فواز منصر الشاوش
New member
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد وعلى آله وصحبه ومن وآلاه أما بعد: فإني أقدم إليكم هذا البحث المتواضع وهو المبهمات عند علماء علوم القرآن وعلماء الحديث (دراسة وصفية تحليلية)، فأرجو من المشايخ والزملاء تقويمه وإبداء الملاحظات عليه، حتى تتم وتكتمل الفائدة، وجزيتم خيرا،،،
المبهمــــات:
المبحث الأول: المبهمات عند علماء علوم القرآن:
تحدَّث العلماء قديماً وحديثاً عن المبهمات التي في القرآن، وأولوها اهتماماً بالغاً، وصنفوا في ذلك المصنفات، وكان الإمام أبو القاسم السهيلي (ت 581هـ)[SUP]([SUP][1][/SUP][/SUP]) أول من أفرد هذا العلم بالتصنيف في كتاب سماه: (التعريف والإعلام فيما أُبهم في القرآن من أسماء الأعلام)[SUP]([SUP][2][/SUP][/SUP])، ثم تتابع العلماء بعده بالتأليف في هذا العلم، ومن هؤلاء: أبو عبد الله بن عسكر، وبدر الدين ابن جماعة، وأبو عبد الله البلنسي، والسيوطي، وكتبهم كلها مطبوعة.
وتحدَّث هؤلاء العلماء في مقدمة كتبهم عن أهمية معرفة المبهمات التي في القرآن، وأن سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين كانوا حريصين على معرفة ما أُبهم في القرآن، وأن الأصل في ذلك ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (( مكثتُ سنةً وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتى خرج حاجاً فخرجتُ معه فلما رجع فكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له، فوقفت له حتى فرغ ثم سرت معه فقلت يا أمير المؤمنين: من اللتان تظاهرتا على رسول الله r من أزواجه؟ فقال تلك حفصة وعائشة))[SUP]([SUP][3][/SUP][/SUP]).
وأضاف الزركشي في البرهان عدة أسباب لوقوع الإبهام في القرآن، وتبعه على ذلك السيوطي في الاتقان، وملخصها ما يلي:
1- الاستغناء ببيانه في موضع آخر.
2- أن يتعيَّن لاشتهاره.
3- قصد الستر عليه؛ ليكون أبلغ في استعطافه.
4- ألا يكون في تعيينه كبير فائدة.
5- التنبيه على العموم، وأنه غير خاصٍ بخلاف ما لو عُيِّـن.
6- تعظيمه بالوصف الكامل دون الاسم.
7- تحقيره بالوصف الناقص.
وذكرا لكل سبب من هذه الأسباب أمثلة من القرآن الكريم، يطول البحث بذكرها[SUP]([SUP][4][/SUP][/SUP])؛ ولكني أكتفي بمثالين:
الأول: قوله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) [البقرة:35]، أُبهم في قوله: (وزوجك) ولم يقل حواء؛ لأن المعنى مشتهر ومعروف، وليس لآدم زوجة غيرها.
الثاني: قوله عز وجل: (إن شانئك هو الأبتر) [الكوثر:3]، أُبهم اسم هذا الرجل، وهو العاصي بن وائل، وسبب الإبهام التحقير بالوصف الناقص[SUP]([SUP][5][/SUP][/SUP]).
وأوضح الزركشي أن لا يُبحث عن مبهم أخبر الله تعالى باستئثاره بعلمه([6])، فيستفاد من هذا أن المبهمات على قسمين:
الأول: ما يمكن الوصول إلى معرفته، وهذا جائز البحث عنه.
الثاني: ما استأثر الله بعلمه، وهذا لا يجوز البحث عنه، كوقت قيام الساعة مثلاً.
وأضاف السيوطي أن علم المبهمات مرجعه النقل المحض، ولا مجال للرأي فيه([7]).
وهؤلاء العلماء لم يذكروا تعريفاً صريحاً لمبهمات القرآن؛ ولكن لو تأملنا كلام بعضهم في مقدمة كتبهم عن صفة المبهم الذي ذكروه أمكن لنا أن نستخلص من ذلك تعريفاً له.
يقول السهيلي: "فإني قصدتُ أن أذكر في هذا المختصر الوجيز ما تضمنه كتاب الله العزيز مِن ذكر مَن لم يُسمه فيه باسمه العلَم، من نبي أو ولي أو غيرهما، من آدمي أو ملَك أو جني أو بلد أو شجر أو كوكب أو حيوان له اسم علَم قد عُرف عند نقلة الأخبار والعلماء الأخيار"[SUP]([SUP][8][/SUP][/SUP]).
ويقول ابن جماعة: "هذا كتاب اختصرتُ فحواه من كتاب سبق لي في معناه، وأذكر فيه إن شاء الله تعالى اسمَ مَن ذُكر في القرآن العظيم بصفته أو لقبه أو كنيته، وأنسابَ المشهورين من الأنبياء والمرسلين والملوك المذكورين، والمعنىَّ بالناس والمؤمنين إذا ورد لقوم مخصوصين، وعددَ ما أُبهم عددُه، وأمدَ مالم يُبيـَّن أمدُه"[SUP]([SUP][9][/SUP][/SUP]).
فيلاحظ من خلال ما سبق أن كلام ابن جماعة أعمّ من كلام السهيلي حيث أنه اشتمل على ما أُبهم من اسم العلم، وأضاف إليه ما أُبهم من العدد والأمد.
وعليه يمكن أن يُقال في تعريف مبهمات القرآن:
(ما لم يُبيَّـن في القرآن الكريم من الأعلام والأعداد والأزمنة والأمكنة).
المبحث الثاني: المبهمات عند علماء الحديث:
اعتنى علماء الحديث بالمبهمات الواردة في الاسناد والمتن من الحديث النبوي عناية كبيرة، وكان أبو محمد عبد الغني الأزدي (ت 409ه)[SUP]([SUP][10][/SUP][/SUP]) أول من كتب في هذا النوع من أنواع علوم الحديث على انفراد، كما نص على ذلك ابن الصلاح والسخاوي وغيرهما([11]).
ثم تتابع العلماء بعده بالتأليف في هذا العلم، ومن هؤلاء: الخطيب البغدادي، وابن القيسراني، وابن بشكوال، والنووي، والعراقي([12])، وذكر السيوطي أن كتاب العراقي من أحسن ما صُنِّف في هذا النوع([13]).
وعلماء الحديث قد عرفوا علم المبهمات، وأكتفي في هذا المقام بتعريفين:
يقول السخاوي: "المبهمات ومنهم الرواة من الرجال والنساء ما لم يسمَّ في بعض الروايات أو جميعها إما اختصاراً أوشكاً أو نحو ذلك"([14]).
ويقول السيوطي: " المبهمات: أي معرفة من أُبهم ذكره في المتن أو الإسناد من الرجال والنساء"([15]).
ويلاحظ أن التعريفين متقاربان في المعنى بيد أن السخاوي أضاف سببين من أسباب الإبهام عند الراوي وهما: الاختصار أو الشك.
وذكر علماء الحديث أن الأصل في علم المبهمات حديث ابن عباس رضي الله عنهما السابق ذكره في المبحث الأول([16]).
وذكروا أن معرفة المبهم في الإسناد أهم من معرفته في متن الحديث؛ لتوقف قبول الحديث على ذلك، بينما لا تضر الجهالة غالباً في متون الأحاديث([17])، ومع ذلك فإن لمعرفة المبهم في الإسناد والمتن فوائد كثيرة منها([18]):
1- زوال الجهالة التي يُردُّ الخبر معها إذا كان الإبهام في أصل الإسناد.
2- تحقيق الشيء على ما هو عليه، فإن النفس متشوفة إليه.
3- معرفة الناسخ والمنسوخ إن عُرف إسلام ذلك الصحابي.
4- معرفة المنقبة للشخص المبهم إذا وردت في حديث، فيستفاد بمعرفته فضيلته.
5- حسن الظن بالصحابة، وذلك إن اشتمل الحديث على نسبة فعل غير مناسب فتحصل بتعيينه السلامة من جولان الظن في غيره من أفاضل الصحابة؛ خصوصاً إذا كان ذلك من المنافقين.
وذكروا أن من الطرق لمعرفة المبهم في المتن أو الإسناد:
أولاً: أن يرد مسمى في رواية أخرى.
ثانياً: أو أن ينص علماء السير ونحوهم على بيان المبهم([19]).
وقسم علماء الحديث المبهمات إلى أقسام أجملهما في ما يلي:
الأول: رجل وامرأة، أو رجلان، أو امرأتان، أو رجال أو نساء.
الثاني: الابن والبنت، والأخ والأخت، والابنان، والأخوان، وابن الأخ، وابن الأخت.
الثالث: العم والعمة ونحوهما، كالخال والخالة، والأب والأم، والجد والجدة، وابن أو بنت العم.
الرابع: الزوج والزوجة، والعبد، وأم الولد[SUP]([SUP][20][/SUP][/SUP]).
وذكروا لأكثر هذه الأقسام أمثلةً من الحديث النبوي الشريف، يطول البحث بذكرها؛ ولكني اكتفي بمثالين للتوضيح:
الأول: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رجلاً قال: يا رسول الله، الحج كل عام؟)[SUP]([SUP][21][/SUP][/SUP])، والرجل السائل هو الأقرع بن حابس، كما جاء في رواية أخرى[SUP]([SUP][22][/SUP][/SUP]).
الثاني: حديث أبي سعيد رضي الله عنه: (أنهم مروا بحي لُدغ سيدهم، فرقاه رجل منهم)[SUP]([SUP][23][/SUP][/SUP])، والرجل الراقي هو أبو سعيد نفسه[SUP]([SUP][24][/SUP][/SUP]).
المبحث الثالث: الدراسة التحليلية:
ومن خلال ما تقدم من عرض مفهوم المبهمات عند علماء علوم القرآن وعلماء الحديث نجد أن هناك مسائل متفقة ومشتركة عند الفريقين، ومسائل أضافها علماء علوم القرآن على علماء الحديث، ومسائل أضافها علماء الحديث على علماء علوم القرآن، وإليك تفصيل ذلك:
أولاً: المسائل المشتركة بين العلمين:
1- مفهوم مصطلح المبهمات:
نلاحظ أن مفهوم هذا المصطلح متفق عليه عند علماء علوم القرآن وعلماء الحديث من الناحية اللغوية، فإن الإبهام في اللغة يدل على الخفاء والإغلاق[SUP]([SUP][25][/SUP][/SUP]).
وأما من جهة الاصطلاح فبين صنيع علماء علوم القرآن وعلماء الحديث عموم وخصوص من وجه، فالعموم الذي عند علماء علوم القرآن من جهة أن المبهمات عندهم تكون في الأعلام والأزمان والأماكن والأعداد، والخصوص في كون هذا العلم خاصاً بالمتن، بمعنى أنه خاص بالنص القرآني، وليس له علاقة بأسانيد القراء.
وأما العموم الذي عند علماء الحديث فمن جهة أنه يشمل الإسناد والمتن معاً، والخصوص من جهة أنه خاص بالأعلام من الرجال والنساء، وليس له علاقة بمبهمات الأزمان والأماكن والأعداد.
2- ذكر المصنفات في علم المبهمات وأول من ألف فيه:
ذكر علماء علوم القرآن وعلماء الحديث المصنفات في هذا العلم، وأولَّ من ألَّف فيه، فالإمام أبو القاسم السهيلي (ت 581ه) أولُّ من ألف في مبهمات القرآن، والإمام أبو محمد عبد الغني الأزدي (ت 409ه) أولُّ من ألف في مبهمات الحديث، وعليه فإن الأسبق في التأليف في هذا الفن هم علماء الحديث بأكثر من قرن ونصف.
ولا يلزم من هذا التقدم في التأليف عند علماء الحديث أن يكون علماء علوم القرآن قد أخذوه عنهم، وتأثروا بهم؛ لأن الأمر لو كان كذلك، لوجدنا إشاراتٍ تدل على ذلك عند علماء علوم القرآن عموماً، والمؤلفين في هذا الفن خصوصاً، كما علمنا ذلك في مصطلح العالي والنازل والمدرج وغيرهما، إضافة إلى أن علماء علوم القرآن قد تناولوا موضوع المبهمات قديماً في تفاسيرهم، وإنما الذي تأخر هو إفراد المبهمات بتأليف مستقل، وعليه يمكن أن يقال إن علم المبهمات أصل عندهم، كما أنه أصل عند المحدثين، فهو أصل في كلا العلمين، والله أعلم.
3- أهمية هذا العلم والأصل فيه:
تحدث علماء علوم القرآن وعلماء الحديث عن أهمية هذا العلم، وحرص سلف هذه الأمة على معرفة ما أُبهم في القرآن الكريم، والسنة المشرفة، واتفقوا على أن الأصل في ذلك سؤال ابن عباس لعمر بن الخطاب -رضي الله عن الجميع- عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله r من أزواجه، المذكور قصتهما في سورة التحريم، وأنهما حفصة وعائشة رضي الله عنهما.
4- كيفية معرفة المبهم:
ذكر علماء علوم القرآن طريقاً واحداً لمعرفة المبهم، وهو النقل المحض، ولا مجال للرأي فيه، بينما علماء الحديث ذكروا عدة طرق منها: أن يرد مسمى في رواية أخرى، والثاني: أن ينص العلماء على بيان المبهم، وكلا الطريقين يرجعان إلى الطريق الأول، وهو النقل المحض، والنقل المحض يكون عن طريق القرآن الكريم، أو السنة النبوية الصحيحة، أو أقوال الصحابة الذين شاهدوا التنزيل، أو التابعين الحاملين لعلمهم.
5- أسباب وقوع الإبهام:
تحدث علماء علوم القرآن وعلماء الحديث عن أسباب الإبهام، ولكن يلاحظ أن أسباب الإبهام في القرآن ترجع كلها إلى الله تبارك وتعالى، لحكمة قد نعلمها وقد لا نعلمها، وأما أسباب الإبهام في الحديث فغالبها ترجع إلى الراوي، كأن يكون شاكاً أو مدلساً أو أراد الاختصار ونحو ذلك.
ثانياً: المسائل التي أضافها علماء علوم القرآن:
أضاف علماء علوم القرآن على علماء الحديث مسألة واحدة، وهي: أن علم المبهمات على قسمين: قسم لم يستأثر الله بعلمه فيجوز البحث عنه، وقسم استأثر الله بعلمه، فلا يجوز البحث عنه.
ثالثاً: المسائل التي أضافها علماء الحديث:
أضاف علماء الحديث على علماء علوم القرآن ثلاثة مسائل، وهي:
1- تعريف علم المبهمات.
2- فوائد معرفة المبهمات.
3- أقسام المبهمات.
وقد تقدم بيان ذلك في المبحث الثاني بما يغني عن إعادته في هذا الموضع.
وبالنظر إلى هذه المسائل التي زادها علماء الحديث يمكن أن نستفيد من بعضها في مجال علوم القرآن، وذلك أن من المسائل التي ذكرها علماء الحديث، ولم يذكرها علماء علوم القرآن فوائد معرفة المبهم، ولو تأملنا في هذه الفوائد لوجدنا أنها تصلح أن تُطبَّق في مجال علوم القرآن، عدا الفائدة الأولى، وهي زوال الجهالة التي يُرَدُّ الخبر معها إذا كان الإبهام في أصل الإسناد؛ لأن علماء علوم القرآن لم يتطرقوا إلى مبهمات الإسناد، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا، وأما بقية الفوائد فيمكن توظيفها في حقل علوم القرآن، وإليك بيان ذلك:
ذكر علماء الحديث من فوائد معرفة المبهم:
أولاً: تحقيق الشيء على ما هو عليه، فإن النفس متشوفة إليه:
وكذلك في تعيين المبهم من القرآن معرفة حقيقة الشيء على ما هو عليه، فإن من طبيعة النفس البشرية حب الاستطلاع والتشوف للشيء المجهول.
ثانياً: معرفة الناسخ والمنسوخ:
وكذا قد يعين معرفة المبهم من القرآن، على معرفة الناسخ والمنسوخ، وخاصة فيما يتعلق بأسباب النزول، ومن نزلت فيهم الآية.
ثالثاً: معرفة المنقبة للشخص المبهم:
وهذا موجود وبكثرة في القرآن الكريم من ذكر أعمال وصفات لأشخاص أُبهم ذكر أسمائهم، ففي بيان ذلك معرفة لمنقبة الشخص المبهم، وإسناد الفضل لأهله، كما في قوله تعالى: (وسيجنبها الأتقى) [الليل:17]، وهو أبو بكر الصديق t[SUP]([SUP][26][/SUP][/SUP]).
رابعاً: حسن الظن بالصحابة:
وهذا أيضاً موجود في صفات المنافقين والكفار الذين أُبهمت أسماؤهم، فمعرفة ذلك يحسن الظن بالصحابة، وينفي التهمة عنهم، كما في حادثة الإفك في قوله تعالى: (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) [النور:11]، وهو عبد الله بن أُبي المنافق[SUP]([SUP][27][/SUP][/SUP])، ولا يمكن أن يصدر هذا الفعل المشين من أحد من الصحابة الكرام.
· العلاقة بين مبهمات القرآن ومبهمات الحديث:
ومن خلال ما سبق من ذكر المسائل المشتركة بين العلمين، وما أضافه علماء علوم القرآن على علماء الحديث، وما أضافه علماء الحديث على علماء علوم القرآن، وكيفية توظيف بعض زيادات المحدثين في مجال علوم القرآن، يلاحظ أن هناك علاقةً وطيدة، ورابطةً قوية بين مبهمات القرآن، ومبهمات الحديث، تتضح في الأمور التالية:
أولاً: أن معرفة مبهمات كلٍّ منهما يعين على الفهم الصحيح للوحي المنزَّل.
ثانياً: حاجة كلٍّ منهما في بيان الإبهام إلى الحديث النبوي، بل إن حاجة القرآن في بيان مبهماته إلى الحديث أشد من حاجة مبهم الحديث إلى القرآن، وهذا يتضح من خلال النظر في طريقة معرفة المبهم من القرآن والسنة.
ثالثاً: أن بعض المؤلفين في مبهمات الحديث يعقدون في كتبهم باباً في التفسير وأسباب النزول، ويذكرون فيه شيئاً من مبهمات القرآن[SUP]([SUP][28][/SUP][/SUP])، فيدل ذلك على قوة العلاقة بين مبهمات القرآن والحديث.
([1]) هو الإمام أبو القاسم ويكنى أيضاً بأبي زيد عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد الخثعمي الأندلسي السهيلي، عالم نحوي لغوي إخباري، ولد سنة ثمان وخمس مائة وتوفي سنة إحدى وثمانين وخمس مائة، رحمه الله تعالى، انظر إنباه الرواة: (2/162)؛ ووفيات الأعيان: (3/143، 144).
([2]) والكتاب مطبوع بتحقيق: عبد الله محمد النقراط، بطرابلس، منشورات كلية الدعوة الاسلامية.
([3]) رواه البخاري في صحيحه: (3/313)، في كتاب تفسير القرآن، باب: (تبتغي مرضاة أزواجك)، برقم: (4913)؛ ومسلم في صحيحه: (2/1108)، في كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء، برقم: (1479).
([4]) انظر البرهان في علوم القرآن: (1/155-160)؛ والإتقان في علوم القرآن: (6/2018-2020).
([5]) انظر المصدرين السابقين.
([6]) انظر البرهان: (1/155).
([7]) انظر الإتقان: (6/2022).
([8]) التعريف والإعلام: ص (50).
([9]) غرر التبيان في من لم يُسمَ في القرآن: ص (191).
([10]) هو أبو محمد عبد الغني بن سعيد بن علي الأزدي، الإمام الحافظ الحجة النسابة، صاحب كتاب (المؤتلف والمختلف)، ولد سنة اثنتين وثلاثين وثلاث مائة، وتوفي سنة تسع وأربع مائة، رحمه الله، انظر سير أعلام النبلاء: (17/268-271).
([11]) انظر مقدمة ابن الصلاح: ص (375)؛ وفتح المغيث: (3/302).
([12]) انظر فتح المغيث: (3/302).
([13]) انظر تدريب الراوي: (2/342).
([14]) فتح المغيث: (3/301).
([15]) تدريب الراوي: (2/342).
([16]) انظر فتح المغيث: (3/302)؛ وانظر تخريج الحديث في صفحة (23) من هذا البحث.
([17]) انظر اختصار علوم الحديث لابن كثير: ص (236)؛ وفتح المغيث: (3/301).
([18]) انظر المستفاد من مبهمات المتن والاسناد للعراقي: (1/91، 92)؛ وفتح المغيث: (3/301)؛ وتدريب الراوي: (2/454).
([19]) انظر مقدمة ابن الصلاح: (375)؛ وفتح المغيث: (3/302).
([20]) انظر مقدمة ابن الصلاح: ص (375-379)؛ وتدريب الراوي: (2/455- 465).
([21]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده: (5/138)، برقم: (2996)، وصححه محقق المسند.
([22]) انظر اختصار علوم الحديث: ص (236).
([23]) رواه البخاري في صحيحه: (2/136) في كتاب البيوع، باب ما يعطى في الرقية، برقم: (2276).
([24]) انظر اختصار علوم الحديث: ص (236).
([25]) انظر تهذيب اللغة: (6/337)؛ ومقاييس اللغة: (1/311) مادة (بهم).
([26]) انظر غرر التبيان في من لم يُسم في القرآن: ص (542).
([27]) انظر غرر التبيان في من لم يُسم في القرآن: ص (359).
([28]) انظر على سبيل المثال كتاب العراقي المستفاد من مبهمات المتن والاسناد: (3/1457-1560).
المبهمــــات:
المبحث الأول: المبهمات عند علماء علوم القرآن:
تحدَّث العلماء قديماً وحديثاً عن المبهمات التي في القرآن، وأولوها اهتماماً بالغاً، وصنفوا في ذلك المصنفات، وكان الإمام أبو القاسم السهيلي (ت 581هـ)[SUP]([SUP][1][/SUP][/SUP]) أول من أفرد هذا العلم بالتصنيف في كتاب سماه: (التعريف والإعلام فيما أُبهم في القرآن من أسماء الأعلام)[SUP]([SUP][2][/SUP][/SUP])، ثم تتابع العلماء بعده بالتأليف في هذا العلم، ومن هؤلاء: أبو عبد الله بن عسكر، وبدر الدين ابن جماعة، وأبو عبد الله البلنسي، والسيوطي، وكتبهم كلها مطبوعة.
وتحدَّث هؤلاء العلماء في مقدمة كتبهم عن أهمية معرفة المبهمات التي في القرآن، وأن سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين كانوا حريصين على معرفة ما أُبهم في القرآن، وأن الأصل في ذلك ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (( مكثتُ سنةً وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتى خرج حاجاً فخرجتُ معه فلما رجع فكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له، فوقفت له حتى فرغ ثم سرت معه فقلت يا أمير المؤمنين: من اللتان تظاهرتا على رسول الله r من أزواجه؟ فقال تلك حفصة وعائشة))[SUP]([SUP][3][/SUP][/SUP]).
وأضاف الزركشي في البرهان عدة أسباب لوقوع الإبهام في القرآن، وتبعه على ذلك السيوطي في الاتقان، وملخصها ما يلي:
1- الاستغناء ببيانه في موضع آخر.
2- أن يتعيَّن لاشتهاره.
3- قصد الستر عليه؛ ليكون أبلغ في استعطافه.
4- ألا يكون في تعيينه كبير فائدة.
5- التنبيه على العموم، وأنه غير خاصٍ بخلاف ما لو عُيِّـن.
6- تعظيمه بالوصف الكامل دون الاسم.
7- تحقيره بالوصف الناقص.
وذكرا لكل سبب من هذه الأسباب أمثلة من القرآن الكريم، يطول البحث بذكرها[SUP]([SUP][4][/SUP][/SUP])؛ ولكني أكتفي بمثالين:
الأول: قوله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) [البقرة:35]، أُبهم في قوله: (وزوجك) ولم يقل حواء؛ لأن المعنى مشتهر ومعروف، وليس لآدم زوجة غيرها.
الثاني: قوله عز وجل: (إن شانئك هو الأبتر) [الكوثر:3]، أُبهم اسم هذا الرجل، وهو العاصي بن وائل، وسبب الإبهام التحقير بالوصف الناقص[SUP]([SUP][5][/SUP][/SUP]).
وأوضح الزركشي أن لا يُبحث عن مبهم أخبر الله تعالى باستئثاره بعلمه([6])، فيستفاد من هذا أن المبهمات على قسمين:
الأول: ما يمكن الوصول إلى معرفته، وهذا جائز البحث عنه.
الثاني: ما استأثر الله بعلمه، وهذا لا يجوز البحث عنه، كوقت قيام الساعة مثلاً.
وأضاف السيوطي أن علم المبهمات مرجعه النقل المحض، ولا مجال للرأي فيه([7]).
وهؤلاء العلماء لم يذكروا تعريفاً صريحاً لمبهمات القرآن؛ ولكن لو تأملنا كلام بعضهم في مقدمة كتبهم عن صفة المبهم الذي ذكروه أمكن لنا أن نستخلص من ذلك تعريفاً له.
يقول السهيلي: "فإني قصدتُ أن أذكر في هذا المختصر الوجيز ما تضمنه كتاب الله العزيز مِن ذكر مَن لم يُسمه فيه باسمه العلَم، من نبي أو ولي أو غيرهما، من آدمي أو ملَك أو جني أو بلد أو شجر أو كوكب أو حيوان له اسم علَم قد عُرف عند نقلة الأخبار والعلماء الأخيار"[SUP]([SUP][8][/SUP][/SUP]).
ويقول ابن جماعة: "هذا كتاب اختصرتُ فحواه من كتاب سبق لي في معناه، وأذكر فيه إن شاء الله تعالى اسمَ مَن ذُكر في القرآن العظيم بصفته أو لقبه أو كنيته، وأنسابَ المشهورين من الأنبياء والمرسلين والملوك المذكورين، والمعنىَّ بالناس والمؤمنين إذا ورد لقوم مخصوصين، وعددَ ما أُبهم عددُه، وأمدَ مالم يُبيـَّن أمدُه"[SUP]([SUP][9][/SUP][/SUP]).
فيلاحظ من خلال ما سبق أن كلام ابن جماعة أعمّ من كلام السهيلي حيث أنه اشتمل على ما أُبهم من اسم العلم، وأضاف إليه ما أُبهم من العدد والأمد.
وعليه يمكن أن يُقال في تعريف مبهمات القرآن:
(ما لم يُبيَّـن في القرآن الكريم من الأعلام والأعداد والأزمنة والأمكنة).
المبحث الثاني: المبهمات عند علماء الحديث:
اعتنى علماء الحديث بالمبهمات الواردة في الاسناد والمتن من الحديث النبوي عناية كبيرة، وكان أبو محمد عبد الغني الأزدي (ت 409ه)[SUP]([SUP][10][/SUP][/SUP]) أول من كتب في هذا النوع من أنواع علوم الحديث على انفراد، كما نص على ذلك ابن الصلاح والسخاوي وغيرهما([11]).
ثم تتابع العلماء بعده بالتأليف في هذا العلم، ومن هؤلاء: الخطيب البغدادي، وابن القيسراني، وابن بشكوال، والنووي، والعراقي([12])، وذكر السيوطي أن كتاب العراقي من أحسن ما صُنِّف في هذا النوع([13]).
وعلماء الحديث قد عرفوا علم المبهمات، وأكتفي في هذا المقام بتعريفين:
يقول السخاوي: "المبهمات ومنهم الرواة من الرجال والنساء ما لم يسمَّ في بعض الروايات أو جميعها إما اختصاراً أوشكاً أو نحو ذلك"([14]).
ويقول السيوطي: " المبهمات: أي معرفة من أُبهم ذكره في المتن أو الإسناد من الرجال والنساء"([15]).
ويلاحظ أن التعريفين متقاربان في المعنى بيد أن السخاوي أضاف سببين من أسباب الإبهام عند الراوي وهما: الاختصار أو الشك.
وذكر علماء الحديث أن الأصل في علم المبهمات حديث ابن عباس رضي الله عنهما السابق ذكره في المبحث الأول([16]).
وذكروا أن معرفة المبهم في الإسناد أهم من معرفته في متن الحديث؛ لتوقف قبول الحديث على ذلك، بينما لا تضر الجهالة غالباً في متون الأحاديث([17])، ومع ذلك فإن لمعرفة المبهم في الإسناد والمتن فوائد كثيرة منها([18]):
1- زوال الجهالة التي يُردُّ الخبر معها إذا كان الإبهام في أصل الإسناد.
2- تحقيق الشيء على ما هو عليه، فإن النفس متشوفة إليه.
3- معرفة الناسخ والمنسوخ إن عُرف إسلام ذلك الصحابي.
4- معرفة المنقبة للشخص المبهم إذا وردت في حديث، فيستفاد بمعرفته فضيلته.
5- حسن الظن بالصحابة، وذلك إن اشتمل الحديث على نسبة فعل غير مناسب فتحصل بتعيينه السلامة من جولان الظن في غيره من أفاضل الصحابة؛ خصوصاً إذا كان ذلك من المنافقين.
وذكروا أن من الطرق لمعرفة المبهم في المتن أو الإسناد:
أولاً: أن يرد مسمى في رواية أخرى.
ثانياً: أو أن ينص علماء السير ونحوهم على بيان المبهم([19]).
وقسم علماء الحديث المبهمات إلى أقسام أجملهما في ما يلي:
الأول: رجل وامرأة، أو رجلان، أو امرأتان، أو رجال أو نساء.
الثاني: الابن والبنت، والأخ والأخت، والابنان، والأخوان، وابن الأخ، وابن الأخت.
الثالث: العم والعمة ونحوهما، كالخال والخالة، والأب والأم، والجد والجدة، وابن أو بنت العم.
الرابع: الزوج والزوجة، والعبد، وأم الولد[SUP]([SUP][20][/SUP][/SUP]).
وذكروا لأكثر هذه الأقسام أمثلةً من الحديث النبوي الشريف، يطول البحث بذكرها؛ ولكني اكتفي بمثالين للتوضيح:
الأول: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رجلاً قال: يا رسول الله، الحج كل عام؟)[SUP]([SUP][21][/SUP][/SUP])، والرجل السائل هو الأقرع بن حابس، كما جاء في رواية أخرى[SUP]([SUP][22][/SUP][/SUP]).
الثاني: حديث أبي سعيد رضي الله عنه: (أنهم مروا بحي لُدغ سيدهم، فرقاه رجل منهم)[SUP]([SUP][23][/SUP][/SUP])، والرجل الراقي هو أبو سعيد نفسه[SUP]([SUP][24][/SUP][/SUP]).
المبحث الثالث: الدراسة التحليلية:
ومن خلال ما تقدم من عرض مفهوم المبهمات عند علماء علوم القرآن وعلماء الحديث نجد أن هناك مسائل متفقة ومشتركة عند الفريقين، ومسائل أضافها علماء علوم القرآن على علماء الحديث، ومسائل أضافها علماء الحديث على علماء علوم القرآن، وإليك تفصيل ذلك:
أولاً: المسائل المشتركة بين العلمين:
1- مفهوم مصطلح المبهمات:
نلاحظ أن مفهوم هذا المصطلح متفق عليه عند علماء علوم القرآن وعلماء الحديث من الناحية اللغوية، فإن الإبهام في اللغة يدل على الخفاء والإغلاق[SUP]([SUP][25][/SUP][/SUP]).
وأما من جهة الاصطلاح فبين صنيع علماء علوم القرآن وعلماء الحديث عموم وخصوص من وجه، فالعموم الذي عند علماء علوم القرآن من جهة أن المبهمات عندهم تكون في الأعلام والأزمان والأماكن والأعداد، والخصوص في كون هذا العلم خاصاً بالمتن، بمعنى أنه خاص بالنص القرآني، وليس له علاقة بأسانيد القراء.
وأما العموم الذي عند علماء الحديث فمن جهة أنه يشمل الإسناد والمتن معاً، والخصوص من جهة أنه خاص بالأعلام من الرجال والنساء، وليس له علاقة بمبهمات الأزمان والأماكن والأعداد.
2- ذكر المصنفات في علم المبهمات وأول من ألف فيه:
ذكر علماء علوم القرآن وعلماء الحديث المصنفات في هذا العلم، وأولَّ من ألَّف فيه، فالإمام أبو القاسم السهيلي (ت 581ه) أولُّ من ألف في مبهمات القرآن، والإمام أبو محمد عبد الغني الأزدي (ت 409ه) أولُّ من ألف في مبهمات الحديث، وعليه فإن الأسبق في التأليف في هذا الفن هم علماء الحديث بأكثر من قرن ونصف.
ولا يلزم من هذا التقدم في التأليف عند علماء الحديث أن يكون علماء علوم القرآن قد أخذوه عنهم، وتأثروا بهم؛ لأن الأمر لو كان كذلك، لوجدنا إشاراتٍ تدل على ذلك عند علماء علوم القرآن عموماً، والمؤلفين في هذا الفن خصوصاً، كما علمنا ذلك في مصطلح العالي والنازل والمدرج وغيرهما، إضافة إلى أن علماء علوم القرآن قد تناولوا موضوع المبهمات قديماً في تفاسيرهم، وإنما الذي تأخر هو إفراد المبهمات بتأليف مستقل، وعليه يمكن أن يقال إن علم المبهمات أصل عندهم، كما أنه أصل عند المحدثين، فهو أصل في كلا العلمين، والله أعلم.
3- أهمية هذا العلم والأصل فيه:
تحدث علماء علوم القرآن وعلماء الحديث عن أهمية هذا العلم، وحرص سلف هذه الأمة على معرفة ما أُبهم في القرآن الكريم، والسنة المشرفة، واتفقوا على أن الأصل في ذلك سؤال ابن عباس لعمر بن الخطاب -رضي الله عن الجميع- عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله r من أزواجه، المذكور قصتهما في سورة التحريم، وأنهما حفصة وعائشة رضي الله عنهما.
4- كيفية معرفة المبهم:
ذكر علماء علوم القرآن طريقاً واحداً لمعرفة المبهم، وهو النقل المحض، ولا مجال للرأي فيه، بينما علماء الحديث ذكروا عدة طرق منها: أن يرد مسمى في رواية أخرى، والثاني: أن ينص العلماء على بيان المبهم، وكلا الطريقين يرجعان إلى الطريق الأول، وهو النقل المحض، والنقل المحض يكون عن طريق القرآن الكريم، أو السنة النبوية الصحيحة، أو أقوال الصحابة الذين شاهدوا التنزيل، أو التابعين الحاملين لعلمهم.
5- أسباب وقوع الإبهام:
تحدث علماء علوم القرآن وعلماء الحديث عن أسباب الإبهام، ولكن يلاحظ أن أسباب الإبهام في القرآن ترجع كلها إلى الله تبارك وتعالى، لحكمة قد نعلمها وقد لا نعلمها، وأما أسباب الإبهام في الحديث فغالبها ترجع إلى الراوي، كأن يكون شاكاً أو مدلساً أو أراد الاختصار ونحو ذلك.
ثانياً: المسائل التي أضافها علماء علوم القرآن:
أضاف علماء علوم القرآن على علماء الحديث مسألة واحدة، وهي: أن علم المبهمات على قسمين: قسم لم يستأثر الله بعلمه فيجوز البحث عنه، وقسم استأثر الله بعلمه، فلا يجوز البحث عنه.
ثالثاً: المسائل التي أضافها علماء الحديث:
أضاف علماء الحديث على علماء علوم القرآن ثلاثة مسائل، وهي:
1- تعريف علم المبهمات.
2- فوائد معرفة المبهمات.
3- أقسام المبهمات.
وقد تقدم بيان ذلك في المبحث الثاني بما يغني عن إعادته في هذا الموضع.
وبالنظر إلى هذه المسائل التي زادها علماء الحديث يمكن أن نستفيد من بعضها في مجال علوم القرآن، وذلك أن من المسائل التي ذكرها علماء الحديث، ولم يذكرها علماء علوم القرآن فوائد معرفة المبهم، ولو تأملنا في هذه الفوائد لوجدنا أنها تصلح أن تُطبَّق في مجال علوم القرآن، عدا الفائدة الأولى، وهي زوال الجهالة التي يُرَدُّ الخبر معها إذا كان الإبهام في أصل الإسناد؛ لأن علماء علوم القرآن لم يتطرقوا إلى مبهمات الإسناد، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا، وأما بقية الفوائد فيمكن توظيفها في حقل علوم القرآن، وإليك بيان ذلك:
ذكر علماء الحديث من فوائد معرفة المبهم:
أولاً: تحقيق الشيء على ما هو عليه، فإن النفس متشوفة إليه:
وكذلك في تعيين المبهم من القرآن معرفة حقيقة الشيء على ما هو عليه، فإن من طبيعة النفس البشرية حب الاستطلاع والتشوف للشيء المجهول.
ثانياً: معرفة الناسخ والمنسوخ:
وكذا قد يعين معرفة المبهم من القرآن، على معرفة الناسخ والمنسوخ، وخاصة فيما يتعلق بأسباب النزول، ومن نزلت فيهم الآية.
ثالثاً: معرفة المنقبة للشخص المبهم:
وهذا موجود وبكثرة في القرآن الكريم من ذكر أعمال وصفات لأشخاص أُبهم ذكر أسمائهم، ففي بيان ذلك معرفة لمنقبة الشخص المبهم، وإسناد الفضل لأهله، كما في قوله تعالى: (وسيجنبها الأتقى) [الليل:17]، وهو أبو بكر الصديق t[SUP]([SUP][26][/SUP][/SUP]).
رابعاً: حسن الظن بالصحابة:
وهذا أيضاً موجود في صفات المنافقين والكفار الذين أُبهمت أسماؤهم، فمعرفة ذلك يحسن الظن بالصحابة، وينفي التهمة عنهم، كما في حادثة الإفك في قوله تعالى: (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) [النور:11]، وهو عبد الله بن أُبي المنافق[SUP]([SUP][27][/SUP][/SUP])، ولا يمكن أن يصدر هذا الفعل المشين من أحد من الصحابة الكرام.
· العلاقة بين مبهمات القرآن ومبهمات الحديث:
ومن خلال ما سبق من ذكر المسائل المشتركة بين العلمين، وما أضافه علماء علوم القرآن على علماء الحديث، وما أضافه علماء الحديث على علماء علوم القرآن، وكيفية توظيف بعض زيادات المحدثين في مجال علوم القرآن، يلاحظ أن هناك علاقةً وطيدة، ورابطةً قوية بين مبهمات القرآن، ومبهمات الحديث، تتضح في الأمور التالية:
أولاً: أن معرفة مبهمات كلٍّ منهما يعين على الفهم الصحيح للوحي المنزَّل.
ثانياً: حاجة كلٍّ منهما في بيان الإبهام إلى الحديث النبوي، بل إن حاجة القرآن في بيان مبهماته إلى الحديث أشد من حاجة مبهم الحديث إلى القرآن، وهذا يتضح من خلال النظر في طريقة معرفة المبهم من القرآن والسنة.
ثالثاً: أن بعض المؤلفين في مبهمات الحديث يعقدون في كتبهم باباً في التفسير وأسباب النزول، ويذكرون فيه شيئاً من مبهمات القرآن[SUP]([SUP][28][/SUP][/SUP])، فيدل ذلك على قوة العلاقة بين مبهمات القرآن والحديث.
([1]) هو الإمام أبو القاسم ويكنى أيضاً بأبي زيد عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد الخثعمي الأندلسي السهيلي، عالم نحوي لغوي إخباري، ولد سنة ثمان وخمس مائة وتوفي سنة إحدى وثمانين وخمس مائة، رحمه الله تعالى، انظر إنباه الرواة: (2/162)؛ ووفيات الأعيان: (3/143، 144).
([2]) والكتاب مطبوع بتحقيق: عبد الله محمد النقراط، بطرابلس، منشورات كلية الدعوة الاسلامية.
([3]) رواه البخاري في صحيحه: (3/313)، في كتاب تفسير القرآن، باب: (تبتغي مرضاة أزواجك)، برقم: (4913)؛ ومسلم في صحيحه: (2/1108)، في كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء، برقم: (1479).
([4]) انظر البرهان في علوم القرآن: (1/155-160)؛ والإتقان في علوم القرآن: (6/2018-2020).
([5]) انظر المصدرين السابقين.
([6]) انظر البرهان: (1/155).
([7]) انظر الإتقان: (6/2022).
([8]) التعريف والإعلام: ص (50).
([9]) غرر التبيان في من لم يُسمَ في القرآن: ص (191).
([10]) هو أبو محمد عبد الغني بن سعيد بن علي الأزدي، الإمام الحافظ الحجة النسابة، صاحب كتاب (المؤتلف والمختلف)، ولد سنة اثنتين وثلاثين وثلاث مائة، وتوفي سنة تسع وأربع مائة، رحمه الله، انظر سير أعلام النبلاء: (17/268-271).
([11]) انظر مقدمة ابن الصلاح: ص (375)؛ وفتح المغيث: (3/302).
([12]) انظر فتح المغيث: (3/302).
([13]) انظر تدريب الراوي: (2/342).
([14]) فتح المغيث: (3/301).
([15]) تدريب الراوي: (2/342).
([16]) انظر فتح المغيث: (3/302)؛ وانظر تخريج الحديث في صفحة (23) من هذا البحث.
([17]) انظر اختصار علوم الحديث لابن كثير: ص (236)؛ وفتح المغيث: (3/301).
([18]) انظر المستفاد من مبهمات المتن والاسناد للعراقي: (1/91، 92)؛ وفتح المغيث: (3/301)؛ وتدريب الراوي: (2/454).
([19]) انظر مقدمة ابن الصلاح: (375)؛ وفتح المغيث: (3/302).
([20]) انظر مقدمة ابن الصلاح: ص (375-379)؛ وتدريب الراوي: (2/455- 465).
([21]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده: (5/138)، برقم: (2996)، وصححه محقق المسند.
([22]) انظر اختصار علوم الحديث: ص (236).
([23]) رواه البخاري في صحيحه: (2/136) في كتاب البيوع، باب ما يعطى في الرقية، برقم: (2276).
([24]) انظر اختصار علوم الحديث: ص (236).
([25]) انظر تهذيب اللغة: (6/337)؛ ومقاييس اللغة: (1/311) مادة (بهم).
([26]) انظر غرر التبيان في من لم يُسم في القرآن: ص (542).
([27]) انظر غرر التبيان في من لم يُسم في القرآن: ص (359).
([28]) انظر على سبيل المثال كتاب العراقي المستفاد من مبهمات المتن والاسناد: (3/1457-1560).