أبو إسحاق الحضرمي
New member
[align=justify]
كتبه: محمَّد بن سعيد بكران
من خلال واقع عايشته في بلدي ورحلات إلى مناطق ومدن أخرى رأيتُ ضعفاً في تلاوة كتاب الله تعالى فضلاً عن حفظه، عند كثير ممن يتصدَّرون الدَّعوة، والإمامة، والخطابة، والتدريس في العلوم الشرعية عموماً، والإشراف على المراكز والأربطة والدور والمؤسسات والجمعيات التي لها عناية بالعلوم الشرعية عموماً والقرآنية خصوصاً، وهذا من توسيد الأمر إلى غير أهله، وهو راجعٌ إلى خللٍ في منهجية الطلب، وخلاف جادة السَّلف.
لقد درج سلف الأمة من الأئمة في طلبهم للعلم البدء بحفظ كتاب الله تعالى أولاً، حتى صار القرآن أصل التعليم الذي يُبنى عليه ما يحصل بعده من الملكات([1]).
ولهذا نبَّه الأئمة إلى هذا المسلك في كثير من أقوالهم، ومن ذلك: يقول الإمام ابن عبد البر رحمه الله: (فأول العلم حفظ كتاب الله جلَّ وعزَّ وتفهمه، وكلُّ ما يعين على فهمه فواجب طلبه) ([2])، وقال بدر الدين بن جماعة رحمه الله: (يبتدئ أولاً بحفظ كتاب الله عزَّ وجلَّ فيتقنه حفظاً ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه، فإنه أصل العلوم وأمها وأهمها) ([3])، وقال الخطيب البغدادي رحمه الله : (ينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب الله عزَّ وجلَّ، إذ كان أجلّ العلوم وأولاها بالسبق والتقديم) ([4]).
بل بعضهم لم يترك ابنه يشتغل بشيء من الحديث وغيره حتى يعرض القرآن على أهله المتخصصين فيه، ويضبط ألفاظه عليهم، يقول الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم رحمه الله عن نفسه: (لم يدعني أبي أشتغل في الحديث حتى قرأتُ القرآن على الفضل بن شاذان الرازي ثمَّ كتبتُ الحديث) ([5]).
واليوم ظهر في عصرنا هذا والذي قبله طلبة علم سلكوا غير مسلك السَّلف في طلب العلم فاشتغلوا بالحديث والفقه وغيرهما قبل الاشتغال بكتاب الله تعالى، واستعصى على بعضهم تجويد الحروف وإقامتها على مخارجها وصفاتها، ولم يصبروا حتى تعتاد اللسان على ذلك، واستطالوا الطريق، فتوجهوا إلى غيره، يقول أبو العلاء الهمذاني العطَّار رحمه الله ت: 569 هـ، في حديثه عن التجويد: (اعلم أيها السائل أنَّ هذا القبيل من أشرف علوم القرآن وأكرمها وأعلاها وألطفها، غير أنه مع ذلك غُفْلٌ مَسْهُوٌّ عنه، لاعتياصه على كثير من الأشياخ المبرِّزين، فضلاً عن الأحداث المبتدئين) ([6]).
ومن هؤلاء من قدر على تعلم ذلك لكنه آثر الاعتماد على نفسه، وما ألفه من حفظه في بداية أمره، لم يرَ كبير فائدة من تصحيح لفظه على أهل القرآن، يقول الإمام محمد بن الجزري رحمه الله: (فمن قَدَرَ على تصحيح كلام الله تعالى باللفظ العربي الصحيح، وعدل إلى اللفظ الفاسد العجمي أوالنبطي القبيح، استغناءً بنفسه، واستبداداً برأيه وحدسه، واتَّكالاً على ما أَلِفَ من حفظه، واستكباراً عن الرجوع إلى عالمٍ يوقفه على صحيح لفظه، فإنَّه مقصِّر بلا شك، وآثم بلا ريب، وغاش بلا مرية) ([7]).
ونتج عن مخالفة جادة السَّلف في طلب العلم أنَّك ترى فقيهاً متصدِّراً، وإماماً متقدِّماً، لا يقيم للتلاوة وزناً، يخطئ في قراءة أمِّ القرآن ويلحن فيها، يدَّعي إتباع السُّنَّة والسَّلف ويخالف هديهم وطريقتهم في قراءة القرآن! والأعجب من ذلك أن يقول بعضهم مستصغراً المشتغلين بالتجويد والإقراء: (أنَّ التجويد علم يوم وليلة)، فلماذا لم يطلبه ويتقنه، وهو بهذه السهولة والوجازة ؟!، وما أجمل ما قاله الإمام الذهبي رحمه الله: (وليس من جهل علماً حجة على مَن علمه، وإنما يقال للجاهل: تعلَّم، وسَلْ أهل العلم إن كنتَ لا تعلم، ولا يقال للعالم: اجهل ما تعلَّم، رزقنا الله وإياكم الإنصاف) ([8]).
وقد يفوتُ على الإنسان العناية بكتاب ربِّه حفظاً أو تلاوة وتصحيحاً في حال صغره، ولم يتيسَّر له ذلك، وقد تبوَّأ ما تبوَّأ في حاله الآن، فلا يتكبَّر عن إدراك ما فات، ومعرفة الجادة قبل الممات، ولنا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أسوة حسنة، أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّه قال: (كنتُ أُقرئُ رجالاً من المهاجرين منهم: عبد الرحمن بن عوف)، قال ابن الجوزي رحمه الله في "كشف المشكل": (فيه تنبيهٌ على أخذ العلم من أهله وإن صغرت أسنانُهم، أو قلَّت أقدارُهم، وقد كان حكيم بن حزام -رضي الله عنه- يقرأ على معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، فقيل له: تقرأ على هذا الغلام الخزرجي؟ قال: إنَّما أهلكنا التكبُّر) ([9]).
وأختم هنا بما قاله العلامة عبد القادر بن بدران الدمشقي الحنبلي رحمه الله ت: 1346هـ في كتابه "المدخل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل": (من اللازم على من يريد التفقه على مذهب من مذاهب الأئمة أن يعرف أموراً: ...) ثم قال: (الأمر السابع: أن يتعلَّم من فنِّ التجويد ما يعرف منه مخارج الحروف، وما لابد للقارئ أن يعلمه، فإن جهل مثل ذلك ربَّما أخلَّ بصلاته، وخصوصاً فإنَّ لهذا مدخلاً في باب الإمامة، حيث يقول الفقهاء: يُقدَّم الأقرأ فالأقرأ. ومن لم يكن عارفاً بفنِّ التجويد كيف يميِّز بين القارئ والأقرأ ؟
وكم رأينا من المتصدِّرين لإقراء الفقه وللإمامة، ثم إنهم إذا قرؤوا في الصَّلاة كانت قراءة الأعجمي أحسن حالاً من قراءتهم، وربَّما لم يفرقوا بين السين وبين الثاء المثلثة الفوقية، ويزيدون في الكلمات حروفاً ليست منها وهم لا يشعرون، ومثل هذا يُعاب على العامي فضلاً عن المتفقه) ([10]).
([1]) ينظر: مقدِّمة ابن خلدون ص: 447.
([2]) جامع العلم وفضله: 2/166.
([3]) تذكرة السامع والمتكلم في آداب العلم والتعلم ص: 167-168.
([4]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 1/106.
([5]) سير أعلام النبلاء: 13/265.
([6]) التمهيد في معرفة التجويد لابن العطَّار ص: 51.
([7]) النشر في القراءات العشر: 1/210-211.
([8]) سير أعلام النبلاء: 10/171.
([9]) الآداب الشرعية لابن مفلح: 2/111-112.
([10]) المدخل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل ص: 480-484.
[/align][FONT="]
[/FONT]
المتصدِّرون للدَّعوة والإمامة
وضعف كثير منهم في تلاوة كتاب رب العالمين
كتبه: محمَّد بن سعيد بكران
من خلال واقع عايشته في بلدي ورحلات إلى مناطق ومدن أخرى رأيتُ ضعفاً في تلاوة كتاب الله تعالى فضلاً عن حفظه، عند كثير ممن يتصدَّرون الدَّعوة، والإمامة، والخطابة، والتدريس في العلوم الشرعية عموماً، والإشراف على المراكز والأربطة والدور والمؤسسات والجمعيات التي لها عناية بالعلوم الشرعية عموماً والقرآنية خصوصاً، وهذا من توسيد الأمر إلى غير أهله، وهو راجعٌ إلى خللٍ في منهجية الطلب، وخلاف جادة السَّلف.
لقد درج سلف الأمة من الأئمة في طلبهم للعلم البدء بحفظ كتاب الله تعالى أولاً، حتى صار القرآن أصل التعليم الذي يُبنى عليه ما يحصل بعده من الملكات([1]).
ولهذا نبَّه الأئمة إلى هذا المسلك في كثير من أقوالهم، ومن ذلك: يقول الإمام ابن عبد البر رحمه الله: (فأول العلم حفظ كتاب الله جلَّ وعزَّ وتفهمه، وكلُّ ما يعين على فهمه فواجب طلبه) ([2])، وقال بدر الدين بن جماعة رحمه الله: (يبتدئ أولاً بحفظ كتاب الله عزَّ وجلَّ فيتقنه حفظاً ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه، فإنه أصل العلوم وأمها وأهمها) ([3])، وقال الخطيب البغدادي رحمه الله : (ينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب الله عزَّ وجلَّ، إذ كان أجلّ العلوم وأولاها بالسبق والتقديم) ([4]).
بل بعضهم لم يترك ابنه يشتغل بشيء من الحديث وغيره حتى يعرض القرآن على أهله المتخصصين فيه، ويضبط ألفاظه عليهم، يقول الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم رحمه الله عن نفسه: (لم يدعني أبي أشتغل في الحديث حتى قرأتُ القرآن على الفضل بن شاذان الرازي ثمَّ كتبتُ الحديث) ([5]).
واليوم ظهر في عصرنا هذا والذي قبله طلبة علم سلكوا غير مسلك السَّلف في طلب العلم فاشتغلوا بالحديث والفقه وغيرهما قبل الاشتغال بكتاب الله تعالى، واستعصى على بعضهم تجويد الحروف وإقامتها على مخارجها وصفاتها، ولم يصبروا حتى تعتاد اللسان على ذلك، واستطالوا الطريق، فتوجهوا إلى غيره، يقول أبو العلاء الهمذاني العطَّار رحمه الله ت: 569 هـ، في حديثه عن التجويد: (اعلم أيها السائل أنَّ هذا القبيل من أشرف علوم القرآن وأكرمها وأعلاها وألطفها، غير أنه مع ذلك غُفْلٌ مَسْهُوٌّ عنه، لاعتياصه على كثير من الأشياخ المبرِّزين، فضلاً عن الأحداث المبتدئين) ([6]).
ومن هؤلاء من قدر على تعلم ذلك لكنه آثر الاعتماد على نفسه، وما ألفه من حفظه في بداية أمره، لم يرَ كبير فائدة من تصحيح لفظه على أهل القرآن، يقول الإمام محمد بن الجزري رحمه الله: (فمن قَدَرَ على تصحيح كلام الله تعالى باللفظ العربي الصحيح، وعدل إلى اللفظ الفاسد العجمي أوالنبطي القبيح، استغناءً بنفسه، واستبداداً برأيه وحدسه، واتَّكالاً على ما أَلِفَ من حفظه، واستكباراً عن الرجوع إلى عالمٍ يوقفه على صحيح لفظه، فإنَّه مقصِّر بلا شك، وآثم بلا ريب، وغاش بلا مرية) ([7]).
ونتج عن مخالفة جادة السَّلف في طلب العلم أنَّك ترى فقيهاً متصدِّراً، وإماماً متقدِّماً، لا يقيم للتلاوة وزناً، يخطئ في قراءة أمِّ القرآن ويلحن فيها، يدَّعي إتباع السُّنَّة والسَّلف ويخالف هديهم وطريقتهم في قراءة القرآن! والأعجب من ذلك أن يقول بعضهم مستصغراً المشتغلين بالتجويد والإقراء: (أنَّ التجويد علم يوم وليلة)، فلماذا لم يطلبه ويتقنه، وهو بهذه السهولة والوجازة ؟!، وما أجمل ما قاله الإمام الذهبي رحمه الله: (وليس من جهل علماً حجة على مَن علمه، وإنما يقال للجاهل: تعلَّم، وسَلْ أهل العلم إن كنتَ لا تعلم، ولا يقال للعالم: اجهل ما تعلَّم، رزقنا الله وإياكم الإنصاف) ([8]).
وقد يفوتُ على الإنسان العناية بكتاب ربِّه حفظاً أو تلاوة وتصحيحاً في حال صغره، ولم يتيسَّر له ذلك، وقد تبوَّأ ما تبوَّأ في حاله الآن، فلا يتكبَّر عن إدراك ما فات، ومعرفة الجادة قبل الممات، ولنا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أسوة حسنة، أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّه قال: (كنتُ أُقرئُ رجالاً من المهاجرين منهم: عبد الرحمن بن عوف)، قال ابن الجوزي رحمه الله في "كشف المشكل": (فيه تنبيهٌ على أخذ العلم من أهله وإن صغرت أسنانُهم، أو قلَّت أقدارُهم، وقد كان حكيم بن حزام -رضي الله عنه- يقرأ على معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، فقيل له: تقرأ على هذا الغلام الخزرجي؟ قال: إنَّما أهلكنا التكبُّر) ([9]).
وأختم هنا بما قاله العلامة عبد القادر بن بدران الدمشقي الحنبلي رحمه الله ت: 1346هـ في كتابه "المدخل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل": (من اللازم على من يريد التفقه على مذهب من مذاهب الأئمة أن يعرف أموراً: ...) ثم قال: (الأمر السابع: أن يتعلَّم من فنِّ التجويد ما يعرف منه مخارج الحروف، وما لابد للقارئ أن يعلمه، فإن جهل مثل ذلك ربَّما أخلَّ بصلاته، وخصوصاً فإنَّ لهذا مدخلاً في باب الإمامة، حيث يقول الفقهاء: يُقدَّم الأقرأ فالأقرأ. ومن لم يكن عارفاً بفنِّ التجويد كيف يميِّز بين القارئ والأقرأ ؟
وكم رأينا من المتصدِّرين لإقراء الفقه وللإمامة، ثم إنهم إذا قرؤوا في الصَّلاة كانت قراءة الأعجمي أحسن حالاً من قراءتهم، وربَّما لم يفرقوا بين السين وبين الثاء المثلثة الفوقية، ويزيدون في الكلمات حروفاً ليست منها وهم لا يشعرون، ومثل هذا يُعاب على العامي فضلاً عن المتفقه) ([10]).
([1]) ينظر: مقدِّمة ابن خلدون ص: 447.
([2]) جامع العلم وفضله: 2/166.
([3]) تذكرة السامع والمتكلم في آداب العلم والتعلم ص: 167-168.
([4]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 1/106.
([5]) سير أعلام النبلاء: 13/265.
([6]) التمهيد في معرفة التجويد لابن العطَّار ص: 51.
([7]) النشر في القراءات العشر: 1/210-211.
([8]) سير أعلام النبلاء: 10/171.
([9]) الآداب الشرعية لابن مفلح: 2/111-112.
([10]) المدخل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل ص: 480-484.
[/align][FONT="]
[/FONT]
المصدر:
المجلة الدعوية
الصادرة عن منتدى الغيل الثقافي الاجتماعي بحضرموت
العدد (35)
المجلة الدعوية
الصادرة عن منتدى الغيل الثقافي الاجتماعي بحضرموت
العدد (35)