د.عبدالرحمن الصالح
New member
ما علينا ممن يظن بكل مخالف له الظنون، ويتهمه بالعداء للأمة والبعد عن صدق الانتماء، او بالمجون والجنون،
ما علينا من المتطرفين علمانيا ممن يظنون أنّ التدين قناع بسبب عجز ما عن مواجهة الحياة، وإن كان كثير من المعلنين للتدين (تخفى عليهم أحيانا و) يبطنون أقنعة يريدون بها مآرب غير دينية. ما ننكره عليهم هو التعميم والتعميم خلل عقلي لأنه إخال بشروط الاستقراء.
وهذا الأمر - أي التقنع- قديم خاض فيه الفلاسفة السوفسطائيون منذ ما قبل الميلاد.
وقال المعري:
استغفر الله واترك ما حكى لهم * أبو الهذيل وما قال ابن كُلّابِهنا دعا الى نبذ متكلم اهل السنة ابن كُلاب ومتكلم المعتزلى أبي الهذيل معاً، أي لا تتبع مذهبا فكريا تتحمس له بل عليك من مقاصد الدين الكلية فأعلى من شأن الاستغفار ، فيفصل حكيم المعرة بين الدين وبين جهود البشر في فهمه فغالبا ما تنأى بهم فهومهم وأطر تعاليمهم عن مقاصد الدين نفسه. وحين قلنا له لماذا قال:
فالدينُ قد خسّ حتى صار أشرفه * بازا لبازين أو كلباً لكلابِأي انقلب الى وسيلة لاصطياد الفرائس، ولم يعد كما كان قيما تمارس.
وهذا المذهب عريق في فكر حكيم المعرة وهو خير من يمثل الموقف الوسط بين الإسلاميين والعلمانيين ولذلك تجد له محبين من المتدينين وممن لا دين له من مثل قوله.
إنما هذه المذاهب أسبــــــــــا ب لجلب الدنيا إلى الرؤساء
غرض القوم متعةٌ لا يرقّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون لدمع الشماء والخنساء
كالذي راح يجمع الزنج بالبــــــــــــــــــــــــــــــصرة والقرمطيّ بالأحساء
فانفرد ما استطعت فالقائل الصادق يضحي ثقلا على الجلساء
ولكن يُرد على العلمانيين المتطرفين الذين يرفضون الدين من الخارج على طريقة "عقلانيي" القرن التاسع عشر الحمقى الطبيعيين، وقد أثروا في بعض مثقفي المسلمين في النصف الأول من القرن العشرين كثيرا ، وخير من رأيته سحب من تحتهم البساط بكلمة هو اريك فروم بقوله في (تجاوز أغلال الوهم) :"لم يكن خطأ عقلانيي القرن التاسع عشر أنهم أخضعوا كل شيء للعقل بل أنهم ضيقوا من مفهوم العقل". يُرد على متطرفي العلمانيين من محاربي الدين ورافضيه بقول عالم النفس النمساوي الكبير فرانكل "إن كشف الأقنعة عملية مبررة تماما ولكنها يجب أن تتوقف عندما تشاهد ما هو أصيل، لأنها إن استمرت فسوف تكشف عن دافع لا شعوري للحط من إنسانية الإنسان". فبعض الإسلاميين والمتدينين يتخذون من الدين قناعا عن عمد وبعضهم الآخر يتخذه قناعا لا عن عمد ولكن لا يشعرون بذلك كما قال لين وايت :"لقد اكتشفنا أن أهواءنا ورغباتنا تتقنع بقناع العقل" فنحن إذن ضحايا تركيبتنا العقلية دون أن نشعر ، ولذلك قال بابان صادقا مع نفسه :"إن الذين يتفقون معي هم طيبون والذين يخالفونني إما أغبياء أو دجالون ومحتالون".
فبعض الإسلاميين صادقو التدين ويوجد متدينون مبدئيون لا يساومون على دينهم، وإن انكر ذلك متطرفو العلمانيين فلا يعبأ بإنكارهم ولا يؤخذ بقولهم لأنه يدل عندنا على قصور في نظرهم وقلة خبرتهم، إن لم نقل كما قال فرانكل "عن عقدة فيهم للحط من إنسانية الإنسان"
ولكن ما يتجاهله الإسلاميون أو المتدينون في معظمهم وجود نزهاء بين غير المتدينين.
فما لكم تصدقون أن شرفاء صادقين كانوا في الجاهلية وموجودون اليوم في البدو والحضر، وتنكرون أن يكون فئة المتعلمين من العلمانيين أو غير المتدينين أو غير المبالين بالدين فيهم أيضا نزهاء وصادقون؟
هذا ولا شك قصور في هذا الصنف من الإسلاميين والكاتبين في الإسلاميات من المتدينين والمدافعين عن الدين، ولذلك تراهم يطبقون قاعدة بابان المتطرفة :"إن الذين يتفقون معي هم طيبون والذين يخالفونني هم بالضرورة محتالون ودجالون" لأن الإسلاميين لا يتهمون خصومهم بالغباء بل بتعمد النفاق والدجل.
وهذا المقال محاولة لتتبع الأسباب المعرفية أي الجائية من القصور المعرفي لا من الخلاف الأيديولوجي والعقائدي والرفض الشعوري لكل منهما لصاحبه. إذ توجد أسباب معرفية تضعف قدرة كل من الطرفين على أن يفهم نظيره فهمًا يخلو من سوء الفهم القادح، وإذا خلا الطرفان من إساءات الفهوم أمكن عندها أن يكون التنافر والرفض مبنيا على أسس معرفة وصدام منطقي حادّ، وهذا لا بأس به لأن ما نريده في هذه العجالة ليس رفض العداء ولا الدعوة الى التصالح بل إلى التفاهم السليم والتخلص من إساءات الفهوم ثم يكون المرء حرا من يعادي ومن يحايد ومن يصاحب.
لا يحتاج المرء إلى كبير نباهة وسعة اطلاع أن يدرك أن حاملات المعنى منها ما هو كلي ومنا ما هو جزئي.
فالكلي هو قواعد العقل التي يدركها المرء بالفطرة وظل الفلاسفة يحاولون حصرها حتى صرنا نجدها اليوم في أي موسوعة في الفلسفة والمنطق بأنها مبدأ الهوية، آ هو آ، أو أن التعريف لا يتطابق مع الشيء، بل توجد بينهما فجوة ناتجة عن عجز في صميم اللغة، ومبدأ عدم التناقض أي لا يكون آ موجودا وغير موجود في نفس الوقت.ومبدأ الثالث المرفوع أي أن آ إما موجود أو معدوم وليس قيمة ثالثة سواهما. ومبدأ العلة الذي حل محله مبدأ الاحتمال، فأصبحت الاحتمالية مرحلة عليا في المنطق.
والعقل بأوسع معانيه هو فعالية إدراك العلاقات بين الأشياء فكلما كثرت العلاقات المدركة بين الأشياء كلما كبرت العقلية لدى الإنسان،ولهذا كان العقل العلمي المعاصر يفوق عقول ارسطو وافلاطون والشافعي وابن حزم ليس بسبب أن الإنسان المعاصر أذكى أو أقدر على الفهم بل بسبب أن استخدام الآلة الراصدة قد وضع أمام مخ الإنسان أشياء أكثر بكثير مما كانت أمام مخ افلاطون وارسطو والشافعي وابن حزم، وأشياء أكثر تعني علاقات أكثر وفعالية إدراك العلاقات هي العقل نفسه.
والعقل آلة حيادية تكون لدى الإسلامي ولدى العلماني ولا علاقة لها بمطلقاته وإيمانه ومبادئه وموضوعه العلمي المشتغل عليه.
فيوجد أغبياء (ضعفاء القدرة على إدراك العلاقات بين الأشياء والظواهر) في الأطباء والاجتماعيين وعلماء الدين وأساتذة الجامعات وكل طبقات المجتمع، غير أن الناس قد اعتادوا عادة حسنة وهي أن يقارنوا قدرة كل إنسان بنظرائه من بني مهنته من البشر
فالطبيب تقاس قدرته على ادراك العلاقات بين الحالات المرضية واسبابها مقارنة بنظرائه من الأطبة لا بالمعلمين ولا بعلماء الدين.
وهكذا..
ولما كان موضوع الخلاف في فهم الدين مبينا على اتخاذ النصوص الدينية موضوعا للفهم وكان فهم النص اللغوي قائما على إدراك وحدات المعنى المتداخلة وعلاقاتها بتركيبات الواقع المتداخلة أيضا، كان الفهم الأقل خطأ يتأسس على حذق الجزئيات أولا وهي المفردات اللغوية بأسيقتها المتنوعة. ولما كانت الفترة المشكلة للفكر الإسلامي هي القرون الثلاثة الأولى إذ يتأسس ما بعدها عليها وكان بين الدارس المعاصر سواء كان إسلاميا أو علمانيا وبين زمان موضوعات نصوصه أكثر من ألف سنة ، احتاج الدارس الى مصادر تاريخية متقدمة لإدراك الأسيقة اللغوية.
أما العلاقات بين الوقائع المادية فقد كانت التاريخ يسير على نفس قوانين الحدث الحالي ، وكان الواقع الطبيعي سائرا على نفس قوانيني الفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة المعاصرة وإن لم تكن قد اكتشفت واختبرت وعبر عنها باللغة.
من هنا كان فهم الجزئيات وهي المفردات اللغوية ، وتراكيب الجمل العربية أي عادة العرب في خطابها غير كاف لفهم واقع يفصلنا عنه ألف سنة، بل نحتاج إحاطة بروايات الأسيقة، وبأساسيات قوانين العلوم المعاصرة الطبيعية والاجتماعية والنفسية.
ومن خلال قراءتي لكثير من الإسلاميين والعلمانيين ومن خلطوا بين المذهبين وجدت أن السبب المعرفي الرئيس لخلاف الفريقين هو قصور بضاعة الإسلاميين في العلوم العقلية والفلسفية والاجتماعية والطبيعية، أي الكليات، وقصور بضاعة العلمانيين في الجزئيات أي معاني المفردات وحذق التراكيب العربية.
فما كنا ندرك قصور الأستاذ الجابري رحمه الله في الجزئيات اللغوية حتى اقتحم ما لم ينفق عمره في اكتساب آلياته وهو علوم القرآن والتفسير، فكشف لنا عن طاقة لغوية ليست دون المستوى المطلوب فحسب ، لكنا التمسنا له العذر،بل ذات قصور فاضح. ويظل هو من هو في الكليات أي في حذق قوانين العقل العلمي وتسقيطها على تاريخ الأفكار في التاريخ الإسلامي، فحتى وهو يكتب في التفسير فإنك حين تجد ما له قيمة علمية في كتاباته فهو يعود إلى قضية كلية، فقط، فأما القضايا الجزئية التي يعتمد فهمها على المفردة أو على عادة العرب في خطابها وتركيب الجمل، فسوف يمر بك ما يضحك مما قالوا فيه شر البلية ما يضحك.
أما الإسلاميون الذين أنفقوا قسطا من أعمارهم لا بأس له في العلوم اللغوية والشرعية فإن فهمهم بارز بقدر ما تكون فيه المفردة والجملة وحدتي المعنى في سياق ما. وحين ينتقلون الى مرتية أكبر من مراتب المعنى يكشفون عن ضعف غير مقبول في هذا الجانب. والسبب أنهم حين تتلمذوا في اللغة والنحو على أساطينهما لم يتتلمذوا في المعقولات على أساطينها، من هنا كانت دائرة المعقول لديهم أوسع منها لدى العلم المعاصر، ومعروف أن دائرة المعقول كلما اتسعت كلما قل إدراك الحدود الفاصلة بين العقل واللاعقل، حتى ان دائرة المعقول عند المجنون والبدائي لا تفرق بين الواقع والخيال.
وقد يقال بأن الإسلاميين أو علماء الدين ليس كلهم حاذق للجزئيات وهذا صواب ولكن القصور درجات، ويبين قصور العلمانيين الفاضح في علوم اللغة والنحو وما جرت عليه عادت الناس في علوم القرآن لسببين هو أننا نتحدث هنا عمن برزوا في الكليات حتى بان فضلهم كأركون والجابري والعروي ولا نتحدث عن مجرد معجب بالعقليات ثاني عطفه عن العلوم العربية، فهذا الصنف من الناس يكشفون بين الفينة والفينة عن قصور لا يتدارك في علوم اللغة والبيان، وعليه يطرح هذا التساؤل في نقدهم علميا. إلى أي مدى تتأسس الكليات على الجزئيات في فهم النصوص؟ وإلى أي مدى يتوقف فهم النص على الكليات ، وأين تنتهي حدود الجزئيات إذا صح أن لها حدوداً؟
أليس أن القصور في الجزئيات يقود حتما الى تركيب كلي مشوه على الأقل إن لم يكن معاكسا أو مناقضا للتركيب الحق؟
هل خطأ مثل أركون حين أراد أن "يكتشف" أن "الكلالة" هي الكنة وأن "رجل يورث كلالة" "صوابها أن تقرأ يورِث" بكسر الراء وأن المجتمع الإسلامي لم يرض أن يورّث الكنة فحولها إلى "يورَث" لا عن عمد، لأن أركون وأشباهه من "العقلانيين" يسيرون مع قاعدة لين وايت "لقد اكتشفنا أن أهواءنا ورغباتنا تتقنع بقناع العقل" أي تتلبس بلبوس العقل ، إلى نهايتها، ويبلغون بها أقصى مدياتها.
ولكي "يثبت" أركون صدق فرضيته "العلمية" يقوم فيعرض الآية على صنفين من الناس ليقرأوها، المجموعة الآولى قارئة للقرآن والمجموعة الثانية غير قارئة له. فأما الذين كانوا قد قرأوا القرآن من قبل فقرأوها "يورَث" بفتح الراء، وأما الذين لم يقرأوه ألبتة فقد قرأوها "يورِث" بكسر الراء، وهكذا يستنتج أركون بعقليته العلمية أن سبب قراءة الذين قرأوها يورَث هو التلقين والتقليد وأن سبب قراءة الذين قرأوها "يورِث" هو أنهم لم يلقنوا وعليه يكون المجتمع الإسلامي قد لقن الناس قراءة توافق فهمه الذي يلبي حاجة اجتماعية فيه.
ما لم يفكر فيه أركون أن منهجه غير علمي لأن "إبداعية اللغة الإعرابية" تختلف عن "إبداعية اللغة التي تعتمد ترتيب الكلمات" وعليه لا يكون منهجه صالحا للتطبيق إلا إذا وجد شرطين لم يعودا موجودين
أولهما أن يجد مجموعة من الناس تكون "إبداعية اللغة لديهم" إعرابية، وهؤلاء منقرضون بقدر ما يتعلق الأمر بالعربية.
ثانيهما أن أركون لو وجدهم، أو لو قمنا بعزل أطفال في منطقة وعلمناهم الفصحى بحيث تكون إبداعية اللغة لديهم إعرابية فإن قراءتهم ستتأثر بفهمهم لمفردة "كلالة" أيضا، ومعلوم أن مفردة كلالة من المهجورة الاستعمال في العربية المعاصرة ولم يعد لها وجود الا في النص القرآني والكتب، فلا يكون تفكير أركون في المسألة علميا، فهو لا تبريز لا في الكليات لخلل المنهج ولا في الجزئيات لعدم قيامه بالمنهج العلمي في فهم الكلالة وهي أن يقارن بين أسيقة واستعمالات معاصرة لعصر القرآن تستخدم فيها كلمة كلالة بمعنى مغاير للاستعمال القرآني أو مقارب.
قد يقفز علماني طُلعة وأعني بالعلماني المؤمن بالعقلانية والكليات المشتقة من العلوم التجريبية والترييض أو المتحمسين في الغض من ارباب الجزئيات كثيرا فيقول إن خطأ علماني كبير كأركون لا يعني خطأ كل العلمانيين ولا يعني خطأ كل محاولات أركون نفسه.
نخلص مما تقدم أن من الحكمة توافر الأمور الآتية:
لا أعادي من العلمانيين إلا من جاهر بحرب الدين، أما من حاول أن يفهم فضلّ فلا أعاديه مهما كان ضلاله بعيدا
كلا العقلانيين والإسلاميين يوجد بينهم من خدم العلم والفهم، فكلاهما ضروري الجزئيات والكليات وليس بضاعة كلهم فيهما بمزجاة بل هم درجات.
لما كان تخلف الأمة عن ركب الإنسانية في إدارة شؤون الحياة الدنيا سببه افكاراً كلية ، لا معاني جزئية كان ما قدمه بعض العلمانيين كالأستاذ الجابري في نقد العقل العربي أمرا لا غنى عنه لمثقفي الأمة، ومن تنكر لصنيعه ورفضه من الخارج ، وزهد فيه فهو خارج التاريخ أي أنه قد عدّ نفسه في الأموات فلا داعي لا للرد عليه ولا لمخالفته في شيء.
ليس من المصلحة (ولا من الأخلاق) اتخاذ ضعف أحدهم في جانب جُنة لصد الناس عن خيره. فضعف الجابري في دراساته عن القرآن لا يعني ضعفه في صميم تخصصه كالتحليل الفلسفي للعقل العربي ونقد وإيضاح إشكالية النهضة العربية.
فلم يجمع الله الخير في شخص ولا حصره في مذهب او تيار او كيان.
وعلى الله التكلان وبه المستعان
ما علينا من المتطرفين علمانيا ممن يظنون أنّ التدين قناع بسبب عجز ما عن مواجهة الحياة، وإن كان كثير من المعلنين للتدين (تخفى عليهم أحيانا و) يبطنون أقنعة يريدون بها مآرب غير دينية. ما ننكره عليهم هو التعميم والتعميم خلل عقلي لأنه إخال بشروط الاستقراء.
وهذا الأمر - أي التقنع- قديم خاض فيه الفلاسفة السوفسطائيون منذ ما قبل الميلاد.
وقال المعري:
استغفر الله واترك ما حكى لهم * أبو الهذيل وما قال ابن كُلّابِ
فالدينُ قد خسّ حتى صار أشرفه * بازا لبازين أو كلباً لكلابِ
وهذا المذهب عريق في فكر حكيم المعرة وهو خير من يمثل الموقف الوسط بين الإسلاميين والعلمانيين ولذلك تجد له محبين من المتدينين وممن لا دين له من مثل قوله.
إنما هذه المذاهب أسبــــــــــا ب لجلب الدنيا إلى الرؤساء
غرض القوم متعةٌ لا يرقّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون لدمع الشماء والخنساء
كالذي راح يجمع الزنج بالبــــــــــــــــــــــــــــــصرة والقرمطيّ بالأحساء
فانفرد ما استطعت فالقائل الصادق يضحي ثقلا على الجلساء
فبعض الإسلاميين صادقو التدين ويوجد متدينون مبدئيون لا يساومون على دينهم، وإن انكر ذلك متطرفو العلمانيين فلا يعبأ بإنكارهم ولا يؤخذ بقولهم لأنه يدل عندنا على قصور في نظرهم وقلة خبرتهم، إن لم نقل كما قال فرانكل "عن عقدة فيهم للحط من إنسانية الإنسان"
ولكن ما يتجاهله الإسلاميون أو المتدينون في معظمهم وجود نزهاء بين غير المتدينين.
فما لكم تصدقون أن شرفاء صادقين كانوا في الجاهلية وموجودون اليوم في البدو والحضر، وتنكرون أن يكون فئة المتعلمين من العلمانيين أو غير المتدينين أو غير المبالين بالدين فيهم أيضا نزهاء وصادقون؟
هذا ولا شك قصور في هذا الصنف من الإسلاميين والكاتبين في الإسلاميات من المتدينين والمدافعين عن الدين، ولذلك تراهم يطبقون قاعدة بابان المتطرفة :"إن الذين يتفقون معي هم طيبون والذين يخالفونني هم بالضرورة محتالون ودجالون" لأن الإسلاميين لا يتهمون خصومهم بالغباء بل بتعمد النفاق والدجل.
وهذا المقال محاولة لتتبع الأسباب المعرفية أي الجائية من القصور المعرفي لا من الخلاف الأيديولوجي والعقائدي والرفض الشعوري لكل منهما لصاحبه. إذ توجد أسباب معرفية تضعف قدرة كل من الطرفين على أن يفهم نظيره فهمًا يخلو من سوء الفهم القادح، وإذا خلا الطرفان من إساءات الفهوم أمكن عندها أن يكون التنافر والرفض مبنيا على أسس معرفة وصدام منطقي حادّ، وهذا لا بأس به لأن ما نريده في هذه العجالة ليس رفض العداء ولا الدعوة الى التصالح بل إلى التفاهم السليم والتخلص من إساءات الفهوم ثم يكون المرء حرا من يعادي ومن يحايد ومن يصاحب.
لا يحتاج المرء إلى كبير نباهة وسعة اطلاع أن يدرك أن حاملات المعنى منها ما هو كلي ومنا ما هو جزئي.
فالكلي هو قواعد العقل التي يدركها المرء بالفطرة وظل الفلاسفة يحاولون حصرها حتى صرنا نجدها اليوم في أي موسوعة في الفلسفة والمنطق بأنها مبدأ الهوية، آ هو آ، أو أن التعريف لا يتطابق مع الشيء، بل توجد بينهما فجوة ناتجة عن عجز في صميم اللغة، ومبدأ عدم التناقض أي لا يكون آ موجودا وغير موجود في نفس الوقت.ومبدأ الثالث المرفوع أي أن آ إما موجود أو معدوم وليس قيمة ثالثة سواهما. ومبدأ العلة الذي حل محله مبدأ الاحتمال، فأصبحت الاحتمالية مرحلة عليا في المنطق.
والعقل بأوسع معانيه هو فعالية إدراك العلاقات بين الأشياء فكلما كثرت العلاقات المدركة بين الأشياء كلما كبرت العقلية لدى الإنسان،ولهذا كان العقل العلمي المعاصر يفوق عقول ارسطو وافلاطون والشافعي وابن حزم ليس بسبب أن الإنسان المعاصر أذكى أو أقدر على الفهم بل بسبب أن استخدام الآلة الراصدة قد وضع أمام مخ الإنسان أشياء أكثر بكثير مما كانت أمام مخ افلاطون وارسطو والشافعي وابن حزم، وأشياء أكثر تعني علاقات أكثر وفعالية إدراك العلاقات هي العقل نفسه.
والعقل آلة حيادية تكون لدى الإسلامي ولدى العلماني ولا علاقة لها بمطلقاته وإيمانه ومبادئه وموضوعه العلمي المشتغل عليه.
فيوجد أغبياء (ضعفاء القدرة على إدراك العلاقات بين الأشياء والظواهر) في الأطباء والاجتماعيين وعلماء الدين وأساتذة الجامعات وكل طبقات المجتمع، غير أن الناس قد اعتادوا عادة حسنة وهي أن يقارنوا قدرة كل إنسان بنظرائه من بني مهنته من البشر
فالطبيب تقاس قدرته على ادراك العلاقات بين الحالات المرضية واسبابها مقارنة بنظرائه من الأطبة لا بالمعلمين ولا بعلماء الدين.
وهكذا..
ولما كان موضوع الخلاف في فهم الدين مبينا على اتخاذ النصوص الدينية موضوعا للفهم وكان فهم النص اللغوي قائما على إدراك وحدات المعنى المتداخلة وعلاقاتها بتركيبات الواقع المتداخلة أيضا، كان الفهم الأقل خطأ يتأسس على حذق الجزئيات أولا وهي المفردات اللغوية بأسيقتها المتنوعة. ولما كانت الفترة المشكلة للفكر الإسلامي هي القرون الثلاثة الأولى إذ يتأسس ما بعدها عليها وكان بين الدارس المعاصر سواء كان إسلاميا أو علمانيا وبين زمان موضوعات نصوصه أكثر من ألف سنة ، احتاج الدارس الى مصادر تاريخية متقدمة لإدراك الأسيقة اللغوية.
أما العلاقات بين الوقائع المادية فقد كانت التاريخ يسير على نفس قوانين الحدث الحالي ، وكان الواقع الطبيعي سائرا على نفس قوانيني الفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة المعاصرة وإن لم تكن قد اكتشفت واختبرت وعبر عنها باللغة.
من هنا كان فهم الجزئيات وهي المفردات اللغوية ، وتراكيب الجمل العربية أي عادة العرب في خطابها غير كاف لفهم واقع يفصلنا عنه ألف سنة، بل نحتاج إحاطة بروايات الأسيقة، وبأساسيات قوانين العلوم المعاصرة الطبيعية والاجتماعية والنفسية.
ومن خلال قراءتي لكثير من الإسلاميين والعلمانيين ومن خلطوا بين المذهبين وجدت أن السبب المعرفي الرئيس لخلاف الفريقين هو قصور بضاعة الإسلاميين في العلوم العقلية والفلسفية والاجتماعية والطبيعية، أي الكليات، وقصور بضاعة العلمانيين في الجزئيات أي معاني المفردات وحذق التراكيب العربية.
فما كنا ندرك قصور الأستاذ الجابري رحمه الله في الجزئيات اللغوية حتى اقتحم ما لم ينفق عمره في اكتساب آلياته وهو علوم القرآن والتفسير، فكشف لنا عن طاقة لغوية ليست دون المستوى المطلوب فحسب ، لكنا التمسنا له العذر،بل ذات قصور فاضح. ويظل هو من هو في الكليات أي في حذق قوانين العقل العلمي وتسقيطها على تاريخ الأفكار في التاريخ الإسلامي، فحتى وهو يكتب في التفسير فإنك حين تجد ما له قيمة علمية في كتاباته فهو يعود إلى قضية كلية، فقط، فأما القضايا الجزئية التي يعتمد فهمها على المفردة أو على عادة العرب في خطابها وتركيب الجمل، فسوف يمر بك ما يضحك مما قالوا فيه شر البلية ما يضحك.
أما الإسلاميون الذين أنفقوا قسطا من أعمارهم لا بأس له في العلوم اللغوية والشرعية فإن فهمهم بارز بقدر ما تكون فيه المفردة والجملة وحدتي المعنى في سياق ما. وحين ينتقلون الى مرتية أكبر من مراتب المعنى يكشفون عن ضعف غير مقبول في هذا الجانب. والسبب أنهم حين تتلمذوا في اللغة والنحو على أساطينهما لم يتتلمذوا في المعقولات على أساطينها، من هنا كانت دائرة المعقول لديهم أوسع منها لدى العلم المعاصر، ومعروف أن دائرة المعقول كلما اتسعت كلما قل إدراك الحدود الفاصلة بين العقل واللاعقل، حتى ان دائرة المعقول عند المجنون والبدائي لا تفرق بين الواقع والخيال.
وقد يقال بأن الإسلاميين أو علماء الدين ليس كلهم حاذق للجزئيات وهذا صواب ولكن القصور درجات، ويبين قصور العلمانيين الفاضح في علوم اللغة والنحو وما جرت عليه عادت الناس في علوم القرآن لسببين هو أننا نتحدث هنا عمن برزوا في الكليات حتى بان فضلهم كأركون والجابري والعروي ولا نتحدث عن مجرد معجب بالعقليات ثاني عطفه عن العلوم العربية، فهذا الصنف من الناس يكشفون بين الفينة والفينة عن قصور لا يتدارك في علوم اللغة والبيان، وعليه يطرح هذا التساؤل في نقدهم علميا. إلى أي مدى تتأسس الكليات على الجزئيات في فهم النصوص؟ وإلى أي مدى يتوقف فهم النص على الكليات ، وأين تنتهي حدود الجزئيات إذا صح أن لها حدوداً؟
أليس أن القصور في الجزئيات يقود حتما الى تركيب كلي مشوه على الأقل إن لم يكن معاكسا أو مناقضا للتركيب الحق؟
هل خطأ مثل أركون حين أراد أن "يكتشف" أن "الكلالة" هي الكنة وأن "رجل يورث كلالة" "صوابها أن تقرأ يورِث" بكسر الراء وأن المجتمع الإسلامي لم يرض أن يورّث الكنة فحولها إلى "يورَث" لا عن عمد، لأن أركون وأشباهه من "العقلانيين" يسيرون مع قاعدة لين وايت "لقد اكتشفنا أن أهواءنا ورغباتنا تتقنع بقناع العقل" أي تتلبس بلبوس العقل ، إلى نهايتها، ويبلغون بها أقصى مدياتها.
ولكي "يثبت" أركون صدق فرضيته "العلمية" يقوم فيعرض الآية على صنفين من الناس ليقرأوها، المجموعة الآولى قارئة للقرآن والمجموعة الثانية غير قارئة له. فأما الذين كانوا قد قرأوا القرآن من قبل فقرأوها "يورَث" بفتح الراء، وأما الذين لم يقرأوه ألبتة فقد قرأوها "يورِث" بكسر الراء، وهكذا يستنتج أركون بعقليته العلمية أن سبب قراءة الذين قرأوها يورَث هو التلقين والتقليد وأن سبب قراءة الذين قرأوها "يورِث" هو أنهم لم يلقنوا وعليه يكون المجتمع الإسلامي قد لقن الناس قراءة توافق فهمه الذي يلبي حاجة اجتماعية فيه.
ما لم يفكر فيه أركون أن منهجه غير علمي لأن "إبداعية اللغة الإعرابية" تختلف عن "إبداعية اللغة التي تعتمد ترتيب الكلمات" وعليه لا يكون منهجه صالحا للتطبيق إلا إذا وجد شرطين لم يعودا موجودين
أولهما أن يجد مجموعة من الناس تكون "إبداعية اللغة لديهم" إعرابية، وهؤلاء منقرضون بقدر ما يتعلق الأمر بالعربية.
ثانيهما أن أركون لو وجدهم، أو لو قمنا بعزل أطفال في منطقة وعلمناهم الفصحى بحيث تكون إبداعية اللغة لديهم إعرابية فإن قراءتهم ستتأثر بفهمهم لمفردة "كلالة" أيضا، ومعلوم أن مفردة كلالة من المهجورة الاستعمال في العربية المعاصرة ولم يعد لها وجود الا في النص القرآني والكتب، فلا يكون تفكير أركون في المسألة علميا، فهو لا تبريز لا في الكليات لخلل المنهج ولا في الجزئيات لعدم قيامه بالمنهج العلمي في فهم الكلالة وهي أن يقارن بين أسيقة واستعمالات معاصرة لعصر القرآن تستخدم فيها كلمة كلالة بمعنى مغاير للاستعمال القرآني أو مقارب.
قد يقفز علماني طُلعة وأعني بالعلماني المؤمن بالعقلانية والكليات المشتقة من العلوم التجريبية والترييض أو المتحمسين في الغض من ارباب الجزئيات كثيرا فيقول إن خطأ علماني كبير كأركون لا يعني خطأ كل العلمانيين ولا يعني خطأ كل محاولات أركون نفسه.
نخلص مما تقدم أن من الحكمة توافر الأمور الآتية:
لا أعادي من العلمانيين إلا من جاهر بحرب الدين، أما من حاول أن يفهم فضلّ فلا أعاديه مهما كان ضلاله بعيدا
كلا العقلانيين والإسلاميين يوجد بينهم من خدم العلم والفهم، فكلاهما ضروري الجزئيات والكليات وليس بضاعة كلهم فيهما بمزجاة بل هم درجات.
لما كان تخلف الأمة عن ركب الإنسانية في إدارة شؤون الحياة الدنيا سببه افكاراً كلية ، لا معاني جزئية كان ما قدمه بعض العلمانيين كالأستاذ الجابري في نقد العقل العربي أمرا لا غنى عنه لمثقفي الأمة، ومن تنكر لصنيعه ورفضه من الخارج ، وزهد فيه فهو خارج التاريخ أي أنه قد عدّ نفسه في الأموات فلا داعي لا للرد عليه ولا لمخالفته في شيء.
ليس من المصلحة (ولا من الأخلاق) اتخاذ ضعف أحدهم في جانب جُنة لصد الناس عن خيره. فضعف الجابري في دراساته عن القرآن لا يعني ضعفه في صميم تخصصه كالتحليل الفلسفي للعقل العربي ونقد وإيضاح إشكالية النهضة العربية.
فلم يجمع الله الخير في شخص ولا حصره في مذهب او تيار او كيان.
وعلى الله التكلان وبه المستعان