (جللاً) أنه الأمر العظيم؛ لأن الإنسان لا يفخر بصفحه عن ذنب حقير يسير وهكذا. . . [4]
وهذا ما أجاب به ابن الأنباري عن اعتراض من اعترض على وجود الأضداد؛ حيث قال -رحمه الله-: (ويظن أهل البدع والزيغ، والإزراء بالعرب أن ذلك كان منهم؛ لنقصان حكمتهم، وقلة بلاغتهم، وكثرة الالتباس في محاوراتهم وعند اتصال مخاطباتهم؛ فيسألون عن ذلك، ويحتجون بأن الاسم منبئٌ عن المعنى الذي تحته، ودالٌ عليه، وموضحٌ تأويلَه، فإذا اعتورَ اللفظة الواحدة معنيان مختلفان لم يعرف المخاطب أيهما أراد، وبطل بذلك معنى تعليق الاسم على المسمى.
فأجيبوا عن هذا الذي ظنوه وسألوا عنه بضروب من الأجوبة:
أَحَدُهن: أن كلام العرب يصحح بعضه بعضاً، ويرتبط أوله بآخره، ولا يعرف معنى الخطاب منه إلا باستيفائه، واستكمال جميع حروفه؛ فجاز وقوع اللفظة على المعنيين المتضادين؛ لأنها يتقدمها، ويأتي بعدها ما يدل على خصوصية أحد المعنيين دون الآخر، ولا يراد بها في حال المتكلم والإخبار إلا معنىً واحدٌ)([5]).
ثم ضرب مثالاً لذلك، وهو من الأبيات الآنفة الذكر.
وضرب أمثلة أخرى من القرآن الكريم فقال: (وقال الله - عز وجل - وهو أصدق قيل: [الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ] أراد الذين يتيقنون ذلك؛ فلم يذهب وهمُ عاقلٍ إلى أن الله - عز وجل - يمدح قوماً بالشك في لقائه)([6]).
رابعاً: الخلاف في وقوع الأضداد:
اختلف العلماء في وقوع الأضداد:
1- فمنهم من قال بإمكان وقوعها، وعدَّ وضْعَها في مألوف القوانين اللغوية، والمواضعات الاصطلاحية؛ وذلك لأن المعاني غير متناهية، والألفاظ متناهية.
وذكروا من عللها وأسبابها وشواهدها الشيء الكثير.
ومن هؤلاء: الأصمعي، وأبو عبيدة، وابن السِّكِّيت، وقطرب، وابن فارس، وابن الأنباري وغيرهم - رحمهم الله - .
2- ومنهم من أنكر الأضداد، وتأول ما ورد منها في اللغة، ونصوص العربية.
وأشهر هؤلاء: ابن دَرَسْتَويْه -رحمه الله- فإن له مصنفاً في إبطال الأضداد.
قال السيوطي -رحمه الله-: (قال ابن درستويه في شرح الفصيح: النوء: الارتفاع بمشقة وثقل، ومنه قيل للكوكب: قَدْ ناء: إذا طلع.
وزعم قوم من اللغويين أن النوء السقوط - أيضاً - وأنه من الأضداد.
وقد أوضحنا الحجة عليهم في ذلك في كتابنا في إبطال الأضداد. انتهى.
فاستفدنا من هذا أن ابن درستويه ممن ذهب إلى إنكار الأضداد، وأن له في ذلك تأليفاً)[7].
3- ومنهم من قال بوجود الأضداد إلا أنهم عدوها منقصة للعرب، ومثلبة من مثالبهم، واتخذوها دليلاً على نقصان حكمتهم وقلة بلاغتهم، وزعموا أن ورودها في كلامهم كان سبباً في كثرة الالتباس عند المخاطبات.
وهؤلاء هم الشعوبية، أو من يسميهم ابن الأنباري (أهل البدع والزيغ والإزراء بالعرب).
وقد مر في الفقرة الماضية رده عليهم.
وممن رد على هؤلاء ابن فارس حيث قال: (وأنكر ناس هذا المذهب، وأن العرب تأتي باسم واحد لشيء وضده.
وهذا ليس بشيء؛ وذلك أن الذين رووا أن العرب تسمي السيف مهنداً، والفرس طِرْفاً هم الذين رووا أن العرب تسمي المتضادين باسم واحد.
وقد جرَّدنا في هذا كتاباً ذكرنا فيه ما احتجوا به، وذكرنا ردَّ ذلك، ونقضه؛ فلذلك لم نكرره)[8].
4- ومنهم من قال بوقوعه، وأنكر على من تعسف في إنكاره، غير أنه يرى أن وروده لم يكن بتلك الكثرة التي ذهب إليها من يراه بإطلاق؛ ذلك أن كثيراً من الأمثلة التي ظن هذا الفريق أنها من قبيل الأضداد يمكن تأويلها على وجه آخر يخرجها عن هذا الباب.
ففي بعض الأمثلة قد استعمل اللفظ في ضد ما وضع له لمجرد التفاؤل كالمفازة في المكان الذي تغلب فيه الهلكة؛ فقد سميت بذلك تفاؤلاً، وكالسليم للملدوغ، وكالريان والناهل للعطشان.
وفي بعضها قد استعمل اللفظ في ضده لمجرد التهكم، أو لاتقاء التلفظ بما يُكره التلفظ به، أو بما يمجه الذوق، أو بما يؤلم المخاطب.
وذلك كإطلاق لفظ العاقل على المعتوه أو الأحمق، والخفيف على الثقيل، وهكذا...
وقد مال إلى هذا الرأي بعض المحدثين كالدكتور علي عبدالواحد وافي[9].
خامساً: المؤلفات في الأضداد: حاول العلماء حصر كلمات الأضداد، وجمعها من كلام العرب في شعرهم ونثرهم، وفيما ورد منها في القرآن، والحديث، ثم أفردوها بالتأليف والتصنيف، وأصبحت مصدراً أصيلاً من مصادر المعجمات.
وممن ألف في الأضداد - كما ذَكر السيوطيُّ - قطربٌ، والتوزيُّ، وأبو البركات ابن الأنباري، وابن الدهان، والصغاني[10].
هذا عدا الفصول التي وردت في كتاب الجمهرة لابن دريد، والغريب المصنف لأبي عبيد، والصاحبي لابن فارس، والمخصص لابن سيدة، وفقه اللغة للثعالبي، وديوان الأدب للفارابي، والمزهر للسيوطي[11].
ولكن أعظم هذه الكتب خطراً، وأوسعها كَلِماً، وأحفلها بالشواهد، وأشملها للعلل هو كتاب أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري المعروف بابن الأنباري[12] ت327هـ.
حتى قيل: إن كتاب أبي بكر بن الأنباري لم يؤلف مثله في الأضداد.
وقد اشتمل الكتاب على 357 لفظاً من الأضداد؛ فأتى على جميع ما ألف قبله، وأربى عليه، وجاء بالعجيب من أراجيز العرب، وشواهد القرآن والحديث والشعر في كثرة بالغة، وإسهاب كثير، مع عذوبة المورد، ووضوح التعبير، وإشراق الدلالة، واطراد التنسيق.
وقد أعانه على ذلك كثرة محفوظه، ووفرة روايته، ووضوح الفكرة في عقله مع دقة التعليل، وقوة الحجاج.
وقد قدم لكتابه ببحثٍ ضافٍ شامل انتصر فيه للعرب فيما أورد على ألسنتهم من ألفاظ الأضداد، وأبان عن حكمتهم فيما أرادوا، وعلل ذلك تعليلاً دقيقاً أميناً؛ فجاء كتابه أشمل كتاب، وأوفاه في هذا الموضوع[13].
والكتاب يقع في مجلد واحد وفي 517 صفحة، وبتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ومن مطبوعات المكتبة العصرية - بيروت.
سادساً: أمثلة وشواهد للأضداد: هذه أمثلة للأضداد مختارة باختصار دون تفصيل من كتاب الأضداد لابن الأنباري-رحمه الله-.
1- القرء: حرف من الأضداد، يقال: القرء للطهر وهو مذهب أهل الحجاز، والقرء للحيض، وهو مذهب أهل العراق.
2- عسعس: يقال: عسعس الليل إذا أدبر، وعسعس إذا أقبل.
3- المولى: المُنْعِم المُعْتِق، والمولى: المُنْعَم عليه المُعْتَق.
4- بسل: للحلال، وللحرام.
5- اشتريت: بمعنى قبضته وأعطيت ثمنه، وبمعنى بعته.
6- بعت: على المعنى المعروف عند الناس، وبعت الشيء إذا ابتعته أي اشتريته.
7- السارب: المتواري والظاهر.
8- عَنوة: إذا أخذ الشيء غصباً وغلبة، ويطلق على ما إذا أخذه بمحبة ورضاً.
9- الصريخ والصارخ: للمغيث، وللمستغيث.
10- الدائم: يقال للساكن دائم، وللمتحرك دائم.
11- الصريم: يقال لليل: صريم، وللنهار: صريم؛ لأن كل واحد منهما يصرم صاحبه.
12- طرب: إذا فرح، وطرب إذا حزن.
13- السليم: يقال: سليم للسالم، وسليم للملدوغ.
14- السُّدْفة: بنو تميم يذهبون إلى أنها الظلمة، وقيس يذهبون إلى أنها الضوء.
15- الناهل: للعطشان، وللريان.
16- أمَمَ: يقال: أمر أمم إذا كان عظيماً، وأمر أمم إذا كان صغيراً.
17- خائف: يقال: رجل خائف إذا كان يخاف غيره، وسبيل خائف إذا كان مخوفاً.
18- الحميم: للحار، والحميم للبارد.
19- عزَّرت: يقال: عزرت الرجل إذا أكرمته، وعزرته إذا لُمته وعنَّفته.
20 - قَلصَ: يقال: قلص الشيء إذا قَصُر وقل، وقلص الماء إذا جمَّ وزاد.
21- الغريم: الذي له الدَّيْن، والغريم: الذي عليه الدَّيْن.
22- الحزوَّر: يقال للغلام اليافع الذي قارب الاحتلام: حزوَّر، ويقال للشيخ: حزوَّر.
23- التلعة: يقال لما ارتفع من الوادي وغيره: تلعة، ويقال لما تسفَّل وجرى الماء فيه؛ لانخفاضه: تلعة.
24- البَعْل: يقال لما تسقيه السماء: بعل، ويقال لما يشرب بعروقه: بعل.
25- بلهاء: يقال: امرأة بلهاء: إذا كانت ناقصة العقل، فاسدة الاختيار.
وامرأة بلهاء: إذا كانت كاملة العقل عفيفة صالحة لا تعرف الشر، ولا تعلم الرِّيب.
26- الخابط: النائم، والخابط الذي يخبط بيده ورجليه.
27- نسيت: يكون بمعنى غفلت عن الشيء، ويكون بمعنى: تركت متعمداً من غير غفلة لحقتني فيه، فيكون بمعنى الغفلة فلا يُحتاج فيه إلى شاهد.
وكونه بمعنى الترك شاهده قول الله - عز وجل -: [نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ] معناه: ترك إثابتهم ورحمتهم؛ لأنه قد جل وعلا عن الغفلة والسهو.
28- أفاد: يقال: أفاد الرجلُ مالاً إذا استفاده هو، وقد أفاد مالاً: إذا كسَّبه غيره فهو مفيد في المعنيين.
ــــــــــــــــــــــ
[1] انظر لسان العرب مادة ضدد 3/263-264.
[2] الصاحبي ص60.
[3] انظر فقه اللغة د. وافي ص148.
[4] انظر الأضداد لابن الأنباري ص1-2.
[5] الأضداد ص3.
[6] الأضداد ص3.
[7] المزهر 1/396.
[8] الصاحبي ص60.
[9] انظر كتابه فقه اللغة ص149-150.
[10] انظر المزهر 1/397.
[11] انظر مقدمة محقق الأضداد ص ب - ج، وتاريخ آداب العرب 1/198-199.
[12] أبو بكر بن الأنباري غير أبي البركات بن الأنباري، وكلاهما ألف في الأضداد إلا أن الأخير لم يصل إلينا كتابه.
[13] انظر مقدمة الأضداد ص ج.[/align]