الكيد في سورة يوسف /أ . د . كريم الوائلي.

أم الأشبال

New member
إنضم
30/06/2004
المشاركات
503
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله تعالى ، والصلاة والسلام على نبينا محمد .
أما بعد :
هذا جزء من مقال :
الاخفاء والاظهار تأملات في سورة يوسف بقلم:للــ أ . د . كريم الوائلي.
أعجبني كثيرا ، حيث يظهر لنا من خلاله شيء من ملامح صبر نبي الله يوسف عليه السلام وهو ينتقل من كيد إلى كيد كلما وجد من يحبه ويعطف عليه ، ومع ذلك يتقي الله ويصبر ليحبه ربه ويصطفيه بفضله وكرمه.


الكيــــــد

يعني الكيد في اللغة « الخبث والمكر ... والكيد الاحتيال والاجتهاد » بمعنى أنَّ الكيد إخفاء ما يضمر الإنسان للأخر من فعل ، وينصرف الكيد أساساً إلى فعل الشر في الغالب ، وأكد هذا المعنى المفسر الطاهر بن عاشور في قوله : إنَّ الكيد« يرادف المكر والحيلة... إنَّ الكيد أخص من الاحتيال وما ذلك إلاّ لأنه غلب استعماله في الاحتيال على تحصيل ما لو اطلع عليه المكيد لاحترز منه فهو احتيال فيه مضرة ما على المفعول به » ومن ثم فإنَّ الكيد« فعل شيء في صورة غير المقصودة للتوصل إلى مقصود » وفي سورة يوسف ثلاثة انماط من الكيد ، وهي على النحو التالي :
1 ـ الكيد الأول : كيد أخوة يوسف ، وهو كيد شر .
2 ـ الكيد الثاني : كيد امرأة العزيز ، وهو كيد شر .
3 ـ الكيد الثالث : كيد يوسف لاخوته ، وهو كيد خير .

الكيد الأول :
ولاريب أنَّ لكل كيد دوافعه ، وتكمن دوافع الكيد لدى أخوة يوسف في الوهم في الإحساس بالتمايز بين الأبناء ، إذ توهم أخوة يوسف أنَّ يعقوب عليه السلام كان يمايز بينهم وبين يوسف وأخيه . قال تعالى : «إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ » .

ولقد مر كيد أخوة يوسف بمراحل متعددة يكتنفها الإخفاء والإظهار على النحو التالي :

1 ـ التخطيـــط :
وفيه يخطط أخوة يوسف للتخلص من يوسف ، ويظهر أنَّ قضية التخلص من يوسف يعد امراً مفروغاً منه ، ولكنهم اختلفوا أول الأمر في الكيفية التي يتم فيها التخلص من يوسف ، ثم استقر رأيهم بعد ذلك على قرار واحد .
إنَّ البدائل المطروحة للتخلص من يوسف تنحصر في :
1ـ قتل يوسف .
2 ـ طرحه ارضاً .
3 ـ إلقاؤه في غيابة الجب .
والهدف من ذلك تحقيق الغاية التي تزيل دوافع الكيد ، وهي الانفراد بمحبة الأب . وصلاح حالهم في قوله تعالى« اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ » ويبدوا أنَّ أثر الدوافع كان قوياً وعنيفاً في نفوس أخوة يوسف ، ومما يدل على ذلك البدائل المطروحة ، القتل ، والطرح في الأرض ، ومن ثم الإلقاء في غياية الجب ، ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أنَّ « القتل » كان البديل الأول المطروح .
وكان التركيب اللغوي يعبر عن حركية الحدث ، إذ تتكون الآية الكريمة من مجموعة من الجمل الفعلية القصيرة المتلاحقة ،« اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ(9)قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ» .

2 ـ التنفيـــذ :
ويلحق التخطيط التنفيذ ، وهو الاحتيال في استدراج يوسف إلى تنفيذ الكيد ، ويتم ذلك عبر حلقين:

( أ ) ما قبل الإلقاء في الجب :
ويشتمل على إظهار الحرص والمحبة والنصح ليوسف ، وإضمار وإخفاء الحقد عليه قال تعالى :« قَالُوا يَاأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ(11)أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(12)قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ(13)قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ » .

( ب ) ما بعد الإلقاء في الجب :
ويشتمل على إظهار الحزن والبكاء على يوسف ، وإخفاء السرور ، قال تعالى «وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ » .

3 ـ الاتهــــام :
ويشتمل كيد اخوة يوسف على اتهام الذئب بقتل يوسف ، قال تعالى :« قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ » .

4 ـ الدليــــل :
وهو القميص ، الذي لطخه اخوة يوسف بدم كذب .« ووَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ» .

إنَّ كيد أخوة يوسف يكتنفه الإخفاء والإظهار ، فالتخطيط والتنفيذ والاتهام والتدليل كلها تمثل ظاهراً لا يمثل الحقيقة ، وتحيل إلى باطن يمثل الحقيقة . التي تمثل الوجه الأخر ، كما أنَّ إلقاء يوسف في الجب يشتمل في الوقت نفسه على إخفاء يوسف ، غير أنَّ إخراج يوسف من الجب يمثل إظهارا ، وكأنَّ حياة يوسف تمر بمراحل متعددة فما ان يخرج من كيد ، حتى يدخل في كيد آخر . إخفاء وإظهار بكيفيات متعددة.
الإظهار = إخراج يوسف من الجب
وتتجلى مظاهر الإخفاء والإظهار على مستوى التركيب اللغوي على النحو التالي:
الخفي الظاهر
لا تأمنا تأمنا
غير ناصحين ناصحون
غير حافظين حافظون
غير غافلين غافلون
غير خاسرين خاسرون
غير صادقين صادقون
لا يكون يكون
غير صالحين صالحون
لا يخلو يخلو لكم وجه أبيكم
ومن الجدير بالذكر أنَّ الكيد وتنفيذه يقودان يوسف من مرحلة إلى أخرى ، وكأنه ينتقل من كيد إلى كيد آخر .

الكيد الثاني :
أما الكيد الثاني فإنه يلتقي مع الكيد الأول في كونه كيد شر ، وإذا كان اخوة يوسف قد خططوا للتخلص منه وابعاده عنهم ، فإنَّ امرأة العزيز قد خططت هي الأخرى من أجل التواصل مع يوسف ، كما أنَّ هذا الكيد تبعث على تحقيقه دوافع امرأة العزيز وهي دوافع الإعجاب والانبهار بشخصية يوسف وكمال جماله .
ويتم تحقيق الكيد وفق المراحل التالية :

1 ـ التخطيـــط :
بمعنى أنَّ امرأة العزيز قد خططت لتحقيق التواصل مع يوسف ، ويدل على ذلك عملية التنفيذ التي عرض لها القرآن الكريم .

2 ـ التنفيــــذ :
إن تنفيذ الكيد الأول لا يشترط في تحقيقه رغبة الكائد والذي وقع عليه الكيد ، ولذلك تمكن اخوة يوسف من إلقاء يوسف في الجب . أما مع امرأة العزيز فإنَّ تنفيذ الكيد لا يتحقق تماماً إلا بتوافق رغبة امرأة العزيز ورغبة يوسف عليه السلام . ولذلك كان الطرف الفاعل في هذه القضية المرأة ، والذي يقع عليه الفعل هو يوسف ، الذي يعيق تحقيق هذه الرغبة بالامتناع . قال تعالى :« وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» .
ويظهر أنَّ المراودة قد شابها قدر من امتلاك الأخر بالقهر ، بدليل تخلص يوسف باستباقها إلى الباب« وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ» .

3 ـ الاتهـــام :
وكما أنَّ كيد اخوة يوسف قد اشتمل على إزاحة التهمة عن الجاني إلى غيره ، أي إزاحة تهمة الإخفاء من اخوة يوسف إلى الذئب ، فإنَّ امرأة العزيز تزيح تهمة المراودة عن نفسها وتسقطها على يوسف نفسه ، «قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ » .

4 ـ الدليـــــل :
لقد كان قميص يوسف عليه السلام دليلاً في كيد أخوة يوسف ، حين لطخوا القميص بدم كذب ، واتهموا الذئب في قتله ، وفي هذا الكيد يتحول قميص يوسف المقدود إلى دليل براءة يوسف ، وعلى الرغم من أنَّ قميص يوسف في الكيد الأول يستخدم دليلاً بالدم دون إشارة إلى تمزيقه ، لأنَّ الآية القرآنية لم تعرض لتمزيق القميص ، فإنَّ القميص في كيد امرأة العزيز يكون مقدوداً ، ويتحدد تمزيقه من الخلف لتأكيد براءة يوسف . « قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ » .
إنَّ كيد امرأة العزيز تكتنفه هو الأخر أبعاد الإخفاء والإظهار،فإنَّ التخطيط والتنفيذ والاتهام كلها تظهر شيئاً ، وتخفي خلافه .

الإظهار : الشهادة ببراءة يوسف :ـ
ولقد تأكدت براءة يوسف من خلال ثلاثة طرق :
1- الشاهد الذي أرسى قواعد الاتهام والبراءة في الموقع الذي تحدد فيه تمزيق القميص ،« وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ(26)وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ »
2- العزيز نفسه الذي برأ يوسف حين رأى قميص يوسف مقدوداً من دبر . وأكد أنَّ هذا من كيدهن « فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ » .

3- لوحة تأكيد البراءة من خلال نسوة المدينة . واعتراف امرأة العزيز بمراودتها إياه وإصرارها على ذلك ، وتكرارها« وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(30)فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ(31)قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ » .

وإذا كانت براءة يوسف تحققت من خلال إظهار الحق .. فإنَّ يوسف يقع في إخفاء أخر وهو السجن ، ولكنه يختلف عن إخفاء غيابة الجب ، لأنَّ الإخفاء في غيابة الجب إجباري أُكره يوسف عليه ، أما السجن فإنه إخفاء اختياري ، كان أحب إليه من ارتكاب الكبيرة .

الكيد الثالث :
وتتجلى مظاهر الإخفاء والإظهار في كيد يوسف لاخوته ، فلقد عرف يوسف أخوته وهم له منكرون، وكان لدى يوسف دافع خطط له ونفذه ، وكان يهدف إلى رأب الصدع مع اخوته وان يحقق التواصل مع أسرته كاملة .ومر كيد يوسف بالمراحل التالية :

1 ـ التخطيط :
وتتجلى ملامح التخطيط من خلال مراحل التنفيذ .

2 ـ التنفيـــذ :
* المرحلة الأولى : منع الكيل ، ومنع الكيل فيه إخفاء وإظهار ، إذ اشترط يوسف أنَّ الكيل لا يتم إلا بحضور شقيقه ، وقد تضمن ذلك إخفاء بضاعتهم في رحالهم .

* المرحلة الثانية : الاتهام بالسرقة ، بعد أنْ دبر أمر وضع السقاية في رحل أخيه .

3 ـ الاتهـــام :

لقد اتهم يوسف اخوته بالسرقة« فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ(70)قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ(71)قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ » .

4 ـ الدليـــل :
إخراج السقاية من رحل أخيه« فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ » .

5 ـ الإخفاء :
استرقاق أخيه ، وهو ظاهر له باطن . لأنَّ العبودية لم تتحقق ، اصلاً ليقود الإخفاء هنا إلى إظهار .

تأملات في أنماط الكيد :
إنَّ يعقوب وأسرته يعيشان في البادية« وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ» وتتحدث الآيات القرآنية الكريمة عن مكان عيش هذه الأسرة وتتجلى في ملامح عديدة منها قوله تعالى:

« يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ » ويرتع له دلالته الرعوية التي تحدد ملامح السكنى في البادية ، إضافة إلى البئر الذي القي فيه يوسف ، ويمكن أنْ نضيف إلى ذلك أنَّ الرؤيا كانت تتنفس في المناخ نفسه ، لأنَّ البادية مكان مفتوح وممتد ، ومن هنا كان للذئب دور في الاتهام ، كما أنَّ مظاهر الكون تتجلى بشكل أكثر وضوحا والتصاقا من المدينة ، ولذلك كانت رؤيا يوسف ذات طبيعة كونية ، كواكب وشمس وقمر . ومن الجدير بالذكر أنَّ مجتمع البادية يتجلى التفاضل على أتساس الكم« ونحن عصبة » كما تتجلى فيه بعض ملامح القوة والقسوة ، لدرجة تذكر بحديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من بدا جفا ، ولذلك كانت بدائل التخلص من يوسف : القتل والطرح في الأرض ، أو الإلقاء في الجب ، وكان البديل الأول هو القتل ، فضلا عن دال تلطيخ قميص يوسف بدم كذب .

أما الكيد الثاني فإنه يقع في المدينة ، فامرأة العزيز تسكن المدينة ، وللمدينة ملامحها في السكنى ، وفي العلاقات الاجتماعية مع نساء أخريات« نسوة المدينة » وأول ما يبده الذهن أنَّ التفاضل في المدينة بخلاف البادية يتأسس على العقل والفعل ، وأن مجتمع المدينة يتحدد وجوده بمساحات محدودة ، وأبواب تغلق ، وينتقل فيه الكيد من الفعل الإنساني القائم على الحدة والقسوة في الايثار ـ كما هو الحال مع أخوة يوسف ـ إلى الاحتيال والتخطيط المسبق في تحقيق التواصل العاطفي ـ حال امرأة العزيز ـ وإذا كان الكيد الأول يتنفس في مكان مفتوح على الطبيعة ، تتجلى فيه المفردات الدالة عليها ويتأسس على : القتل والطرح أرضا أو الإلقاء في الجب ، فإنَّ الكيدين الثاني والثالث يتنفسان في مناخ المدينة ، ومن ثم فإنَّ طبيعة الكيدين تقودان إلى السجن حقيقة والاسترقاق ظاهرا ، أي سجن يوسف ، واسترقاق يوسف لأخيه في ظاهر الأمر .

إنَّ أنماط الكيد المتعددة تمتد من حيث حدوثها زمنياً امتداداً أفقياً :

كيد أخوة يوسف كيد امرأة العزيز كيد يوسف لأخوته

ويمثل كل كيد مرحلة مهمة من حياة يوسف ، إذ يمثل الموقع المكاني والزماني لكيد أخوة يوسف المرحلة الأولى من حياته وسط أسرته وأهله ، وبالخروج من هذا الكيد يقوده إلى الوقوع في كيد آخر يكتنفه موقع مكاني وزماني آخر في بيت العزيز وكيد امرأته .ولما كان الكيد الأول قد أوقع يوسف في الجب فإنَّ الكيد الثاني قد أوقع يوسف في السجن .

أما الكيد الثالث فإنه يمثل مرحلة أخرى تمثل امتلاك يوسف سلطة واحتلاله مكانة ويختلف الكيد هنا ، فبعد أن كان الكيدان الأول والثاني يمثلان الشر ويدفعان إلى التفريق لا التجميع فإنَّ الكيد الثالث إنما هو خير ، ويبعث إلى التجميع .

إنَّ الكيد بأنواعه الثلاثة يشترك في خصائص متكررة ، وهي :
وتمثل شخصية يوسف محوراً مركزياً ترتكز عليه مقومات الكيد ، منفعلاً في الكيدين الأول والثاني ، وفاعلاً في الكيد الثالث ، ومن الجدير بالذكر أنَّ هناك جماعة تسهم في فعل الكيد أو تتحدث عنه أو تؤثر أو تتأثر به ، ففي الكيدين الأول والثالث يمثل أخوة يوسف طرفاً أساسياً في الكيد فاعلين أو منفعلين ، وهم عصبة ، جماعة ذكور وعلاقتهم بيوسف علاقة قرابة ، أما في الكيد الثاني فإنَّ الجماعة تتمثل في جماعة إناث
« نسوة المدينة » ولا تربطهن بيوسف علاقة قرابة .

ويمثل الدم عنصرا جوهرياً وأساسياً في الكيدين الأول والثاني ، إذ يستخدم الدم ـ في الكيد الأول ـ وسيلة إيهام في تلطيخ قميص يوسف ، ويؤدي هذا الدور أخوة يوسف ، غير أنَّ الدم يتأتي ـ في الكيد الثاني ـ بسبب انبهار نسوة المدينة من جمال يوسف ، فيقطعن أيديهن ، إنَّ الدم الذي لطخ به قميص يوسف كان دماً كذباً ، وكان وسيلة للإيهام ، أما دماء نسوة المدينة فهو دم حقيقي جاء نتيجة فعل انبهاري بسبب جمال يوسف .

بقي أن أشير إلى أنَّ هناك علاقة إزاحة وإحلال في الكيدين الأول والثاني ، على النحو التالي :

* إزاحة يوسف وإحلال الاخوة أنفسهم محله وسبب الإزاحة الحسد والغيرة، ويعمد أخوة يوسف لتحقيق الإزاحة والإحلال بالمحرم «القتل / من الكبائر » .

* إزاحة امرأة العزيز زوجها وإحلال يوسف محله ، سبب الإزاحة الفتنة بالجمال وتسعى امرأة العزيز لتحقيق الإزاحة والإحلال بالمحرم « الزنا / من الكبائر » ...

http://pulpit.alwatanvoice.com/content-51668.html

تعريف :الأستاذ الدكتور: كريم الوائلي
• ناقد وأستاذ جامعي عراقي .
• عمل في الجامعات العراقية والعربية .
• الشهادات الحاصل عليها:
• بكالوريوس في اللغة العربية وآدابها ، من قسم اللغة العربية ، كلية الآداب ، جامعة بغداد ، 1975، بتقدير : ممتاز .

• ماجستير في النقد الأدبي الحديث ، من قسم اللغة العربية وآدابها ، كلية الآداب ، جامعة القاهرة ، 1982 ، بتقدير : ممتاز.
• دكتوراه في النقد الأدبي القديم ، من قسم اللغة العربية وآدابها ، كلية الآداب ، جامعة القاهرة ، 1987 ، بتقدير ممتاز ، بمرتبة : الشرف الأولى .
دبلوم عال في علم الاجتماع من معهد البحوث والدراسات العربية ، جامعة الدول العربية ، 1987 بتقدير ممتاز .
• له من الكتب :
• المواقف النقدية ،قراءة في نقد القصة القصيرة في العراق .
• الخطاب النقدي عند المعتزلة .
• الشعر الجاهلي ، قضاياه وظواهره الفنية ،
• النمط والمرآة ، قراءة في أدب صدر الإسلام
• مصادر نقد القصة القصيرة والرواية في العراق / وثائق وبيبلوغرافيا
• مرايا وينابيع ، قراءة في التراث والحداثة .

التشكيلان الايقاعي والمكاني في القصيدة العربية .
• له عدد من الدراسات ، منها :
• إبداع القصيدة بين اللغتين المعيارية والفنية في التراث النقدي ، مجلة الثقافية ، اليمن ،العدد : 191 ، 2003 .
• الحداثة / اللاحداثة ، مجلة الفصول الأربعة ، العدد 93 ، 2000.
• فناء في سجون الغربة ، تحليل نقدي لنص شعري حديث ، مجلة الموسم ، العدد: 6 ،1990.
• كيف نقرأ التراث النقدي ، ضياع القارئ بين شكلية الماضي وحداثية الآخر ، مجلة الثقافية ، اليمن ،العدد : 189 ، 2003 .
• ماهية الشعر في التراث النقدي ، الخصائص الشكلية والنوعية ، مجلة الثقافية ، اليمن ،العدد : 197 ، 2003 .
• ماهية النص ، مجلة شؤون إسلامية ( لندن ) العدد 3 ـ 2000.

[email protected]
 
عودة
أعلى