علي المالكي
New member
إن اللغة العربية هي أفضل اللغات على الإطلاق، ويكفي دليلًا على فضلها وشرفها أن الله -سبحانه- اختارها لتكون لغة الرسالة الخالدة التي اختتم بها رسالاته.
أضف إلى ذلك أنها اختصت بخصائص امتازت بها على اللغات الأخرى؛ مثل سعة مفرداتها، ودقّة دلالاتها، وجودة اشتقاقاتها... وغير ذلك.
فكيف يقال اليوم: إننا نحتاج إلى عَصْرَنةِ اللغة وجَعْلِها مناسبةً لأذواق أهل العصر؟!
لقد قال أحمد شوقي على لسان اللغة العربية:
وَسِعْتُ كتابَ اللهِ لفاظًا وغايةً .. وما ضِقتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلةٍ .. وتقديم أسماءٍ لمخترَعاتِ
أنا البحر في أحشائه الدرُّ كامنٌ .. فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
وأما ما يقوله بعض قاصري النظر مِن أنّ الناس يحبون اللغة العالَمِية ويرتاحون إليها وينجذبون - فهذا كلامٌ غير صحيح.
ثم إن هذه اللغات قد سادت بسبب غلبةِ أهلها، بعد أن كنا نحن سادةَ الدنيا، وكانت لغتُنا لغةَ العالمِ الحيةَ الأولى، وكانت تدرَّس بها كلُّ العلوم، وكان أبناء الأعاجم يتسابقون إلى تعلُّمها، ويسافرون إلى الأندلس والقيروان وغيرهما لأجل ذلك!
فالعيب إذن فينا لا في لغتنا!
ثم إن الذين يحبون اللغة السافلة إنما هم فاسدوا الذوق، والرعَاعُ والطَّغام، ونحن إذا سايرناهم على ذلك ونَزَلنا عند رغباتهم فإننا نساهم حينئذ في إفساد الذوق العام!
هل تقارن كتابات الهواة اليوم ممن يسمّون بالمدوّنين (Bloggers) أو الكتّاب الذين يكتبون القصص والروايات الهابطة أو نحوهم - هل تقارنهم بكتابات أرباب الكتابة في زماننا كمحمود شاكر والرافعي والمنفلوطي وأضرابهم، فضلا عمن سبقهم وصولًا إلى زمان الصدر الأول من الكتّاب؟!
وهل يقارَن جمهور متابعي تلك التفاهات بالقراء الذواقين الذين يعرفون قيمة اللغة العالية ويَرْبَؤون بأنفسهم عن الأدب الوضيع والرخيص؟!
تلك إذن قسمة ضيزى!
ما لكم كيف تحكمون؟!
لا يصح إلا الصحيح!
وقد ذم الله الكثرة في غيرما آية من كتابه، ومدح القلة، والشواهد على ذلك أشهر من أن تذكر، فما علينا إلا أن ننصر الحق، وإلا نجاري الكثرة على الخطأ؛ حتى لا نكون سببًا في زيادة سوادهم.
إن اللغات الإنسانية -عمومًا- تتطور وتتغير باختلاف الزمان والمكان، وهذا التطور له أسبابٌ دينية واجتماعية وجغرافية وغير ذلك، وقد ازداد في زماننا في ظل العولمة وثورة الاتصالات والانفتاح والامتزاج بين اللغات والثقافات.
واللغاتُ (اللهجات)¹ العربيةُ أكثرُها يخضع لهذه الظاهرة؛ فلُغاتُ القبائلِ العربية القديمة تطورت عبر الزمن حتى صارت في زماننا إلى شكلها الحالي المتمثل فيما يُعْرف بـ(اللهجات العامية).
لكن هناك أنموذج من اللغة العربية ظل صامدًا أمام عوامل التطور أكثر من خمسة عشر قرنًا، وسيظل كذلك إلى يوم القيامة؛ هذا الأنموذج هو ما يُعرف بـ(اللغة الفصحى)، وهي صورة من صور اللغة العربية تمثّلها في أبهى حُلَلِها وأعلى مراتبِها؛ إذْ إنها تحوي المختارَ من فصيحِ لغاتِ العرب، وكانت اللغةَ المشتركةَ بين القبائل، يتواصلون بها فيما بينهم.
وهذه اللغة الفصحى هي التي نزل بها القرآنُ الكريم، وأدى بها رسولُنا الكريمُ بيانَه، ونُقل بها عِلْمُ الشريعة، وكُتب بها التراث الإسلامي والعربي.
وسبب ثبات هذه اللغة أن الله -تبارك وتعالى- توَلّى حِفْظَ إلى يوم القيامة؛ إذْ إن حِفْظَها سببٌ من أسباب حفظ الرسالة الخالدة التي اختارها -سبحانه- لتكون خاتمة الرسالات، وتكون حجتَه على عباده إلى يوم القيامة.
فهذه خصيصة امتاز بها هذا الأنموذج على سائر أطوار اللغة العربية بَلْهَ اللغاتِ الإنسانية كافةً.
وهذا الأنموذج مؤطّرٌ ومحدَّدٌ بزمان ومكان، وقد اختلفت أنظار علماء اللغة واجتهاداتُهم في تحديد هذا الزمان وهذا المكان، لكنهم يتفقون -في الجملة- على أن لهذا الأنموذج حدودًا زمانية ومكانية لا يُعدُّ ما خرج عنها داخلًا في ذلك الأنموذج.
وبناء على ذلك فإن هذا الأنموذج اللغوي لا يصح أن نُدخل عليه ما ليس منه، لا على المستوى الصوتي، ولا على المستوى الصرفي، ولا على المستوى النحوي، ولا على المستوى الدلالي، سواء أكان هذا الدخيل من اللهجات العامية العربية أم من اللغات الأعجمية؛ وذلك لأن هذا يعدُّ تحريفًا للغة الفصحى، ونحن نعلم أنَّ صيانة اللغة الفصحى عن التحريف والتغيير هو مِن أهمّ أسبابِ دراسة علماء اللغة القدماء للغة العربية ودفاعهم عنها؛ لأن اللغة وعاءُ العلم، فإذا اختل الوعاءُ أثَّر ذلك فيما يحمله. ونحن نرى كيف أن الخلل في فهم اللغة يسبب خللًا في فهم نصوص الشريعة.
فكيف بعد كل هذا يُفتح البابُ لأنْ يُدخَلَ على اللغة الفصحى ويُقحمَ فيها ما هو أجنبي عنها؟!
والفصحى ليست فقيرة حتى يقال إنه يُحتاج إلى أن نقترض لها من غيرها ما تغتني به!
ففيها مثلا خاصية الاشتقاق التي تجعلها مرنة أكثر من أي لغة أخرى، كما أن هناك شيئا اسمه القياس، وقد قال بعض أهل اللغة: «ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب».
فليس هناك إذن ذريعة لتلك (الدياثة اللغوية) التي تحارب المعيارية حرًا شعواءَ وتريد أن تَسُود الوصفيةُ وتهيمنُ على كلّ الدراسات اللغوية.
إذا أردتَ أن تدرس لغة معينة خارج إطار ذلك الأنموذج زمانًا أو مكانًا فلتكن دراستُك لها وصفيةً فقط، أو لغرض المعيارية في نطاق ضيق.
بمعنى أنك تدرسها لتصف تلك اللغة؛ لأجل أن تُفهم نصوصُها، أو لكي يتعلمها -إن كانت لغة معاصرة- من يريد أن ينتقل للعيش في البلاد التي تتكلم هذه اللغة حتى يستطيع التواصل مع أهلها.
وأما أن يؤخذ من تلك اللغات كل مرة أشياء تُقحَمُ في اللغة الفصحى فلا؛ لأن هذا هو التحريف بعينه، وهذا هو الذي قامت علوم العربية وبذلت كل تلك الجهود من أجله، أفنأتي نحن من بعدهم ونهدم البناء الذي ظلوا قرونًا يشيدونه؟!
هل نخرب بيوتنا بأيدينا؟!
هل نكون عونًا لأعدائنا عليها؟!
إن أعداءنا حينما أدركوا أنه لا جدوى من احتلال بلاد المسلمين بالقوة العسكرية وجَهوا جهودَهم لاحتلالها بالقوة الناعمة Soft power -على حد تعبير Joseph Nye- وذلك بالغزو الثقافي، وفي مقدمة ذلك الغزوُ اللغوي؛ لأن إفساد اللغة يعني إفساد فهم الشريعة على الناس.
فليُعِدْ أصحاب تلك الفِكَرِ النظرَ في اتجاههم هذا حتى لا يُفسدوا من حيث يظنون أنهم يصلحون!
---------------------
¹ كان القدماء يستخدمون مصطلح: (اللغة) للتعبير عن اللهجات العربية، فيقولون مثلا: لغة قريش، لغة قيس، لغة طيئ... إلخ.
واليوم يستخدم دارسو علم اللغة كلمة (اللهجة) للتعبير عن هذا المعنى.
أضف إلى ذلك أنها اختصت بخصائص امتازت بها على اللغات الأخرى؛ مثل سعة مفرداتها، ودقّة دلالاتها، وجودة اشتقاقاتها... وغير ذلك.
فكيف يقال اليوم: إننا نحتاج إلى عَصْرَنةِ اللغة وجَعْلِها مناسبةً لأذواق أهل العصر؟!
لقد قال أحمد شوقي على لسان اللغة العربية:
وَسِعْتُ كتابَ اللهِ لفاظًا وغايةً .. وما ضِقتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلةٍ .. وتقديم أسماءٍ لمخترَعاتِ
أنا البحر في أحشائه الدرُّ كامنٌ .. فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
وأما ما يقوله بعض قاصري النظر مِن أنّ الناس يحبون اللغة العالَمِية ويرتاحون إليها وينجذبون - فهذا كلامٌ غير صحيح.
ثم إن هذه اللغات قد سادت بسبب غلبةِ أهلها، بعد أن كنا نحن سادةَ الدنيا، وكانت لغتُنا لغةَ العالمِ الحيةَ الأولى، وكانت تدرَّس بها كلُّ العلوم، وكان أبناء الأعاجم يتسابقون إلى تعلُّمها، ويسافرون إلى الأندلس والقيروان وغيرهما لأجل ذلك!
فالعيب إذن فينا لا في لغتنا!
ثم إن الذين يحبون اللغة السافلة إنما هم فاسدوا الذوق، والرعَاعُ والطَّغام، ونحن إذا سايرناهم على ذلك ونَزَلنا عند رغباتهم فإننا نساهم حينئذ في إفساد الذوق العام!
هل تقارن كتابات الهواة اليوم ممن يسمّون بالمدوّنين (Bloggers) أو الكتّاب الذين يكتبون القصص والروايات الهابطة أو نحوهم - هل تقارنهم بكتابات أرباب الكتابة في زماننا كمحمود شاكر والرافعي والمنفلوطي وأضرابهم، فضلا عمن سبقهم وصولًا إلى زمان الصدر الأول من الكتّاب؟!
وهل يقارَن جمهور متابعي تلك التفاهات بالقراء الذواقين الذين يعرفون قيمة اللغة العالية ويَرْبَؤون بأنفسهم عن الأدب الوضيع والرخيص؟!
تلك إذن قسمة ضيزى!
ما لكم كيف تحكمون؟!
لا يصح إلا الصحيح!
وقد ذم الله الكثرة في غيرما آية من كتابه، ومدح القلة، والشواهد على ذلك أشهر من أن تذكر، فما علينا إلا أن ننصر الحق، وإلا نجاري الكثرة على الخطأ؛ حتى لا نكون سببًا في زيادة سوادهم.
إن اللغات الإنسانية -عمومًا- تتطور وتتغير باختلاف الزمان والمكان، وهذا التطور له أسبابٌ دينية واجتماعية وجغرافية وغير ذلك، وقد ازداد في زماننا في ظل العولمة وثورة الاتصالات والانفتاح والامتزاج بين اللغات والثقافات.
واللغاتُ (اللهجات)¹ العربيةُ أكثرُها يخضع لهذه الظاهرة؛ فلُغاتُ القبائلِ العربية القديمة تطورت عبر الزمن حتى صارت في زماننا إلى شكلها الحالي المتمثل فيما يُعْرف بـ(اللهجات العامية).
لكن هناك أنموذج من اللغة العربية ظل صامدًا أمام عوامل التطور أكثر من خمسة عشر قرنًا، وسيظل كذلك إلى يوم القيامة؛ هذا الأنموذج هو ما يُعرف بـ(اللغة الفصحى)، وهي صورة من صور اللغة العربية تمثّلها في أبهى حُلَلِها وأعلى مراتبِها؛ إذْ إنها تحوي المختارَ من فصيحِ لغاتِ العرب، وكانت اللغةَ المشتركةَ بين القبائل، يتواصلون بها فيما بينهم.
وهذه اللغة الفصحى هي التي نزل بها القرآنُ الكريم، وأدى بها رسولُنا الكريمُ بيانَه، ونُقل بها عِلْمُ الشريعة، وكُتب بها التراث الإسلامي والعربي.
وسبب ثبات هذه اللغة أن الله -تبارك وتعالى- توَلّى حِفْظَ إلى يوم القيامة؛ إذْ إن حِفْظَها سببٌ من أسباب حفظ الرسالة الخالدة التي اختارها -سبحانه- لتكون خاتمة الرسالات، وتكون حجتَه على عباده إلى يوم القيامة.
فهذه خصيصة امتاز بها هذا الأنموذج على سائر أطوار اللغة العربية بَلْهَ اللغاتِ الإنسانية كافةً.
وهذا الأنموذج مؤطّرٌ ومحدَّدٌ بزمان ومكان، وقد اختلفت أنظار علماء اللغة واجتهاداتُهم في تحديد هذا الزمان وهذا المكان، لكنهم يتفقون -في الجملة- على أن لهذا الأنموذج حدودًا زمانية ومكانية لا يُعدُّ ما خرج عنها داخلًا في ذلك الأنموذج.
وبناء على ذلك فإن هذا الأنموذج اللغوي لا يصح أن نُدخل عليه ما ليس منه، لا على المستوى الصوتي، ولا على المستوى الصرفي، ولا على المستوى النحوي، ولا على المستوى الدلالي، سواء أكان هذا الدخيل من اللهجات العامية العربية أم من اللغات الأعجمية؛ وذلك لأن هذا يعدُّ تحريفًا للغة الفصحى، ونحن نعلم أنَّ صيانة اللغة الفصحى عن التحريف والتغيير هو مِن أهمّ أسبابِ دراسة علماء اللغة القدماء للغة العربية ودفاعهم عنها؛ لأن اللغة وعاءُ العلم، فإذا اختل الوعاءُ أثَّر ذلك فيما يحمله. ونحن نرى كيف أن الخلل في فهم اللغة يسبب خللًا في فهم نصوص الشريعة.
فكيف بعد كل هذا يُفتح البابُ لأنْ يُدخَلَ على اللغة الفصحى ويُقحمَ فيها ما هو أجنبي عنها؟!
والفصحى ليست فقيرة حتى يقال إنه يُحتاج إلى أن نقترض لها من غيرها ما تغتني به!
ففيها مثلا خاصية الاشتقاق التي تجعلها مرنة أكثر من أي لغة أخرى، كما أن هناك شيئا اسمه القياس، وقد قال بعض أهل اللغة: «ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب».
فليس هناك إذن ذريعة لتلك (الدياثة اللغوية) التي تحارب المعيارية حرًا شعواءَ وتريد أن تَسُود الوصفيةُ وتهيمنُ على كلّ الدراسات اللغوية.
إذا أردتَ أن تدرس لغة معينة خارج إطار ذلك الأنموذج زمانًا أو مكانًا فلتكن دراستُك لها وصفيةً فقط، أو لغرض المعيارية في نطاق ضيق.
بمعنى أنك تدرسها لتصف تلك اللغة؛ لأجل أن تُفهم نصوصُها، أو لكي يتعلمها -إن كانت لغة معاصرة- من يريد أن ينتقل للعيش في البلاد التي تتكلم هذه اللغة حتى يستطيع التواصل مع أهلها.
وأما أن يؤخذ من تلك اللغات كل مرة أشياء تُقحَمُ في اللغة الفصحى فلا؛ لأن هذا هو التحريف بعينه، وهذا هو الذي قامت علوم العربية وبذلت كل تلك الجهود من أجله، أفنأتي نحن من بعدهم ونهدم البناء الذي ظلوا قرونًا يشيدونه؟!
هل نخرب بيوتنا بأيدينا؟!
هل نكون عونًا لأعدائنا عليها؟!
إن أعداءنا حينما أدركوا أنه لا جدوى من احتلال بلاد المسلمين بالقوة العسكرية وجَهوا جهودَهم لاحتلالها بالقوة الناعمة Soft power -على حد تعبير Joseph Nye- وذلك بالغزو الثقافي، وفي مقدمة ذلك الغزوُ اللغوي؛ لأن إفساد اللغة يعني إفساد فهم الشريعة على الناس.
فليُعِدْ أصحاب تلك الفِكَرِ النظرَ في اتجاههم هذا حتى لا يُفسدوا من حيث يظنون أنهم يصلحون!
---------------------
¹ كان القدماء يستخدمون مصطلح: (اللغة) للتعبير عن اللهجات العربية، فيقولون مثلا: لغة قريش، لغة قيس، لغة طيئ... إلخ.
واليوم يستخدم دارسو علم اللغة كلمة (اللهجة) للتعبير عن هذا المعنى.