اللورد هدلي الذي ذاع في الناس خبر اعتناقه لدين الإسلام

طارق منينة

New member
إنضم
19/07/2010
المشاركات
6,330
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الكاتب : سيف الرحمن رحمة الله فاروق (اللورد هدلي)

ربيع الأول - 1347هـ
سبتمبر - 1928م​

يفترون على الله كذبًا
مطاعن المبشرين في صاحب الرسالة الإسلامية
لصاحب الفخامة سيف الرحمن رحمة الله فاروق ( اللورد هدلي )
رئيس الجمعية البريطانية الإسلامية
[*]
نشرت المجلة الإسلامية ( إسلامك رفيو ) التي يصدرها الخواجة كمال الدين
مقالاً مطولاً بقلم اللورد هدلي الذي ذاع في الناس خبر اعتناقه لدين الإسلام منذ
عشر سنين ، ردًّا على مفتريات المبشرين الذين لم يكتفوا بعقد مؤتمراتهم ضد
العالم الإسلامي ، بل هم يوجهون المطاعن البذيئة إلى النبي الكريم ، فليشهد التاريخ
وليسطر في صفحاته هذه الأعمال التي تدل على عقلية سقيمة وتربية لا تليق أن
يتصف بها أتباع السيد المسيح عليه السلام ، وهذا هو :

( كنت أطلع من وقت إلى آخر على كتابات الإرساليات المسيحية التي
يطبعونها بشكل كراسات صغيرة ، ويدَّعون فيها أنهم يُدْلُون للقراء بمعلومات قيمة
عن الدين الإسلامي وواضع أسسه ، وإنني لأعترف وأنا عظيم الأسف بأنني أشعر
بذلة عظيمة وخجل شديد عندما أجد أن أحد رجال وطني يضطر إلى الأخذ بالرياء
والتمويه والتحريف لكي يعزز آراءه نحو الدين ، فإن الدين الحق يعلم الناس العدل
والآداب وعدم الافتراء والكذب ؛ وإنه ليُذهِل أن يرى القارئ إلى أي مدى تسير
التعصبات الدينية المسيحية .
وانظر إلى وجه الصورة الآخر : ألا تدهشك رؤية مظاهر روح التسامح
والحسنى التي يقررها القرآن ، وذلك الهدوء الذي يلاقي به المجتمع الإسلامي
الحملات القوية العديمة القيمة التي تحمل عليه وعلى ديانته باسم عيسى الكريم أحد
أنبيائه ؟
إنني لا أجد أي جور أو تحريف في أعمال هذه النبي الكريم ، وإنه وإن كانت
هناك كلمات شديدة يدفع بها المسلمون عن كرامتهم إلا أنهم لم يلجأوا إلى مثل هذه
التهم الملفقة كي يكون منها أهم أسلحتهم التي يهاجمون بها خصومهم .
وها أنا ذا ذاكر الآن بعض قطع من كراسات وضعت خصيصًا لتشويه أخلاق
المصلح العربي العظيم ، وسيرى كل شخص ذي عقل سليم مسيحيًّا كان أم مسلمًا
أن طلب الانتقام هو السلاح الوحيد الذي يهاجمون به الإسلام ، يريدون بذلك أن
يطفئوا تلك الشمس النيرة ، وأن يحجبوا أشعتها الوضاءة وليس في تلك الكراسات
حجج ولا إشارات إلى الحقائق التاريخية وإنما هي تقارير مثيرة متوالية تدل على
عقلية كاتبيها السخيفة وذوقهم السقيم .
ويرى القارئ هنا بعض أمثلة مقيئة وإنني أعتذر إليه لذكر هذيان كهذا يَمُجُّهُ
الذوقُ السليم ويحمرُّ منه وجه الفضيلة ، وعذري في ذلك أنه يجب على كل مسلم أن
يعلم مقدار تعصب هذه الشرذمة الضالة ، وأن يرى هذه الهجمات المتتالية التي
توجه منذ زمن بعيد ضد المسلمين الذين لا تسمح لهم حسناتهم وصبرهم وطول
أناتهم وحسن ذوقهم بأن يقابلوهم بمثل هذه السفالة المنكرة المبتذلة التي نهى عنها
المسيح الذي يعتقد هؤلاء المتدينون الأسافل أنه ربهم ومولاهم .
من ذلك ما نشرته جريدة ( نور آفشو ) وهي جريدة تبشيرية أسبوعية تطبع
في لوديانا قالت :
( الوحي الذي نزل على .. . أتي من لدن الشيطان ) .
( المسلمون في الواقع حُمُر وأعمالهم كأعمال الجحوش ) .
( المسلمون مربوطون بحبال الشيطان من رقابهم ) .
( كل نساء بلاد العرب المتزوجات زانيات ) .
( خلاص المسلمين مبني على ارتكاب الخطايا وجعلت الأعمال الطيبة عندهم
كوسيلة للحرمان ، أما الخطيئة فقد نظمت كفرض وحيد لحياتهم الطبيعية ) .
( أسس محمد أمة جعلت ارتكاب الخطايا ، وجعلت الأعمال الطيبة [1]
يتعمدون الكذب ويسفكون الدماء ويرتكبون السرقة وقطع الطريق ومصيرهم إلى
جهنم جميعا ) .
وكتب الدكتور ت . هويل راعي الكنيسة الإنجليزية بلاهور :
( مِن محض رغبته أو غوايته الشيطانية شكر محمد الأصنام وسجد لها ) .
( إنه ظل خاضعًا للشيطان والسحر ) .
( وقال مخاطبًا المسلمين بتعيير وتوبيخ ؛ ذلك لأن قوادكم مجرمون شريرون
وعقولهم ضعيفة ) .
وكتب القس ج . هراوءوس الأستاذ في اللاهوت ( هناك أشياء كثيرة تدل
على أن .. . مجرم أثيم ) .
( الطمع والغضب كانا من الشرور القوية الغريزية في ... ) .
( إن .. . مفتقر إلى الإخلاص ) .
( إن .. . لا يستطيع أن يتخلص من جهنم بأية واسطة وسيلقى في جهنم
كباقي المخطئين ) .
وكتب القس روكلين :
( أصحاب محمد يوصفون بأنهم سفاكون دماء وظلمة متوحشون ولصوص
غشاشون وفاعلو كل أصناف الآثام ) .
وكتب القسم السير وليم مبور :
( قد سجن .. . في داخل بخار جهنم إلا أن كل ذلك حصل من جراء ارتكابه
الجرائم التي ظل يمارسها إلى أن مات ) .
( القرآن مجموعة من الحكايات اليهودية والمسيحية المسروقة من التوراة
وغير الموثوق بها ) .
قال اللورد بعد نقل ما ذكر :
أنا أفهم أن للقلم حرمة وأفهم أنه مرآة حامله ، فإذا أثم القلم فيما يسود من
بياض القرطاس دل على أن لصاحبه نفسًا لا تسمو كثيرًا عن نفوس المجرمين ،
وكل ما في الأمر أنه طليق وأنهم سجناء ... فالذي يحاول أن ينال من غيره ببذيء
القول لا ينال إلا من نفسه ، والذي يريد أن يطعن غيره بفُحْش الكلام لا يطعن إلا
صدره .
فإذن يفهم من أقوال المبشرين أنهم ضالون مضللون وإذا كان هذا هو الأدب
لديهم فماذا تركوا لأوباش الأحواش ( المواخير ) وأبناء الأزقة ؟
إن تعاليم القرآن الكريم ، قد نفذت ومُورِسَتْ في حياة محمد صلى الله عليه
وسلم الذي أظهر من أشرف الصفات الخلقية ما لا يتسنى لمخلوق آخر إظهارها فكل
صفات الصبر والثبات والحلم والصدق كانت ترى في خلال الثلاثة عشرة سنة أثناء
جهاده في مكة هذا ، ولم تتزعزع ثقته بالله تعالى وأتم كل واجباته بشمم وشهامة .
كان صلى الله عليه وسلم مثابرًا في عمله لا يخشى لومة لائم ؛ لأنه كان
يدرس المسئولية التي ألقاها الله تعالى على كاهله ، وقد أثارت تلك الشجاعة التي لا
تعرف الجفول - تلك الشجاعة التي كانت حقًّا إحدى مميزاته وأوصافه العظيمة -
إعجاب واحترام الكافرين ، وأولئك الذين كانوا يحاولون قتله ، ومع ذلك فقد انتبهت
مشاعرنا وزاد إعجابنا له في حياته الأخيرة أيام انتصاره بالمدينة عندما كانت له
القوة والقدرة على الانتقام واستطاعته الأخذ بالثأر ولم يفعل من ذلك شيئًا بل عفا
عن كل أعدائه .
إن العفو والإحسان والشجاعة والحلم كل ذلك كان يرى منه في خلال تلك
المدة ، وإن عددًا عديدًا من الكافرين اهتدوا إلى الإسلام عند رؤيتهم ذلك .
عفا بلا قيد ولا شرط عن كل هؤلاء الذين اضطهدوه وعذَّبوه .
آوى إليه كل الذين كانوا قد نفوه من مكة وأغنى فقراءهم وعفا عن ألد أعدائه
عندما كانت حياتهم في قبضة يده وتحت رحمته .
تلك الأخلاق اللاهوتية التي أظهرها النبي الكريم أقنعت العرب الكافرين بأن
حائزها لا يمكن إلا أن يكون مرسلاً من عند الله وأن يكون رجلاًَ هاديًا إلى الصراط
المستقيم ، وإن تلك الأخلاق المُضَرِيَّة الشريفة حولت كراهيتهم المتأصلة في نفوسهم
إلى محبة وصداقة متينة .
فكل هذه المحاولات العقيمة والوسائل الدنيئة التي يقوم بها المبشرون لتحقير
شريعة النبي العظيم بالبذاءة آنًا ، وبالسفاسف المتضمنة كثيرًا من طمس الحقائق آنًا
آخر لا تمسه بأذًى ولا تغير عقيدة تابعيه قيد أصبع .
وليعلم هؤلاء الذين اتخذوا مثل هذه الأكاذيب ذريعة وأحبولة ليقتنصوا
المسلمين أن الكلام البذيء والكذب كانا أكره شيء في نظر أعظم معلمي الناصرة .
لا أظن أبدًا أن المسلمين اجتهدوا في حين من الأحيان أن يحشروا أفكارهم
ومعتقداتهم الدينية في حلوق الناس وصدورهم بالقوة والفظاعة والتعذيب ، وإذا كان
هناك مثل هذه الحالات فحينئذ يمكننا أن نقول : إن مرتكبي هذه الآثام ليسوا
بمسلمين مطلقًا ؛ لأننا لا نستطيع أن نقر بأن القرآن الشريف يصادق على أفعالهم .
إن محمدًا كان قانونيًّا ومحاربًا وعندما امتشق الحسام هو وتابعوه لم يكن ذلك
إلا للدفاع عن أنفسهم فقط ، ولم يعتدوا قط على أحد ، والسيرة النبوية تثبت لنا ذلك .
نحن نعتبر أن نبي بلاد العرب الكريم هو ذو أخلاق متينة وشخصية بارزة
حقيقية وزنت واختبرت في كل خطوة من خطى حياته ، ولم ير فيها أقل نقص أبدًا .
وبما أننا باحتياج إلى نموذج كامل يفي بحاجاتنا في معترك هذه الحياة فحياة
النبي المقدس تسد تلك الحاجة .
إنما حياة محمد صلى الله عليه وسلم كمرآة أمامنا تعكس علينا التعقل والسخاء
والشجاعة والإقدام والصبر والحلم ، والوداعة والعفو وجميع الأخلاق الجوهرية
التي تتكون منها الإنسانية وترى ذلك فيها بألوان وضاءة وجلاء شديد .
خذ أي وجه من وجوه الآداب تجده موضحًا في إحدى حوادث حياته وقد
وصل محمد إلى أعظم قوة وأتى إليه مُقَاوموه ووجدوا منه رحمة لا تُجَارَى .
وكان ذلك سببًا في هدايتهم ونقائهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة .
إن الهمة العظيمة التي لا تَعْرِف الكلل أو الوهن التي كان يبذلها النبي الكريم
لمنع عبادة الأصنام قد أثارت معارضة مريعة ضده ، فلم تكن هناك قبيلة من قبائل
العرب بدون معبود صنمي ، وقد أشعلت كل قبيلة لظى الحرب كي تؤيد أصنامها
وتحميها حصل ذلك كله حينما كان النبي بالمدينة ، وفي الواقع فقد قضى هنالك أيامًا
أشد من تلك التي قضاها في مكة ، ولما كان أعداؤه يشنون الغارة عليه في كل آن ،
ومن جميع الجهات أخذ في مقاتلتهم أو إرسال رجاله لصدهم عن سبيلهم فكانوا
طورًا ينتصرون وتارةً ينهزمون ، وكانت كل حادثة تخلق فرصة مناسبة للنبي
الكريم ؛ ليظهر مكنونات أخلاقه العظيمة التي لو جمعها الإنسان ونسقها لوجد العالم
منها لنفسه قوانين وشرائع تتفق مع كل زمان ومكان .
لم يشهر محمد صلى الله عليه وسلم السلاح إلا حين الحاجة القصوى لحماية
الحياة البشرية ، ولربما يدعي بعض المبشرين أن الإسلام استعمل السيف في نشر
الدين ، ولكن لحسن الحظ عجز ألد أعداء الإسلام القادحين عن أن يأتوا بأقل دليل
أو مثل من الأمثلة التي أثرت فيها الحرب على هداية قبيلة واحدة أو شخص واحد .
إن هذه الوقائع كانت سببًا لإظهار كرم أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم الذي
امتلك كل قلوب مواطنيه ، والذي كان أشد تأثيرًا في الهيئة من أي شكل من أشكال
الإكراه ، وقد أظهرت تلك المعاملة النبيلة السامية التي كان يعامل بها النبي
المنهزمين عجائب وغرائب أدهشت العالم أجمع .
فهل آن لهؤلاء المبشرين أن يسكتوا بعد أن ظهر الحق وزهق الباطل ، وهل
آن لهم أن يكفوا عن هذه المفتريات التي تسقط من قيمتهم في المجتمع الإنساني ؟
ولا عجب أن كذب المبشرون أو افتروا على الله كذبًا فكم تظاهر اللص
بالأمانة ، والداعر بالاستقامة ، والزنديق بالتدين .
ولكن لا عجب فقد غاض من وجههم ماء الحياة ، وقد قال النبي العربي :
( إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) .
ولو كانوا يستحيون من أنفسهم ، أو على الأقل من الناس ، لما أقدموا على
هذا الادعاء الباطل والافتراء الواضح ، ولما باتوا مضرب المثل في الدس والتدجيل ،
وعلمًا في التفريق والتضليل ؟
ولكنك ترى أشد الناس إلحادًا أكثرهم تظاهرًا بالورع ، وهم في الحقيقة أمهر
في النصب والاحتيال من الضاربين بالرمل واللاعبين ( بالوَدَع ) .

( المنار )
بينا مرارًا ما علمناه بالاختبار الطويل من أن طغمة المبشرين بالنصرانية
مؤلفة في الأغلب من أفراد من المرتزقين بدينهم الذين لا يؤمنون به ولا بغيره من
الأديان لذلك يستحلون افتراء الكذب المحرم في جميع الأديان ، وهم في كل قطر
يظهرون من كذبهم وبهتانهم وسفاهتهم بقدر ما تسمح به حال حكومتها ، وحسب
المسلم أن يرى أن هؤلاء الأرذلين هم مثال النصرانية ودعاتها وأئمتها ولكنهم
يلبسون على العوام بضروب من الرياء ما هو شر من الرياء الفريسي الذي ينبز به
المسيح عليه السلام أمثالهم من يهود عصره كما ترويه هذه الأناجيل بل هم والله شر
منهم ، ولولا أنهم من أسفل البشر لأضلوا كثيرًا من عوام المسلمين الجاهلين ، ولكن
الله لطيف بعباده .

(*) منقولة من جريدة الفطرة الغراء .
(1) كذا في جريدة الفطرة ، والكلام غير مفهوم ؛ لأنه محرف أو فيه نقص ولا يهمنا تصحيحه .​
(29/344)
 
الكاتب : عبد الحميد الرافعي
ربيع الآخر - 1347هـ
أكتوبر - 1928م

خطر هجوم الكماليين على الإسلام

استبدال الأحرف اللاتينية بالحروف العربية
وجوب محاربة هذا الخطر على العالم الإسلامي
أريد اليوم أن أوجه هذه الكلمة لأول مرة إلى الشباب الإسلامي في كل بقاع
الأرض وإلى شباب الأمة العربية خاصة ليتدبروا أمرهم في هذا الهجوم المكشوف
الذي يقوم به الكماليون لمحو الإسلام من الدنيا بما يخترعونه من الأساليب
الشيطانية في بلادهم ، وما يبثونه من الدعاية ضد الدين الإسلامي في الشرق
والغرب ، وأريد أن يفهم هذا الشباب المسلم أن مقاومة هجوم الكماليين هذا بات
فرضًا مقدسًا عليهم ليستطيعوا الاحتفاظ بدينهم هم وذراريهم المستقبلة ، فإن أعداء
الإسلام في أنقرة لم يجدوا أمامهم عملاً يقومون به في هذه الأيام لإتمام هذا الغرض
إلا استئجار الكتاب من أوربيين وشرقيين بأموالهم وأموال المبشرين لنشر الدعاية
ضد الإسلام ، حتى صار أعداء هذا الدين من سياسي أوربة يستخدمون المحاضرات
العلمية لإقناع الطلبة الشرقيين في أوربا باستبدال الأحرف اللاتينية بالعربية كما
فعل ذلك الأستاذ لويس ماسينيون مدير معهد الكليج فرانسز في باريس للقضاء على
القرآن بالقضاء على الأحرف العربية تأييدًا لدعاية الكماليين المأجورة .
وإلى شباب الإسلام والقراء عمومًا نبذة من مقال لأحد الكتاب الأوربيين الذين
تستأجرهم أنقرة لنشر دعايتها تبريرًا لخطتها الجديدة في محاربة الإسلام وتأييدًا
لمزاعم الكماليين في الدين الإسلامي والعرب .
قال الكاتب : م ج السويسري من مقالة نشرها بجريدة جورنال دي جنيف :
( إن أهم إصلاح يحاول مصطفى كمال أن يقوم به في بلاده هو قلب أفكار
شعبه لينفرهم من الدين الإسلامي ، وفي وسعنا أن نقول : إن الإسلام في تركيا
يختلف اختلافًا بيِّنًا عما كان عليه قبلا في زمن الخلفاء العثمانيين أو في باقي
الأقطار الإسلامية ، وإن مصطفى كمال بعمله هذا قد طهَّر عقيدة الأتراك من
خرافات هذه الديانة وأساطيرها القديمة ، واعتقاداتها العقيمة التي لا تلائم العصر
الحديث ، ثم ساق الكاتب السويسري الحديث الذي لقنه إياه الكماليون على هذا النمط
فقال :
( لقد أثبت التاريخ أن الدين الإسلامي لم يحدث فيه العلماء أي إصلاح منذ
قام محمد بدعوته أي منذ 13 قرنًا ، وبهذا كانت الشقة بعيدة بين المدنية الحديثة
وهذا الدين .
ولنضرب لذلك مثلاً : إن الشريعة الإسلامية تُحَتِّم على كل مسلم أن يصلي
خمس مرات في النهار ، وعليه أن يكون متوضئًا في كل مرة ، أي عليه أن يغسل
وجهه ويديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين ويمسح رأسه إلى آخر ما هناك من
الصعوبات الجمة كخلع الحذاء وتشمير الثياب ، وكم من فقراء سرقت ثيابهم وهم
يصلون فطلقوا هذا الدين ثلاثًا ، فهل بلغ بنا الخبل إلى أن نخلع أرديتنا ونبلل ثيابنا
ونشوه كي ( بناطليلنا ) خمس مرات في اليوم .
( ولأجل أن يبرر الصلاة على طريقة البروتستانت كما أعلنا ذلك في وقته
قال : قال أحد الأتراك الأتقياء : أما أنا فقد كنت أكره الدخول إلى المسجد بسبب
واحد وهو الرائحة الكريهة التي تنبعث من أقدام المصلين وكنت أضطر أحيانًا
لمغادرة المسجد قبل قيام الصلاة خوفًا على نفسي من الاختناق .
ثم قال : ويريد المصلحون أن تستبدل السجاجيد بالكراسي ويستعاض عن
أصوات الحفظة والمشايخ التي تكون مضحكة في أغلب الأحيان بالأنغام الموسيقية ،
وعندها تمتلئ المساجد بالمصلين الحاسري الرءوس ؛ ولقد حذا الأتراك في طريق
عبادتهم حذو الأوربيين ؟ وأصبحت الآن أنقرة الكعبة الجديدة للدين الإسلامي
الجديد [1] فهل يحذو العرب حذو الترك فيخلصوا من هذه التقاليد التي ما أنزل الله
بها من سلطان ؟
هذه كلمة اجتزأناها من مقالة الكاتب السويسري ينشرها في أوربا بأموال
الترك وعقليتهم لم يستطع المبشرون قبل الكماليين أن ينشروا مثلها في أوربا مطلقًًَا
على شدة حقدهم على الإسلام ، والذي نلفت إليه الأنظار أن هذه المقالة ليست من
بنات أفكار الكاتب الأوربي المؤجر ، بل هي إملاء الكماليين أنفسهم فإن ما يكتبه
هؤلاء المأجورون لا يخرج عما يقوله الكماليون في الإسلام سواء في بلادهم أو في
خارجها ، من الأقطار الشرقية والغربية ، حتى إن جريدة مخادنت التي تصدر في
مدينة القاهرة تكتب على ملأ من الناس أن مصدر تأخر الترك اللغة العربية أو
بالحري الإسلام .
وإذا دققت النظر فيما ينشر في أوربا ومصر تجد أن روح الكماليين لا تقف
عند القضاء على الإسلام في تركيا ، بل هي ترمي إلى محو الإسلام من جميع
الأقطار ، وقد باتت الخزانة السرية تنفق على هذه الدعاية أموالاً طائلة من أموال
المسلمين لقتل الإسلام بجرأة غريبة يردد صداها المبشرون المسيحيون مع
السياسيين الأوربيين الذين يرون أن أهم وسيلة لاستعمار البلاد الإسلامية القضاء
على الدين الذي يدعو أهله إلى إنشاء الدولة والدفاع عنها بالنفس والنفيس فيجعل
من المسلم شخصية كاملة أساسها عزة النفس بالفضائل الإسلامية ، والرأي المتفق
عليه بين المطلعين على نية الترك هو أن الغاية الأولى من هذه الحركة التي لم
يعهدها الإسلام في الحرب الصليبية هي التزلف لأوربا ، وهذا كل ما يرمي إليه
مصطفى كمال .
هذه حالة لم تمر بحياة الإسلام في دور ما من أدوار قوته وانحطاطه ، وأعظم
ما في الكارثة من سوء سكوت المسلمين عنها ، ووجود بضعة أشخاص منهم
يؤجرون ضمائرهم لإذاعتها والدفاع عنها ، حتى بلغ الانحطاط الأخلاقي والتسفل
الأدبي بهؤلاء أنهم يذيعون بين العامة في مصر و الإسكندرية أن مصطفى كمال من
أعظم المسلمين غيرة على الإسلام وأن أعماله هذه التي ظاهرها عداء شديد للإسلام
ليست إلا مظاهر ليخدع بها أوربا حتى إذا تمكن من خديعتها حملها على التخلي له
عن بلاد الإسلام التي احتلتها بغفلة الترك في الماضي ( كمصر ) ومن ثم يعيد لها
استقلالها ... فهل سمع العالم بعقلية أخطر من عقلية هؤلاء الدعاة الذين يذيعون في
هذا القطر أمثال هذا الهذيان ؟ وهل هناك أشد احتقارًا للمصريين من هذا الاحتقار .
بعد هذه المقدمة نستميح إخواننا الأتراك الذين لم تؤثر فيهم جناية الكماليين ،
والذين يألمون كما نألم من وصول الحال إلى ما وصلت إليه في تركيا وسريانها
لأفغانستان و إيران واضطراب العالم الإسلامي لها ، نستميح هؤلاء الإخوان الكرام
أن يعذرونا ؛ إذ نحن دافعنا عن القرآن والعربية اللذين يعمل الكماليون بإرشاد
البولشفيك على مطاردتهما ، والحط من شأنهما ، وإذا كانت أوربا وقفت كلها صفًّا
واحدًا بما فيها الكنائس المنظمة والشعوب القوية والحكومات المسلحة في وجه
البولشفيك دفاعًا عن الدين المسيحي فما أجدرنا أن نتحد نحن - بعد أن ساق الروس
الحمرُ التركَ الكماليين أمامهم للقضاء على الإسلام- للوقوف في وجه هذا الخطر .
يحب أن نفكر جيدًا في هذا ونقوم بالواجب له حق القيام .
هذا وإن دعاية الكماليين الحمراء تقوم على أساسين : الأول أن الدين
الإسلامي لا يصلح لحياة الترك الجديدة ، وهذه نفس دعاية المبشرين المسيحيين
والسياسيين الأوربيين ، والثاني أن اللسان العربي بما فيه أحرفه العربية آية
انحطاط العنصر التركي والعثرة الحقيقية في سبيل رقي الترك .
أما أن الإسلام لا يصلح للحياة الجديدة فنحب أن نسأل مصطفى كمال ما قيمة
هذا العنصر التركي في الوجود قبل أن يتشرف بدين الإسلام ؟ وهل كانت قيمته
الحقيقية أكثر من قبائل متوحشة تؤجر نفسها للقتال أنى كان القتال ؟ ثم إلى أين
وصل هذا العنصر بفضل هذا الدين العظيم حين استاق أمامه مئات الألوف من
الجيوش باسم الإسلام فسيطر على عمران ثلاث قارات من الكرة الأرضية ومد
سلطانه إلى شعوب وأمم من أعظم أمم الأرض ؟ هل كان ذلك في العهد الذي كان
الشعب التركي وملوكه وحكامه مسلمين أم كان وهم طورانيون يعبدون الذئب
الأغبر ؟ وهل المدنية الإسلامية العربية والعدل العربي اللذان مدَّا رواقهما على
الأندلس وعلى قسم عظيم من أوربا حتى ضرب بعصرهما الذهبي الأمثال كانا في
بداوة الجاهلية أم نور الإسلام ؟
لندع هذا البحث الذي يهزأ المبشرون المسيحيون من أنفسهم عندما يضطرون
لاتخاذه واسطة للهجوم على الإسلام قيامًا بواجب المهنة التي يحترفونها ، ونتقدم إلى
هؤلاء الكماليين نبحث معهم تحت أشعة الشمس المنيرة في مسألة الأحرف العربية
التي يزعمون أنها كانت سببًا لتأخر مدنيتهم الموهومة ثم نعطف على حديث لسعادة
الجنرال محيي الدين باشا وزير الكماليين بمصر ، وما أنكره من عطف المسلمين
على الترك وكون هذا العطف المُدَّعَى لم يكن له أثر في الوجود العملي .
أما مسألة الأحرف العربية وتأخيرها للسان التركي عن التقدم ، فنحن نستطيع
أن نصرِّح تصريحًا ربما رآه جمهور الناس غريبًا في بادئ الأمر إلا أنه الحقيقة
المجردة . وهو أنه لا يوجد إلى الآن شيء يسمى اللسان التركي ودون في الكتب
وقرأه الناس ويستطيع الشعب في تركيا وأوربا في صميم الأناضول و التركستان أن
يفهم جملة من جملة فهمًا صحيحًا ، اللهم إلا إذا كان هناك بعض علماء الآثار
والعاديات يقدرون على حل تلك الرطانة والتكلم بها في أتفه الأمور ، وهذا أعظم
برهان للتاريخ على أن المدنية التركية لا وجود لها ولو وجدت لكان لها كتب دُوِّنَت
فيها أو نقوش أثرية كنقوش المدنية المصرية .
إذا فهمت ذلك يجب أن تعلم أن اللسان الموجود الآن الذي يتكلم به الأتراك
ويعتبر أجمل الألسن الشرقية إنما هو اللسان العثماني الذي وضعه فريق من علماء
العثمانيين من الترك والشركس والألبان والعرب منذ قرن تقريبًا فجاء نصفه عربيًّا
والنصف الآخر خليط من الفارسية والتركية وبعض الكلمات الإفرنجية ، وقد تعلمنا
هذا اللسان عن أساتذته واطلعنا على كثير من مؤلفاته العلمية والأدبية فلم نر عالمًا
تجاسر على الزعم بأن هذا اللسان غير اللسان العثماني ، بل كان علماء اللغة
يقولون في صلب مؤلفاتهم : قاموس اللسان العثماني أدبيات اللسان العثماني نحو
اللسان العثماني [2] وإنني لما كنت تلميذًا وجدت في برنامج الدروس اليومية أن
الساعة 11-12 مثلاً هي حصة اللسان العثماني ، ولم تذكر حصة لشيء يسمى
اللسان التركي ، ولكن لما أعلن الدستور وصار كتاب الترك ينقلون ما يكتبه
الأوربيون بشأنهم صاروا يطلقون كلمة تركيا على البلاد العثمانية ؛ لأن الأوربيين
يطلقون كلمة تركيا عليها ، وكلمة تركيا بدلاً من العثمانية نسبة إلى العثمانيين ، وقد
احتج فريق من علماء العرب ومبعوثيهم في الآستانة على كتابة تركيا بدلا من الدولة
العثمانية ، وقالوا للأتراك : إننا شركاء في هذه المملكة بل نحن العنصر الأكبر فيها
فإطلاق هذه الكلمة افتئات على الحقيقة يستلزم ضياع شخصية الأمة العربية
والعناصر الأخرى كالكرد والشركس والألبان والروم والأرمن وغيرهم . فأجاب
الأتراك بأن هذه الكلمة ترجمة عن الإفرنجية وليست مقصودة ثم سكت العرب
فتمادى الترك .
إذا علمت هذا ، وعلمت أن اللسان التركي غير موجود اليوم وأن هذا اللسان
الذي يستبدلون أحرفه العربية باللاتينية إنما معينه بل مصدر حياته اللغة العربية
وأنه قبل أن يتكون اللسان العثماني الذي يستمد حياته وأدبياته وعلومه من اللسان
العربي لم يكن لهذه العلوم والأدبيات التي يتغنى بها الترك وجود ، بعد هذا العلم
تستطيع أن تحكم على مبلغ مكابرة الكماليين وجرأتهم على الكذب في حق العلم
والتاريخ والحقيقة كلها ، فقد زعموا أنهم يتركون هذا اللسان العثماني بقولهم عن كلمة
( كتاب ) العربية التي لا مقابل لها في التركية مثل : ( كي تاب ) فالمراد بتتريكها
إخراجها من عربيتها وتحريف لفظها برسمه هكذا (
kItab ) وهذا منتهى الحمق
والغباوة ، وقد نشرت الصحف التركية التي تصدر في اليونان مقالاً للأستاذ صاحب
السماحة صبري أفندي شيخ الإسلام السابق خاطب فيه الترك بقوله : إنكم إذا استبدلتم
الحروف العربية وجب إخراج الألفاظ العربية وإحلال محلها كلمات إفرنجية ؛ إذ لا
مقابل لها في التركية وعندها تخسرون على الأقل كلمات : الغازي والجمهورية
ومصطفى كمال أيضًا .. . لأنها كلها عربية .
وهنا لا ترى بدًّا من أن ننقل للقراء الكرام كلمة جميلة تستند إلى العلم
الصحيح دبَّجَها يراع الكاتب القدير الأستاذ عبد الله عنان في مسألة الأحرف اللاتينية
نشرت في صدر السياسة اليومية ، ومما جاء فيها قوله : ( بيد أنا لا نؤمن بما
يعلقه فخامة الغازي على هذا الانقلاب من الخير والمزايا وكل ما تدور حوله
حُجَج الغازي ومن معه من أنصار الفكرة أن الكتابة الجديدة وسيلة ناجعة لمحاربة
الأمية داخل تركيا ، ونشر اللغة التركية خارجها ؛ لأن الكتابة العربية بما تحتوي من
مصاعب الشكل والإعراب عثرة في سبيل هذه الغاية ، والكتابة اللاتينية تبسط
القراءة والإعراب بأحرف الحركة ، وربما كان في هذا القول مسحة من الوجاهة ،
ولكنها مزية شكلية ضئيلة تقابلها مصاعب شكلية أيضًا في كيفية ضبط الحركات
اللاتينية ، وتطبيقها بدقة على الحركات العربية ، وهو ما يحرج اليوم قادة الحركة
ويضطرهم في كل يوم إلى التغيير والتبديل في ما يضمونه من قواعد الهجاء ، هذا
إلى أن الكتابة العربية لا تنفرد بصعوبة الشكل والإعراب فمن بين اللغات الغربية
ما يحتوي على مثل هذه الصعوبة ، كالألمانية والروسية ، ففيهما يتخذ الشكل
صورة الإضافة والتغيير في أواخر الكلمات طبقًا لأحوال الإعراب ومع ذلك
فإن هذه الصعوبة لم تكن في وقت من الأوقات عقبة في سبيل التعليم ومحاربة
الأمية في ألمانيا و روسيا ، أما القول بأن الحروف اللاتينية مما يساعد على نشر
اللغة التركية فهي أمنية لا نؤمن بها ، فما كانت سهولة الكتابة أو القراءة وحدها
عاملاً جوهريًّا في نشر اللغات ، وإنما تنتشر اللغات بتراثها الأدبي والعلمي ,
ومكانة شعوبها من المدنية والثقافة ، وأهمية مركزها السياسي والاقتصادي،
وما كانت اللغة التركية في عصر من العصور لغة آداب أو علوم أو مدنية أو تجارة،
وما كانت سوى نوع من الرطانة لقبائل غازية يوم برزت هذه القبائل من قفارها
واتصلت بالمجتمع الإسلامي ، فاعتنقت دينه وشرائعه ، واقتبست من فيض لغته كل
ما أصبغ على هذه ( الرطانة ) ثوب اللغة وكل ما غنيت به وازدانت ، حتى
أصبحت اللغة التركية تموج بالكلمات العربية وأضحت مدينة بكل ما فيها من بيان
وتعبير إلى العربية ، بل غدت العربية روحها ولحمها ، بل لقد بهرت اللغة
العربية المجتمع التركي أيام فخاره وازدهاره بفصاحتها وجمالها ، فغدت لغة الآداب
والعلوم ، واصطفاها المفكرون من الترك على ( لهجتهم ) المجدبة ، فانطلقت بها
ألسنتهم وأقلامهم .
وإذا كان للتفكير التركي اليوم آثار جليلة فهي باللغة العربية التي وسع بيانها
هذا التفكير ، بل إن أنفس الآثار التركية سواء في الفقه أو التاريخ أو الأدب إنما
هي بالعربية ، والخلاصة أن اللغة العربية كانت بالنسبة للترك وغيرهم من الشعوب
النازحة إلى حظيرة المدنية الإسلامية لغة التفكير كما كانت اللاتينية في العصور
الوسطى بالنسبة للمجتمعات الغربية ( وكانت صولتها قوية على المجتمع التركي
أيام فتوته وازدهاره ، وأثرها أثيلاً في بيانه وتراثه الفكري ، وكان كل ما أثاب
الترك به العربية هو تحسين خطها والافتنان في تنميقه ؛ إذ كان طبيعيًّا أن تكتب
بالعربية تلك ( اللهجة ) التي غدت لغة بما اقتبست من العربية .
ما كانت التركية إذن في عصر من العصور لغة تفكير ، وما كان لها تراث
فكري أو أدبي يغري بتعلمها ولو كتب باللاتينة ، وما يعرف التاريخ للمجتمع
التركي مدنية أو ثقافة خاصة به تغري حتى الخاصة من الباحثين بتعلم لغته ، كذلك
لا نعتقد أن مركز تركيا الدولي أو الاقتصادي مما يحمل على نشر التركية ، فما هو
الخير إذن في الحروف اللاتينية .
( إن كتابة التركية بالحروف اللاتينية لن يحمل إلى التركية جديدًا في تراثها ،
ولن تخلق أذهانًا جديدة في مجتمع آثر مفكروه في أزهر أيامه أن يفكروا بالعربية
وما هي إلا حجاب كثيف يسدل على الماضي ، وقطع لصلاته ، ومحو لمعالمه
ورسومه ، وبالأخص نزع لآثاره الروحية .
فهل هذا ما يرمي إليه سادة أنقرة [3] ؟ ألا ليت لا , اهـ .
أما تعريض الترك باللغة العربية وأحرفها وكونها سبب تأخرهم فقد أبطلناه لك
من أساسه وبيَّنا لك مبلغ جهلهم في عصر النور ومقدار جرأتهم على الحقيقة في
عصر الحقائق ، فإذا أيدهم فيه دعاة النصرانية ( المبشرون ) وبعض المأجورين
من كتاب أوربا لمحاربة الإسلام وحبًّا في ذهب أنقرة ، فإن ألوفًا من علماء أوربا
نفسها الذين يعرفون الإسلام والمدنية العربية والترك وحكوماتهم التي بفضل جهلها
استولى الأوربيون على كل أملاك المسلمين فجعلوهم عبيدًا بعد أن كانوا سادة الدنيا
يهزأون بهؤلاء الكماليين كل الهزؤ ويسخرون بحركتهم من جميع وجوهها .
وقد ألف أحد إخواننا الترك الأفاضل كتابًا منذ سنتين ونيف عندما فتحت
مسألة الحروف اللاتينية في المؤتمر الذي عقد في روسيا حمل فيها على هذه الفكرة
حملة كان لها أثرها في سير الحركة التي أوقفت ، ولكن الروس أعداء الإسلام
والعربية لم يلبثوا أن استأنفوا القضاء عليها بما رأوه من استعداد الكماليين الذين
أولوا ما جهلوا من العالم الإسلامي وحقائقه ومن جهل شيئًا عاداه .
نحب أن نستأنف الرد على الجنرال محيي الدين باشا بعد أن زيفنا رأيه في
مسألة الدعاية التي ينشرها للكماليين بأمثال أحاديثه مع مكاتب وادي النيل في مقال
لبعض الجرائد .
يقول الجنرال : ( يسأل البعض : أليس اشتراك الشعب التركي مع الشعوب
العربية في استعمال الحروف القديمة مما يؤدي إلى ارتباط القلوب وتوثيق عرى
الصداقة بين الترك والعرب ؟ ونحن نجيب بالسلب ... فإن ذاك إنما هو ارتباط
صوري لا قيمة له ! ! ! ولا أدل على هذا من التاريخ الذي برهن على عدم ذلك
الارتباط !
فانظر يا رعاك الله إلى هذه المكابرة ونكران الجميل ؟ انظر إلى هذه الجرأة
على التاريخ إلى هذا الحد في بلد من أعظم عواصم الإسلام والعربية ينكر ما جناه
الترك من الفوائد العظيمة التي نجمت من ارتباط الترك بالعرب كل هذه السنين
ولولاها لما كان الترك شيئًا مذكورًا في هذا الوجود .
إني والله لأخجل من الرد على رجل يمثل دولته إذا حاولت أن أبين له ما
يعرفه صغار التلاميذ كما أني لشديد الأسف على هذا العداء الذي يجاهر به
الكماليون العرب ودين الإسلام وهم لولا الإسلام والعربية لما كانوا سوى طوائف
متوحشة وقفت نفسها على التخريب والتدمير والحروب وسفك الدماء .
فإذا جاز نكران الجميل بين الناس فلا يجوز أن ينكر الترك فضل العرب إلى
هذا الحد ، ولا سيما في بلاد العرب نفسها .
وبعد فإني أدعو جميع الغيورين من المسلمين إلى رفع برقع مجاملة الترك ،
وإلى الوقوف في وجه الكماليين للدفاع عن الإسلام قبل أن يطغى سيل إلحادهم على
بلاد المسلمين ، وقد نجمت قرونه في إيران وأفغانستان ، وأُذَكِّر إخواني المسلمين
أن الجمود إزاء هذه الحركات ليس كالجمود أمام حركات المبشرين .
ومن يستطع الجهاد وقتل هذه الروح الشريرة التي تمليها البولشفية على أنقرة
ولم يفعل فهو آثم قلبه ، والسلام .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الرافعي

( تنبيه )
وقع في هذه المقالة ، وفيما بعدها كلمات يُظَنُّ أن الترك يعدونها طعنًا في
شخص رئيس جمهوريتهم مصطفى كمال باشا والأمور الشخصية غير مقصودة لنا ،
وإنما نحن ندافع عن ديننا ونغار على شعب الترك الإسلامي ، وقد استشرنا بعض
كبار علماء القانون في المقالتين بعد طبع الجزء وإعداده للتوزيع فأشار علينا بأن
نعيد طبع المقالتين ، ونغير فيهما بعض الجمل والكلم من باب الاحتياط ففعلنا ؛
ولذلك تأخر الجزء وكتبنا هذا التنبيه في الطبعة الثانية .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار : من سخافة الكاتب وسخافة من يخدمهم إطلاق اسم الدين الإسلامي بعد الغلو في ذمه على ضلالة الترك الكماليين مع إطرائها وسنبين سائر سخفه وخطله بعد .
(2) المنار : أخبرني أحمد مختار باشا الغازي أنه لما كان في طور التعلم لم يكن للغتهم قاموس ولا نحو ولا صرف وأنه لما حاول مصطفى رشيد باشا تعليم بعض الترك الإفرنسية لم يمكن تعلمها إلا لطلبة العلم الديني الذين يعرفون العربية .
(3) المنار : نعم إن هذا كل ما يبغون لينسوا شعبهم هذا الدين وكل ما يذكرهم به ؛ لئلا يعودوا إليه بعد موتهم ، ونحن قد صرحنا بهذا في تفسير الجزء الثامن وفي المنار قبل وقوعه .
(29/456)
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
حقائق في عداوة ملاحدة الترك للإسلام
وتعليق على المقالة السابقة

1 - فكرة ترك الإسلام في ملاحدة الترك :
سافرت في أواخر رمضان سنة 1327 ( أكتوبر سنة 1909 ) أي في أول
سني الدستور العثماني إلى الآستانة للسعي لأمرين : ( أحدهما ) تأسيس ( جمعية
للدعوة والإرشاد ) تستعين على عملها بإنشاء مدرسة كلية إسلامية وتوثيق الروابط
بين الدولة والمسلمين ( وثانيهما ) السعي للتأليف بين العرب والترك ؛ إذ كانت
العصبية التركية الجنسية قد نجمت قرونها وبدأت بنطاح العرب وغيرهم من
عناصر الدولة قبل أن ترتفع وتعلو ، وأقمت في الآستانة سنة كاملة كنت فيها
عزيزًا مكرمًا من رجال الدولة وزعماء جمعية الاتحاد والترقي ، وتيسر لي بذلك أن
أكشف الستار عن إلحاد هؤلاء الزعماء وعزمهم على محو الإسلام من الشعب
التركي وتأسيس دولة تركية محضة ، وجعل الولايات العربية مستعمرات لهذه
الدولة ، وتتريك سائر العناصر العثمانية ، ومن تقدر على تتريكه من العرب أيضًا .
وقد اجتمعت هنالك برئيس الجمعية التي تشتغل بما سموه تطهير اللغة
التركية من الألفاظ العربية وأعضائها وناظرتها ، فاعتذروا لي عن عملهم بأنه فني
محض لا علاقة له بالدين ولا بالسياسة ، وإنما الغرض منه تسهيل التعليم على
عوام الترك ولا سيما فلاحي الأناضول ، وقد أقمت عليهم الحجة كما شرحته في
المقالات التي نشرتها في الآستانة نفسها بالعربية والتركية وفي مقالات ( رحلة
الآستانة ) .
فمصطفى كمال باشا لم يبتكر شيئًا مما يسمونه التجديد ، وإنما سنحت له
الفرصة لتنفيذ ما قرَّره من قبله من جماعة ( جون ترك ) بتأثير ساسة الإفرنج
المستعمرين ودسائس الروس الطورانيين ، ولعلمي بهذه المقاصد صرَّحت في المنار
وفي تفسير القرآن أيضًا بأن الترك الكماليين يقصدون من ترجمة القرآن التمهيد
لمحو الإسلام من الشعب التركي ، وكان ذلك قبل إعلانهم للحرب على الإسلام .
وإنني من ذلك العام بارزت الاتحاديين العداء وأطلقت عليهم لقب
( الملاحدة ) وأنا في الآستانة ، وأطلقت لساني بانتقادهم حتى إن طلعت بك أو
باشا قال للدكتور عبد الله بك جودت وقد لامه هذا على عدم تنفيذه لمشروع
الجمعية والمدرسة : نحن ما قصرنا مع رشيد أفندي بل كرَّمناه ولكنه يطعن فينا شديدًا
وصل إلى حد الرذالة .
نعم إنه كرَّمَني بالحفاة القولية والفعلية وبالدعوة غير مرة إلى طعامه وكان
يقدمني على مائدته حتى على كبار علماء المشيخة الإسلامية كمستشارها وعلى
غيرهم ، وعرض عليَّ أن يعطيني في كل عام عشرين ألف جنيه عثماني من
الذهب للقيام بشئون المدرسة على أن لا تكون تابعة لجمعية إسلامية .. . ) بل
مشايعة لجمعية الاتحاد والترقي ، فلم أقبل ، وقد كتبت كل هذه التفصيلات في عهد
دولتهم وصولتهم ، ومع هذا يفتري عليَّ المفترون من ملحد ورافضي بأنني لم
أتحول عنهم إلا بعد سقوطهم كما زعموا مثل هذا الزعم في خصومتي للشريف
حسين وأولاده سواء .
***
2 - خطة الكماليين تنفيذية لا إنشائية :
إن دولة الترك الكمالية الجديدة قد وجدت من ملاحدة القواد والضباط وغيرهم
أعوانًا كثيرين على تنفيذ كل ما كانوا قرَّروه هم وإخوانهم ، وكل ما كانوا يتمنونه
بعد أن صار بيدهم قوتا الدولة العسكرية والمالية ، ولما يتم لهم ذلك كله فيما ظهر
لنا بعد ذلك فله بقية منها تغيير الصلاة باختراع صلاة جديدة هي كصلاة
البروتستانت كما قال الكاتب السويسري : ولكنهم يمهدون للشيء ثم ينفذونه على
الطريقة التي سماها مصطفى كمال باشا ( سياسية المراحل ) كما مهَّدوا لإلغاء
الخلافة بنصب خليفة روحاني لا عمل له ، وكانوا أولاً يحسبون أكبر حساب
لاحتماء الشعب التركي الذي يغلب على سواده الأعظم التدين بالإسلام وتألبه عليهم ،
فلما شرعوا في العمل رأوا أن المعارضة ضعيفة فقد كان أقواها ثورة الأكراد التي
تعبت القوى العسكرية في القضاء عليها ، وأما ما عداها من الائتمار السري
بالاغتيال وهو لم ينقطع فلا ثبات له أمام سلطان الحكومة العسكري القاهر
وجواسيسها الكثيرة ، فأوجفوا في سيرهم بقطع المراحل بسرعة البخار ، وكانت
تقدر بسير الرجلين أو سير البغل والحمار ، وهذا الذي جرَّأ ملاحدة الأفغان وإيران
على اتباع خطوات الشيطان بترك الهداية الدينية إلى الإباحة المادية ، على ما بين
شعوبهما والشعب التركي وما بين زعمائهما وحكوماتهما من الفروق ، فالشعب
التركي قد ذللته لقواده وحكومته الخدمة العسكرية العامة ، وسلطتها القاهرة ،
وأضعف شكيمته الفقر ونكبات الحرب المتوالية ، التي اشتدت وطأتها في حرب
البلقان فالحرب العامة ، والملاحدة في قواده وضباطه وأطبائه وحكامه كثيرون بما
مارسوا من التعاليم الأوربية وما تمرسوا به من مخالطة ساسة الإفرنج من زهاء
قرن ، والشعبان الإيراني والأفغاني ليسا كذلك ، والملاحدة فيهما قليلون ، وسنبين
هذا الموضوع بالتفصيل في مقال سنكتبه فيما سعينا له من صد الأفغانيين عما هم
عرضة له من الإلحاد .
***
3 - ما يطمع فيه مصطفى كمال بنجاحه :
كان مصطفى كمال باشا بنجاحه في تنفيذ مقاصد جماعة ( الجون ترك ) بأن
يكون مؤسس دولة تركية جديدة تنسب إليه فقال الدولة الكمالية ، كما كان يقال
الدولة العثمانية ، ولذلك بذل جهده ونفوذ سلطانه الشخصي في طرد أسرة آل عثمان
من بلادهم ومصادرة أملاكهم ، ومحو ذكر دولتهم وسلاطينهم إلا بالسوء والطعن ،
ولعمري إنها لنفس كبيرة ، وهمة بعيدة ، وإن كنا نحن المسلمين نستنكر هذه الخطة
الجديدة وكثير من العقلاء يرون أنها غير سديدة .
ثم صار يطمع بأن يكون مؤسس أمة جديدة بتأسيس لغة جديدة ودين جديد
للشعب التركي الرومي الموجود في الأناضول وبقية الرومالي وفيما انتزعوه من
قطر سورية و العراق العربيين ، واللغة والدين أقوى مقومات الشعوب ومميزاتها
ولا يبعد عليه بعد ذلك أن يستبدل لقب ( كمالي ) بلقب ( تركي ) الذي يحافظ عليه
إلى الآن ، كما حافظ على اسم الإسلام مدة قليلة من الزمان ، وهو لم يبق للترك
شيئًا من مقوماتهم ولا من تاريخهم الذي كانوا به أمة مجيدة ذات دولة عزيزة ، كما
أنه لم يبق من شريعة الإسلام شيئًا ، حتى إن داعيتهم الكاتب السويسري يصرح بما
لقَّنوه إياه من الطعن بكل ما جاء به نبي الإسلام صلوات الله وسلامه عليه حتى
الطهارة والصلاة فجعلوهما مما ذموه من خرافات الإسلام المنافية للحضارة العصرية
الأوربية ! التي يقلدهما ملاحدة الترك ويتكلفون انتحالها لزعمهم أنهم مساوون
لشعوب أوربة أو لتوهمهم أن التكحل كالكحل ، وأن لا فرق بين الطبيعة والمنتحل ،
بل افتروا في الطعن على الإسلام ما لا يخفى على عاقل جهلهم وسخفهم فيه ، حتى
مستأجرهم الكاتب السويسري على ما في كلامه من كذب وتناقض وتشويه للحقيقة .
***
4 - الطهارة والوضوء في الإسلام :
يقول هذا الكاتب : إن من سيئات الإسلام وجوب الوضوء للصلوات الخمس
الذي هو عبارة عن غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس وغسل الرجلين
إلى الكعبين ، ثم يقول عن بعض ملاحدة الترك : إنه ترك الصلاة وفرَّ من المسجد
هربًا من الرائحة الكريهة التي تنبعث من أرجل المصلين ! فيا للفضيحة ! كيف
يعقل أن تكون رائحة المصلين الذين يغسلون أرجلهم عند إرادة الصلاة كريهة لا
تطاق عقب غسلها مع أنهم يكررون هذا الغسل خمس مرات كل يوم كما يقول ؟
وقد أجمع الأطباء والعقلاء على مدح هذه المزية من مزايا الإسلام وتفضيله بها على
غيره حتى إن بعض أطباء فرنسة الكبار أسلم في هذا العهد بسبب اطلاعه على
نصوص الطهارة في القرآن وغيرها ، مما يتعلق بحفظ الصحة ووجدانه إياه موافقًا
لأحدث ما تقرَّر في طب هذا العصر ، وقال : إنه لا يمكن أن يصل رأي رجل أمي
ولا متعلم من العرب إلى ذلك في العصر الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم
ويا ليت شعري كيف يصدر من عاقل يحترم نفسه ذم النظافة وجعلها سببًا للقذارة ،
وعدّها منافية للحضارة ؟ إذن تكون الحضارة الأوربية مبنية على تفضيل النجاسة
والقذارة ، على النظافة والطهارة ، ولهذا يفضلها الترك وأنصارهم على المدنية
الإسلامية التي تعد الطهارة من أهم فرائضها ، ولعل هذا الكاتب من المسيحيين
الذين تمر السنين ولا يغتسلون استغناء عن الغسل والطهارة بالمعمودية النصرانية ،
فقد أخبرني مستر متشل أنسن الذي كان وكيلاً للمالية بمصر أن الإنكليز هم الذين
علَّموا أوربة كثرة الاستحمام بعد أن تعلموها هم في الهند وأنه لا يزال في أوربة من
تمر عليه السنة أو السنين ولا يستحم فيها .
وأما ما نوَّه به السويسري من العسر في الوضوء فنجيب عنه بأن العسر قد
يكون في غسل الرجلين لو كان حتمًا في كل وقت على من يلبس الجوارب
والخفاف والأحذية الجلدية ، وليس الأمر كذلك ، فإن من يلبس في رجليه ما
يسترهما وهما طاهرتان يجوز له أن يمسح على الساتر لهما بيده المبللة بالماء بدلاً
من غسلهما ، ومن قواعد الإسلام الأساسية رفع الحرج والعسر من جميع أحكامه
كما هو منصوص في القرآن الحكيم ، ويجوز لمن يلبس حذاء نظيفًا أن يصلي فيه ،
وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون بنعالهم ، ونسكت عن هذيانه
في سرقة ثياب المصلين وجعلها كأنها من لوازم الصلاة .
***
5- شبهة ضرر السجود على الأرض :
إن أقوى شبهات هؤلاء الملاحدة على صلاة الإسلام هي السجود على الأرض ،
وهي غير مقصورة عليهم ، بل روي أن الاستنكاف من وضع الوجه على الأرض
خضوعًا لله تعالى قد كان مانعًا لبعض مشركي العرب المتكبرين من الدخول
في الإسلام أو عذرًا اعتذر به ، ولكن لا يقع مثله من مؤمن بالله تعالى وبالدين
الذي يأمر بالسجود له عز وجل ، ولمتفرنجي هذا العصر شبهة على السجود
غير استنكاف الكبرياء ، وهو أن بعض أرجل المصلين المصابين ببعض الأمراض
تؤثر في موضع وقوفهم للصلاة تأثيرًا يضر من يسجد في مواضع وطئها بما قد
ينفصل منها من ( ميكروبات ) المرض .
ذَكر لي هذا طبيب عربي فقلت له : إن هذا أمر نادر الوقوع لا يخلو كل
مجتمع يكثر فيه الناس من مثله ، ولا سيما حيث يزدحمون كمجامع الحفلات المدنية
والسياسية ومسارح التمثيل وغيرها ، ولا نرى الأطباء ينهون عنها إلا في أوقات
بعض الأوبئة ، وإن التنطع والإفراط في التوقي من جراثيم الأمراض في كل وقت
قد يكون ضرره أكبر من نفعه ، وإنكم تقولون يا معشر الأطباء : إن الأجسام
تتعرض لميكروبات الأمراض القليلة في الأحوال العادية تكتسب مناعة يقل فيها
تأثيرها بعد تعودها حتى إنها قد تكون واقية له من الإصابة بها في الحالة الوبائية
كما يستفيد الذي تلقحونه بقليل من مصل الجدري وغيره مناعة يأمن بها أن يصاب
بالثقيل منه ، وتقولون : إنه لو فرض أن رجلا نشأ في قلة جبل حيث الهواء النقي
الخالي من جميع ميكروبات الأمراض وأشعة الشمس الدائمة المانعة من التعفنات
والماء الزلال الجاري الذي لا تشوبه شائبة ثم ترك هذا المكان وخالط الناس في
المدن التي تكثر فيها الأمراض فإنه يكون أشد استعدادًا للعدوى من جميع من نشأ في
تلك المدينة .
قامت لي الحجة على هذا الطبيب لبنائها على أصول علمه فاعترف بها ،
وأقول مع هذه : إنه يمكن أن تجعل صفوف المصلين في المساجد منظمة بحيث
يكون موطئ الرجلين في الوقوف غير موضع الوجه للسجود ، وقد رأيت بلاط
بعض مساجد الهند صفوفًا مقسمة بالرخام الملون في كل صف منها ما يشبه سجادة
الصلاة لكل فرد من المصلين .
***
6- الزي الإفرنجي والصلاة :
وأما جعله لبس السراويلات الإفرنجية مما يصدُّ عن الصلاة فقد رأيت في
مصر من يعتذر عن ترك الصلاة بمثل ما ذكره الكاتب من اتقاء تجعيد كي سراويله
وهذا لا يقع من مسلم يدين بالإسلام ، وإنما هذه أعذار من نسميهم المسلمين
الجغرافيين ، وقد قال الدكتور سنوك الهولندي المستشرق الشهير إن أكثر الذين
يلبسون هذه الملابس الإفرنجية من المسلمين يتركون الصلاة أي وترك الصلاة
مقدمة لترك الإسلام ، بل هو منه عند بعض الأئمة كأحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ،
وأخبرني بعض نظار المدارس الأميرية أنه كان يأمر التلاميذ بالصلاة فامتنع
بعض أولاد الباشوات معتذرًا بأمر أبيه له بعدم الصلاة ؛ لئلا يتجعد أسخف سراويله
( بنطلونه ) فما هذا الوالد الزنديق الذي يحب أن يجعل ولده المخنث كأنه في زيه
الجميل مصبوب من قالب لا يتغير ولا يتبدل كأنه من شحنة مدرسة البوليس
المصري في الزي الذي اخترعه لهم الإنكليز ؛ لئلا يصلي أحد منهم .
***
7- محاسن الصلاة الإسلامية ومزاياها :
ألا إن الصلاة الإسلامية نفسها لأكمل عبادة شرعها الله لعباده المؤمنين على
ألسنة رسله عليهم السلام ، فهي جامعة لأعلى المناجاة الروحية لله تعالى ذكرًا ودعاءً
وخشوعًا وأدبًا ولأنفع الرياضة الجسدية بتحريك جميع الأعضاء في القيام والركوع
والسجود ولا سيما التورك في التشهد الأخير والسجود على رءوس الأصابع ،
وصلاة الجماعة مقتضية أفضل وسائل المساواة الاجتماعية بين الغني والفقير
والمأمور والأمير والرئيس والمرءوس بوقوفهم في صف واحد .
وقد نقل إلينا عن بعض علماء الإفرنج المستقلين الإعجاب بهذه الصلاة حتى
خصوم الإسلام منهم فقد قال الفليسوف رينان الفرنسي : إنني ما رأيت المسلمين في
مسجد يصلون جماعة إلا وتمنيت لو كنت مسلمًا أو قال : احتقرت نفسي لأنني غير
مسلم ، ولما طعن في الإسلام في خطاب له في السربون ذكره الفليسوف المنصف
غوستاف لوبون بقوله هذا فاعترف به .
وقد افتتح الكونت ( هنري دي كاستري ) كتابه ( الإسلام : خواطر وسوانح )
بمقدمة ذكر فيها ما رآه في سياحته في الشرق من صلاة المسلمين صلاة الجماعة
ووصف من إعجابه بها وتأثيرها في نفسه أنه احتقر نفسه تجاه جماعة من الفرسان
كان استخدمهم للسير في خدمته في صحاري حوران وكان يراهم في غاية الخضوع
والإجلال له وكانوا ثلاثين فارسًا من العرب يتقدمهم حَادٍ ينشدهم أناشيد أكثرها في
مدحه قال ما ترجمته بقلم المرحوم أحمد فتحي باشا زغلول :
( وبينما نحن سائرون على هذه الحالة ؛ إذ سكت الشاعر والتفت قائلاً
بصوت خشن : سيدي الآن وقت العصر ، هنالك ترجلت الفرسان واصطفوا لصلاة
العصر مع الجماعة ، وصلاة الجماعة مفضلة عند الله في اعتقاد المسلمين كما هي
كذلك عند المسيحيين ، أما أنا فقد ابتعدت عنهم ، وكنت أود أن لو انشقت الأرض
فابتلعتني ، وجعلت أشاهد البرانس العريضة تنثني وتنفرج بحركات المصلين
وأسمعهم يكررون بصوت مرتفع ( الله أكبر ، الله أكبر ) فكان هذا الاسم الإلهي
يأخذ من ذهني مأخذًا لم يوجده فيه درس الموحدين ، ومطالعة كتب المتكلمين ،
وكنت أشعر بحرج لست أجد لفظًا يعبر عنه سببه الحياء والانفعال ، أحس بأن
أولئك الفرسان الذين كانوا يتدانون أمامي قبل هذه اللحظة يشعرون في صلاتهم
بأنهم أرفع مني مقامًا وأعز نفسًا ، ولو أني أطعت نفسي لصحت فيهم ( أنا أيضًا
أعتقد بالله وأعرف الصلاة وكيف أعبد ) فما أجمل منظر أولئك القوم في نظامهم
لصلاتهم بملابسهم وجيادهم بجانبهم أرسأنها على الأرض وهي هادئة كأنها خاشعة
للصلاة ، تلك هي الخيل التي كان يحبها النبي صلى الله عليه وسلم حبًّا ذهب به
إلي أنه كان يمسح خياشيمها بطرف إزاره عملاً بوصية جبريل عليه السلام ، وكنت
أرى نفسي وحيدًا في عرض هذه الصحراء على ما أنا به من اللباس العسكري
الضيق الذي يبرم فيه الجسم الإنساني بغير احتشام تلوح عَلَيَّ سمات عدم الإيمان
في مكان هو مسقط رأس الديانات كأنني من الحجر أو من الكلاب أمام أولئك القوم
الذين يكررون إلى ربهم صلوات خاشعة تصدر عن قلوب ملئت صدقًا وإيمانًا .
( وبينما أنا كذلك إذ جال بخاطري ، ما رود في التوراة من أن الله يسكن
خيمة سام ويكثر من أولاد يافث ، وقد كان الفريقان مجتمعين في ذلك المكان ،
أولئك المصلون الذين هم من ولد سام معجبون بدينهم وعبادة ربهم ورب آبائهم الله
الذي دخل خيمة إبراهيم ، وأنا ابن يافث الذي يمتد ذكره بالحرب والفتوح ، ولما
انتهى بنا الطريق ورجعت إلى مكان راحتي جعلت أكتب ما علق بذهني من الأفكار
فأحسست أني منجذب بحلاوة الإسلام كأنها أول مرة شاهدت في الصحراء قومًا
يعبدون خالق الأكوان ، وذكرت خيام النصارى لا متعبد فيها غير النساء وأخذني
الغضب من كفر أبناء المغرب وقلة إيمانهم ) اهـ .
وقد رأيت جميع المصريين يسخرون من تقليد الترك الكماليين لصلاة
البروتستانت حتى ملاحدتهم وطلاب التجديد الذين يعبرون عنهم بالمصلين ، ولم أر
أحدًا استحسن ذلك منهم إلا إبراهيم بك الهلباوي المحامي المشهور وود أن يتبعهم فيه
جميع المسلمين ، وقال لي : إنه قد أفتى هو والأستاذ الشيخ عبد العزيز جاويش
خوجه كمال الدين الهندي الذي يدعو إلى الإسلام في إنكلترة بأن يقبل من نساء
الإنكليز المسلمات أن يتركن السجود على الأرض في صلاتهن ؛ لأن زيهن المحزق
( الضيق ) يضايقهن فيه فاكتفى منهم بما دون ذلك وسأسأل الأستاذ جاويش عن
حقيقة هذه المسألة .
***
8- رأي كُتَّاب الغرب والشرق في الانقلاب التركي :
نحن نوافق صديقنا الرافعي في أن أعداء الإسلام من ساسة أوربة
كالمستعمرين والمبشرين يشايعون الترك الكماليين ، ويحمدون عملهم ويسمونه
إصلاحًا ويرغبون فيه ، ولا غرو فإننا نرى ملاحدة المسلمين وزنادقتهم يفعلون
وينوهون به في الصحف ويسمون مصطفى كمال باشا المصلح المجدد ، فما بالك
بكُتَّاب النصارى من الملاحدة ومن المتعصبين لملتهم في الباطن ، فهؤلاء أشد نصرًا
للكماليين ونشرًا لمفاسدهم وترغيبًا لسائر المسلمين في اتباعهم حتى في لبس
البرانيط .
وأما أحرار أوربة وفلاسفتها فقد سخروا ولا يزالون يسخرون من إكراه
مصطفى كمال باشا للترك على لبس البرنيطة ، ومن محبي الترك أو دولتهم في
ألمانية من رثى لهم وحزن عليهم ، وصرَّح بأن القلبق التركي يفوق البرنيطة
الإفرنجية جمالاً ومهابة .
وانتقدوا تقليدهم لأوربة في قوانينها بترجمتها لتنفيذها في الشعب التركي
المباين للشعوب الأوربية في تاريخه وتربيته وعقائده وتقاليده وأخلاقه وعاداته ،
وهي الأسس التي تبنى عليها القوانين وتجب مراعاتها في وضعها ، ولا يرون لها
فائدة بدون ذلك ، ويسخرون ممن يظن أن القوانين تغير الشعب وتنشئه خلقًا جديدًا
سريعًا كما يحاول مصطفى كمال باشا .
وقد نشرنا من قبل ما قاله لورد كتشنر للسيد عبد الحميد الزهراوي في مصر
على مشهد ومسمع منا ، ونشرناه في حال حياتهما ونقلته عن المنار إحدى الصحف
الأوربية متعجبة من حرية اللورد كتشنر أو مستنكرة لقوله ، قال له : إن الغرض
من القوانين العدل وهي لا تفيد في الأمم إلا إذا كانت موافقة لأخلاقها وتقاليدها
وعندكم الشريعة الإسلامية شريعة عادلة وهي الموافقة لحال أمتكم فما بالكم تتركونها
وتحاولون العمل بقوانيننا التي لم تكن موافقة لحال أمتنا إلا بعد تنقيح عدة قرون .
***
9- حقيقة حال الشعب التركي :
يزعم الترك الكماليون تبعًا لزعيمهم أن الشعب التركي شعب عظيم راق لم
تعد تصلح له شريعة عتيقة كالشريعة الإسلامية ، ويتجرأ الوقحون المجاهرون
بالإلحاد منهم على ذم هذه الشريعة وذم الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي
جاء بها وذم قومه العرب في مقام الترفع عن صلاحيتها للشعب التركي العظيم ،
وقد نقل إلي وأنا في الآستانة أن أحد باشاواتهم قال : لو أعلم أن شعرة في جسمي
تؤمن بهذا العربي ( يعني خاتم النبيين وإمام المرسلين صلوات الله وسلامه عليه
وعلى آله ) لقلعتها مع ما حولها من جلد ولحم وألقيتها .
أنا لا أعرض هنا للرد على هؤلاء المغرورين ببيان فضل الشريعة الإسلامية
على البشر عامة وعلى الترك خاصة ، ولا بتحقير العرب بالمفاضلة بينهم وبين
الترك وذكر شهادة فلاسفة أوربة على ذلك ، بل أقول كلمة حق وجيزة في حقيقة
حال الشعب التركي ربما أعود إلى بسطها في مقال آخر ؛ إذ قد طال هذا المقال ،
وربما صار مملولاً بضمه إلى ما قبله في موضوعه العام ، وإن كان في الحقيقة عدة
مقالات مختلفة الموضوع .
الترك جيل حربي بالطبع ، موصوف بعزة النفس ، وشدة البأس ، وحب
الغلب والسيادة ، وهي صفات تعد أهلها لأن يكونوا من أرقى الشعوب لولا الموانع ،
وقد كان همجيًّا في حروبه قاسيًا في معاملاته ، مخربًا للعمران الذي يستولي عليه ،
فهذَّبه الإسلام بقدر استعداده للتهذيب فكان له بالإسلام دولة عزيزة ، ولكن الحرب
التي هي أقوى ملكاته لم تدع له وقتًا يصرفه إلى العلوم والفنون التي هي من لوازم
قوة الدولة وسعة سلطانها ، وكان من أعظم أسباب حرمانه من الحضارة العلمية
الفنية أن لغته كانت لغة همجية ضيقة لا مجال للعلوم والفنون فيها ، ولغرور الدولة
العثمانية بتركيتها لم تقتبس لغة الإسلام مع عقيدته وشريعته فتجعلها لغة الدولة
والعلم والفن بل حصرتها في المدارس الدينية والمشيخة الإسلامية بقدر الحاجة إليها
في فهم الشريعة على مذهب الحنفية التي اختارت تقليده .
وقد اقتبس الإفرنج من الحضارة الإسلامية علومها وفنونها بمخالطة العرب
في الأندلس وكذا في الشرق بسبب الحروب الصليبية ما لم يقتبس مثله الشعب
التركي لضعف استعداده وضيق لغته ، فولدت الحضارة الأوربية الحاضرة مما
اقتبسه أهلها من المدنية العربية الغابرة كما اعترف بذلك المستقلون من فلاسفتهم
ومؤرخيهم ، تلك المدنية العربية الزاهرة التي قضى عليها الترك بما مهَّد لهم بنو
عمهم التتار من التخريب والتدمير ، فكانوا مصداقًا لقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيما يعد من دلائل نبوته : ( اتركوا الترك ما تركوكم فإن أول من يسلب أمتي
ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء ) .
الترك هم الذين وقفوا حضارة العرب ومدنيتهم وحالوا دون استمرارها بل
أماتوها بسلب ملكهم ولم يستطيعوا هم أن يحلوا محلهم فيها ولا أن ينشئوا حضارة
جديدة ، وإنما استطاع ذلك الإفرنج ، فكانوا كلما تقدموا في العلوم والفنون إلى الأمام
يرجع الترك إلى الوراء ، حتى فقدوا تفوقهم العسكري في أوربة بجهلهم للفنون
العسكرية والصناعات الحربية التي استحدثها الإفرنج وعجزوا عن مضاهاتهم فيها
وعن اقتباسها منهم بل صاروا عيالاً عليهم ولا يزالون يبتاعون منهم الأسلحة
والبوارج الحربية فالطيارات الحديثة إلى اليوم ، ولولا تنازع دول أوربة الكبرى
على ممالكهم ولا سيما مركز القسطنطينية لزالت سلطنتهم منذ قرون أو قرنين ،
على أنهم ما زالوا ينقصونها من أطرافها حتى زالت بالحرب العالمية الأخيرة ولم
يبق لهم منها إلا عقرها في الأناضول وبعض الرومللي .
إن هذا الشعب على جهله الذي أضاع منه أعظم سلطنة ( إمبراطورية ) في
قلب العالم تولى أمرها بضعة قرون ولم يستطع أن يستخرج شيئًا من كنوز أرضها
الثمينة ، ولا أن يجني منها ثروة تُذْكَر ، ولا أن يترك فيها أثرًا عمرانيًّا يحمد ، لم
يفقد بهذا الخسران المبين والجهل الفاضح شيئًا من كبريائه وعنجهيته ودعوى
زعمائه أنه أرقى شعوب الأرض فلا يليق به الخضوع لأعدل الشرائع وأكمل
الأديان ( الإسلام ) ولا أن ينسب إلى الشرق المنحط ؛ لأنه مساو لأعظم دول
الغرب ، وإنما الواجب عليه أن يقلدها في أزيائها وسائر لبوسها وشر عادتها كإباحة
المسكر ورقص النساء والرجال وإباحة الكفر والفواحش ، ثم في قوانينها حتى
الشخصية منها ، بل زاد في عهد الكماليين كبرًا وخنزوانة بما أتيح له من الانتصار
على اليونان ، وما اليونان ؟ وما قيمة الانتصار عليهم ؟ لولا ما أتيح له من وراء
ذلك وهو اعتراف أوربة في معاهدة لوزان باستقلاله المطلق فيما بَقِيَ له من بلاده ،
وإنما كان سبب هذا الاعتراف تنازع دول الحلفاء في سياسة الشرق الأدنى بعد
الحرب ، حتى إن إيطالية وفرنسة ساعدتا الترك على حرب اليونان ، وقام الشعب
الإنكليزي ينكر على دولته التي كانت تساعد اليونان سياستها هذه لملله وسآمته من
رزايا الحرب ورغبته في الاستراحة من عقابيلها ، فأسقط وزارة جورج لويد
المعادي للترك المساعد لليونان وأكره خلفه على خلاف سياسته هذه .
هذا ما غر هؤلاء الترك الكماليين فحملهم على هذه الدعاوي العريضة وعلى
ما قاموا به مما يسمونه ويسميه الملاحدة المتفرنجون منا بالإصلاح والتجديد ، فأما ما
كان منها في الأزياء والعادات وإباحة الكفر والفسوق فكله إفساد للأرواح والأخلاق
والآداب التي لا يحيا شعب بدون حياتها وصلاحها ، وأما ما كان منها في ترقية
الزراعة والصناعة والنظام العسكري فإننا نعترف بأنه إصلاح لا بد منه ، والدين
الإسلامي يوجبه ويحث عليه .
وأما القوانين المنتزعة من دول أوربة فهي في جملتها مُفسدة للشعب التركي
غير مُصلحة ولا مُعينة على الإصلاح لما أشرنا إليه من آراء علمائها في سبب ذلك ،
وتقليد الترك لأوربة في قوانينها قديم ليس من مبتكرات مصطفى كمال باشا ، فهم
قد توجهوا إلى ذلك من عهد السلطان محمود الذي ولي السلطنة سنة 1222 وبدءوا
بالتنظيم العسكري والزي الأوربي ما عدا البرنيطة ، ثم جددوا ذلك بإعلان
التنظيمات الخيرية في أول عهد السلطان عبد المجيد الذي ولي سنة 1255 مما
قامت ثورة المتفرنجين في آخر مدة السلطان عبد العزيز الذي استعصى عليهم
بشجاعته وقوة إرادته ... ثم أعلنوا القانون الأساسي عقب تولية السلطان عبد الحميد
سنة 1293 أي منذ نصف قرن ، وهو على توقيفه له قد نشر باسمه عدة قوانين
مقتبسة من قوانين أوربة ( كما انتشرت المدارس الأوربية للمبشرين بالنصرانية
الأميرية المتفرنجة ) ولم تزدد العدالة بتلك القوانين والمدارس إلا ضعفًا ومرضًا ،
وما ذلك إلا لأنها تقليد صوري لأوربة سببه توهم المغرورين من الترك أنهم
يساوونها به وإن لم يكن أكثره موافقًا لحال شعبهم ، على أنهم لم ينفذوا شيئًا منه كما
يجب ، كما أنهم لم ينفذوا الشريعة ، بل كان مدار أحكامهم ومحاكمهم على الرشوة
التي تحاول حكومتهم استئصالها ؟ وأول ما فعلته في ذلك محاكمة وزير بحريتها
السابق وبعض كبراء رجالها على رشوة عظيمة في وزارة البحرية .
وجملة القول أن الترك قد دخلوا الآن في فتنة تجربة جديدة واسعة النطاق
شديدة الخطر يظن زعماؤهم من القواد الحربيين أنها منهم على طرف التمام ؛ لأن
العقيدة الغريزية فيهم أن القوة العسكرية تعمل كل شيء ، فلننتظر عاقبة هذه
التجربة بعد فشلهم في جميع التجارب الماضية ، فإنما العلم بها عند الله تعالى وإنما
نعرف نحن بعض أسباب الأمل والفشل .
فأما أسباب الأمل فهي محصورة في قوة إرادة الزعماء مع ضعف الشعب ،
وفي كثرة أعوانهم المتفقين معهم على خطتهم كما تقدم ، وفي تمكنهم من إبعاد القواد
والضباط ورجال الإدارة والقضاء المخالفين لها عن المعسكرات ودواوين الحكومة
بالقوة القاهرة ، وفي بناء كثير من أعمالهم العسكرية والاقتصادية على قواعد الفنون
العصرية .
***
وأما أسباب الفشل فالمعروف عندنا منها :
( 1 ) أن السواد الأعظم من الشعب الذي يدين الله تعالى بالإسلام تقليدًا
ووجدانًا لا يقبل الجدال ساخط على هذه الحكومة لشعوره بأنها تهدم دينه الذي هو
مناط أمله في سعادة الآخرة ، وكذا الدنيا ، فإن ما ناله من الملك والعظمة لم يكن إلا
بالإسلام .
( 2 ) ما أصيب به الشعب من الفقر والعوز وعجزه عن أداء ضرائب
الحكومة الكثيرة التي زادت سخطه عليها .
( 3 ) عجز الحكومة عن القيام بما تصدت له من الأعمال النافعة المنتجة
كسكك الحديد وغيرها بكثرة نفقاتها على التأسيسات العسكرية ومظاهر العظمة
المدنية على ما ذكرنا من فقر شعبها وإرهاقها إياه بما فوق طاقته ، وإحتكارها لأهم
ينابيع ثروته .
( 4 ) تربص كثير من كبار رجال العسكرية والإدارة بها الدوائر لإسقاطها
وإرضاء الشعب بحكومة ترضيه في دينه ودنياه .
( 5 ) غرور زعماء هذه الحكومة بقوتهم واستعجالهم في هدم دين هذا
الشعب العظيم وتقاليده ومجد سلفه ، وقد يكون مع المستعجل الزلل .
(29/464)
 
الكاتب : عبد الحميد الرافعي
ربيع الآخر - 1347هـ
أكتوبر - 1928م

خطر هجوم الكماليين على الإسلام

استبدال الأحرف اللاتينية بالحروف العربية
وجوب محاربة هذا الخطر على العالم الإسلامي
أريد اليوم أن أوجه هذه الكلمة لأول مرة إلى الشباب الإسلامي في كل بقاع
الأرض وإلى شباب الأمة العربية خاصة ليتدبروا أمرهم في هذا الهجوم المكشوف
الذي يقوم به الكماليون لمحو الإسلام من الدنيا بما يخترعونه من الأساليب
الشيطانية في بلادهم ، وما يبثونه من الدعاية ضد الدين الإسلامي في الشرق
والغرب ، وأريد أن يفهم هذا الشباب المسلم أن مقاومة هجوم الكماليين هذا بات
فرضًا مقدسًا عليهم ليستطيعوا الاحتفاظ بدينهم هم وذراريهم المستقبلة ، فإن أعداء
الإسلام في أنقرة لم يجدوا أمامهم عملاً يقومون به في هذه الأيام لإتمام هذا الغرض
إلا استئجار الكتاب من أوربيين وشرقيين بأموالهم وأموال المبشرين لنشر الدعاية
ضد الإسلام ، حتى صار أعداء هذا الدين من سياسي أوربة يستخدمون المحاضرات
العلمية لإقناع الطلبة الشرقيين في أوربا باستبدال الأحرف اللاتينية بالعربية كما
فعل ذلك الأستاذ لويس ماسينيون مدير معهد الكليج فرانسز في باريس للقضاء على
القرآن بالقضاء على الأحرف العربية تأييدًا لدعاية الكماليين المأجورة .
وإلى شباب الإسلام والقراء عمومًا نبذة من مقال لأحد الكتاب الأوربيين الذين
تستأجرهم أنقرة لنشر دعايتها تبريرًا لخطتها الجديدة في محاربة الإسلام وتأييدًا
لمزاعم الكماليين في الدين الإسلامي والعرب .
قال الكاتب : م ج السويسري من مقالة نشرها بجريدة جورنال دي جنيف :
( إن أهم إصلاح يحاول مصطفى كمال أن يقوم به في بلاده هو قلب أفكار
شعبه لينفرهم من الدين الإسلامي ، وفي وسعنا أن نقول : إن الإسلام في تركيا
يختلف اختلافًا بيِّنًا عما كان عليه قبلا في زمن الخلفاء العثمانيين أو في باقي
الأقطار الإسلامية ، وإن مصطفى كمال بعمله هذا قد طهَّر عقيدة الأتراك من
خرافات هذه الديانة وأساطيرها القديمة ، واعتقاداتها العقيمة التي لا تلائم العصر
الحديث ، ثم ساق الكاتب السويسري الحديث الذي لقنه إياه الكماليون على هذا النمط
فقال :
( لقد أثبت التاريخ أن الدين الإسلامي لم يحدث فيه العلماء أي إصلاح منذ
قام محمد بدعوته أي منذ 13 قرنًا ، وبهذا كانت الشقة بعيدة بين المدنية الحديثة
وهذا الدين .
ولنضرب لذلك مثلاً : إن الشريعة الإسلامية تُحَتِّم على كل مسلم أن يصلي
خمس مرات في النهار ، وعليه أن يكون متوضئًا في كل مرة ، أي عليه أن يغسل
وجهه ويديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين ويمسح رأسه إلى آخر ما هناك من
الصعوبات الجمة كخلع الحذاء وتشمير الثياب ، وكم من فقراء سرقت ثيابهم وهم
يصلون فطلقوا هذا الدين ثلاثًا ، فهل بلغ بنا الخبل إلى أن نخلع أرديتنا ونبلل ثيابنا
ونشوه كي ( بناطليلنا ) خمس مرات في اليوم .
( ولأجل أن يبرر الصلاة على طريقة البروتستانت كما أعلنا ذلك في وقته
قال : قال أحد الأتراك الأتقياء : أما أنا فقد كنت أكره الدخول إلى المسجد بسبب
واحد وهو الرائحة الكريهة التي تنبعث من أقدام المصلين وكنت أضطر أحيانًا
لمغادرة المسجد قبل قيام الصلاة خوفًا على نفسي من الاختناق .
ثم قال : ويريد المصلحون أن تستبدل السجاجيد بالكراسي ويستعاض عن
أصوات الحفظة والمشايخ التي تكون مضحكة في أغلب الأحيان بالأنغام الموسيقية ،
وعندها تمتلئ المساجد بالمصلين الحاسري الرءوس ؛ ولقد حذا الأتراك في طريق
عبادتهم حذو الأوربيين ؟ وأصبحت الآن أنقرة الكعبة الجديدة للدين الإسلامي
الجديد [1] فهل يحذو العرب حذو الترك فيخلصوا من هذه التقاليد التي ما أنزل الله
بها من سلطان ؟
هذه كلمة اجتزأناها من مقالة الكاتب السويسري ينشرها في أوربا بأموال
الترك وعقليتهم لم يستطع المبشرون قبل الكماليين أن ينشروا مثلها في أوربا مطلقًًَا
على شدة حقدهم على الإسلام ، والذي نلفت إليه الأنظار أن هذه المقالة ليست من
بنات أفكار الكاتب الأوربي المؤجر ، بل هي إملاء الكماليين أنفسهم فإن ما يكتبه
هؤلاء المأجورون لا يخرج عما يقوله الكماليون في الإسلام سواء في بلادهم أو في
خارجها ، من الأقطار الشرقية والغربية ، حتى إن جريدة مخادنت التي تصدر في
مدينة القاهرة تكتب على ملأ من الناس أن مصدر تأخر الترك اللغة العربية أو
بالحري الإسلام .
وإذا دققت النظر فيما ينشر في أوربا ومصر تجد أن روح الكماليين لا تقف
عند القضاء على الإسلام في تركيا ، بل هي ترمي إلى محو الإسلام من جميع
الأقطار ، وقد باتت الخزانة السرية تنفق على هذه الدعاية أموالاً طائلة من أموال
المسلمين لقتل الإسلام بجرأة غريبة يردد صداها المبشرون المسيحيون مع
السياسيين الأوربيين الذين يرون أن أهم وسيلة لاستعمار البلاد الإسلامية القضاء
على الدين الذي يدعو أهله إلى إنشاء الدولة والدفاع عنها بالنفس والنفيس فيجعل
من المسلم شخصية كاملة أساسها عزة النفس بالفضائل الإسلامية ، والرأي المتفق
عليه بين المطلعين على نية الترك هو أن الغاية الأولى من هذه الحركة التي لم
يعهدها الإسلام في الحرب الصليبية هي التزلف لأوربا ، وهذا كل ما يرمي إليه
مصطفى كمال .
هذه حالة لم تمر بحياة الإسلام في دور ما من أدوار قوته وانحطاطه ، وأعظم
ما في الكارثة من سوء سكوت المسلمين عنها ، ووجود بضعة أشخاص منهم
يؤجرون ضمائرهم لإذاعتها والدفاع عنها ، حتى بلغ الانحطاط الأخلاقي والتسفل
الأدبي بهؤلاء أنهم يذيعون بين العامة في مصر و الإسكندرية أن مصطفى كمال من
أعظم المسلمين غيرة على الإسلام وأن أعماله هذه التي ظاهرها عداء شديد للإسلام
ليست إلا مظاهر ليخدع بها أوربا حتى إذا تمكن من خديعتها حملها على التخلي له
عن بلاد الإسلام التي احتلتها بغفلة الترك في الماضي ( كمصر ) ومن ثم يعيد لها
استقلالها ... فهل سمع العالم بعقلية أخطر من عقلية هؤلاء الدعاة الذين يذيعون في
هذا القطر أمثال هذا الهذيان ؟ وهل هناك أشد احتقارًا للمصريين من هذا الاحتقار .
بعد هذه المقدمة نستميح إخواننا الأتراك الذين لم تؤثر فيهم جناية الكماليين ،
والذين يألمون كما نألم من وصول الحال إلى ما وصلت إليه في تركيا وسريانها
لأفغانستان و إيران واضطراب العالم الإسلامي لها ، نستميح هؤلاء الإخوان الكرام
أن يعذرونا ؛ إذ نحن دافعنا عن القرآن والعربية اللذين يعمل الكماليون بإرشاد
البولشفيك على مطاردتهما ، والحط من شأنهما ، وإذا كانت أوربا وقفت كلها صفًّا
واحدًا بما فيها الكنائس المنظمة والشعوب القوية والحكومات المسلحة في وجه
البولشفيك دفاعًا عن الدين المسيحي فما أجدرنا أن نتحد نحن - بعد أن ساق الروس
الحمرُ التركَ الكماليين أمامهم للقضاء على الإسلام- للوقوف في وجه هذا الخطر .
يحب أن نفكر جيدًا في هذا ونقوم بالواجب له حق القيام .
هذا وإن دعاية الكماليين الحمراء تقوم على أساسين : الأول أن الدين
الإسلامي لا يصلح لحياة الترك الجديدة ، وهذه نفس دعاية المبشرين المسيحيين
والسياسيين الأوربيين ، والثاني أن اللسان العربي بما فيه أحرفه العربية آية
انحطاط العنصر التركي والعثرة الحقيقية في سبيل رقي الترك .
أما أن الإسلام لا يصلح للحياة الجديدة فنحب أن نسأل مصطفى كمال ما قيمة
هذا العنصر التركي في الوجود قبل أن يتشرف بدين الإسلام ؟ وهل كانت قيمته
الحقيقية أكثر من قبائل متوحشة تؤجر نفسها للقتال أنى كان القتال ؟ ثم إلى أين
وصل هذا العنصر بفضل هذا الدين العظيم حين استاق أمامه مئات الألوف من
الجيوش باسم الإسلام فسيطر على عمران ثلاث قارات من الكرة الأرضية ومد
سلطانه إلى شعوب وأمم من أعظم أمم الأرض ؟ هل كان ذلك في العهد الذي كان
الشعب التركي وملوكه وحكامه مسلمين أم كان وهم طورانيون يعبدون الذئب
الأغبر ؟ وهل المدنية الإسلامية العربية والعدل العربي اللذان مدَّا رواقهما على
الأندلس وعلى قسم عظيم من أوربا حتى ضرب بعصرهما الذهبي الأمثال كانا في
بداوة الجاهلية أم نور الإسلام ؟
لندع هذا البحث الذي يهزأ المبشرون المسيحيون من أنفسهم عندما يضطرون
لاتخاذه واسطة للهجوم على الإسلام قيامًا بواجب المهنة التي يحترفونها ، ونتقدم إلى
هؤلاء الكماليين نبحث معهم تحت أشعة الشمس المنيرة في مسألة الأحرف العربية
التي يزعمون أنها كانت سببًا لتأخر مدنيتهم الموهومة ثم نعطف على حديث لسعادة
الجنرال محيي الدين باشا وزير الكماليين بمصر ، وما أنكره من عطف المسلمين
على الترك وكون هذا العطف المُدَّعَى لم يكن له أثر في الوجود العملي .
أما مسألة الأحرف العربية وتأخيرها للسان التركي عن التقدم ، فنحن نستطيع
أن نصرِّح تصريحًا ربما رآه جمهور الناس غريبًا في بادئ الأمر إلا أنه الحقيقة
المجردة . وهو أنه لا يوجد إلى الآن شيء يسمى اللسان التركي ودون في الكتب
وقرأه الناس ويستطيع الشعب في تركيا وأوربا في صميم الأناضول و التركستان أن
يفهم جملة من جملة فهمًا صحيحًا ، اللهم إلا إذا كان هناك بعض علماء الآثار
والعاديات يقدرون على حل تلك الرطانة والتكلم بها في أتفه الأمور ، وهذا أعظم
برهان للتاريخ على أن المدنية التركية لا وجود لها ولو وجدت لكان لها كتب دُوِّنَت
فيها أو نقوش أثرية كنقوش المدنية المصرية .
إذا فهمت ذلك يجب أن تعلم أن اللسان الموجود الآن الذي يتكلم به الأتراك
ويعتبر أجمل الألسن الشرقية إنما هو اللسان العثماني الذي وضعه فريق من علماء
العثمانيين من الترك والشركس والألبان والعرب منذ قرن تقريبًا فجاء نصفه عربيًّا
والنصف الآخر خليط من الفارسية والتركية وبعض الكلمات الإفرنجية ، وقد تعلمنا
هذا اللسان عن أساتذته واطلعنا على كثير من مؤلفاته العلمية والأدبية فلم نر عالمًا
تجاسر على الزعم بأن هذا اللسان غير اللسان العثماني ، بل كان علماء اللغة
يقولون في صلب مؤلفاتهم : قاموس اللسان العثماني أدبيات اللسان العثماني نحو
اللسان العثماني [2] وإنني لما كنت تلميذًا وجدت في برنامج الدروس اليومية أن
الساعة 11-12 مثلاً هي حصة اللسان العثماني ، ولم تذكر حصة لشيء يسمى
اللسان التركي ، ولكن لما أعلن الدستور وصار كتاب الترك ينقلون ما يكتبه
الأوربيون بشأنهم صاروا يطلقون كلمة تركيا على البلاد العثمانية ؛ لأن الأوربيين
يطلقون كلمة تركيا عليها ، وكلمة تركيا بدلاً من العثمانية نسبة إلى العثمانيين ، وقد
احتج فريق من علماء العرب ومبعوثيهم في الآستانة على كتابة تركيا بدلا من الدولة
العثمانية ، وقالوا للأتراك : إننا شركاء في هذه المملكة بل نحن العنصر الأكبر فيها
فإطلاق هذه الكلمة افتئات على الحقيقة يستلزم ضياع شخصية الأمة العربية
والعناصر الأخرى كالكرد والشركس والألبان والروم والأرمن وغيرهم . فأجاب
الأتراك بأن هذه الكلمة ترجمة عن الإفرنجية وليست مقصودة ثم سكت العرب
فتمادى الترك .
إذا علمت هذا ، وعلمت أن اللسان التركي غير موجود اليوم وأن هذا اللسان
الذي يستبدلون أحرفه العربية باللاتينية إنما معينه بل مصدر حياته اللغة العربية
وأنه قبل أن يتكون اللسان العثماني الذي يستمد حياته وأدبياته وعلومه من اللسان
العربي لم يكن لهذه العلوم والأدبيات التي يتغنى بها الترك وجود ، بعد هذا العلم
تستطيع أن تحكم على مبلغ مكابرة الكماليين وجرأتهم على الكذب في حق العلم
والتاريخ والحقيقة كلها ، فقد زعموا أنهم يتركون هذا اللسان العثماني بقولهم عن كلمة
( كتاب ) العربية التي لا مقابل لها في التركية مثل : ( كي تاب ) فالمراد بتتريكها
إخراجها من عربيتها وتحريف لفظها برسمه هكذا (
kItab ) وهذا منتهى الحمق
والغباوة ، وقد نشرت الصحف التركية التي تصدر في اليونان مقالاً للأستاذ صاحب
السماحة صبري أفندي شيخ الإسلام السابق خاطب فيه الترك بقوله : إنكم إذا استبدلتم
الحروف العربية وجب إخراج الألفاظ العربية وإحلال محلها كلمات إفرنجية ؛ إذ لا
مقابل لها في التركية وعندها تخسرون على الأقل كلمات : الغازي والجمهورية
ومصطفى كمال أيضًا .. . لأنها كلها عربية .
وهنا لا ترى بدًّا من أن ننقل للقراء الكرام كلمة جميلة تستند إلى العلم
الصحيح دبَّجَها يراع الكاتب القدير الأستاذ عبد الله عنان في مسألة الأحرف اللاتينية
نشرت في صدر السياسة اليومية ، ومما جاء فيها قوله : ( بيد أنا لا نؤمن بما
يعلقه فخامة الغازي على هذا الانقلاب من الخير والمزايا وكل ما تدور حوله
حُجَج الغازي ومن معه من أنصار الفكرة أن الكتابة الجديدة وسيلة ناجعة لمحاربة
الأمية داخل تركيا ، ونشر اللغة التركية خارجها ؛ لأن الكتابة العربية بما تحتوي من
مصاعب الشكل والإعراب عثرة في سبيل هذه الغاية ، والكتابة اللاتينية تبسط
القراءة والإعراب بأحرف الحركة ، وربما كان في هذا القول مسحة من الوجاهة ،
ولكنها مزية شكلية ضئيلة تقابلها مصاعب شكلية أيضًا في كيفية ضبط الحركات
اللاتينية ، وتطبيقها بدقة على الحركات العربية ، وهو ما يحرج اليوم قادة الحركة
ويضطرهم في كل يوم إلى التغيير والتبديل في ما يضمونه من قواعد الهجاء ، هذا
إلى أن الكتابة العربية لا تنفرد بصعوبة الشكل والإعراب فمن بين اللغات الغربية
ما يحتوي على مثل هذه الصعوبة ، كالألمانية والروسية ، ففيهما يتخذ الشكل
صورة الإضافة والتغيير في أواخر الكلمات طبقًا لأحوال الإعراب ومع ذلك
فإن هذه الصعوبة لم تكن في وقت من الأوقات عقبة في سبيل التعليم ومحاربة
الأمية في ألمانيا و روسيا ، أما القول بأن الحروف اللاتينية مما يساعد على نشر
اللغة التركية فهي أمنية لا نؤمن بها ، فما كانت سهولة الكتابة أو القراءة وحدها
عاملاً جوهريًّا في نشر اللغات ، وإنما تنتشر اللغات بتراثها الأدبي والعلمي ,
ومكانة شعوبها من المدنية والثقافة ، وأهمية مركزها السياسي والاقتصادي،
وما كانت اللغة التركية في عصر من العصور لغة آداب أو علوم أو مدنية أو تجارة،
وما كانت سوى نوع من الرطانة لقبائل غازية يوم برزت هذه القبائل من قفارها
واتصلت بالمجتمع الإسلامي ، فاعتنقت دينه وشرائعه ، واقتبست من فيض لغته كل
ما أصبغ على هذه ( الرطانة ) ثوب اللغة وكل ما غنيت به وازدانت ، حتى
أصبحت اللغة التركية تموج بالكلمات العربية وأضحت مدينة بكل ما فيها من بيان
وتعبير إلى العربية ، بل غدت العربية روحها ولحمها ، بل لقد بهرت اللغة
العربية المجتمع التركي أيام فخاره وازدهاره بفصاحتها وجمالها ، فغدت لغة الآداب
والعلوم ، واصطفاها المفكرون من الترك على ( لهجتهم ) المجدبة ، فانطلقت بها
ألسنتهم وأقلامهم .
وإذا كان للتفكير التركي اليوم آثار جليلة فهي باللغة العربية التي وسع بيانها
هذا التفكير ، بل إن أنفس الآثار التركية سواء في الفقه أو التاريخ أو الأدب إنما
هي بالعربية ، والخلاصة أن اللغة العربية كانت بالنسبة للترك وغيرهم من الشعوب
النازحة إلى حظيرة المدنية الإسلامية لغة التفكير كما كانت اللاتينية في العصور
الوسطى بالنسبة للمجتمعات الغربية ( وكانت صولتها قوية على المجتمع التركي
أيام فتوته وازدهاره ، وأثرها أثيلاً في بيانه وتراثه الفكري ، وكان كل ما أثاب
الترك به العربية هو تحسين خطها والافتنان في تنميقه ؛ إذ كان طبيعيًّا أن تكتب
بالعربية تلك ( اللهجة ) التي غدت لغة بما اقتبست من العربية .
ما كانت التركية إذن في عصر من العصور لغة تفكير ، وما كان لها تراث
فكري أو أدبي يغري بتعلمها ولو كتب باللاتينة ، وما يعرف التاريخ للمجتمع
التركي مدنية أو ثقافة خاصة به تغري حتى الخاصة من الباحثين بتعلم لغته ، كذلك
لا نعتقد أن مركز تركيا الدولي أو الاقتصادي مما يحمل على نشر التركية ، فما هو
الخير إذن في الحروف اللاتينية .
( إن كتابة التركية بالحروف اللاتينية لن يحمل إلى التركية جديدًا في تراثها ،
ولن تخلق أذهانًا جديدة في مجتمع آثر مفكروه في أزهر أيامه أن يفكروا بالعربية
وما هي إلا حجاب كثيف يسدل على الماضي ، وقطع لصلاته ، ومحو لمعالمه
ورسومه ، وبالأخص نزع لآثاره الروحية .
فهل هذا ما يرمي إليه سادة أنقرة [3] ؟ ألا ليت لا , اهـ .
أما تعريض الترك باللغة العربية وأحرفها وكونها سبب تأخرهم فقد أبطلناه لك
من أساسه وبيَّنا لك مبلغ جهلهم في عصر النور ومقدار جرأتهم على الحقيقة في
عصر الحقائق ، فإذا أيدهم فيه دعاة النصرانية ( المبشرون ) وبعض المأجورين
من كتاب أوربا لمحاربة الإسلام وحبًّا في ذهب أنقرة ، فإن ألوفًا من علماء أوربا
نفسها الذين يعرفون الإسلام والمدنية العربية والترك وحكوماتهم التي بفضل جهلها
استولى الأوربيون على كل أملاك المسلمين فجعلوهم عبيدًا بعد أن كانوا سادة الدنيا
يهزأون بهؤلاء الكماليين كل الهزؤ ويسخرون بحركتهم من جميع وجوهها .
وقد ألف أحد إخواننا الترك الأفاضل كتابًا منذ سنتين ونيف عندما فتحت
مسألة الحروف اللاتينية في المؤتمر الذي عقد في روسيا حمل فيها على هذه الفكرة
حملة كان لها أثرها في سير الحركة التي أوقفت ، ولكن الروس أعداء الإسلام
والعربية لم يلبثوا أن استأنفوا القضاء عليها بما رأوه من استعداد الكماليين الذين
أولوا ما جهلوا من العالم الإسلامي وحقائقه ومن جهل شيئًا عاداه .
نحب أن نستأنف الرد على الجنرال محيي الدين باشا بعد أن زيفنا رأيه في
مسألة الدعاية التي ينشرها للكماليين بأمثال أحاديثه مع مكاتب وادي النيل في مقال
لبعض الجرائد .
يقول الجنرال : ( يسأل البعض : أليس اشتراك الشعب التركي مع الشعوب
العربية في استعمال الحروف القديمة مما يؤدي إلى ارتباط القلوب وتوثيق عرى
الصداقة بين الترك والعرب ؟ ونحن نجيب بالسلب ... فإن ذاك إنما هو ارتباط
صوري لا قيمة له ! ! ! ولا أدل على هذا من التاريخ الذي برهن على عدم ذلك
الارتباط !
فانظر يا رعاك الله إلى هذه المكابرة ونكران الجميل ؟ انظر إلى هذه الجرأة
على التاريخ إلى هذا الحد في بلد من أعظم عواصم الإسلام والعربية ينكر ما جناه
الترك من الفوائد العظيمة التي نجمت من ارتباط الترك بالعرب كل هذه السنين
ولولاها لما كان الترك شيئًا مذكورًا في هذا الوجود .
إني والله لأخجل من الرد على رجل يمثل دولته إذا حاولت أن أبين له ما
يعرفه صغار التلاميذ كما أني لشديد الأسف على هذا العداء الذي يجاهر به
الكماليون العرب ودين الإسلام وهم لولا الإسلام والعربية لما كانوا سوى طوائف
متوحشة وقفت نفسها على التخريب والتدمير والحروب وسفك الدماء .
فإذا جاز نكران الجميل بين الناس فلا يجوز أن ينكر الترك فضل العرب إلى
هذا الحد ، ولا سيما في بلاد العرب نفسها .
وبعد فإني أدعو جميع الغيورين من المسلمين إلى رفع برقع مجاملة الترك ،
وإلى الوقوف في وجه الكماليين للدفاع عن الإسلام قبل أن يطغى سيل إلحادهم على
بلاد المسلمين ، وقد نجمت قرونه في إيران وأفغانستان ، وأُذَكِّر إخواني المسلمين
أن الجمود إزاء هذه الحركات ليس كالجمود أمام حركات المبشرين .
ومن يستطع الجهاد وقتل هذه الروح الشريرة التي تمليها البولشفية على أنقرة
ولم يفعل فهو آثم قلبه ، والسلام .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الرافعي

( تنبيه )
وقع في هذه المقالة ، وفيما بعدها كلمات يُظَنُّ أن الترك يعدونها طعنًا في
شخص رئيس جمهوريتهم مصطفى كمال باشا والأمور الشخصية غير مقصودة لنا ،
وإنما نحن ندافع عن ديننا ونغار على شعب الترك الإسلامي ، وقد استشرنا بعض
كبار علماء القانون في المقالتين بعد طبع الجزء وإعداده للتوزيع فأشار علينا بأن
نعيد طبع المقالتين ، ونغير فيهما بعض الجمل والكلم من باب الاحتياط ففعلنا ؛
ولذلك تأخر الجزء وكتبنا هذا التنبيه في الطبعة الثانية .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار : من سخافة الكاتب وسخافة من يخدمهم إطلاق اسم الدين الإسلامي بعد الغلو في ذمه على ضلالة الترك الكماليين مع إطرائها وسنبين سائر سخفه وخطله بعد .
(2) المنار : أخبرني أحمد مختار باشا الغازي أنه لما كان في طور التعلم لم يكن للغتهم قاموس ولا نحو ولا صرف وأنه لما حاول مصطفى رشيد باشا تعليم بعض الترك الإفرنسية لم يمكن تعلمها إلا لطلبة العلم الديني الذين يعرفون العربية .
(3) المنار : نعم إن هذا كل ما يبغون لينسوا شعبهم هذا الدين وكل ما يذكرهم به ؛ لئلا يعودوا إليه بعد موتهم ، ونحن قد صرحنا بهذا في تفسير الجزء الثامن وفي المنار قبل وقوعه .
(29/456)
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
حقائق في عداوة ملاحدة الترك للإسلام
وتعليق على المقالة السابقة

1 - فكرة ترك الإسلام في ملاحدة الترك :
سافرت في أواخر رمضان سنة 1327 ( أكتوبر سنة 1909 ) أي في أول
سني الدستور العثماني إلى الآستانة للسعي لأمرين : ( أحدهما ) تأسيس ( جمعية
للدعوة والإرشاد ) تستعين على عملها بإنشاء مدرسة كلية إسلامية وتوثيق الروابط
بين الدولة والمسلمين ( وثانيهما ) السعي للتأليف بين العرب والترك ؛ إذ كانت
العصبية التركية الجنسية قد نجمت قرونها وبدأت بنطاح العرب وغيرهم من
عناصر الدولة قبل أن ترتفع وتعلو ، وأقمت في الآستانة سنة كاملة كنت فيها
عزيزًا مكرمًا من رجال الدولة وزعماء جمعية الاتحاد والترقي ، وتيسر لي بذلك أن
أكشف الستار عن إلحاد هؤلاء الزعماء وعزمهم على محو الإسلام من الشعب
التركي وتأسيس دولة تركية محضة ، وجعل الولايات العربية مستعمرات لهذه
الدولة ، وتتريك سائر العناصر العثمانية ، ومن تقدر على تتريكه من العرب أيضًا .
وقد اجتمعت هنالك برئيس الجمعية التي تشتغل بما سموه تطهير اللغة
التركية من الألفاظ العربية وأعضائها وناظرتها ، فاعتذروا لي عن عملهم بأنه فني
محض لا علاقة له بالدين ولا بالسياسة ، وإنما الغرض منه تسهيل التعليم على
عوام الترك ولا سيما فلاحي الأناضول ، وقد أقمت عليهم الحجة كما شرحته في
المقالات التي نشرتها في الآستانة نفسها بالعربية والتركية وفي مقالات ( رحلة
الآستانة ) .
فمصطفى كمال باشا لم يبتكر شيئًا مما يسمونه التجديد ، وإنما سنحت له
الفرصة لتنفيذ ما قرَّره من قبله من جماعة ( جون ترك ) بتأثير ساسة الإفرنج
المستعمرين ودسائس الروس الطورانيين ، ولعلمي بهذه المقاصد صرَّحت في المنار
وفي تفسير القرآن أيضًا بأن الترك الكماليين يقصدون من ترجمة القرآن التمهيد
لمحو الإسلام من الشعب التركي ، وكان ذلك قبل إعلانهم للحرب على الإسلام .
وإنني من ذلك العام بارزت الاتحاديين العداء وأطلقت عليهم لقب
( الملاحدة ) وأنا في الآستانة ، وأطلقت لساني بانتقادهم حتى إن طلعت بك أو
باشا قال للدكتور عبد الله بك جودت وقد لامه هذا على عدم تنفيذه لمشروع
الجمعية والمدرسة : نحن ما قصرنا مع رشيد أفندي بل كرَّمناه ولكنه يطعن فينا شديدًا
وصل إلى حد الرذالة .
نعم إنه كرَّمَني بالحفاة القولية والفعلية وبالدعوة غير مرة إلى طعامه وكان
يقدمني على مائدته حتى على كبار علماء المشيخة الإسلامية كمستشارها وعلى
غيرهم ، وعرض عليَّ أن يعطيني في كل عام عشرين ألف جنيه عثماني من
الذهب للقيام بشئون المدرسة على أن لا تكون تابعة لجمعية إسلامية .. . ) بل
مشايعة لجمعية الاتحاد والترقي ، فلم أقبل ، وقد كتبت كل هذه التفصيلات في عهد
دولتهم وصولتهم ، ومع هذا يفتري عليَّ المفترون من ملحد ورافضي بأنني لم
أتحول عنهم إلا بعد سقوطهم كما زعموا مثل هذا الزعم في خصومتي للشريف
حسين وأولاده سواء .
***
2 - خطة الكماليين تنفيذية لا إنشائية :
إن دولة الترك الكمالية الجديدة قد وجدت من ملاحدة القواد والضباط وغيرهم
أعوانًا كثيرين على تنفيذ كل ما كانوا قرَّروه هم وإخوانهم ، وكل ما كانوا يتمنونه
بعد أن صار بيدهم قوتا الدولة العسكرية والمالية ، ولما يتم لهم ذلك كله فيما ظهر
لنا بعد ذلك فله بقية منها تغيير الصلاة باختراع صلاة جديدة هي كصلاة
البروتستانت كما قال الكاتب السويسري : ولكنهم يمهدون للشيء ثم ينفذونه على
الطريقة التي سماها مصطفى كمال باشا ( سياسية المراحل ) كما مهَّدوا لإلغاء
الخلافة بنصب خليفة روحاني لا عمل له ، وكانوا أولاً يحسبون أكبر حساب
لاحتماء الشعب التركي الذي يغلب على سواده الأعظم التدين بالإسلام وتألبه عليهم ،
فلما شرعوا في العمل رأوا أن المعارضة ضعيفة فقد كان أقواها ثورة الأكراد التي
تعبت القوى العسكرية في القضاء عليها ، وأما ما عداها من الائتمار السري
بالاغتيال وهو لم ينقطع فلا ثبات له أمام سلطان الحكومة العسكري القاهر
وجواسيسها الكثيرة ، فأوجفوا في سيرهم بقطع المراحل بسرعة البخار ، وكانت
تقدر بسير الرجلين أو سير البغل والحمار ، وهذا الذي جرَّأ ملاحدة الأفغان وإيران
على اتباع خطوات الشيطان بترك الهداية الدينية إلى الإباحة المادية ، على ما بين
شعوبهما والشعب التركي وما بين زعمائهما وحكوماتهما من الفروق ، فالشعب
التركي قد ذللته لقواده وحكومته الخدمة العسكرية العامة ، وسلطتها القاهرة ،
وأضعف شكيمته الفقر ونكبات الحرب المتوالية ، التي اشتدت وطأتها في حرب
البلقان فالحرب العامة ، والملاحدة في قواده وضباطه وأطبائه وحكامه كثيرون بما
مارسوا من التعاليم الأوربية وما تمرسوا به من مخالطة ساسة الإفرنج من زهاء
قرن ، والشعبان الإيراني والأفغاني ليسا كذلك ، والملاحدة فيهما قليلون ، وسنبين
هذا الموضوع بالتفصيل في مقال سنكتبه فيما سعينا له من صد الأفغانيين عما هم
عرضة له من الإلحاد .
***
3 - ما يطمع فيه مصطفى كمال بنجاحه :
كان مصطفى كمال باشا بنجاحه في تنفيذ مقاصد جماعة ( الجون ترك ) بأن
يكون مؤسس دولة تركية جديدة تنسب إليه فقال الدولة الكمالية ، كما كان يقال
الدولة العثمانية ، ولذلك بذل جهده ونفوذ سلطانه الشخصي في طرد أسرة آل عثمان
من بلادهم ومصادرة أملاكهم ، ومحو ذكر دولتهم وسلاطينهم إلا بالسوء والطعن ،
ولعمري إنها لنفس كبيرة ، وهمة بعيدة ، وإن كنا نحن المسلمين نستنكر هذه الخطة
الجديدة وكثير من العقلاء يرون أنها غير سديدة .
ثم صار يطمع بأن يكون مؤسس أمة جديدة بتأسيس لغة جديدة ودين جديد
للشعب التركي الرومي الموجود في الأناضول وبقية الرومالي وفيما انتزعوه من
قطر سورية و العراق العربيين ، واللغة والدين أقوى مقومات الشعوب ومميزاتها
ولا يبعد عليه بعد ذلك أن يستبدل لقب ( كمالي ) بلقب ( تركي ) الذي يحافظ عليه
إلى الآن ، كما حافظ على اسم الإسلام مدة قليلة من الزمان ، وهو لم يبق للترك
شيئًا من مقوماتهم ولا من تاريخهم الذي كانوا به أمة مجيدة ذات دولة عزيزة ، كما
أنه لم يبق من شريعة الإسلام شيئًا ، حتى إن داعيتهم الكاتب السويسري يصرح بما
لقَّنوه إياه من الطعن بكل ما جاء به نبي الإسلام صلوات الله وسلامه عليه حتى
الطهارة والصلاة فجعلوهما مما ذموه من خرافات الإسلام المنافية للحضارة العصرية
الأوربية ! التي يقلدهما ملاحدة الترك ويتكلفون انتحالها لزعمهم أنهم مساوون
لشعوب أوربة أو لتوهمهم أن التكحل كالكحل ، وأن لا فرق بين الطبيعة والمنتحل ،
بل افتروا في الطعن على الإسلام ما لا يخفى على عاقل جهلهم وسخفهم فيه ، حتى
مستأجرهم الكاتب السويسري على ما في كلامه من كذب وتناقض وتشويه للحقيقة .
***
4 - الطهارة والوضوء في الإسلام :
يقول هذا الكاتب : إن من سيئات الإسلام وجوب الوضوء للصلوات الخمس
الذي هو عبارة عن غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس وغسل الرجلين
إلى الكعبين ، ثم يقول عن بعض ملاحدة الترك : إنه ترك الصلاة وفرَّ من المسجد
هربًا من الرائحة الكريهة التي تنبعث من أرجل المصلين ! فيا للفضيحة ! كيف
يعقل أن تكون رائحة المصلين الذين يغسلون أرجلهم عند إرادة الصلاة كريهة لا
تطاق عقب غسلها مع أنهم يكررون هذا الغسل خمس مرات كل يوم كما يقول ؟
وقد أجمع الأطباء والعقلاء على مدح هذه المزية من مزايا الإسلام وتفضيله بها على
غيره حتى إن بعض أطباء فرنسة الكبار أسلم في هذا العهد بسبب اطلاعه على
نصوص الطهارة في القرآن وغيرها ، مما يتعلق بحفظ الصحة ووجدانه إياه موافقًا
لأحدث ما تقرَّر في طب هذا العصر ، وقال : إنه لا يمكن أن يصل رأي رجل أمي
ولا متعلم من العرب إلى ذلك في العصر الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم
ويا ليت شعري كيف يصدر من عاقل يحترم نفسه ذم النظافة وجعلها سببًا للقذارة ،
وعدّها منافية للحضارة ؟ إذن تكون الحضارة الأوربية مبنية على تفضيل النجاسة
والقذارة ، على النظافة والطهارة ، ولهذا يفضلها الترك وأنصارهم على المدنية
الإسلامية التي تعد الطهارة من أهم فرائضها ، ولعل هذا الكاتب من المسيحيين
الذين تمر السنين ولا يغتسلون استغناء عن الغسل والطهارة بالمعمودية النصرانية ،
فقد أخبرني مستر متشل أنسن الذي كان وكيلاً للمالية بمصر أن الإنكليز هم الذين
علَّموا أوربة كثرة الاستحمام بعد أن تعلموها هم في الهند وأنه لا يزال في أوربة من
تمر عليه السنة أو السنين ولا يستحم فيها .
وأما ما نوَّه به السويسري من العسر في الوضوء فنجيب عنه بأن العسر قد
يكون في غسل الرجلين لو كان حتمًا في كل وقت على من يلبس الجوارب
والخفاف والأحذية الجلدية ، وليس الأمر كذلك ، فإن من يلبس في رجليه ما
يسترهما وهما طاهرتان يجوز له أن يمسح على الساتر لهما بيده المبللة بالماء بدلاً
من غسلهما ، ومن قواعد الإسلام الأساسية رفع الحرج والعسر من جميع أحكامه
كما هو منصوص في القرآن الحكيم ، ويجوز لمن يلبس حذاء نظيفًا أن يصلي فيه ،
وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون بنعالهم ، ونسكت عن هذيانه
في سرقة ثياب المصلين وجعلها كأنها من لوازم الصلاة .
***
5- شبهة ضرر السجود على الأرض :
إن أقوى شبهات هؤلاء الملاحدة على صلاة الإسلام هي السجود على الأرض ،
وهي غير مقصورة عليهم ، بل روي أن الاستنكاف من وضع الوجه على الأرض
خضوعًا لله تعالى قد كان مانعًا لبعض مشركي العرب المتكبرين من الدخول
في الإسلام أو عذرًا اعتذر به ، ولكن لا يقع مثله من مؤمن بالله تعالى وبالدين
الذي يأمر بالسجود له عز وجل ، ولمتفرنجي هذا العصر شبهة على السجود
غير استنكاف الكبرياء ، وهو أن بعض أرجل المصلين المصابين ببعض الأمراض
تؤثر في موضع وقوفهم للصلاة تأثيرًا يضر من يسجد في مواضع وطئها بما قد
ينفصل منها من ( ميكروبات ) المرض .
ذَكر لي هذا طبيب عربي فقلت له : إن هذا أمر نادر الوقوع لا يخلو كل
مجتمع يكثر فيه الناس من مثله ، ولا سيما حيث يزدحمون كمجامع الحفلات المدنية
والسياسية ومسارح التمثيل وغيرها ، ولا نرى الأطباء ينهون عنها إلا في أوقات
بعض الأوبئة ، وإن التنطع والإفراط في التوقي من جراثيم الأمراض في كل وقت
قد يكون ضرره أكبر من نفعه ، وإنكم تقولون يا معشر الأطباء : إن الأجسام
تتعرض لميكروبات الأمراض القليلة في الأحوال العادية تكتسب مناعة يقل فيها
تأثيرها بعد تعودها حتى إنها قد تكون واقية له من الإصابة بها في الحالة الوبائية
كما يستفيد الذي تلقحونه بقليل من مصل الجدري وغيره مناعة يأمن بها أن يصاب
بالثقيل منه ، وتقولون : إنه لو فرض أن رجلا نشأ في قلة جبل حيث الهواء النقي
الخالي من جميع ميكروبات الأمراض وأشعة الشمس الدائمة المانعة من التعفنات
والماء الزلال الجاري الذي لا تشوبه شائبة ثم ترك هذا المكان وخالط الناس في
المدن التي تكثر فيها الأمراض فإنه يكون أشد استعدادًا للعدوى من جميع من نشأ في
تلك المدينة .
قامت لي الحجة على هذا الطبيب لبنائها على أصول علمه فاعترف بها ،
وأقول مع هذه : إنه يمكن أن تجعل صفوف المصلين في المساجد منظمة بحيث
يكون موطئ الرجلين في الوقوف غير موضع الوجه للسجود ، وقد رأيت بلاط
بعض مساجد الهند صفوفًا مقسمة بالرخام الملون في كل صف منها ما يشبه سجادة
الصلاة لكل فرد من المصلين .
***
6- الزي الإفرنجي والصلاة :
وأما جعله لبس السراويلات الإفرنجية مما يصدُّ عن الصلاة فقد رأيت في
مصر من يعتذر عن ترك الصلاة بمثل ما ذكره الكاتب من اتقاء تجعيد كي سراويله
وهذا لا يقع من مسلم يدين بالإسلام ، وإنما هذه أعذار من نسميهم المسلمين
الجغرافيين ، وقد قال الدكتور سنوك الهولندي المستشرق الشهير إن أكثر الذين
يلبسون هذه الملابس الإفرنجية من المسلمين يتركون الصلاة أي وترك الصلاة
مقدمة لترك الإسلام ، بل هو منه عند بعض الأئمة كأحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ،
وأخبرني بعض نظار المدارس الأميرية أنه كان يأمر التلاميذ بالصلاة فامتنع
بعض أولاد الباشوات معتذرًا بأمر أبيه له بعدم الصلاة ؛ لئلا يتجعد أسخف سراويله
( بنطلونه ) فما هذا الوالد الزنديق الذي يحب أن يجعل ولده المخنث كأنه في زيه
الجميل مصبوب من قالب لا يتغير ولا يتبدل كأنه من شحنة مدرسة البوليس
المصري في الزي الذي اخترعه لهم الإنكليز ؛ لئلا يصلي أحد منهم .
***
7- محاسن الصلاة الإسلامية ومزاياها :
ألا إن الصلاة الإسلامية نفسها لأكمل عبادة شرعها الله لعباده المؤمنين على
ألسنة رسله عليهم السلام ، فهي جامعة لأعلى المناجاة الروحية لله تعالى ذكرًا ودعاءً
وخشوعًا وأدبًا ولأنفع الرياضة الجسدية بتحريك جميع الأعضاء في القيام والركوع
والسجود ولا سيما التورك في التشهد الأخير والسجود على رءوس الأصابع ،
وصلاة الجماعة مقتضية أفضل وسائل المساواة الاجتماعية بين الغني والفقير
والمأمور والأمير والرئيس والمرءوس بوقوفهم في صف واحد .
وقد نقل إلينا عن بعض علماء الإفرنج المستقلين الإعجاب بهذه الصلاة حتى
خصوم الإسلام منهم فقد قال الفليسوف رينان الفرنسي : إنني ما رأيت المسلمين في
مسجد يصلون جماعة إلا وتمنيت لو كنت مسلمًا أو قال : احتقرت نفسي لأنني غير
مسلم ، ولما طعن في الإسلام في خطاب له في السربون ذكره الفليسوف المنصف
غوستاف لوبون بقوله هذا فاعترف به .
وقد افتتح الكونت ( هنري دي كاستري ) كتابه ( الإسلام : خواطر وسوانح )
بمقدمة ذكر فيها ما رآه في سياحته في الشرق من صلاة المسلمين صلاة الجماعة
ووصف من إعجابه بها وتأثيرها في نفسه أنه احتقر نفسه تجاه جماعة من الفرسان
كان استخدمهم للسير في خدمته في صحاري حوران وكان يراهم في غاية الخضوع
والإجلال له وكانوا ثلاثين فارسًا من العرب يتقدمهم حَادٍ ينشدهم أناشيد أكثرها في
مدحه قال ما ترجمته بقلم المرحوم أحمد فتحي باشا زغلول :
( وبينما نحن سائرون على هذه الحالة ؛ إذ سكت الشاعر والتفت قائلاً
بصوت خشن : سيدي الآن وقت العصر ، هنالك ترجلت الفرسان واصطفوا لصلاة
العصر مع الجماعة ، وصلاة الجماعة مفضلة عند الله في اعتقاد المسلمين كما هي
كذلك عند المسيحيين ، أما أنا فقد ابتعدت عنهم ، وكنت أود أن لو انشقت الأرض
فابتلعتني ، وجعلت أشاهد البرانس العريضة تنثني وتنفرج بحركات المصلين
وأسمعهم يكررون بصوت مرتفع ( الله أكبر ، الله أكبر ) فكان هذا الاسم الإلهي
يأخذ من ذهني مأخذًا لم يوجده فيه درس الموحدين ، ومطالعة كتب المتكلمين ،
وكنت أشعر بحرج لست أجد لفظًا يعبر عنه سببه الحياء والانفعال ، أحس بأن
أولئك الفرسان الذين كانوا يتدانون أمامي قبل هذه اللحظة يشعرون في صلاتهم
بأنهم أرفع مني مقامًا وأعز نفسًا ، ولو أني أطعت نفسي لصحت فيهم ( أنا أيضًا
أعتقد بالله وأعرف الصلاة وكيف أعبد ) فما أجمل منظر أولئك القوم في نظامهم
لصلاتهم بملابسهم وجيادهم بجانبهم أرسأنها على الأرض وهي هادئة كأنها خاشعة
للصلاة ، تلك هي الخيل التي كان يحبها النبي صلى الله عليه وسلم حبًّا ذهب به
إلي أنه كان يمسح خياشيمها بطرف إزاره عملاً بوصية جبريل عليه السلام ، وكنت
أرى نفسي وحيدًا في عرض هذه الصحراء على ما أنا به من اللباس العسكري
الضيق الذي يبرم فيه الجسم الإنساني بغير احتشام تلوح عَلَيَّ سمات عدم الإيمان
في مكان هو مسقط رأس الديانات كأنني من الحجر أو من الكلاب أمام أولئك القوم
الذين يكررون إلى ربهم صلوات خاشعة تصدر عن قلوب ملئت صدقًا وإيمانًا .
( وبينما أنا كذلك إذ جال بخاطري ، ما رود في التوراة من أن الله يسكن
خيمة سام ويكثر من أولاد يافث ، وقد كان الفريقان مجتمعين في ذلك المكان ،
أولئك المصلون الذين هم من ولد سام معجبون بدينهم وعبادة ربهم ورب آبائهم الله
الذي دخل خيمة إبراهيم ، وأنا ابن يافث الذي يمتد ذكره بالحرب والفتوح ، ولما
انتهى بنا الطريق ورجعت إلى مكان راحتي جعلت أكتب ما علق بذهني من الأفكار
فأحسست أني منجذب بحلاوة الإسلام كأنها أول مرة شاهدت في الصحراء قومًا
يعبدون خالق الأكوان ، وذكرت خيام النصارى لا متعبد فيها غير النساء وأخذني
الغضب من كفر أبناء المغرب وقلة إيمانهم ) اهـ .
وقد رأيت جميع المصريين يسخرون من تقليد الترك الكماليين لصلاة
البروتستانت حتى ملاحدتهم وطلاب التجديد الذين يعبرون عنهم بالمصلين ، ولم أر
أحدًا استحسن ذلك منهم إلا إبراهيم بك الهلباوي المحامي المشهور وود أن يتبعهم فيه
جميع المسلمين ، وقال لي : إنه قد أفتى هو والأستاذ الشيخ عبد العزيز جاويش
خوجه كمال الدين الهندي الذي يدعو إلى الإسلام في إنكلترة بأن يقبل من نساء
الإنكليز المسلمات أن يتركن السجود على الأرض في صلاتهن ؛ لأن زيهن المحزق
( الضيق ) يضايقهن فيه فاكتفى منهم بما دون ذلك وسأسأل الأستاذ جاويش عن
حقيقة هذه المسألة .
***
8- رأي كُتَّاب الغرب والشرق في الانقلاب التركي :
نحن نوافق صديقنا الرافعي في أن أعداء الإسلام من ساسة أوربة
كالمستعمرين والمبشرين يشايعون الترك الكماليين ، ويحمدون عملهم ويسمونه
إصلاحًا ويرغبون فيه ، ولا غرو فإننا نرى ملاحدة المسلمين وزنادقتهم يفعلون
وينوهون به في الصحف ويسمون مصطفى كمال باشا المصلح المجدد ، فما بالك
بكُتَّاب النصارى من الملاحدة ومن المتعصبين لملتهم في الباطن ، فهؤلاء أشد نصرًا
للكماليين ونشرًا لمفاسدهم وترغيبًا لسائر المسلمين في اتباعهم حتى في لبس
البرانيط .
وأما أحرار أوربة وفلاسفتها فقد سخروا ولا يزالون يسخرون من إكراه
مصطفى كمال باشا للترك على لبس البرنيطة ، ومن محبي الترك أو دولتهم في
ألمانية من رثى لهم وحزن عليهم ، وصرَّح بأن القلبق التركي يفوق البرنيطة
الإفرنجية جمالاً ومهابة .
وانتقدوا تقليدهم لأوربة في قوانينها بترجمتها لتنفيذها في الشعب التركي
المباين للشعوب الأوربية في تاريخه وتربيته وعقائده وتقاليده وأخلاقه وعاداته ،
وهي الأسس التي تبنى عليها القوانين وتجب مراعاتها في وضعها ، ولا يرون لها
فائدة بدون ذلك ، ويسخرون ممن يظن أن القوانين تغير الشعب وتنشئه خلقًا جديدًا
سريعًا كما يحاول مصطفى كمال باشا .
وقد نشرنا من قبل ما قاله لورد كتشنر للسيد عبد الحميد الزهراوي في مصر
على مشهد ومسمع منا ، ونشرناه في حال حياتهما ونقلته عن المنار إحدى الصحف
الأوربية متعجبة من حرية اللورد كتشنر أو مستنكرة لقوله ، قال له : إن الغرض
من القوانين العدل وهي لا تفيد في الأمم إلا إذا كانت موافقة لأخلاقها وتقاليدها
وعندكم الشريعة الإسلامية شريعة عادلة وهي الموافقة لحال أمتكم فما بالكم تتركونها
وتحاولون العمل بقوانيننا التي لم تكن موافقة لحال أمتنا إلا بعد تنقيح عدة قرون .
***
9- حقيقة حال الشعب التركي :
يزعم الترك الكماليون تبعًا لزعيمهم أن الشعب التركي شعب عظيم راق لم
تعد تصلح له شريعة عتيقة كالشريعة الإسلامية ، ويتجرأ الوقحون المجاهرون
بالإلحاد منهم على ذم هذه الشريعة وذم الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي
جاء بها وذم قومه العرب في مقام الترفع عن صلاحيتها للشعب التركي العظيم ،
وقد نقل إلي وأنا في الآستانة أن أحد باشاواتهم قال : لو أعلم أن شعرة في جسمي
تؤمن بهذا العربي ( يعني خاتم النبيين وإمام المرسلين صلوات الله وسلامه عليه
وعلى آله ) لقلعتها مع ما حولها من جلد ولحم وألقيتها .
أنا لا أعرض هنا للرد على هؤلاء المغرورين ببيان فضل الشريعة الإسلامية
على البشر عامة وعلى الترك خاصة ، ولا بتحقير العرب بالمفاضلة بينهم وبين
الترك وذكر شهادة فلاسفة أوربة على ذلك ، بل أقول كلمة حق وجيزة في حقيقة
حال الشعب التركي ربما أعود إلى بسطها في مقال آخر ؛ إذ قد طال هذا المقال ،
وربما صار مملولاً بضمه إلى ما قبله في موضوعه العام ، وإن كان في الحقيقة عدة
مقالات مختلفة الموضوع .
الترك جيل حربي بالطبع ، موصوف بعزة النفس ، وشدة البأس ، وحب
الغلب والسيادة ، وهي صفات تعد أهلها لأن يكونوا من أرقى الشعوب لولا الموانع ،
وقد كان همجيًّا في حروبه قاسيًا في معاملاته ، مخربًا للعمران الذي يستولي عليه ،
فهذَّبه الإسلام بقدر استعداده للتهذيب فكان له بالإسلام دولة عزيزة ، ولكن الحرب
التي هي أقوى ملكاته لم تدع له وقتًا يصرفه إلى العلوم والفنون التي هي من لوازم
قوة الدولة وسعة سلطانها ، وكان من أعظم أسباب حرمانه من الحضارة العلمية
الفنية أن لغته كانت لغة همجية ضيقة لا مجال للعلوم والفنون فيها ، ولغرور الدولة
العثمانية بتركيتها لم تقتبس لغة الإسلام مع عقيدته وشريعته فتجعلها لغة الدولة
والعلم والفن بل حصرتها في المدارس الدينية والمشيخة الإسلامية بقدر الحاجة إليها
في فهم الشريعة على مذهب الحنفية التي اختارت تقليده .
وقد اقتبس الإفرنج من الحضارة الإسلامية علومها وفنونها بمخالطة العرب
في الأندلس وكذا في الشرق بسبب الحروب الصليبية ما لم يقتبس مثله الشعب
التركي لضعف استعداده وضيق لغته ، فولدت الحضارة الأوربية الحاضرة مما
اقتبسه أهلها من المدنية العربية الغابرة كما اعترف بذلك المستقلون من فلاسفتهم
ومؤرخيهم ، تلك المدنية العربية الزاهرة التي قضى عليها الترك بما مهَّد لهم بنو
عمهم التتار من التخريب والتدمير ، فكانوا مصداقًا لقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيما يعد من دلائل نبوته : ( اتركوا الترك ما تركوكم فإن أول من يسلب أمتي
ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء ) .
الترك هم الذين وقفوا حضارة العرب ومدنيتهم وحالوا دون استمرارها بل
أماتوها بسلب ملكهم ولم يستطيعوا هم أن يحلوا محلهم فيها ولا أن ينشئوا حضارة
جديدة ، وإنما استطاع ذلك الإفرنج ، فكانوا كلما تقدموا في العلوم والفنون إلى الأمام
يرجع الترك إلى الوراء ، حتى فقدوا تفوقهم العسكري في أوربة بجهلهم للفنون
العسكرية والصناعات الحربية التي استحدثها الإفرنج وعجزوا عن مضاهاتهم فيها
وعن اقتباسها منهم بل صاروا عيالاً عليهم ولا يزالون يبتاعون منهم الأسلحة
والبوارج الحربية فالطيارات الحديثة إلى اليوم ، ولولا تنازع دول أوربة الكبرى
على ممالكهم ولا سيما مركز القسطنطينية لزالت سلطنتهم منذ قرون أو قرنين ،
على أنهم ما زالوا ينقصونها من أطرافها حتى زالت بالحرب العالمية الأخيرة ولم
يبق لهم منها إلا عقرها في الأناضول وبعض الرومللي .
إن هذا الشعب على جهله الذي أضاع منه أعظم سلطنة ( إمبراطورية ) في
قلب العالم تولى أمرها بضعة قرون ولم يستطع أن يستخرج شيئًا من كنوز أرضها
الثمينة ، ولا أن يجني منها ثروة تُذْكَر ، ولا أن يترك فيها أثرًا عمرانيًّا يحمد ، لم
يفقد بهذا الخسران المبين والجهل الفاضح شيئًا من كبريائه وعنجهيته ودعوى
زعمائه أنه أرقى شعوب الأرض فلا يليق به الخضوع لأعدل الشرائع وأكمل
الأديان ( الإسلام ) ولا أن ينسب إلى الشرق المنحط ؛ لأنه مساو لأعظم دول
الغرب ، وإنما الواجب عليه أن يقلدها في أزيائها وسائر لبوسها وشر عادتها كإباحة
المسكر ورقص النساء والرجال وإباحة الكفر والفواحش ، ثم في قوانينها حتى
الشخصية منها ، بل زاد في عهد الكماليين كبرًا وخنزوانة بما أتيح له من الانتصار
على اليونان ، وما اليونان ؟ وما قيمة الانتصار عليهم ؟ لولا ما أتيح له من وراء
ذلك وهو اعتراف أوربة في معاهدة لوزان باستقلاله المطلق فيما بَقِيَ له من بلاده ،
وإنما كان سبب هذا الاعتراف تنازع دول الحلفاء في سياسة الشرق الأدنى بعد
الحرب ، حتى إن إيطالية وفرنسة ساعدتا الترك على حرب اليونان ، وقام الشعب
الإنكليزي ينكر على دولته التي كانت تساعد اليونان سياستها هذه لملله وسآمته من
رزايا الحرب ورغبته في الاستراحة من عقابيلها ، فأسقط وزارة جورج لويد
المعادي للترك المساعد لليونان وأكره خلفه على خلاف سياسته هذه .
هذا ما غر هؤلاء الترك الكماليين فحملهم على هذه الدعاوي العريضة وعلى
ما قاموا به مما يسمونه ويسميه الملاحدة المتفرنجون منا بالإصلاح والتجديد ، فأما ما
كان منها في الأزياء والعادات وإباحة الكفر والفسوق فكله إفساد للأرواح والأخلاق
والآداب التي لا يحيا شعب بدون حياتها وصلاحها ، وأما ما كان منها في ترقية
الزراعة والصناعة والنظام العسكري فإننا نعترف بأنه إصلاح لا بد منه ، والدين
الإسلامي يوجبه ويحث عليه .
وأما القوانين المنتزعة من دول أوربة فهي في جملتها مُفسدة للشعب التركي
غير مُصلحة ولا مُعينة على الإصلاح لما أشرنا إليه من آراء علمائها في سبب ذلك ،
وتقليد الترك لأوربة في قوانينها قديم ليس من مبتكرات مصطفى كمال باشا ، فهم
قد توجهوا إلى ذلك من عهد السلطان محمود الذي ولي السلطنة سنة 1222 وبدءوا
بالتنظيم العسكري والزي الأوربي ما عدا البرنيطة ، ثم جددوا ذلك بإعلان
التنظيمات الخيرية في أول عهد السلطان عبد المجيد الذي ولي سنة 1255 مما
قامت ثورة المتفرنجين في آخر مدة السلطان عبد العزيز الذي استعصى عليهم
بشجاعته وقوة إرادته ... ثم أعلنوا القانون الأساسي عقب تولية السلطان عبد الحميد
سنة 1293 أي منذ نصف قرن ، وهو على توقيفه له قد نشر باسمه عدة قوانين
مقتبسة من قوانين أوربة ( كما انتشرت المدارس الأوربية للمبشرين بالنصرانية
الأميرية المتفرنجة ) ولم تزدد العدالة بتلك القوانين والمدارس إلا ضعفًا ومرضًا ،
وما ذلك إلا لأنها تقليد صوري لأوربة سببه توهم المغرورين من الترك أنهم
يساوونها به وإن لم يكن أكثره موافقًا لحال شعبهم ، على أنهم لم ينفذوا شيئًا منه كما
يجب ، كما أنهم لم ينفذوا الشريعة ، بل كان مدار أحكامهم ومحاكمهم على الرشوة
التي تحاول حكومتهم استئصالها ؟ وأول ما فعلته في ذلك محاكمة وزير بحريتها
السابق وبعض كبراء رجالها على رشوة عظيمة في وزارة البحرية .
وجملة القول أن الترك قد دخلوا الآن في فتنة تجربة جديدة واسعة النطاق
شديدة الخطر يظن زعماؤهم من القواد الحربيين أنها منهم على طرف التمام ؛ لأن
العقيدة الغريزية فيهم أن القوة العسكرية تعمل كل شيء ، فلننتظر عاقبة هذه
التجربة بعد فشلهم في جميع التجارب الماضية ، فإنما العلم بها عند الله تعالى وإنما
نعرف نحن بعض أسباب الأمل والفشل .
فأما أسباب الأمل فهي محصورة في قوة إرادة الزعماء مع ضعف الشعب ،
وفي كثرة أعوانهم المتفقين معهم على خطتهم كما تقدم ، وفي تمكنهم من إبعاد القواد
والضباط ورجال الإدارة والقضاء المخالفين لها عن المعسكرات ودواوين الحكومة
بالقوة القاهرة ، وفي بناء كثير من أعمالهم العسكرية والاقتصادية على قواعد الفنون
العصرية .
***
وأما أسباب الفشل فالمعروف عندنا منها :
( 1 ) أن السواد الأعظم من الشعب الذي يدين الله تعالى بالإسلام تقليدًا
ووجدانًا لا يقبل الجدال ساخط على هذه الحكومة لشعوره بأنها تهدم دينه الذي هو
مناط أمله في سعادة الآخرة ، وكذا الدنيا ، فإن ما ناله من الملك والعظمة لم يكن إلا
بالإسلام .
( 2 ) ما أصيب به الشعب من الفقر والعوز وعجزه عن أداء ضرائب
الحكومة الكثيرة التي زادت سخطه عليها .
( 3 ) عجز الحكومة عن القيام بما تصدت له من الأعمال النافعة المنتجة
كسكك الحديد وغيرها بكثرة نفقاتها على التأسيسات العسكرية ومظاهر العظمة
المدنية على ما ذكرنا من فقر شعبها وإرهاقها إياه بما فوق طاقته ، وإحتكارها لأهم
ينابيع ثروته .
( 4 ) تربص كثير من كبار رجال العسكرية والإدارة بها الدوائر لإسقاطها
وإرضاء الشعب بحكومة ترضيه في دينه ودنياه .
( 5 ) غرور زعماء هذه الحكومة بقوتهم واستعجالهم في هدم دين هذا
الشعب العظيم وتقاليده ومجد سلفه ، وقد يكون مع المستعجل الزلل .
(29/464)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

جمادى الأولى - 1347هـ
نوفمبر - 1928م
الانقلاب المدني الديني في بلاد الأفغان

إننا منذ علمنا بأن أمير الأفغان ثم ملكها أمان الله خان يعتمد على بعض
المتفرنجين والملاحدة من ضباط الترك الاتحاديين ، ثم الكماليين في تدريب جيش
له وتعليمه أوجسنا في أنفسنا خيفة على هذا الشعب أن يفتنه في دينه هؤلاء الملاحدة ،
وأعظم هذه الخسارة على المسلمين وسائر الشرقيين .
وكنت أتمنى لو يتاح لي لقاء بعض كبار الأفغانيين الذين يترددون بين الشرق
والغرب في هذا البلد الوسط بين الخافقين لأكلمه فيما يجب على قومه وحكومته ،
وما ينبغي لهم وما يُخشى عليهم ، أقف على رأيه وأطلعه على رأيي في ذلك ،
وما زلت أرقب الفرص حتى علمت بأن أحد هؤلاء الرجال العاملين وصل إلى مصر
منصرفًا من بلاد الترك إلى بلاده وهو سلطان أحمد الذي كان سفيرًا للأفغان في
أنقرة فبادرت إلى زيارته في فندق ( ناسيونال ) وبعد الترحيب به بدأت حديثي معه
بذكر السيد جمال الدين الأفغاني وما له من الفضل في إيقاظ الشرق عامة والمسلمين
خاصة ، وتوجه عقولهم وهممهم إلى ما يجب عليهم من الإصلاح الديني والمدني
السياسي في هذا العصر قبل أن تقضي أوربة على ما بقي بأيدهم من سلطان وملك
وتَحُول بينهم وبين كل عمل ، ثم انتقلت إلى ذكر ما تجدد لنا من الرجاء في نهضة
الشعب الأفغاني الذي نخصه بمحبة زائدة لانتماء السيد جمال الدين إليه ونرى أنه
أولى بالانتفاع بآرائه ، وقاعدتها بناء الإصلاح المدني والسياسي على قواعد الدين
الإسلامي الذي هو أقوى مقومات الشعوب بجمعه بين الهداية والفضائل الروحية
السليمة من الخرافات المفسدة للبشر ، وبين طلب السيادة والملك والعمران من
الطرق العلمية والسنن والنواميس الاجتماعية .
وبينت له ههنا أن جماهير المسلمين صاروا يجهلون هذه القواعد فمنهم من
يتعصب للتقاليد الموروثة من القرون الأخيرة التي ضعُف فيها العلم والدين في الأمم
مؤيدًا بنصوص الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح لهما ، ومنه كراهتهم للعلوم
والفنون والنظم التي سادت بها حضارة العصر واعتزت دوله ، ومنهم من توجه إلى
طلب هذه الحضارة بتقليد أهلها في عاداتهم وأزيائهم وظواهر نظمهم وبعض
قوانينهم ، وإن كانت غير ملائمة لهم في مقومات أمتهم ومشخصاتها التي هي مأخذ
تلك القوانين ومستمدها ، وبذلك وقع التفرق بين شعوب المسلمين ، والانقسام
والتنازع بين أهل كل شعب وجد فيه هذان الفريقان كالترك والمصريين فأضاع كل
منهما ما أضاع من ملكه واستقلاله .
كل فريق من الفريقين اللذين يتألف منهما أكثر كل شعب من المسلمين
مخطئ في فهم معنى الإسلام الديني والمدني فهؤلاء يتوهمون أنه ينافي العلوم
والفنون التي عليها مدار الحضارة والقوة والثروة ، فصاروا يطلبون هذا بتركه حتى
انتهى ذلك بزعماء الترك الكماليين إلى تركه ، والحرمان من زعامة الشعوب
الإسلامية المالكة لمعظم رقبة الشرق الأدنى والأوسط ولهم سهم كبير في الشرق
الأقصى ، وأولئك يتوهمون وهمهم ولكنهم آثروا التقاليد الإسلامية بما أحدثوا فيها
من البدع الخرافية على الحضارة العصرية .
ولا يمكن الجمع بين الفريقين وتوحيد كل شعب إسلامي إلا بقاعدة السيد جمال
الدين الأفغاني في الإصلاح ، وهذه القاعدة قد تمكنت من عقلاء المسلمين الجامعين
بين الاستقلال العقلي في فهم الإسلام الصحيح الذي جاء به محمد صلى الله عليه
وسلم ، وبين معرفة حال هذا العصر ، وما تتوقف عليه السيادة والعزة للشعوب
وحكوماتها فيه ، ولكن هؤلاء العارفين بالأمرين متفرقون في كل قطر لما يصيروا
حزبًا واحدًا متعاونًا .
ومن حسن الحظ أن هذا التفرق والانقسام لم يتمكن من الشعب الأفغاني العزيز
فبناء الإصلاح فيه على أساس القواعد الجمالية الأفغانية أسهل من بنائه في قطر
إسلامي آخر ، وههنا ذكرت لمحدثي أحوج ما يحتاج إليه شعبهم الآن من الإصلاح
الدنيوي وهو ( 1 ) النظام المالي ( 2 ) تنمية موارد الثروة الوطنية من الزراعة
والصناعات واستخراج المعادن ( 3 ) تنظيم القوى العسكرية .
وقلت له : إن اقتباس الفنون التي يتوقف عليها ترقي الزراعة والصناعة
والعسكرية واجب شرعًا ، وليس فيه شيء يعارض تعاليم الإسلام ، فيجب عليكم
البدء بذلك ، واجتناب الفلسفة والقوانين الأوربية التي تصدم الدين فيعقبها تصادم
رجاله ورجال الحكومة وانقسام الأمة وتعاديها .
ثم قلت له : ولا يغرنكم تهور الترك الكماليين ، وما يظهر لكم ، ولكل من لا
يرى إلا ظواهر الأمور ومشارفها من نجاحهم في نبذ الإسلام ومعاداته ، فإن فرضنا
أن ظهارة أمرهم كبطانته وخوافيه كقوادمه ، وليس كذلك ، فلا يجوز أن ننسى
الفروق بين الشعبين الأفغاني والتركي في تاريخهما وحالتهما الحاضرة والفرق بين
زعمائهما ، وذكرته بشيء من هذه الفروق التي بينتها في مقال الجزء الماضي
الخاص بالترك .
ثم قلت له : إنكم وإن اجتنبتم ما ذكرت لا بد أن تلقوا معارضة من علماء
بلادكم من طريق الدين لما يغلب على أولئك العلماء من الجمود على التقليد لكتب
فقه المذهب الحنفي ، ولكن هذه المعارضة تكون ضعيفة وإقامة الحجة فيها على
العلماء هينة ، وترون من هذا العاجز ومن غير من علماء مصر وغيرها من يدلي
إلى حكومتكم بهذه الحجة التي لا يمكن لعلمائكم دحضها ، فإن لم تقبلوا هذه النصيحة
فسترون من الثورات والفتن التي يثيرها الفقهاء في شعبكم الشديد التعصب القوي
البأس ما فيه الخطر العظيم .
هذا أهم ما ذكرته لسلطان أحمد يتخلله بعض حديثه ، وقد أكون نقصته بعض
المسائل وزدت بعضها إيضاحًا ولو كتبته عقب لقائه لنصصته على غرّه ، وأذكر
من قوله أنه اعترف بتعصب أهل بلاده وشدتهم ، وبأنه لا يأمن هو على حياته منهم
بعد وصوله إليهم إذا صرَّح بما يراه ويعتقد ، ومنه أن الإصلاح الفني والمالي
والعسكري الذي قلت إنه يكفيهم الآن يستلزم الإصلاح التشريعي .
قلت له : إن الشريعة الإسلامية شريعة يسر وسماحة ، وهي تتسع لكل
إصلاح بشرط أن لا يلتزم مذهب واحد من مذاهب فقهائها ، وأنه لا يوجد فيها شيء
متفق عليه بين أئمتها يعارض حضارة العصر فيما هو من المنافع والمقاصد
الجوهرية إلا الربا الصريح الذي توسع فيه بعض الفقهاء بأقيستهم الزائدة على
نصوص الشارع ، وإن شعبكم غير مضطر في معاملاته إلى الربا ، وأما حكومتكم
فاقتراضها بالربا خطر على استقلالها ، فالواجب عليها أن تقتصر من العمران على
ما تسمح لها به ثروتها وأن يكون بالتدريج .
ثم إني رغبت إليه أن يعرض هذه الآراء على أميرهم بعد عودته ذاكرًا له
نصيحتنا له بالمحافظة على الإسلام وما فيه من القواعد المعنوية والسياسية ووقاية
الشعب من مفاسد الآراء العصرية الاجتماعية كالبلشفية والفوضوية والإباحية ،
وذكرت له أنني رأيت أثناء سياحتي في الهند سنة 1330 ( 1912 ) أن مسلميها
يحبون الأفغان ولهم فيهم آمال عظيمة ، وكان هذا قبل الاستقلال الصحيح الذي تم
بعد الحرب الكبرى ، وأن هذه الحب والأمل مما يجعل الدولة البريطانية تحرص
على مودة دولتهم ، وأن إعراضهم عن الإسلام يضيع عليهم كل هذا وما هو أعظم
منه ، وقلت : إنني مستعد لبيان كل ما يراه منتقدًا من كلامي فلم ينتقد شيئًا .
ثم وعدني سلطان أحمد أن يبلغ رأيي للملك أمان الله خان ولكنني شككت في
وعده ؛ لأنني رأيته لم يناقشني في شيء إلا ما ذكره مختصرًا من الحاجة إلى
التشريع الجديد ثم صار الشك ظنًّا قويًّا لما رأيته اكتفى من رد الزيارة لي بإعطاء
بطاقة الزيارة إلى بواب الدار وهو راكب .
***
محادثة غلام جيلاني سفير
الأفغان في أنقرة
غلام جيلاني خان هذا ركن من أركان الاتفاق بين الترك والأفغان باتباع
هؤلاء لخطوات أولئك بأن يكونوا تلاميذ لهم وعالة عليهم في تنظيم جندهم
وحكومتهم وإنشاء شعبهم إنشاء أوربيًّا جديدًا ، وقد تيسر لي الاجتماع به مرارًا في
الحجاز ؛ إذ جاءها مندوبًا عن حكومته لحضور المؤتمر الإسلامي العام في موسم
الحج سنة 1344 وقد جاء هو والمندوب التركي متأخرين عن موعد عقد المؤتمر ،
وكان المقدر أن يختم المؤتمر قبل يوم عرفة ، ولكن كثرة المجادلات التي أثارها
مندوبو جمعية الخلافة من مسلمي الهند اقتضى تأخير بعض جلساته الختامية إلى ما
بعد انتهاء الحج ، وبذلك أدرك مندوبو الترك والأفغان هذه الجلسات .
لقيته أول مرة في أصبوحة يوم عرفة ؛ إذ اتفق أن بتنا ليلتها في خيام لجنة
الأطباء الصحية ؛ لأننا وصلنا إلى عرفات ليلاً ، ولم نهتد إلى خيام ضيافة الملك
التي أعدت لأعضاء المؤتمر ، وإنما هدانا إلى خيام اللجنة الصحية مصابيحها
العالية القوية النور ، بات كل منا في خيمة وفي الصباح أخبروني بأن سفير الأفغان
عندهم فذهبت إلى زيارته ، وأحضروا لنا الفطور إلى خيمته ، وجلسنا جلسة طويلة
ذكرت له فيها ما في نفسي من أمر دولتهم على النحو الذي ذكرته لسلطان أحمد
بمصر ، فوافقني على كل ما قلته وطمأن من قلقي وأمن من فَرَقِي بقوله : إن جلالة
ملكهم معتصم بالإسلام حريص على المحافظة عليه إلخ .
***
السعي لدى جلالة ملك
الأفغان ورجاله بمصر
لما زار جلالة أمان الله خان مصر في أول شتاء العام الماضي قابلته مع
إخواني أعضاء مجلس الرابطة الشرقية وقدمت له بعض مؤلفاتي ومؤلفات الأستاذ
الإمام فقبلها مع الشكر ، ثم رغبت إلى زميلي في المؤتمر الإسلامي العام غلام
جيلان خان سفيره لدى الجمهورية التركية - وكان في بطانته - أن يأخذ لي موعدًا
بمقابلة خاصة لأعرض فيها على جلالته رأيي ورأي حزبنا الجمالي الأفغاني في
الإصلاح الذي تحتاج إليه الشعوب الإسلامية في هذا العصر كما حدثته في الحجاز
ولأقدم له تفسيري للقرآن الحكيم الذي يتضمن أقوى الحجج لهذا الإصلاح الديني
المدني السياسي ؛ ليطلع عليه كبار علمائهم عسى أن يخفف من جمودهم فوعدني
بذلك مظهرًا للسرور والارتياح فأعطيته أجزاء التفسير مجلدة تجليدًا حسنًا فما زالت
عنده وما زال يمطلني في أخذ الإذن بالزيارة إلى يوم موعد سفر الملك ، فلما علمت
بموعد سفره عجلت بكتابة كتاب إلى جلالته ، اختصرت فيه ما كنت أريد بسطه له
بالمشافهة ، وهذا نصه :
***
نص كتابي لملك الأفغان
بسم الله الرحمن الرحيم
من داعية الإصلاح الإسلامي محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار .
إلى صاحب الجلالة أمان الله خان الملك الأول للأفغان ، والمجدِّد فيها لمجد
الإسلام ، وفقه الله تعالى لما يحبه ويرضاه .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما بعد فإنني عشقت الشعب الأفغاني منذ
نشأتي العلمية بالتبع لعشق المصلح الأكبر حكيم الإسلام وموقظ الشرق السيد جمال
الدين الحسيني الأفغاني - قدس الله روحه - فقد كنت داعية له في حياته وكنت
( وقتئذ ) تلميذًا ، ثم اتصلت بخليفته وأعظم مريديه الأستاذ الشيخ محمد عبده
مفتي الديار المصرية - قدس الله روحه - وعملت معه بضع سنين ، وما زلت قائمًا
بعده بالدعوة إلى الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي الذي دعيا إليه وجاهدا في
سبيله كما تشهد لي بذلك ترجمتي لهما في تاريخ مستقل وتسعة مجلدات من التفسير
ألفتها على مشربهما وثمانية وعشرون مجلدًا من المنار .
لهذا أعد نفسي من أشد الناس غبطة بقيام جلالتكم بالنهضة الجديدة بالشعب
الأفغاني بعد أن تم له استقلاله المطلق في عهدكم السعيد ، ثم من أعظم ساكني مصر
ابتهاجًا برحلتكم هذه إلى أهم بلاد الشرق والغرب بقصد الاختبار لأحوال الممالك
والأمم لتكونوا على بصيرة تامة في إدارة أمر بلادكم وما تحتاج إليه من الإصلاح
مع اتقاء مداحض الزلل الذي يكون شديد الخطر عند الانقلاب .
فبهذا القصد الذي أرشد إليه القرآن يُرْجَى أن تكون رحلتكم عظيمة الفائدة ،
وكم من ملك وأمير ساح في الأقطار بغير نية صالحة فازداد غرورًا وفسادًا .
وإنني على عظيم رجائي في نجاحكم ودعائي بتوفيق الله لكم ووقايتكم من
ضرر فصل الشتاء الشديد الوطأة في الشمال شديد الخوف والإشفاق من سريان
عدوى الأفكار المادية إلى بلادكم فتحدث فيها ما أحدثت في غيرها من الشقاق
الداخلي واضطراب الأفكار وفساد الآداب والإسراف في الشهوات وما يقتضيها من
سقوط قوة الأمة المعنوية ، التي لا تغني غناءها القوة المادية ، بل لا بد لها منهما
كليهما .
ولذلك يعجب عقلاء أوربة وكبار فلاسفتها من ظن مصطفى كمال باشا أنه
يخلق الترك خلقًا جديدًا بإدخال قوانين أوربة فيها ، مع أن علماء الاجتماع وعلماء
الحقوق العامة متفقون على أن القانون يجب أن يكون مستنبطًا من روح الأمة
وطباعها وعقائدها وآدابها وتقاليدها ، وأن الأمة سليلة التاريخ لا سليلة القانون .
وكانت نفسي تحدثني منذ ثلاث سنين بكتابة تقرير مطول أودعه دحض
الشبهات التي أدخلها الإفرنج بسوء نية في قلوب كثير من الجاهلين بحقيقة الإسلام
من أن الإسلام نفسه هو سبب الضعف والجهل اللذين ألما بالشعوب والدول
الإسلامية بعد أن كانوا بالإسلام نفسه سادة العالم علمًا وحضارة وقوة ، وبيان فوائد
الدين المطلق في كل أمة ، وهي التي تحمل الأوربيين على بذل الملايين الكثيرة في
سبيل تعزيز دينهم والدعوة إليه ونشره في العالم ، وبيان ما تحتاج بلادكم وأمثالها
إلى اقتباسه من علوم أوربة وفنونها وصناعتها ، وما هي في غنًى عنه الآن ، وما
هو خطر على مقوماتها ومشخصاتها التي كانت بها أمة ممتازة عن أمم الغرب في
دين ولغة وتشريع وأخلاق وعادات أيضًا لأقدم هذا التقرير لجلالتكم .
ولكنني كنت على حد المثل العربي ( كمن يقدم رِجلاً ويؤخر أخرى ) لأنني
لم أكن واثقًا بأنني أستطيع أن أوصل إلى جلالتكم ما أكتبه وأن يترجم لكم ترجمة
صحيحة وتطلعون عليه .
أما وقد تشرفت بمعرفتكم الآن وقدمت إليكم بعض كتبي الصغيرة المشتملة
على أهم مقاصد الدين الإسلامي وإصلاحه للبشر فتناولتموها بيديكم الكريمتين ،
فإنني أرجو أن يكون قد مهد لي لأن أوصل إليكم مرة بعد أخرى ما وصلت إليه من
المعلومات مدة اشتغالي بالدعاية إلى الإصلاح الذي يقتضيه حال هذا العصر .
وإنني أرجو أن يُتَرْجَم لجلالتكم قبل كل شيء ( خلاصة السيرة المحمدية )
لأنه على اختصاره جامع لأهم قواعد الإسلام وحجته الكبرى ومزاياه على سائر
الأديان بالأسلوب المقبول لدى عقلاء هذا العصر .
ثم أرجو أن يُتَرْجم لجلالتكم مقدم كتاب ( الخلافة أو الإمامة العظمى ) ثم ما
تختارون للترجمة منه بعد النظر في فهرسه وإن لم يترجم كله ، ثم أن يترجم لكم
مقدمة كتاب ( الوحدة الإسلامية ) ثم ما شئتم من فصوله ثم رسالة التوحيد لشيخنا
الأستاذ الإمام ولم يؤلف مثلها في الإسلام .
وهنا ذكرت له إهداء مجلدات تفسير القرآن الحكيم التي أرجعها إليَّ غلام
الجيلاني ، ثم قلت :
أيها الملك الحازم
إنك قائم بأمر عظيم يتوقف النجاح فيه على علم بأمور كثيرة ، ولا سيما عبر
تواريخ الأمم وتاريخ الإسلام وشعوبه خاصة ويحتاج إلى بصيرة نافذة في سنن الله
في الأمم يعين عليها علم الاجتماع ، وأول ما يجب عليكم وعلى رجالكم الاعتبار به
وإطالة التفكير في أطواره تاريخ الدولة العثمانية الحديث وتاريخ مصر الحديث ،
وأعني بالتاريخ الحديث ما كان منذ مائة سنة ونيف أي منذ شرعت حكوماتهما تقلد
الدول الأوربية على غير بصيرة ولا هدًى فكان هذا التقليد سببًا في ضد ما أريد به
من قوة وثروة واستقلال ؛ إذ كان سببًا لانحلال ( الإمبراطورية العثمانية ) الواسعة ،
وسببًا في احتلال الإنكليز لمصر .
ومما يجب التفكير فيها ما بين شعبكم الأفغاني وبين الشعبين التركي
والمصري من الفروق ، وأهمها أن كلا منهما قد ذللته حكومته بالتجنيد النظامي أو
بحكم القهر والشدة فصارت قادرة على التحكم فيه كيف شاءت ، وشعبكم لم يذلل
كذلك ، وإن الأفكار والتقاليد الأوربية قد دخلت فيهما بالتدريج في مدة قرن أو أكثر ،
ومع هذا كان ضررها أكبر من نفعها في كل من الأمة والدولة لعدم الجمع بينها
وبين التربية الإسلامية وعدم الاقتصار على ما تحتاج إليه الأمة والدولة كالنظام
المالي والنظام العسكري وفنون الثروة من صناعة وتجارة وزراعة إلخ .
وجملة القول أن نهوضكم بقلب أحوال الشعب الأفغاني يحتاج إلى حكمة دقيقة
وعلوم واسعة وثروة عظيمة وتدريج بطيء في كثير من الأمور ، وإنما يجب
التعجيل بما ذكرنا آنفًا في بيان خطأ الترك والمصريين ( وهو النظام المالي إلخ ) ،
ويجب الحذر التام من حرية الإسراف والفسق والترف وتبرج النساء ومن القوانين
المخالفة لعقائد الأمة وشريعتها الثابتة بالنصوص القطعية - ولا يضر مخالفة بعض
الفقهاء في الأمور الاجتهادية كما بيناه في كتبنا التي معكم- ومن الفلسفة المادية التي
تفضي قطعًا إلى فوضى الأفكار وقبولها للبلشفية وأمثالها وإلى الفتن الكثيرة فإنه لا
واقي للأمة منها إلا الدين القويم ، وهذا العاجز مستعد لكل خدمة علمية تحتاجون
إليه للتوفيق بين الحضارة العصرية والدين ، والله يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم .
الإمضاء ، وكتب في 10 رجب سنة 1346 ( 3 يناير سنة 1928 )
ودعت جلالة الملك أمان الله عند سفره مع المودعين في محطة مصر ،
وأعطيت هذا الكتاب لسعادة سفيره غلام جيلاني ورجوته أن يعطيه إياه في المحطة
فوعد بذلك .
وقد لقيت في المحطة صاحب الدولة وزير خارجية حكومة الملك ، وهو حموه
والد الملكة ثريا التي ولدت له في دمشق من زوج سورية ، وكل منهما يعرف
العربية كالمتعلمين من السوريين والسوريات ) فودعته وأظهر كل منا الأسف لعدم
التلاقي بمصر ، وذكرت له كتابي للملك ورجوته منه أن يترجمه لجلالته ، ثم كتبت
إليه الكتاب الآتي ، وأرسلته إليه وهو في الإسكندرية قبل سفرهم منها وهذا نصه :
***
كتابي إلى وزير خارجية الأفغان
بسم الله الرحمن الرحيم
من داعية الإصلاح الإسلامي محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار بمصر .
إلى صاحب الدولة محمود الطرزي خان ، وزير خارجية الأفغان ، كان الله له
ولنا حيث كنا وكان .
أحييك تحية مباركة طيبة ، وقد كنت حريصًا على لقائك والتحدث معك في
النهضة الأفغانية لما سمعت من صديقي السياسي الكبير الأمير شكيب أرسلان
الشهير من الثناء عليك [1] فلم يقدر الله لنا ذلك فكتبت بعض رأيي بالاختصار
لجلالة الملك أمان الله خان ، وأعطيت الكتاب لسعادة سفيركم غلام جيلاني عند
الوداع كما أخبرتكم في المحطة راجيًا من دولتكم ترجمته لجلالته ، وإنه لأحوج إلى
سماع النصيحة منه إلى سماع مدح التملق والملاطفة ، وإن كان حقًّا ، فمجال مدح
جلالته ذو سعة .
وعسى أن تترجموا له ما أشرت إليه من مسائل كتبي التي أهديتها إلى جلالته ،
ولا سيما كتاب الخلافة بعد أن تطلعوا عليه وكنت عازمًا على إهداء دولتكم نسخًا
أخرى لو لقيتكم .
أيها الوزير الكبير ، لا أكتم عنك أنني في أشد الخوف على مستقبل الأفغان
مما أراه من محاولة الطفرة في نهضة جلالته بها حاذيا حذو الترك الكماليين ، كما
أعتقد أن التجربة الجديدة التي شرع فيها مصطفى كمال ستكون أخسر من كل
تجربة جديدة اغتر بها الترك من قبل ، وأرى جميع العقلاء المحنكين منا ومن
الإفرنج يعتقدون هذا .
فالترك يقلدون أوربة منذ قرن أو أكثر ولم يستطيعوا إلى الآن صنع أسلحة
يستغنون بها من شراء الأسلحة منها فضلاً عن البوارج الحربية بأنواعها والطيارات
والدبابات ولا أقول اختراعها .
وكانوا من عهد السلطان محمود إلى عهد مصطفى كمال كلما قلدوا أوربة في
شيء يتيهون كعادتهم عجبًا ، ويظنون أنهم يفوقونها عظمة وبأسًا ، جاهلين أن مثلهم
كمثل من يحاول إلباس الضخم الجثة ثوب النحيف ، ومن يضع الحمل الثقيل على
البعير الضعيف ، فتقليدكم إياهم على خيبة مساعيهم وما بينكم وبينهم من الفروق
التي جعلتكم أبعد عن الاستعداد منهم هو خطر على الأمة والدولة وعلى البيت المالك
أيضًا .
فانصحوا لجلالته بأن لا يغتر بالظواهر في مصر ولا في الترك فمصر لولا
إسراف إسماعيل باشا في التفرنج والمال لاستطاعت أن تملك شطر أفريقية الشرقي
كله ، والترك لو ساروا على بصيرة كاليابان لاتسعت سلطنتهم في الشرق والغرب ،
ولظلت كما كانت قبل نهضة أوربة أقوى دول الأرض ، ولكنها زالت فلم يبق منها
إلا إمارة أقل عددًا وثروة من مصر التي كانت إحدى ولاياتها .
فإن كنتم لا توافقونني على رأيي هذا فأخبروني بشبهتكم لأكشفها لكم بكتابة
طويلة مفصلة ، وإلا فاحفظوا قولي هذا وأحفظه أنا إلى أن يصدقه الزمان أو يكذبه ،
بل إذا ظللتم على ما يظهر لنا من تقليدكم للترك وتهوكتم فيه ، فأنا أنشر هذه
النصائح في المنار وأزيد عليها ؛ ليعتبر بها من بعدنا إذا لم تظهر العاقبة في زماننا .
ولولا أنني أعتقد أن هذه النصيحة فرض عليَّ يعاقبني الله على تركه وأنها -
على ذلك - وفاء دين علينا لأستاذ نهضتنا الأكبر السيد جمال الدين الأفغاني ( أحسن
الله ثوابه ) يجب علينا بعده لوطنه وملك وطنه - لما كلفت نفسي أن أقابل ضيف
بلادنا العزيز بما قد يَمْتَعِض منه ولو على سبيل الاحتمال ، بل أرجو أن يقابله
بالقبول والاعتبار .
وجملة القول أن الأمم بأخلاقها ووراثتها ، ثم بما تتربى عليه بالتدريج جيلاً
بعد جيل ( والعاقبة للمتقين ) فنسأله تعالى لنا ولأولياء أمورنا أن يجعلنا منهم آمين .
والسلام عليكم أولاً وآخرًا .
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
هذا مجمل سعيي لدرء الخطر عن الأفغان ، وقد وقع ما توقعته فجلالة أمان
الله خان قد شد أواخي الإخاء بينه وبين فخامة مصطفى كمال باشا في أنقرة وتعاهدا
على ما يسميانه التجديد اللاديني من كل وجه ، ولا أملك حرية لنقد أخبار تلك
الرحلة ، ونتيجتها أنه لما عاد الملك إلى بلاده كان أول شيء دعا إليه قومه هو حلق
ذقونهم وإلقاء عمائمهم ونزع ملابسهم الوطنية والتزيي بالزي الإفرنجي من البرنيطة
إلى الحذاء وترك النساء للحجاب إلخ ، على ما نعلم من تعصبهم لتقاليدهم الدينية
والقومية وفقرهم ، وقد نصب الملك نفسه ورجال حكومته قدوة للرجال في ذلك
والملكة ثريا نفسها قدوة للنساء فصارت تحضر المجامع العامة حاسرة سافرة وتودع
التلاميذ الكبار عند سفرهم إلى أوربة والأناضول بتقبيلهم ، ثم طفق يرسل ثُلَّة بعد
ثُلَّة من صغار الغلمان والبنات إلى أنقرة ليتولى الكماليون تربيتهم وتعليمهم
وإعدادهم للقيام بما يفعله الترك في بلادهم من التجديد ، وقد بلغني من ثقةٍ كان في
أنقرة أن هؤلاء الصغار ولا سيما البنات يعهد بتربيتهن إلى من هنالك من الأسر
الأوربية دون التركية لعلمهم بأن أكثر نساء الترك معتصمات بالإسلام فيخشى أن
يربين البنات عليه .
وقد أظهر الشعب الأفغاني وزعماؤه معارضتهم للملك في مطالبه هذه فحاول
مقاومتهم بالقوة ووردت الأنباء بأنه قتل بعضهم ونفى بعضًا ، فاشتعلت نار الثورة
في البلاد ، وهذا ما كنا نعتقده وحذرناهم منه ( فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد )
فلم يبالوا بنصحنا .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كنت سمعت هذا الثناء من الأمير شكيب في أوربة منذ بضع سنين ولكنني بعد كتابة هذا الكتاب أخبرت الأمير به ، وبكتابي إلى الملك ورغبت إليه في تأييد قولي عندهما إذا لقيهما في أوربة ، فكتب إليَّ أن أمله قد خاب في الوزير الطرزي ولن يسعى للقائه .
(29/549)
 
جمادى الآخرة - 1347هـ
ديسمبر - 1928م
الكاتب : محمد رشيد رضا

مجلة الرابطة الشرقية
ودعاية التجديد الإلحادية واللادينية ودعاته

نشرت جمعية الرابطة الشرقية في 17 صفر في هذا العام ( إعلانًا ) للمجلة
التي قررت إنشاءها نشرناه لها في الجزء الخامس من المنار الذي صدر في سلخ
ربيع الأول ، وإذا كان آخر كلمة في الإعلان أن لجنة المجلة هي : ( الرئيس السيد
عبد الحميد البكري مدير المجلة : أحمد شفيق باشا المشرف على التحرير ، الأستاذ
علي عبد الرازق ) قَفَّيْنَا عليه بقولنا :
( نحمد الله أن آن إصدار هذه المجلة التي قررنا إصدارها من أول العهد
بإنشاء الجمعية ( وفي الأصل المجلة وهو غلط بالطبع ) ولكن نخشى أن يظهر فيها
شيء من شذوذ المراقب الذي يسوء جميع المسلمين كدفاعه عن الترك ، وثنائه على
خطة حكومتهم في نبذ الإسلام وراء ظهورهم ، ومحاولة إزالة كل أثر له في شعبهم ،
ولكن الرجاء في سماحة الرئيس وسعادة الوكيل أن يحولا دون ذلك فالمراقب لا بد
له من مراقبة ) اهـ .
نشرنا هذا التنبيه والتحذير راجين أن يكون حائلاً دون ما نخشى ونحذر على
مجلة جمعيتنا من تأييد الدعاية الإلحادية الجديدة التي قد توجب علينا أن نؤذن مجلة
جمعيتنا بالحرب ( كما حذرنا الأفغان ووزيره الأكبر من تقليد الترك الكماليين في
حكومتهم اللادينية وأنذرنا الوزير سوء عاقبة هذا التقليد في بلادهم لئلا نضطر إلى
عدائهم ، ونحن نحب أن نكون من أنصارهم ، كما يجب علينا لكل شعب إسلامي ولا
سيما قوم أستاذنا الأكبر في السياسة الإسلامية والشرقية السيد جمال الدين الأفغاني
رحمه الله تعالى ) ويسوءنا أن وقع ما كنا نتوقع في مجلتنا وفي شعب أستاذنا .
صدر العدد الأول من مجلة الرابطة الشرقية ، فإذا هي مجلة لا دينية تؤيد ما
يسميه ملاحدة هذا العصر بالتجديد اللاديني وتحرير المرأة المسلمة ، وتدافع عن
الترك والفرس والأفغان فيما يحاولونه من تجديد يهدم الإسلام ، على احتراس قليل
في التعبير هو أقرب إلى الدفاع عن مصطفى كمال و أمان الله خان منه إلى الهجوم
عليهما ، وينبئ عن الخشية عليهما من الفشل لا عن تمنيه لهما ، وإذا بنا نرى فيه
مقالة للدكتور طه حسين الذي اشتهر بالطعن في الإسلام وتكذيب القرآن ( العظيم
المجيد الكريم الحكيم ) وخلاصة لبحثه الجهلي السخيف في ضمير الغائب واستعماله ،
اسم إشارة في القرآن الكريم ، ومقالة أخرى لأستاذه الدكتور منصور فهمي داعية
التجديد من ناحية الفلسفة في باب خاص به عنوانه ( صفحات شرقية ) ومقالة
للأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق شقيق الأستاذ علي عبد الرازق رئيس تحرير
المجلة ، فإذا كان هذان الأستاذان يساعدان المجلة في تحريرها ؛ لأنهما عضوان في
مجلس إدارتها ، فما بال الدكتور طه حسين ، وما الذي وضع اسمه في العدد الأول
في مقالين اثنين على اشتهاره بين مسلمي مصر وغيرها بالطعن في الإسلام ؟
بعد صدور هذا العدد بأيام جاءني كتاب من بعض أهل العلم الإسلامي الداعي
إلى الإصلاح يقول فيه ما معناه : إن أهل الغيرة الإسلامية المحبين للمنار وصاحبه
المحسنين للظن به ينتظرون أن ينشر في الجرائد اليومية أنه خرج من جمعية
الرابطة الشرقية وتبرأ منها بعد أن ظهرت خطتها اللادينية في مجلتها ، ثم تكلم
معي بعض أعضائها في وجوب تلافي هذا الأمر وتداركه .
ثم ظهر العدد الثاني من المجلة فإذا هو أصرح من العدد الأول فيما ذكر ،
وإذا بنا نرى من محرريه الدكتور طه حسين الذي تعبر عنه المجلة بكلمة ( صديقنا )
وأستاذه وسلامة موسى عدو الأديان كافة والإسلام خاصة ، وعدو الآداب والفضائل
الروحية ، وعدو الرابطة الشرقية من وطنية وجنسية ولغوية ، وداعية الكفر والوقاحة
والتهتك اللذين يعبر عنهما بالأدب المكشوف ، ويرجحه على ضده من الصيانة
والحياء الذي يسميه الأدب المستور ، والدكتور هيكل بك رئيس تحرير جريدة
السياسة داعية الثقافة اللادينية ، والأستاذ أحمد أمين أحد أركانها ، فمن ذا الذي جعل
هذه المجلة ميدانًا لسباق أشهر فرسان الإلحادية وجعلها لسان حالهم ومقالهم ؟
وإذا بنا نرى من موضوعات هذا العدد مقالة وجيزة عنوانها ( البرنيطة في
بلاد الشرق ) بدأها الكاتب ولعله المشرف على تحريرها بقوله : ( من غريب
المصادفات أن يتفق زعماء النهضة في بلاد الإسلام : تركيا وفارس وأفغانستان
على إلزام أممهم قهرًا بلبس البرنيطة رغم العقيدة الفاشية في تلك الأمم عن البرنيطة
من أنها شعار نصراني خاص لا يرضى به إلا مسلم خارج عن دينه ) إلخ .
ثم قال في أواخرها : ( الحق أننا لا نزال عند رأينا في أمر البرنيطة من أنها
أهون شأنًا من أن يختلف فيها اثنان ، أو ينتطح فيها عنزان ، وخطأ الدعاة إليها
والمعارضين لها في تعظيم أمرها ) .
***
تنويه مجلة الرابطة الشرقية
بإلحاد الكماليين
وإذا بنا نرى من موضوعاته مقالة أخرى في تعظيم شأن النهضة التركية في
المعارف وغيرها ، ولا سيما نشر التعليم العام بالحروف اللاتينية الناسخة للحروف
العربية ، وزعم الكاتب أن هذا الانقلاب العلمي الأخير في تركيا ليس له نظير في
تاريخ البشر ؛ لأنه جعل المدن والقرى في جميع المملكة مدرسة كبرى ( غرف
فُصُلوها الأندية والمقاهي والمساجد ... ) ثم نَوَّهَ بعظمة الغازي مصطفى كمال الذي
هو الأستاذ الأكبر لهذه المدرسة العامة الشاملة لجميع أفراد الأمة التركية !
أيظن الكاتب الذي جُنَّ في الدعاية الكمالية فعظم ما ليس بعظيم ، أن الناس
كلهم مجانين يأخذون هذا التنويه الجنوني بالتسليم ، بعيشك أيها القارئ ألم يكن
صاحب المنار فيما توقعه من مصطفى كمال وأمان الله خان ثم من الرابطة الشرقية
غيدرًا [1] وداعيًا إلى الرشد لِمَ لَمْ يزدهم دعاؤه إلا فرارًا ؟
***
خداع طه حسين للأزهريين
بترك الدنيا للملحدين
وإذا بنا نرى من موضوعاته مقالة للدكتور طه حسين حاول فيها إقناع الأستاذ
الأكبر شيخ الجامع الأزهر بأن يجعل التعليم فيه وفي سائر المعاهد الدينية موجهًا
إلى الدعوة والإرشاد دون القضاء الشرعي والتعليم في المدارس وغير ذلك من
أعمال الحكومة والمصالح الدنيوية اللادينية تبعًا لمذهب التجديد القاضي بفصل أمر
الدين عن أمور الدنيا خلافًا للإسلام .
ونرى من المناسب أن ننتقل على سبيل الاستطراد من سرد المباحث التي
تسمى التجديدية ، وكتابها في مجلة الرابطة الشرقية ، إلى ذكر شيء جديد في مقال
الدكتور طه حسين ، وهو أنه يذكر الله تعالى في هذه المقالة ويسمي الإسلام دين الله
والقرآن كلام الله ، فقد قال في آخر هذه المقالة :
( ألا إن سبيل الأزهر إلى الخير واضحة إن أراد أن يسعى إلى الخير حقًّا
فليخرج لنا وعاظًا مرشدين خليقين بهذا اللقب ، وليخرج لنا دعاة إلى دين الله وذادة
عنه وحماة له ، وليدع الدنيا وأعراضها للذين تعنيهم أعراض هذه الحياة الدنيا ، فقد
صدق الله تعالى حين قال : ] وَاضْرِبْ لَهُم [2{ مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ
السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ } ( الكهف : 45 )
فليدع الأزهر هذا الهشيم الذي تذوره الرياح ، وليدع الأزهر هذا الزبد الذي يذهب
جفاء ) .
ونقول : الظاهر أن هذا التصريح الجديد في هذه المقالة يقصد به التأثير
وإقناع شيخ الأزهر ورجال الإصلاح بهذه النصيحة الخادعة وإيهامهم أنها مقتضى
كلام الله تعالى ، وشيخ الأزهر وعلماء الأزهر يعلمون أن الإسلام جمع لأهله بين
مصالح الدنيا والآخرة ، وأن هذا المثل الذي ذكرهم به الدكتور ليس معارضًا لقوله
تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } ( البقرة : 29 ) وقوله : { قُلْ
مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي
الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ } ( الأعراف : 32 ) وأمثال ذلك من الآيات التي
ترشد المسلمين إلى جميع الكائنات ، والآيات التي وعدهم الله بها بأن يجعلهم خلفاء
الأرض ويمكن لهم فيها السلطان والمجد وإنما ذلك مثل لتصغير متاع الحياة الدنيا
بالنسبة إلى سعادة الآخرة ؛ لئلا يشغلهم الغرض الأدنى عن الغرض الأعلى ، وقد
أرشدهم إلى الجمع بينهما ، وعلمهم أن يدعوه بقوله : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً } ( البقرة : 201 ) ومن المعلوم من تاريخ الإسلام بالضرورة ،
ومن تعاليمه بالنصوص المتفق عليها بين الأئمة أن خلفاء المسلمين وقضاتهم
وحكامهم يجب أن يكونوا من أعلم علمائهم المستقلين ، ومن أشدهم إقامة للعدل
واعتصامًا بعدالة الدين ، وهم يحفظون من كلام سلفهم : الدنيا مزرعة الآخرة ، وقد
بيَّنا هذا بالتفصيل في مواضع من التفسير والمنار فلا محل لبسطه هنا .
وقد غالط الدكتور طه حسين الأزهريين فيما ضربه لهم من الأمثال الدنيوية
كهذا المثل الديني ؛ إذ ذكر لهم المدارس الدينية لدعاة النصرانية ، وهذا حجة عليه
فإن هذه المدارس تلقن طلابها جميع علوم الدنيا ، ودعاة النصرانية المتخرجون فيها
منهم الأطباء وأساتذة العلوم والفنون الرياضية والطبيعة وغيرها ، فلماذا يحاول
إقناع متخرجي الأزهر وسائر المعاهد الدينية ، بترك تعليم المدارس المدنية
والقضائية وغير ذلك من مصالح الدنيا لكليات جامعته المصرية المدنية ، والرضى
بأن تكون سيادة الدنيا ومجدها وقفًا على الملحدين ، ولماذا تنشر لهم مجلة الرابطة
الشرقية هذا الغش والخداع للمسلمين ؟ فيا ليت شعري هل يرى رئيس الجمعية
ووكيلها ما يراه زميلهما المشرف على تحرير مجلتها من أن الإسلام دين روحاني
محض لا حكومة له ولا شريعة يجب على أهلها التزامها ، وهل يريان ما يرى
صديقه طه حسين من جعل غاية التعليم الديني الوعظ والدعوة وحصر أعمال
الحكومة المصرية الإسلامية في خريجي المدارس اللادينية ؟ الذي كنا نعرفه عنهما
غير هذا .
ويلي مقالَ الدكتور طه حسين مقالٌ لأستاذه الدكتور منصور فهمي تابع لما
كتبه في العدد الأول ، وغايته التنويه بتعظيم شأن مصطفى كمال فيما تراءى له
ولسائر دعاة التجديد اللاديني من نجاحه فيما يسمونه إصلاحًا ، وإن لم يصرح
باسمه ولا باسم المقتدين به ملك الأفغان وشاه إيران يعبر عنهم ( برجال الشرق
الحاليين ومصلحيه ) .
***
دعاية سلامة موسى إلى
الإلحاد وهدم الإسلام
وإذا بنا نرى من موضوعاته دعاية سلامة موسى المسرف في الإلحاد إلى
رأيه في مقالة عنوانها ( الشرق والغرب ) وهي تتضمن تخطئة جمعية الرابطة
الشرقية في سعيها للتعارف والتعاون بين شعوب الشرق من أدناها إلى أقصاها إذ
يقول : إننا نحن المصريين والسوريين والعراقيين نَمُتُّ بجملة صلات من النسب
إلى أوربا ولا نَمُتُّ بأي صلة إلى اليابان والصين ، ونحن من حيث السلالة
البشرية ننتمي نحن والإنجليز إلى ( أم واحدة ) ونحن من حيث الدين يشترك كثير
منا وأوربة في المسيحية ، والمسلمون هم أقرب الملل في العالم إلى المسيحية ) .
وغرض سلامة موسى أفندي من هذا البحث في مقالته إقناع قراء مجلة
الرابطة الشرقية وتقريب بعض آخر من رأيه المشهور عنه ، وهو وجوب إندغامنا
في الأمة الإنكليزية ، ولو كان هذا المقام مقام المناقشة والمناظرة لأثبت له أن
النصرانية الحاضرة نصرانية التثليث هي أقرب إلى البوذية منها إلى الإسلام ولكن
دين المسيح دين التوحيد الخالص هو عين دين محمد عليهما الصلاة والسلام الذي
جاء في إنجيل يوحنا منه قول عيسى في مناجاة ربه ( 17 : 3 ) ( وهذه هي الحياة
الأبدية أن يعرفوك أنك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ) .
ويدعو الأستاذ سلامة موسى في مقاله هذا إلى هدم الأديان عامة والإسلام
خاصة ، كما يدعو إلى ما ذكر من السياسة القومية ، فقد زعم فيه أن أسخف ما
سمعه عن الفرق بين الشرق والغرب أن الأول روحي والثاني مادي ( وإن مما
يزيده عجبًا واستغرابًا لهذا القول الاستدلال عليه بنشوء الأديان في الشرق ( قال ) :
مع أنهم لو تَبَصَّرُوا قليلاً في القرآن والإنجيل والتوراة لوجدوا أن جميع الأنبياء في
هذه الكتب الثلاثة كان همهم الأكبر هو الإصلاح الاقتصادي الذي هو هم أوربا الآن )
ونقول : هذا من الإفك والبهتان الذي يفنِّده فيه جميع أهل هذه الأديان .
ثم إنه انتقل إلى الدعوة إلى تقليد أوربة بطفرة سريعة على رأي صديقه
الأستاذ علي عبد الرازق رئيس تحرير مجلة الرابطة الشرقية ومدير سياستها
الحقيقي وقال :
( مثال ذلك أنه يجب علينا أن نساوي بين الرجل والمرأة ، ولكن أساس هذه
المساواة هو الاقتصاد فلا معنى لأن تُعْطَى المرأة حق الانتخاب والتصويت والسفور
والتعليم ولا يكون لها في الميراث سوى نصف الرجل ، بل يجب أن نفصل الدين
عن الدولة ونجعل المرأة مساوية في المواريث للرجل بلا أدنى فرق .
ثم يجب أن نجعل التعليم العام وسيلة لتخريج رجال متمدنين ومتمدينين فقط ،
وربما كان اللباس الأوربي أي القبعة ( يعني البرنيطة ) والبنطلون مما يجلب
عطف الأمم الأوربية علينا ويجعلنا ننظر إلى أنفسنا نظرًا غربيًّا ، فلو جعلناه إلزاميًّا
لجميع الأفراد لكان فيه فائدة كبرى في الإسراع في اتخاذ الحضارة الغربية ) .
هذا آخر مقال هذا الداعية إلى هدم الأديان ولا سيما الإسلام وهدم الوطنيات
والاندغام في الأوربيين بسرعة سيف مصطفى كمال وقوانينه ومحاكمه الاستقلالية
التي تحكم على الممتنع من لبس البرنيطة تدينًا بالقتل فهنيئًا لجمعية الرابطة الشرقية
بهذه المجلة وكتابها .
وقد كان دعا إلى مثل ما دعا إليه في شأن المساواة بين المرأة والرجل في
الميراث وغيره في محاضرة أو خطبة استفرغها في نادي جمعية الشبان المسيحيين ،
ثم كتب إلى هدى شعراوي هانم رئيسة جمعية النهضة النسوية بمصر يدعوها إلى
مطالبة الحكومة بتقرير هذه المساواة فردت عليه بأن ما تطلبه جمعيتها من الإصلاح
لا يدخل فيه الخروج عن دين الإسلام وترك أحكام الشريعة ، بل هو في دائرة
حدودها ، ورد عليه كثيرٌ من كُتَّاب المسلمين مبينين عدل الإسلام وفضله على
جميع الشرائع في الإرث وغيره ، ولكن مجلة الرابطة تعيد له نشر هذه الدعاية .
وللدكتور منصور فهمي تعليق على هذا المقال بدأه بإجلال أخيه سلامة موسى
والإشارة بما له من المنزلة الرفيعة في نفسه ثم داعبه مداعبة في بعض عباراته .
***
دعاية الأستاذ أحمد
أمين إلى التفرنج
ويلي هذا مقالان قالت المجلة إنهما ( يتصلان بالموضوع اتصالاً شديدًا )
أحدهما عنوانه ( وحدة العالم ) وهو للأستاذ أحمد أمين من أركان الدعاية اللادينية
جزم فيه بأن الشرق لا يمكن أن يكون له مدنية خاصة به ، وأن العالم الشرقي كله
سائر إلى المدنية الغربية ، ولا يستطيع أن يتجه إلى غير ذلك وأنه ( يجب أن يكون
عمل المصلحين محصورًا في دفع هممهم إلى الأخذ بأوفر حظ من المدنية الغربية
وخير طريق لذلك تهيئة نفوس الأمة لهذا الاقتباس ) إلخ .
***
رأي هيكل بك في
الحاجة إلى دين جديد
والمقال الثاني عنوانه ( حضارة الشرق متى تُبْعَث من جديد لتضيء ظلام
المدنية الغربية ) ، وهو للدكتور محمد حسين هيكل بك مدير مجلة السياسة مبتدعة
الثقافة اللادينية ، ولسان حال حزب التجديد اللاديني ، ولكن مقاله هذا فيه من سعة
العلم بحال أوربة والشرق ما ليس في شيء من تلك المقالات ؛ إذ نظر إلى ما في
أوربة من فساد الأخلاق والآداب وخطر المدنية المادية ، وعلم ما لم يعلم سائر
أولئك الكتاب أو خبر بما لم يخبر به أحد منهم من حاجة أوربة نفسها إلى إصلاح
روحي لا يمكن أن يكون إلا بهداية دينية ، وإن الشرق هو الجدير بأن يكون مشرق
هذه الهداية التي لا يُرْجَى صلاح الغرب بدونها ، فهو يقدح زند هذا الرجاء فيه ؟
سبق للدكتور هيكل مقال في هذا الموضوع نشره في الهلال وتمنى فيه لو
يُبْعَث نبي جديد في مصر من أهلها يتحقق بما يأتي به من وحي الدين هذا الرجاء
في إصلاح الغرب والشرق ، وفاته أن هذا النبي الذي قوي توجه العقول إلى
الحاجة إليه قد وجد وجاء بكل ما يُرْجَى في هذا الأمر ، ولكن الذين يدعون اتباعه
قد شوهوا هدايته بما ابتدعوه فيها ، وإنها لو ظهرت نقية من هذه البدع والخرافات
بدعاية حكيمة معقولة لأدت هذه الوظيفة المرجوة على أكمل وجه .
هذا النبي المطلوب لإصلاح فساد المدنية الغربية هو محمد رسول الله وخاتم
النبيين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين ، كما بيَّنا في مواضع من المنار في
السنين الماضية وبيَّنا أن أول من اهتدى إلى حاجة أوربة إلى هدايته في هذا العصر
هو حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى ، وأنه كان كثيرًا ما
يقول : لا حجاب يحول بين أوربة وبين دين القرآن إلا نحن فإنهم ينظرون إلينا من
خلال القرآن هكذا ويرفع يديه مُفَرِّجًا بين أصابعهما فيجدون وراءه أقوامًا غلب
عليهم الجهل والكسل والتواكل والخرافات فيلقونه قائلين : لو كان كتاب إصلاح
لصلح به مُتَّبِعُوه ، فإذا أردنا أن نقنعهم بحقية الإسلام وإصلاحه وجب أن نقنعهم قبل
ذلك بأننا لسنا مسلمين .
ويليه في ذلك الأستاذ الإمام وقد نقلنا عنه مرارًا أنه قال في درسه العام في
الأزهر : إنني اعتقدت منذ عشرين سنة عقيدة تزداد رسوخًا في نفسي سنة بعد
أخرى بقدر ما أزداد علمًا واختبارًا لحالة العالم المدني ، وهو أن أوربة لا تجد لها
منقذًا من فوضى الأفكار المادية وفساد الأخلاق إلا بالإسلام الصحيح ، وأنها ستنتهي
إلى الاهتداء به في يوم من الأيام وربما صار المسلمون المقلدون الجامدون يأخذون
الإسلام عن علمائها ( أو قال ما هذا معناه ، وربما أكون قد ذكرته من قبل بلفظه أو
بما هو أقرب من هذا إلى لفظه ولكن المعنى لم يتغير ) وأقول : إن تجديد الثقافة
والحضارة السليمة من الرذائل يظهران على أكمل وجوههما بتجديد الإسلام ،
ويكون هؤلاء المجددون له مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يبعث
لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها ) رواه أبو داود و الحاكم
والبيهقي في ( المعرفة ) من حديث أبي هريرة ووضع له السيوطي في الجامع
الصغير علامة الصحيح ، وحينئذ نرى هؤلاء الدعاة إلى التجديد الأعمى يؤمنون
بآية التجديد المبصرة ويكونون من السابقين إلى الإسلام الذي يجهلونه ويحتقرون
أهله .
***
مختارات مجلة الرابطة
الطاعنة في الإسلام
ومما اختارته المجلة أو مراقبها لهذا العدد الثاني من الاقتباس والترجمة في
مقال في ( مسيلمة الكذاب ) مخالفة في سَدَاها ولُحْمَتها لما عند المسلمين ، يسمي
صاحبها مسيلمة نبيًّا كما يُسَمَّى محمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ، يعني أن كلا منهما
كان نبيًّا لقومه ، ويسند إلى الأخبار الإسلامية التعبير عنه بمسيلمة الكذاب كأنه أو
لأنه مخالف لهم في هذا الوصف ، فما كان أغنى قراء هذه المجلة عن هذه المباحث
في أوائل أعدادها ! !
ومنها ما ترجمه الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق من محاضرات لطلاب
المدرسة الحرة في باريس في الإسلام من الطعن على هذا الدين القويم وهي خمس
محاضرات جمعها كتاب اسمه ( الإسلام والسياسة الحاضرة ) ولم يرد الأستاذ على
شيء مما فيها من الطعن في الإسلام والمسلمين ولا أشار إلى شيء مما فيها من
الخطأ ، ولكنه قال فيما بيَّنه من غرضه بعد تلخيصها : ( وليس من غرضنا أن
نناقش في رأي ، ولا أن ندل على خطأ أو تناقض ، وثَمَّ لمن أراد موضع للمناقشة
وبيان التهافت ، إنما نريد أن ننقل إلى أهل الشرق تصور الغربيين لهم وحكمهم
عليهم ) .
أقول : إننا في حاجة إلى العلم بما يقول فينا أهل الغرب من خير وشر وحق
وباطل لا من الطعن فقط ، وفي حاجة إلى تمحيص أهل العلم والرأي لما يُكْتَب عنا ،
والفصل بين الحق والباطل من أقوالهم ، والأستاذ المترجم يعلم أن أكثر قراء
مجلة الرابطة الشرقية من المسلمين ليس لهم من المعارف الإسلامية ما يقدرون به
على المناقشة وبيان الخطأ والتناقض ، وأن الطعن في دينهم مما يضرهم قراءته ،
ويا ليت شِعْرِِي هل تقبل مجلة الرابطة الشرقية هذه المناقشات إذا كتبها إليها بعض
المسلمين أم تعتذر عنها بأنها مما تبرأت منه في بيان خطتها في العدد الأول .
هذا بعض ما أنكرنا في هذا العدد الواحد من مجلة الرابطة الشرقية ورآه
الناس واستنكروه مثلنا ، وكان أشدهم استنكارًا له المسلمون ولا سيما رجال الدين
ورجال السياسة منهم ، وقد كتب إليَّ عالم سوري عصري كبير في فلسطين يقول
ما خلاصته : إنه ظهر للعامي والخاصي أن مجلة الرابطة الشرقية مجلة إلحادية أو
لا دينية على مذهب زعنفة دعاة التجديد المعادين للإسلام ، وإنه يجب عليك
الخروج من جمعيتها حفظًا لمقامك الديني إلا أن تكون ساعيًا لمنعها في الاستمرار
على هذا الطريق ذي العِوَج ... وقال لي كاتب من أشهر الكتاب السياسيين : يظهر
أن مجلة الرابطة الشرقية مشايعة لجريدة السياسة ومجلة الهلال في نزعة التجديد
اللاديني ... إلخ .
على أن جريدة السياسة اعتدلت في خطتها بعض الاعتدال وقد نشر فيها عدة
مقالات في استنكار خطة الكماليين في استبدال الحروف العربية ، وتنكر على ملك
الأفغان اتباعه لخطواتهم على أنها تسميها إصلاحًا ، وتخشى عليه من الفشل بعدم
مراعاة ما عليه قومه من عقائد وتقاليد قديمة ، ثم إنها مع ذلك تنصر الأستاذ الأكبر
الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر فيما نهض به من أمر الإصلاح
الإسلامي نصرًا لم نر فيما قرأناه منه شائبة من دسيسة الدكتور طه حسين التي
نشرها في مجلة الرابطة الشرقية ، ولا من شذوذ رئيس تحريرها الأستاذ علي عبد
الرازق الذي بسطه في مجلة الهلال .
إنني قد اضطررت إلى هذا التطويل في نقد مجلة جمعية كنت من أوائل
المؤسسين لها والواضعين لقانونها ؛ لأنها تنكبت في مجلتها ذلك الطريق الذي سرنا
عليه فيها ، وقد كنت أوجزت في النصيحة بما ذكرتها في التعليق على إعلان
المجلة ثم بما نصحت بلساني فلما لم ينفع النصح المختصر الخفي ، اضطررت إلى
هذا الإنكار الصريح الجلي ، وإلى نشره في المنار ، فعسى أن لا أحتاج إلى مثله
بعدُ ، ولله الأمر من قبل ومن بعد .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الغيدار الذي يسيء الظن فيصيب .
(2) غلط الدكتور في أول الآية فجعله (إنما مثل الحياة) وصوابه ما ذكرنا .
(29/619
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

شوال - 1347هـ
أبريل - 1929م

رسائل إخوان الصفاء

لما تُرْجِمَتْ كتبُ الفلسفة بالعربية ، وخاض المسلمون فيها وجدوا فيها ما
يخالف التعاليم الإسلامية أو النصوص التي ذكر فيها الخلق والتكوين من الكتاب
والأحاديث النبوية فتصدى علماء الكلام للرد على ما رأوه معارضًا ؛ إذا لم يمكنهم
الجمع بينه وبين النصوص القطعية أو بتأويل ما ليس بقطعي منها .
وكان علماء الأثر يردون كل ما رأوه مخالفًا للظواهر ، وأما أعداء الإسلام
المجاورة فكانوا يردون نصوصه مما يتلقفون من الفلسفة بزعمهم أنها حقائق ثابتة ،
وقلما يثبت منها شيء ثبوتًا قطعيًّا ، وأما أعداؤه من الزنادقة والمنافقين فكانوا
يتأولون نصوص الكتاب والسنة بحملها على أقوال الفلاسفة التي يزعمون أنها هي
الحقائق العليا التي يرتقي إليها خواص العلماء ، وأن ظواهر الشريعة وسائل إقناعية
يراد بها تهذيب العامة ، وأساطين هذه الضلالة فريقان : ملاحدة الصوفية الأعجمية
وزنادقة الباطنية .
وكان غرض هؤلاء سياسيًّا غايته عندهم إفساد دين الإسلام على أهله لإزالة
سلطان العرب من فارس ثم من سائر البلاد كالإسماعيلية ثم دخلوا في أطوار أخرى .
من هذا الفريق فريق الباطنية مؤلفو الكتب المشهورة برسائل إخوان الصفاء
وهي مشهورة ، وقد طبعت في هذه الأيام بمصر بسعي بعض الملاحدة المعاصرين
وهم يروجونها لمثل الغرض الذي ألقيت لأجله ، وهو إفساد عقائد المسلمين التي
يهاجمونها بالفلسفة العصرية وبغير الفلسفة مما يسمونه علمًا وأدبًا وفنًّا ، ويجمع هذه
المعاني عندهم كلمة الثقافة .
لأجل هذا رأينا من الواجب علينا شرعًا أن نعتني ببيان الحق ونكشف ما
يغشيه من الدسائس والتلبيسات ، وأول ما نبهنا إلى ذلك رسالة نشرت في المقطم
أيضًا ، وهذا نص الرسالة والفتوى :
حضرات الأفاضل أصحاب
المقطم الأغر
قرأت ما دبَّجَتْه يراعتكم حول كتاب أعياني فهم مرامي مؤلفه أو مؤلفيه على
حد رأي الأستاذ زكي باشا ووقف نظري عند قولكم : ( إن حرية الرأي في الزمن
الماضي لم تتسع لنشر هذه الموسوعة الفلسفية الهامة ) أو ما في معناه فعلمت أن
لهذا الكتاب خطره وقيمته ، وأنه كتب بأسلوب خاص لا يفطن إلى ما فيه من دقة
متعملة وأسلوب مُلْتَوٍ إلا من وُهِبَ اطِّلاعًا واسعًا على مختلف ما أنتجت العقول
الجبارة في القديم والحديث ، ولا أكتمكم أني قرأ مقدمتيه مرات متكررة لعلي أعثر
على مفتاح السر فكان جُلُّ ما ظفرت به أن الدكتور طه حسين يقول :
( إن هذه الجماعة ( إخوان الصفا ) كانت متبرمة بنظام الحكم في بغداد
و القاهرة وأنها ما ألفت كتابها إلا لتغرس بذور تربية خاصة لإعداد جيل يغير
هذا النظام الممقوت مسترشدة في هذا برأي فلاسفة اليونان في التربية والنظام
السياسي ) .
أما مقدمة العلامة زكي باشا فكلها كَرٌّ وفَرٌّ وبحث وتنقيب حول مؤلف الكتاب
أواحدٌ هو أم جماعة ؟ وخرج الباشا ظافرًا بأنهم جماعة ولكن واحدًا منهم لم يعرف .
لكن الأولى بالعناية من كل هذا هو موضوع الكتاب ، وما فيه من بحوث
علمية دقيقة وإشكالات عويصة لم يتعرض واحد من الذين كتبا للكتاب تصديرًا لذكر
شيء منها ، بل هربوا هربًا ليس فيه من اللباقة بقدر هرب المقطم بقوله : ( إن
حرية الرأي في الزمان الماضي لم تتسع لنشر هذه الموسوعة إلخ ) وإذن فقد أصبح
من حقي كقارئ من قراء جريدتكم تعود الثقة فيما تكتب والصراحة فيما تبدي من
رأي أن أستوضحكم عما يأتي : قال إخوان الصفاء في الجزء الأول : ( إن الله خلق
النفس والنفس هي التي تدبر العالم ، فلعل معنى هذا أن للعالم صانعين ؟
ثم قالوا : إن السموات السبع أو الكواكب السبعة هي كرات جوفاء سابحة ،
كل كوكب منها سماء لما تحته وأرض لما فوقه ، وإنها تدور وفق قرانات خاصة
ودوراتها مع اختلاف القرانات هو مبعث ما في العالم من خير وشر وشقاء وسعادة
وعدل وجور وليس فوق الكواكب السبعة إلا الفلك الأول وهو مبعث الحركة
والدوران فهل معنى هذا أن الفلك الأول هو الله ؟ أو أي شيء هو إذا لم يكن كوكبًا
وإلهًا مع أنه يُكْسِب الكواكبَ الدورانَ والسبوح ؟ وأين اللوح وأين العرش وأين
الكرسي وأين القلم ؟ أيصح لي أن أسميهم ولو من باب حرية الفكر غير مسلمين ،
وإن حمدوا الله وصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم واستشهدوا بالقرآن .
أخاف أن أكون قد ثقلت على حضرتكم في توجيه أسئلتي وأخاف أيضًا أن
يحول عملكم فيما أخذتم به على أنفسكم من الخدمة العامة دون إجابتي ، لكنه لا
يخيب لي سؤال ما دمت أعلم أن للأستاذ لطفي جمعة المحامي جولات فسيحة على
صفحات جريدتكم وهو ممن اشتهروا بالاطلاع الواسع في الفلسفة القديمة والحديثة ،
وإن كان عند الأستاذ ما يحول دون إرشادي فلا عدمت من فيلسوف الشرق وحكيم
الإسلام الأستاذ طنطاوي جوهري هاديًا ومرشدًا سيما وقد قضى زهاء نصف
قرن وهو يوفق بين القرآن والعلوم الطبيعية والرياضية والكيميائية وغيرها من
فنون العصر الحديث ، هذا وأختم عجالتي هذه بأن أهيب بحارس الشريعة خليفة
الأستاذ الإمام مولانا السيد رشيد رضا أن يفتينا فيمن ينكر العرش والكرسي واللوح
والقلم ، ثم يحمد الله ويصلي على نبيه أهو من أهل القبلة أو من سواهم ، وإلا فهل
لهذه الأسماء مدلولات غير المدلول العادي ، أفتونا ولكم من الله الأجر والثواب .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الحائر القَلِق
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي درويش
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مدرس بالمدارس الإلزامية
جواب الاستفتاء في إسلام
مؤلفيها وأمثالهم
نشر المقطم منذ شهرين رسالة للأستاذ علي درويش المدرس في بعض
المدارس الإلزامية في رسائل إخوان الصفاء المشهورة التي كانت طبعت كلها في
الهند وطبع بعضها في مصر ، وأعيد طبعها في هذه الأيام فرأيت صاحب الرسالة
يستفتيني في خاتمتها ( فيمن ينكر العرش واللوح والقلم ثم يحمد الله ويصلي على
نبيه أهو من أهل القبلة أو من سواهم ؟ وإلا فهل لهذه الأسماء مدلولات غير
المدلول العادي ؟ )
أي كما يزعم مؤلف أو مؤلفو تلك الرسائل فأقول :
إن هذا الاستفتاء مهم جدًّا ؛ لأن المسألة واقعة في عصرنا فإننا نجد في
مصرنا ، وفي غيرها من الأمصار أناسًا كإخوان الصفاء ينتمون إلى الدين
ويجحدون بعض أصوله القطعية ويكذبون كتابه المقدس بضرب من خلابة التأويل
الذي تتبرأ منه لغة الكتاب ونصوصه وآياته البينات { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ
أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } ( البقرة : 8-9 ) .
إن الذي حقَّقه شيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية في رسائل إخوان الصفاء
هو أنها لبعض الباطنية الذين كانوا يظهرون الإسلام على مذهب الشيعة ، ويسرون
الكفر به والعداوة له ويحاولون هدمه وصرف أهله عنه بالتشكيك فيه والتأويل
لنصوصه لا تأويل صفات الله وأفعاله ونصوص عالم الغيب من العرش والكرسي
واللوح فقط .
بل كانوا يتأولون نصوص العبادات التي هي أركان الإسلام أيضًا حتى لا
يبقى عنده من الإسلام شيء على ما جاء به خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم
ويستعينون على ذلك بالفلسفة اليونانية ، وكان منهم خلفاء الفاطميين بمصر ، وكانت
لهم دعاية إلى الإلحاد منظمة بيَّنَها المؤرخون وعلماء المقالات في نِحَل المبتدعين .
ويجد القارئ لتاريخ المقريزي المشهور خلاصة لها في الجزء الثاني منه في
سياق الكلام على أولئك الخلفاء يذكر فيها ( وصف الدعوة وترتيبها ) وهي تسع
درجات أو دعوات مرتبة تبدأ بالسؤال ( عن المشكلات وتأويل الآيات ومعاني
الأمور الشرعية وشيء من الطبيعيات ومن الأمور الغامضة ) يذكر المقريزي أمثلة
منها ؛ ثم إن الداعي ينقل المدعو من درجة إلى أخرى بعد أن يقتنع بالسابقة حتى
إذا ما رسخت في نفسه جميع الدرجات كاشفه بالنتيجة المُرَادة من الدعوة ومنها قول
الباطل الخادع :
( إن الوحي إنما هو صفاء النفس فيجد النبي في فهمه ما يُلْقَى إليه ويتنزل
عليه فيُبْرِزُه إلى الناس ويعبر عنه بكلام الله الذي ينظم به النبي شريعته بحسب ما
يراه من المصلحة في سياسة الكافة ، ولا يجب العمل بها حينئذ إلا بحسب الحاجة
من رعاية مصالح الدهماء بخلاف العارف فإنه لا يلزمه العمل بها ويكفيه معرفته ،
فإنها اليقين الذي يجب المصير إليه ، وما عدا المعرفة من سائر المشروعات فإنما
هي أثقال وآصار حملها الكفار أهل الجهالة لمعرفة الأغراض والأسباب ( ويعني
باليقين هذا قوله تعالى : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ } ( الحجر : 99 ) أي
فحينئذ تسقط العبادة ) .
ومن جملة المعرفة عندهم أن الأنبياء النطفاء أصحاب الشرائع إنما هم
لسياسة العامة ، وأن الفلاسفة أنبياء حكمة الخاصة ) إلخ .
وذكر قبل ذلك في الدعوة السادسة أن المدعو إذا تمكن في المرتبة الخامسة
أخذ الداعي في تفسير معاني شرائع الإسلام من الصلاة والزكاة والحج والطهارة
وغير ذلك من الفرائض بأمور مخالفة للظاهر بعد تمهيد قواعد تبين في أزمنة على
عجلة تؤدي إلى أن هذه الأشياء وضعت على جهة الرموز لمصلحة العامة وسياستهم
حتى يشتغلوا بها على بغي بعضهم على بعض ، وتصدهم عن الفساد في الأرض ،
حكمة من الناصبين للشرائع وقوة في حسن سياستهم لاتباعهم ، إتقانًا منهم لما رتَّبوه
من النواميس ونحو ذلك حتى يتمكن هذا الاعتقاد في نفس المدعو .
فإذا طال الزمان وصار المدعو يعتقد أن أحكام الشريعة كلها وضعت على
سبيل الرمز لسياسة العامة ، وأن لها معاني أخر غير ما يدل عليه الظاهر ، نقله
الداعي إلى الكلام في الفلسفة وحضَّه على النظر في كلام أفلاطون و أرسطو
وفيثاغورس ومن في معناهم ونهاه عن قبول الأخبار ( أي الأحاديث النبوية )
والاحتجاج بالسمعيات ( أي نصوص القرآن ) وزيَّن له الاقتداء بالأدلة العقلية
والتعويل عليها ، فإذا استقر ذلك عنده واعتقده نقله بعد ذلك إلى الدعوة السابعة
ويحتاج ذلك إلى زمان طويل ) اهـ المراد منه .
إذا علم المستفتي هذا ، وعلم أن إخوان الصفاء من هؤلاء الباطنية الملاحدة
الذين كانوا يُظْهِرُون الإسلام ويُسِرُّونَ الكفر علم أن حمدهم لله وصلاتهم على نبيه
خداع للمسلمين ؛ ليقبلوا كلامهم ، ولذلك قال بعض الفقهاء : إن من علم حاله منهم
لا يعتد بدعواه التوبة والرجوع إلى الإسلام ، وإن نطق الشهادتين وصلى وصام
وزعم أنه مسلم .
وليس كل تأويل من تأويلاتهم للنصوص ارتدادًا عن الإسلام بحيث لو قال به
غيرهم يُعَدُّ مرتدًّا بل منه ما هو كفر صريح ، ومنه ما هو ابتداع قبيح ، ومنه ما
هو محتمل للترجيح والتجريح ، ولكنه كله صادر عن الإلحاد في الدين والغرض
منه إفساد عقائد المسلمين ، ولذلك صار لقب الإلحاد والزندقة في القرون الوسطى
علمًا عليهم ، قال صاحب المصباح المنير : والملحدون في زماننا هذا هم الباطنية
الذين يدعون أن للقرآن ظاهرًا وباطنًا وأنهم يعلمون الباطن فأحالوا بذلك وجه
الشريعة ؛ لأنهم تأولوا بما يخالف العربية التي نزل بها القرآن اهـ .
وهذا حكم ملاحدة زماننا غير المجاهرين بالكفر والتعطيل ، والطعن في محكم
آيات التنزيل ، وقد ثبت عندنا أن لبعضهم جمعية كبعض جمعيات الباطنية تعنى
بإفساد العقائد وتنكر ضروريات الشريعة ، وتزعم أن الإسلام دين روحاني لا
تشريع فيه يجب اتباعه ، بل يجوز لأهله أن يأخذوا بكل قانون يعجبهم ويتبعوا كل
دولة تحميهم وتعزهم ، وهم يبنون دعايتهم على تفضيل كل جديد على كل قديم
فالتشريع البلشفي على قاعدتهم خير للحضارة من التشريع الإسلامي فبعض ما
يقولونه وينشرونه ارتداد عن الإسلام لا يحتمل التأويل ، ولا ينفع معه النطق بكلمة
التوحيد ، وبعضه ليس ردة ظاهرة في نفسه ، ولكنه صادر عنها ، ولهم صحف
تنشر دعايتهم لا يخفى على أحد أَمْرُها .
ويقال : إن لبعضهم علاقة ببعض الجمعيات الغربية من بلشفية وتبشيرية ،
وإن جل عنايتهم موجهة إلى إفساد عقائد طلبة المدارس ولا سيما العليا وهم
يحرصون على إضلال أذكيائهم واصطناع الكتاب والخطباء منهم ، ولهم من الكبراء
من يؤيدهم فهو أكبر خطر على دين الأمة ودنياها ، كما سنبين ذلك في مقالات
أخرى ننشرها في مجلتنا ( المنار ) وغيرها .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
(29/747
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

تعديل كتاب الصلاة في إنكلترا

جاء في جريدة الأخبار ما يأتي :
جاء في جريدة الطان بعددها المؤرخ في 14 ديسمبر ( سنة 1928 ) أنه
انعقد مجلس اللوردة في جلسة تُعَدُّ من أعظم الجلسات شأنًا منذ نهاية الحرب إذ
اقترح فيها رئيس أساقفة ( كانتربري ) التصديق على النص المُعَدَّل لكتاب
الصلوات . وقد ذكر في أثناء كتابه أنه لم يقع أدنى تبديل أو تغيير في عقيدة
الكنيسة الإنكليزية ، وجُلُّ ما هناك أن عبارات دعائية قد أضيفت لأجل الملك
ولأجل الأموات , وكذلك بعض أنظمة تتعلق بحفظ الأشياء المقدسة .
فاقترح اللورد هانفورد رفض الاقتراح وقال اللورد ( دنبيغ ) إن أعضاء
المجلس الكاثوليكيين لا يشتركون في هذه المناقشة فتأجلت الجلسة إلى الغد اهـ .
( الأخبار ) سبحان الله ما زالوا يقولون لنا : إن الأمم المتمدنة قد فصلت الدين
عن السياسة فصلاً تامًّا ، وإن أمور الدين إذا اختلطت بأمور الدنيا أفسدتها ، ولذلك
جميع الحكومات الراقية في هذا العصر ( لا ييق ) أي لا دينية ، وأن هذا كان سبب
رقيها ، وقد كانت هذه الدعوى أعظم ما تمسكت به حكومة أنقرة وتابعها عليه أذنابها
بمصر فليخبرونا الآن ما مدخل ( كتاب الصلوات ) بمجلس اللوردة وأي فصل هنا
بين السياسة وبين الدين ، وليخبرونا هل حكومة إنكلترة خارجة عن كونها ( لا ييق )
بسبب طرح قضية الصلوات في مجالس الحكومة ، وعلى فرض أن الحكومة
الإنكليزية غير ( لا ييق ) وأن حكومة أنقرة هي حكومة ( لا ييق ) بمعنى الكلمة ،
فهل صارت حكومة أنقرة أرقى في سلم السياسة والاجتماع من الحكومة البريطانية ؟
أخبرونا أيها ( اللاييق ) أثابكم الله ، أو فاخرسوا واخجلوا واعلموا أن بين
الدين والسياسة صلات لا تنقطع ، وإن كان كل منهما منفصلاً عن الآخر في دائرة
اختصاصه ، فهناك أمور عامة لا بد للسياسي الحكيم أن يأخذها بنظر الاعتبار ،
وإن تعظيم شعائر الدين والاهتمام بتثبيت العقيدة لن يضرا شيئًا رقي الأمم وانتظام
الحكومات بل يساعدان على سير الانتظام واستمرار الترقي بما يكفلانه من تمكين
دعائم الأخلاق وعدم إقلاق ضمائر الأفراد الذين تتركب منهم الأمة ، فإذا كانت
حكومة أنقرة تريد أن تحارب الدين الإسلامي فلتتخذ لها برهانًا على عملها المنكر
غير قضية الاقتداء بالأمم المتمدينة .
(29/777)
 
المحرم - 1348هـ
يونيه - 1929م
الكاتب : محمد رشيد رضا

فاتحة المجلد الثلاثين

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على محمد رسول الله ، الذي ختم به النبيين ،
وأكمل به الدين ، وأرسله رحمة للعالمين ، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه
الهادين المهديين ، ومن تبعهم في هديهم إلى يوم الدين .
أما بعد ، فإن العدد الأول من مجلتنا هذه قد صدر في العشر الأخير من شوال
سنة 1315 الموافق لشهر مارس ( آذار ) سنة 1898 ميلادية ، بشكل صحيفة
أسبوعية ذات ثماني صفحات كبيرة ، وفي السنة الثانية جعلناها مجلة أسبوعية
بشكلها الذي هي عليه الآن ، وأصدرنا أول جزء من السنة الخامسة في أول المحرم
سنة 1320 - 10 أبريل ( نيسان ) سنة 1902 - واستمر ذلك إلى السنة السابعة
عشرة , فقد صدر الجزء الثاني عشر منها بتاريخ ذي الحجة سنة 1332 ( نوفمبر
سنة 1914 ) وكانت قد أُضرمت نار الحرب المدنية الكبرى ، فاختل في أثنائها نظام
صدور المنار في أوائل سنيه وأواخرها ، وجعلنا أجزاء السنة عشرة ؛ لأن الورق
والحبر غلا سعرهما حتى تضاعف أضعافًا ، وامتنع وصول الصحف المصرية إلى
كثير من الممالك والأقطار ، وساءت معاملات الناس ، ومن سنة 1333 إلى سنة
1347 لم يصدر من المنار إلا 12 مجلدًا في 15 سنة ، فنقص من مجلداته ثلاثة
أُدْمِجَتْ أو أُدْغِمَتْ في هذه السنين ، ولولا ذلك لوجب أن يكون المجلد الذي نفتتحه
اليوم المجلد الثالث والثلاثين .
ولكننا إذا اعتبرنا في تاريخه السنين الشمسية يكون هذا المجلد هو الحادي
والثلاثين ، فالذي نقص من مجلدات المنار عن سنيه القمرية ثلاثة ، وعن سنيه
الشمسية اثنان فقط ، ونحمد الله تعالى أن قَدَّرَنَا على استمرار إصداره في تلك
السنين النحسات ، فمن المعلوم أن أكثر قرائه المؤدين لحقوقه هم خيار المسلمين
المستنيرين ، الذين يشعرون بشدة الحاجة إلى إصلاح حال أمتهم بالجمع بين سعادة
الدنيا وهداية الدين ، وهم قليلون ومتفرقون ، والموسرون منهم هم الأقلون ، ومن
عداهم لا يؤدي الحق إلا ما دمت عليه قائمًا وكان المتقاضي له مُلازمًا { وَالْبَلَدُ
الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً } ( الأعراف : 58 ) .
ونرجو من فضل الله تعالى أن نَثْبُت على هذا التاريخ في إصداره ما دمنا
متمتعين بالصحة ، بعد أن مَنَّ علينا بدار صالحة للسكنى وللمطبعة ، وقد تأخر
صدور بعض أجزاء المجلد الماضي لما عرض لنا من المرض في أول عامه والنقلة
في آخره .
وأما الذي نُذَكِّر به القراء في فاتحة المجلد الثلاثين من الشؤون الإسلامية على
عادتنا في هذه الفواتح ، فهو أن الحملة على الإسلام قد اشتدت في هذا العهد من
خصومه في الداخل والخارج ، أعني من قِبَل دول الاستعمار ودعاة النصرانية ،
وهم طلائعها وحُداتها ، ومن أعوانهم وأنصارهم وتلاميذهم في البلاد الإسلامية
نفسها ، ولست أعني بهؤلاء من يستخدمهم المبشرون من نصارى القبط والسوريين
والأرمن وغيرهم ، بل أعني من هم أشر منهم وأضر ، وأدهى وأمر ، من ملاحدة
المسلمين ، من الترك والإيرانيين والأفغانيين ، ودعاتهم وأخدانهم من المصريين ،
وأشباههم من السوريين والعراقيين ، ومن الهنود والأفريقيين ، وسائر الشعوب
الإسلامية ، الذين سممتهم التربية الإفرنجية ، وأفسدتهم الآراء المادية ، وخنثهم
الإسراف في الشهوات البدنية ، ونحن نطلق لقب الإلحاد على كل من يسمي خطة
هؤلاء الكماليين في نبذ الشريعة الإسلامية برمتها من حكومتهم ، والتمهيد لمحو
عقائد الإسلام وآدابه وعباداته من نابتة شعبهم ، بمنع اللغة العربية من جميع بلادهم ،
وترجمة القرآن بما لا يؤدي حقائق معانيه من لغتهم ، وكتابته كغيره بالحروف
اللاتينية ، للإجهاز على ألفاظه وأساليبه المعجزة ، بل كل من يسمي هذه الخطة
إصلاحًا ويحسنها ويدعو إليها ، فهو عدو للإسلام وولي لأعدائه ، وعداوة الإسلام
أعم من الارتداد عنه والكفر به ، فإن كان مع هذا زنديقًا يدَّعي الإسلام ويخفي
الكفر ، فإفساده أعم وأكبر من إفساد الكافر الأصلي والمرتد ، لأن الجاهلين بحقائق
الإسلام من المسلمين يغترون بكلامه ، فيفتنهم عن دينهم أو يشككهم فيه .
وإننا نرى ملاحدة بلدنا هذا طبقات بددًا ، تسلك طرائق قددًا :
( الطبقة الأولى ) :
المجاهرون بالكفر والصد عن الدين ، والطعن في عقائده ، وإلقاء الشكوك
والشبهات فيها ، بما يكتبون في الجرائد والمجلات المختلفة ، ومنهم صاحب مجلة
ومطبعة في مصر معروف ، وفي حلب مجلة حديثة مثلها يظهر أن صاحبها مقلد
ينقل أقوال أشهر الكتاب من ملاحدة مصر ، وقصائد شيخ ملاحدة العراق وأمثالهم ،
ويثني عليهم وينوه بآرائهم ، ولكنه لا يتجرأ على التصريح بكل ما يصرحون به
بإمضائه .
ومنهم أحد محرري الجرائد اليومية المأجورين ، الذي كتب مقالات في تقبيح
النص في الدستور المصري على جعل الدين الرسمي للحكومة المصرية الإسلام ،
وطلب أن تكون حكومة معطلة ( لا دينية ) ومقالات في سن قانون مدني للأحوال
الشخصية ، لا يتقيد فيه بشيء من الأحكام الإسلامية ، وقد كان من أركان محرري
السياسة ، ويقال : إن له صلة وعلاقة ببعض جمعيات اليهود . وأفراد هذه الطبقة لا
يدّعون التدين ولا يمتعضون لوصفهم بالتعطيل ، بل منهم من يفتخر بذلك .
( الطبقة الثانية ) :
الزنادقة الذين يظهرون الإسلام ، ويمتعضون إذا وُصفوا بالزيغ والإلحاد ،
وهم مع ذلك يطعنون في أصوله ، ويجحدون بعض ما هو مجمع عليه ومعلوم
بالضرورة منه ، ويشككون في بعض آيات القرآن ، وهم لأفراد من الطبقة الأولى
إخوان وأخدان وأعوان ، ويسمون الترك الكماليين ومقلدتهم : مصلحين ، ويدافعون
عنهم بألسنتهم وأقلامهم ، أو أقلام أفراد الطبقة الأولى .
ورأي هؤلاء في الدين أنه رابطة اجتماعية سياسية يجب أن يكفي في
الاعتراف لأهلها به موافقتهم للجمهور في بعض الشعائر والمشخصات العامة ،
كالتجمل والزيارات في الأعياد ، وإن لم يصل صاحبها صلاة العيد ، واحتفال
الجنائز ومآتمها ، وقراءة القرآن فيها ، وإن اشتمل ذلك على أعمال كثيرة يحرِّمها
الدين ، وكزيارات ليالي رمضان وطواف المسحرين فيها ، ولكن الصيام نفسه ليس
ركنًا من هذه الشعيرة ، ولا شرطًا لها ، وكذلك الصلوات الخمس - حتى الجمعة -
والزكاة لا يدخلان في هذا الدين الرسمي من باب ولا طاق ، فإنهما عندهم من
الأمور الشخصية ، وتُعَدُّ كاستباحة السُّكر والقمار وغيرهما من المنكرات والفواحش
مما تتناوله الحرية الذاتية ، كما أن ما تقدم من الطعن في الدين وخلفائه وأئمته مما
تتناوله حرية الأفكار ، ويباح الخوض فيه للألسنة والأقلام ، ونشره في الكتب
والرسائل ، والمجلات والجرائد . قال بعضهم ما معناه : إذا تكلمتُ بلسان الدين أقول :
إن ما في القرآن من كذا وكذا ، صحيح مسلَّم ، وإذا تكلمت بلسان العلم والعقل أقول :
إنه غير صحيح وغير مسلَّم ، يعني أن هذا الذي يثبته القرآن صحيح في اعتقاد
المسلمين ، صحيح ومسلَّم عندهم بمحض التقليد ، ولكنه غير صحيح ولا ثابت بدليل
عقلي ولا علمي ، بل ربما يبطله الدليل .
ولولا أن قائل هذا زنديق ذو لسانين يُسِر الكفر بوحي الله ، وإن قال أحيانًا :
قال الله ، قال رسول الله - لما استباح التشكيك فيه بمثل هذا من قوله ، بل لكان إثبات
كتاب الله تعالى للشيء أقوى برهان عنده على ثبوته في نفسه ، وإن لم يثبته أحد
من خلقه بنظريات فكره وما وصلت إليه مباحث علمه ، فإن علم الله محيط بكل
شيء من خلقه ، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بإذنه ، أي بما وهبهم من أسباب
كسبه من الحس والعقل ، ومن المعلوم الذي لا مراء فيه أن كل ما ثبت عند البشر
من هذين الطريقين الكسبيين لهم ، كان مجهولاً قبل ذلك عندهم ، وذلك لا يقتضي
عدم ثبوته في نفسه ولو لم يثبته الوحي الصحيح ، فكيف إذا أثبته .
( الطبقة الثالثة ) :
الغماليج الإِمعون من مرضى القلوب المقلدين ، الذين يشايعون المؤمنين إذا
كانوا معهم ، ويجارون الملحدين إذا وُجدوا بينهم ، فلا يُعرف لهم رأي ثابت مستقر
ينصرونه ويردون ما خالفه ، وأما سيرتهم في العمل فهي تابعة لتربيتهم في بيوتهم ،
وحال عشرائهم من لداتهم وأترابهم ، ورفاقهم في المدارس وجيرانهم ، فتراهم
يجمعون بين الكفر والإسلام ، ومنهم من يصلي الصلوات الخمس لأنه تربى على
ذلك ، ثم يقر ما هو كفر بإجماع المسلمين ، وينصر الملاحدة القائلين به ، فإسلامهم
تقليدي ، وإلحادهم تقليدي ، والغالب على أمرهم من يكون أكثر معاشرة وارتباطًا
بهم ، ومساعدة لهم على أهوائهم ورغائبهم ، ومنهم منهوم المال ، ومفتون الجاه .
وثَم طبقات أخرى مدغم بعضها في بعض ، فيعسر الحكم عليها بالقطع ، على
تفاوت الأفراد فيها في العمل والفكر .
وطالما ضربت مثلاً لمسلمي الأمصار المتفرنجة وطبقات الملاحدة : اختلاط
الماء الحلو بالماء الملح ، في مثل شط العرب من جهة البصرة ، وساحلي رشيد
ودمياط من مصر ، فما كان بين العذب الفرات والملح الأجاج من المائين يتفاوت
على نسبة القرب والبعد من كل منهما ، وهكذا نرى بعض المسلمين المتفرنجين ،
منهم ما غلب عليه أجاج الكفر ، فصار من أهله مُسرًّا له أو معلنًا ، ومنهم المزُّ بين
عذوبة الإيمان وملوحة الإلحاد ، والمزازة فيه على درجات ، بعضها مقطوب لا
تكاد تشربه إلا مقطِّبًا ، وبعضها مغلوب إذا تجرعته لا تكاد تسيغه إلا متهوعًا .
ومما ثبت عندنا بالخبر المستفيض ، والخُبْر الطويل العريض ، أن من أفراد
أولئك الملاحدة دعاة الكفر ، وسعاة للصد عن الإسلام ، وأن منهم من يأخذ على ذلك
جعلاً من جميعات التبشير بالنصرانية ، ومنهم من يتقاضى مكافأة من بعض
جماعات اليهود البلشفية والصهيونية ، ومنهم من يخدم الدول الاستعمارية ويأخذ
أجره منها ، وأعظم هذه الأجور المناصب والوظائف في البلاد المسيطرة عليها ،
ومنهم من لذته في ذلك التشبه ببعض فلاسفة الإفرنج وكتَّابهم الأحرار ، والحظوة
عندهم ، والثناء عليهم في كتبهم وصحفهم ، وهم لا يثنون إلا على من كانوا عونًا
لهم على أقوامهم ، ألم تر إلى المستعمرين والمبشرين من السكسون واللاتينيين ،
كيف نوَّهوا وينوِّهون بعلي عبد الرازق وكتابه المعلوم كما رأيت في البرقيات العامة
في إبان ظهوره ، وكما ترى في المقال الأول من مقالات هذا الجزء مترجمًا عن
كتاب فرنسي جديد ، أُلِّف للإغراء بهدم الإسلام وتنصير المسلمين .
كان المرحوم الأستاذ الشيخ محمد مهدي وكيل مدرسة القضاء الشرعي أول
من أنبأني بأنه وجد في مصر جماعة تتعاون على الصد عن الإسلام ، بالطعن في
شريعته ، وفي حكومته ، وفي لغته ، وفي أئمته ، وفي كل من نوَّه بهم التاريخ من
الخلفاء ، وكبار العلماء والأدباء ، وفي جمهور سلفه في أرقى العصور ، ثم ظهرت
آثارهم الخفية في بعض الصحف العامة ، وفيما نشروا من المصنفات الخاصة ،
وكان تعاونهم بمقتضى تعارفهم وتوادهم ، وانتماء بعضهم إلى حزب سياسي
ينصرهم .
ألم تر أن الوزارة الائتلافية كادت تسقط ويتمزق نسيج وحدة الأمة بانتصار
أعظم أركانها لمؤلف ذلك الكتاب الرجس الذي جهر ملفقه بالطعن في القرآن ،
ترجيعًا لأصوات بعض أعدائه من المبشرين بالإنجيل .
وقد أخبرنا من خبر حالهم ، وعاشر رجالهم ، بطرق الدعوة التي يفتنون بها
الشبان عن دينهم ، ولا سيما الأذكياء الفصحاء منهم ، وسنبينها في مقال آخر ، ومما
بلغنا من أمرهم أنه لم يكن لهم نظام للدعاية إلى عهد غير بعيد ثم وضعوه .
وقد علم الجمهور أنه كان قد تألف في مصر حزب لحرية الفكر ، كان
الملاحدة هم المؤسسين له بالطبع ، من حيث لا يدري كثير ممن انتظم في سلكه ،
أو جعل نوتيًّا لتسيير فلكه ولكن بعضهم تجرَّأ فيه على كلام ساء بعض من حضره
من النصارى ، فانتصروا لدينهم بالفعل ، وكان ما كان من التشاجر الذي أفضى إلى
القضاء على ذلك الحزب .
وقد نشرت جريدة السياسة الأسبوعية في مارس سنة 1928 مقالاً لأحد
أركانهم صرَّح فيه بأنه يوجد في مصر تعصب ديني ( إسلامي ) ضار ، وأن
جماعة كانوا ألَّفوا حزبًا لمقاومته وتوطيد دعائم الحرية ، وهذه الجماعة لا تزال
تعمل لهذه الغاية .
ولما أُلِّفت في مصر جمعية الشبان المسلمين ، عارضوها بتأليف ( جمعية
الشبان المصريين ) لأجل القضاء عليها بدعاية الوطنية ، قبل أن تشب عن الطوق ،
وتشب نارها ، فلا يكون لهم بها طوق ؛ ولكنهم لم يقاوموا جمعية الشبان
المسيحيين بقول ولا عمل ، بل وُجد فيها من يكبر شأنها ، ويلقي المحاضرات في
ناديها .
وليس الإلحاد في مصر بحديث العهد ، بل نبت قرنه مع التفرنج منذ أكثر من
قرن ، ومازال يرتفع ويقوى حتى طمع أهله بإطفاء نور الدين ، وقد استباحه مَنْ
استباحه باسم الحرية ، وفنَّد الأستاذ الإمام جهالتهم ببعض مقالاته في الوقائع
المصرية . كان غربيًّا غريبًا ، فأصبح شرقيًّا قريبًا ، أو كان سيلاً أتيًّا ، فأمسى
ينبوعًا وطنيًا ، وكان شر مظاهره وأشدها خطرًا ما فاه به بعض ملاحدة المسلمين
في مجلس النواب ، من الطعن في الشرع وفي نفس القرآن ، إذ فاه فض الله فاه ،
وسلَّ لسانه من قفاه ، ولا رحمه ولا رحم مجلسه الموؤد ، بتلك الكلمة التي تقشعر منها
الجلود ، : أنه لا يحترم - أو قال : يحتقر - كتابًا يبيح تعدد الزوجات . ولكن ذلك
الملحد الإباحي لا يحتقر قانونًا يبيح الزنا للرجال والنسوان ، وتعدد البغايا والأخدان ،
دع اعتراض آخر منهم على من طلب وقف الجلسة بعض دقائق لأجل فريضة
المغرب ، وتصريحه بأنهم لا يبغون الصلاة مطلقًا أو في ذلك المجلس ، ووافقه
الجمهور على ذلك ، فكان الأفراد الذين يحافظون على الصلاة على قلتهم يتسللون من
الجلسات فيصلون فُرادى ويعودون إليها .
وإنما الحديث عندنا هو تأليف الأحزاب وتعاون الجماعات على بث الدعوة
إلى الإباحة والإلحاد ، ونشر الجرائد والمجلات لمقالاتهم المسمومة ، وإلقاء
المحاضرات في ذلك ونشر الكتب الملعونة ، حتى إنني كتبت في المنار أنه لا فرق
بين ملاحدة الترك الكماليين ، وملاحدة هذه البلاد المفتونين والمقلدين ، إلا أن أولئك
أولو قوة عسكرية ، فينفذون إلحادهم بالقوة القهرية ، ولا سلاح هنا إلا بيد السلطة
الأجنبية ، ولقد كان بمجلس النواب في الآستانة مسجد خاص يصلي فيه الأعضاء
وتقام فيه الجماعة ، كما كان يوجد في دور الحكومة مساجد يصلي فيها أهلها جميع
الصلوات التي تدركهم فيها .
تجديد ملاحدتنا وتجديد الإفرنج :
إن ما فعله ملاحدة الترك من هدم معالم الإسلام من حكومتهم ، وما ظهر في
حكومتي الأفغان والإيران من بوادر الاقتداء بهم ، وما ذكرنا القارئ به مما حدث
في مصر ، بل سرت عدواه إلى كل قطر ، هو الذي أطمع المستعمرين ودعاة
النصرانية في أوربة بالإجهاز على الإسلام ، والتذفيف على ما بقي من مظاهر
الحكم الإسلامي في جميع بلاد الإسلام ، وتجديد النصرانية وتعزيزها في الغرب
والشرق ، وهاك إشارة إلى بعض ما فعلوا في تجديد دينهم مما يعد أكثره ذريعة
للتعدي على ديننا :
( 1 ) عقد دعاة البروتستانتية من الإنكليز وغيرهم مؤتمرًا بعد آخر في
القدس مهد النصرانية للتشاور في تعميم تنصير المسلمين ، ونشرت جمعية لهم في
لندن بيانًا ذكرت فيه أنه لم يبق للإسلام رسوخ ولا ثبات إلا في جزيرة العرب ،
وأنها تحتاج إلى مائة مبشر من المجاهدين لنشر النصرانية في هذه الجزيرة
والقضاء عليه في مهده الأول ، ومعقله ومأرزه الأخير .
( 2 ) أعادت الدولة الفرنسية للجمعيات الكاثوليكية ما كانت صادرته من
أموالها وأوقافها تنشيطًا لها على نشر النصرانية في مستعمراتها الأفريقية و سورية .
( 3 ) أُلِّفت كتب جديدة باللغة الفرنسية وغيرها في الطعن على الإسلام ،
والحث على تنصير المسلمين ولو بالقهر والإكراه ، وقد نشرنا فصول بعض هذه
الكتب في هذا الجزء وفيما قبله ، وسننشر بعضها فيما بعده .
( 4 ) صالحت الدولة الإيطالية دولة الفاتيكان الكاثوليكية ، وأعادت للبابا
سلطانه السياسي في دائرته ومئات الملايين مما كانت اختانته من أموال دولته ،
فتجدد للكنيسة الرومانية بعض سيادتها وسياستها ، وهذا بدء انقلاب جديد في تجديد
النصرانية في الشرق والغرب ، وذلك لا يضيرنا إلا إذا اعتدوا علينا ، وهو أهون
من التعطيل والإلحاد عندنا .
( 5 ) نشطت الجمعيات التي تدعو إلى توحيد كنائس المذاهب النصرانية في
الشرق والغرب وسارت في سعيها خطوات إلى الأمام .
( 6 ) إن حركة تجديد الدين في إنكلترة تلي في العناية حركة إيطالية ، وقد
اشتهر ما كان من اقتراح تعديل كتاب الصلاة المتبع في الكنيسة الرسمية ورد مجلس
الأمة ( البرلمان ) له المرة بعد المرة . وقد أُلِّفتْ جمعيات أخرى للبحث في العقائد
المسيحية ، وتقاليد الكنيسة ، وتقريب ذلك من العلم ، واستعداد العصر .
( 7 ) تبارت الأمتان الإيطالية والإنكليزية في الرجوع إلى آداب الدين في
أزياء النساء وعاداتهن ، ومقاومة ما أحدثن من الإسراف في التبرج والخلاعة ،
المفضية إلى الإباحة ، فكتب بعض كبار الكتاب من الإنكليز في ذلك مقالات نشرت
بعضها الجرائد المصرية .
وأما إيطالية فقد منع رجلها المجدد ووزيرها الأكبر كثيرًا من هذا الإسراف في
الأزياء والرقص والسباحة تجديدًا للدين والأخلاق لتجديد قوة الأمة وعظمتها ، وذلك
مما يحمده كل فاضل له ولها .
العبرة في تجديد أوربة وتجديد ملاحدتنا :
وأما ملاحدة بلادنا ودعاة الكفر والإباحة فيها ، فالتجديد الذي يدعون إليه هو
هدم كل ما يربط الأمة ويشد أزرها ، ويجمع كلمتها ، ويهذب أخلاقها ، من روابط
الدين والمحافظة على العرض ، ويسمون الكفر والفجور وإباحة الأعراض تجديدًا
طريفًا ، ومدنية وتقدمًا وترقيًا ، ويسمون ما يقابل ذلك من التقوى والعفة والصيانة
قديمًا باليًا ، وقد استشرى عيثهم وفسادهم ، وعظم خطرهم بكثرة الجرائد والمجلات
التي ينفثون فيها سمومهم ، على صغر شأنهم ، وسوء سيرتهم الشافّ عن خبث
سريرتهم ، فإنه لا مزية لأحد منهم في علم نافع ، ولا عمل صالح ، وإنما هي خلابة
الألفاظ التي وافقوا فيها أهواء كبار الفساق وصغار الأحداث ، وإن أهل الرأي
والبصيرة عندنا يجزمون بأن جُل زعزعة العقائد وفساد الأعراض وإباحة النساء ،
يناط بفساد أكثر الجرائد والمجلات ، فيا حسرتا على جريدتي المؤيد واللواء ،
ويا حسرتا على شعب يُعَدُّ من أرقى شعوب الشرق ثروة وحضارة وعلمًا ووطنية ،
تعجز الأكثرية الساحقة فيه عن إيجاد جريدة يومية ، تدافع عن عقائده وشريعته وآدابه
الملية ، على حين نرى لكل الأقليات الملية المتعددة فيه جرائد متعددة تقوم بهذه
الوظيفة حق القيام ! وهذه الأقليات بجملتها لا تبلغ عُشْر هذه الأكثرية الساحقة لها ،
وإنما تفوقها في ثروتها النسبية وجامعتها .
خطر إباحة النساء أو تحريرهن :
إن مسألة فوضى النساء التي يعبر عن دعايتها بتحرير المرأة ، وتفضيل
تهتكها - المعبَّر عنه بالسفور - على صيانتها وعفتها المعبر عنهما بالحجاب ، قد
هبطت بالقطر المصري وغيره من شعوب الشرق المتفرنجة إلى مهواة من أشد
المهاوي خطرًا على أعراضها وتكوين بيوتها ( عائلاتها ) وعلى ثروتها وصحتها ،
وإن سمى المفسدون دعاة الإباحة والدياثة هذا الخطر تجديدًا وتمدينًا ، فقد صار النساء
من ربات البيوت والأمهات ، ومن العذارى المتعلمات ، يمشين في الشوارع بالليل
والنهار ، مخاصرات للرجال ، ويغشين الملاهي والمتنزهات ، وهن كاسيات عاريات
، مائلات مميلات ، ومنهم من يسبحن في البحر حيث يسبح الرجال أو معهم ، وحيث
يراهن المارون بقرب الشواطئ منهم ، ومنهن من يختلفن إلى المراقص المشتركة
فيرقصن معهم ، وهن أشد من الأجنبيات عريًا وتهتكًا وخلاعة ومجونًا ورقاعة ،
ومنهن من يدخلن في خلوات الحلاقين حيث يقصون لهن شعورهن ويحلقون لهن
أقفيتهن ، ويزينون لهن نحورهن وصدورهن ، وهنالك يلتقين بأخدانهن ، ولا تسل عن
حديثهما جهرًا ، وتواعدهما سرًّا ، دع ذكر تعدد المواخير السرية ، على كثرة الجهرية،
ومن المخادنات الشخصية ، والجرائد والمجلات الكثيرة تغري بهذا أو تذكر من
وقائعه ما يجرئهن عليه .
وكان أول ما أعقبه هذا الفساد من الخطر قلة الزواج ، المهدد للأمة بالوقوف
عن النماء ، فالانقراض والفناء .
إن خصوم الإسلام القاعدين له كل مرصد يضحكون سرورًا مما أصابه من
الخزي بأهله ، الذين يمهدون لهم السبل لاستعبادهم ، والاستعمار لسائر بلادهم ،
ويرقبون كل نبأة للإصلاح تخرج من فم أحد حكمائهم ، أو حركة للتجديد الحق
يختلج بها بعض أعضائهم ، فيبادرون إلى تحذير دولهم منها ، وحضهم على تلافي
ما يخشى من تأثيرها ، ثم إنهم يطعنون فيمن صدرت عنه لصد المسلمين الغافلين
عنها ، كما ترى في مقال ( ما يقال عن الإسلام في أوربة ) من هذا الجزء نقلاً عن
( جول سيكار ) العسكري الفرنسي ( والأب لامنس ) القس الجزويتي ، والدكتور
( سنوك ) السياسي الهولندي ، من كلامهم في الأستاذ الإمام وصاحب المنار ، وما
قاما به من دعوة الإصلاح ، ورأيهم في المجلة وتفسيرها ، ورسالة التوحيد وتحقيقها ،
وتعزية أنفسهم بأن حركة التفرنج العصرية ، قد أخذت تنتقص الأصول الدينية ،
وبأن أفكار الشيخ محمد عبده التي تغلغلت في عقول المفكرين ، وكان لها المجال
الواسع لدى الشبان المسلمين ، تلقى أشد الإنكار من أرباب العمائم الجامدين ، قالوا
( ولهذا تجد مريدي الشيخ عبده متضائلين لا يقدرون أن يجهروا بأفكارهم ، لقلة
عددهم ، ولشدة مقاومة الجامدين لهم ) .
بشائر الإصلاح :
وإننا نبشر هؤلاء الشامتين ، الذين يتربصون ريب المنون بالإسلام والمسلمين ،
معتمدين على مساعدة الملاحدة المتفرنجين بأن طلائع النصر قد رفعت أعلامها
على رؤوس المصلحين ، وانتهت رياسة علماء الدين إلى أحد تلاميذ الأستاذ الإمام ،
ونوابغ مريديه الأعلام ، وهو الأستاذ الأكبر ، الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ
الجامع الأزهر ، وقد لقي من جلالة ملك مصر وحكومته من المساعدة ، بقدر ما كان
يلقى الشيخ محمد عبده نفسه من المناهضة والمعارضة ، فصارت ميزانية الأزهر
تبلغ مئات الألوف من الجنيهات ، وصار للمتخرجين فيه نصيب من مصالح
الحكومة ، فنكس الجامدون على رؤوسهم ، وارتكست فتنتهم بين جراثيم شيوخهم ،
وانطلقت في المعاهد الدينية ألسنة العلماء المستقلين ، وصارت رسالة التوحيد تُدَرَّس
في الأزهر للقسم العالي من الطلبة النظاميين ، وتفسير المنار هو المرجع لمدرسي
التفسير فيه ، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية متغلغلة في أحنائه ومناحيه ، بل صارت
مرجعًا للفتاوى الرسمية ، وأخذ ببعضها في إصلاح الأحكام الشخصية للمحاكم
الشرعية .
هذا وإن مفتي القدس ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين ، معدود
من هؤلاء المريدين ، وكذلك رئيس المجلس الإسلامي الذي أنشئ أخيرًا في بيروت.
وهنالك بشارة أخرى في تحول الأحوال ، ونصر حزب الله على أحزاب
الشيطان ، من الشيوخ الجامدين ، والمتصوفة الخرافيين ، والمتفرنجين الملحدين
الفاسقين ، وهو تأليف جمعية الشبان المسلمين ، وتعدد فروعها في الأقطار العربية
من شرقية وغربية ، وفوق ذلك كله يقظة الأمة العربية في جزيرتها ، وشروعها في
تنظيم قوتها ، واتفاق إماميها في الجنوب والشمال على شد أواخي وحدتها باليمين
والشمال ، والأمم إذا عرفت نفسها وتعارفت شعوبها ، تعذر على غيرها القضاء
عليها والاستبداد فيها ، فلا يستعجلن سيكار الفرنسي وسنوك الهولندي وأمثالهما
بإغراء دولهما بسرعة القضاء على المسلمين ، فربما كان هذا الاستعجال قضاء
على سلطان مجترحيه فيهم لا عليهم ولو بعد حين ، وربما كانت محاسنتهم ،
والتوسعة عليهم في حرية دينهم ، ومساعدتهم على تنمية ثروتهم ، أقرب إلى طول
العهد على الاستفادة منهم .
وليعلموا أن المنار ليس عدوًّا لدولة من الدول ، ولا خصمًا لشعب من الشعوب ،
ولا لعلوم الغرب وفنونه المنزهة عن فسقه ومجونه ، كما يقول سيكار وأمثاله ؛
وإنما هو صديق لأمته ولمن يصدق في ودها ، وليسأل إن شاء مسيو ( روبير
دوكيه ) أشد خصم للمسلمين في سورية وأقوى داعية إلى استعمارها ، عما نصحت
به له ودللته عليه في سنة 1920 عن الطريق المعقول لكسب فرنسة مودة المسلمين
عامة والعرب خاصة ، وسورية بالأخص بما يُعلي نفوذها الأدبي والاقتصادي في
الشرق كله ، وعن قوله لي أن هذا مشروع معقول لا خيالي ، وأنه يمكن تنفيذه إذا
وُجد منا ومنكم من يقول به .
ثم ليسأل مسيو ( هانوتو ) عما كتبته إليه بهذا المعنى في جنيف سنة 1921 ،
فإذا علم هذا وعقله حكم بأنه يوجد فيمن يعدونهم أعداء لفرنسة من هم خير لها من
بعض ضباطها وقسوس جزويتها ، الذين يسخرون نفوذها لمنافعهم دون مصلحتها .
والعاقبة للتقوى ، والسلام عن من اتبع الهدى .
هذا وإننا على ما عهد قراء المنار منا وهو ما عاهدناهم عليه منذ سنته الأولى
من النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم ، وهم أول من يتلقاها
منهم ، ويدخل في ذلك الدفاع بيان حقائق التنزيل ، وما بيَّنه من سنة الرسول ،
ومقاومة البدع والخرافات ، وإبطال شبهات الزندقة والإلحاد والتحذير من أخطار
الاستعمار ، والدمدمة على ضلالات المبشرين ، وفضيحة مخازي المتفرنجين .
وتزييف مغالطات الماديين ، وتأييد حرب الإصلاح والمصلحين والإصغاء لانتقاد
المخلصين ، ونرجو من أهل الغيرة على الأمة والحرص على إحياء مجد الملة من
إخواننا العلماء ، وسائر أفراد القراءة أن يشدوا أزرنا ، ويؤدوا لنا حقنا ، فقد آن لهم
أن يعتبروا بتعاون الملحدين والمفسدين على باطلهم ، وتظاهرهم على من يَرُدّ على
أحد منهم ، بل آن لحزب الإصلاح - الوسط بين حزب الجمود والتقليد ، وحزب
التفرنج الملقب بالتجديد - أن يجمعوا كلمتهم ، ويوحدوا شتيتهم ، ويتعارف شرقيهم
بغربيهم ، وجنوبيهم بشماليهم ، فإن يد الله على الجماعة ، وإنما يأكل الذئب من الغنم
القاصية ، وأرجو أن يكون آخر المنار خيرًا من أوله ، وأن يزيده الله توفيقًا
بإحسانه وفضله ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .
(30/1
 
عودة
أعلى