الكلام على مسألة تحريف التوراة والإنجيل في كتاب فتح الباري[الحلقةالثانية]

إنضم
18/12/2005
المشاركات
170
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
المغرب
بعد هذا العرض لما في فتح الباري يجمل بنا أن نسأل:
1- لماذا اختلفت أقوال المسلمين في مسألة تحريف أهل الكتاب لكتبهم المقدسة ؟
2- ما هي استدلالات أهل الكتاب ( اليهود أو النصارى) التي بها يدفعون تهمة التحريف عن كتبهم المقدسة؟
3- وما هي أجوبة المسلمين على تلك الاستدلالات؟ وهل هي أجوبة كافية شافية أم أن فيها الغث والسمين والخالص والهجين.
ثم ما هي نتائج النقد التاريخي والعلمي الأوروبي للكتاب المقدس؟

فبمعرفة عن هذه المسائل تكتمل الصورة لدى من يحب استيعاب المسألة من جميع جوانبها ويريد النظر إليها بإنصاف وتجرد.
للجواب عن السؤال الأول كان علينا استقراء أقوال المسلمين ليس فقط في كتب التفسير, بل في كتب المسلمين في الجدل مع اليهود والنصارى, وهي كثيرة تفوق 130مؤلفا لم يصنا منها إلا القليل.
ففي تلك الكتب يجدر البحث عن مذاهب المسلمين في مسألة تحريف الكتب المقدسة لدى أهل الكتاب.
لعل القارئ يلحظ أن المسألة تنقسم من ذات نفسها إلى قسمين كبيرين باعتبار كتب اليهود, واعتبار كتب النصارى.

بحث السؤال الأول: لماذا اختلفت أقوال المسلمين في مسألة تحريف أهل الكتاب لكتبهم المقدسة ؟

يحسن بنا أن نعطي جردا بأسماء الكتب التي ألفها المسلمون في الجدل مع اليهود والنصارى
1- الكتب التي ردت على اليهود:
وعددها نحو 30 لم يصلنا سوى بعضها, ونذكر منها:
1- الرد على اليهود لأبي بكر الأصم. مفقود.
2- كتاب في الرد على اليهود والنصارى للخليفة العباسي المأمون عبد الله بن هارون الرشيد بن المهدي محمد بن المنصور. بويع بالخلافة سنة 198هـ, وتوفي سنة 218هـ.
3- الرد على اليهود لأبي الهذيل العلاف. مفقود. وله مناظرة مع بعض اليهود أوردناها في هذا الموقع, (أنظر مقالي: مناظرات بين مسلمين وأهل الكتاب).
4- الرد على اليهود لأبي عيسى محمد بن هارون الوراق. مفقود
5- كتاب الرد على الأحبار و المجوس في العدل والتجوير لعيسى بن صُبيح المردار.مفقود.
6- الرد على اليهود للجاحظ. مفقود.
7- الرد على اليهود للقاضي الحنفي أبي بكر محمد بن عبد الرحمن بن صبر توفي سنة 380هـ. مفقود.
8- الرد على ابن النغريلة اليهودي لابن حزم الأندلسي. مطبوع.
9- إظهار تبديل اليهود للتوراة والإنجيل وبيان تناقض ما بأيديهم من ذلك مما لا يحتمل التأويل لابن حزم الأندلسي(ت456هـ). يقال أنه مدمج في الفصل وهو مطبوع.
10- شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل, لأبي المعالي الجويني(ت478هـ). مطبوع.
11- كتاب السعود في الرد على اليهود لأبي بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف الفهري الطرطوشي(ت.520هـ) , وهو مفقود.(وله مناظرة مع يهودي تجدها في هذا الموقع في المقال المشار له أعلاه).
12- قصيدة في الرد على اليهود والنصارى, لأبي الفضل سعيد بن سوسف بن الحسن بن سمرة الأواني الكاتب, وكان يهوديا وأسلم, وكان كاتبا جليلا حسن العبارة بليغا, كان حيا سنة 561هـ.
13- إفحام اليهود للسموأل بن عباس بن يحيى المغربي(571هـ). ألفه حوالي 558هـ. وهو مطبوع.
14- مجالس في ذم اليهود وتخليدهم في النار لابن عساكر.مفقود.
15- مقالة في الرد على اليهود و النصارى لعبد اللطيف بن يوسف بن محمد الموصلي البغداد(ت629هــ).مفقود.
16- الأجوبة الفاخرة لأحمد بن إدريس القرافي(ت684هـ). مطبوع.
17- الدر المنضود في الرد على ابن كمونة فيلسوف اليهود لأحمد بن علي بن تغلب أو ثعلب ابن الساعاتي الحنفي. ولد ببعلبك و انتقل مع أبيه إلى بغداد فنشأ بها في المدرسة المستنصرية, وتولى بها تدريس الحنفية وكان ممن يضرب به المثل في الذكاء والفصاحة وحسن الخط, وكان أبوه ساعاتيا عمل الساعات المشهورة على باب المدرسة المستنصرية ببغداد, وتوفي فيها سنة 694هـ/ 1295م. لم يكتشف الكتاب بعد ولعله رد على كتاب تنقيح الأبحاث للملل الثلاث لابن كمونة اليهودي.
18- مسالك النظر في نبوة سيد البشر للمهتدي الحبر سعيد بن حسن الإسكندراني(698هـ). طبع مرتين.
19- الأسئلة على التوراة لعلاء الدين الباجي الشافعي(ت.714هـ). طبع بالقاهرة 1980م تحت عنوان بليد وهو: (كتاب) على التوراة. مع أن المؤلف ذكر العنوان (الذي ترجمنا به) في آخر كتابه.
20- تأييد الملة لبعض الأندلسيين المسلمين المُدَجَّنِين من مدينة وشقة بشمال اسبانيا(القرن 8هـ). الكتاب حقق و ترجم للإنجليزية في الولايات المتحدة.
21- الحسام المحدود في الرد على أحبار اليهود, لأبي محمد عبد الحق الإسلامي السبتي (كان يهوديا وأسلم خفية سنة 780هـ ثم أعلن إسلامه سنة 796هـ وفيها ألف كتابه هذا).
وهو كتاب مطبوع عدة طبعات كلها سقيمة.
22- الرسالة الهادية في الرد على الموسوية لعبد السلام المهتدي كتبها ردا على اليهود بعدما أسلم. أولها:" الحمد لله الذي من على عباده في آخر الزمان برسالة حبيبه المبعوث من بني عدنان. وتوجد منه مخطوطة بخزانة أحمد الثالث رقم 1735(في 37 ورقة كتبها المؤلف في جمادى الأولى سنة 902هـ).(كشف الظنون 1/900) وهي على ثلاثة أقسام: الأول في إبطال أدلة اليهود. الثاني: في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من عبارة التوراة بعدما غيره اليهود. والثالث: في تغييرهم بعض كلمات التوراة.
23- الرسالة السبيعية الحاوية للضوابط الإرشادية, للحبر الأعظم إسرائيل بن شموئيل الأورشليمي. طبعت بدار القلم – دمشق 1989م.
24- النور الباهر في نصرة الدين الطاهر ليوسف بن عبد الله الإسلامي انتقل إلى الإسلام بعد 1020هـ. مخطوط.
هذا فضلا عن الردود التي وصلتنا على صورة فصول أومباحث مضمنة في كتب علم الكلام وتاريخ الملل والنحل, وكتب بعض المؤرخين مثل المسعودي وطاهر بن مطهر المقدسي. كما وصلتنا شذرات من مناظرات جرت بين مسلمين ويهود ليس في واحد من تلك المناظرات بحث لقضية التحريف(أنظر جملة من تلك المناظرات كنت قد نشرتها سابقا على هذا الموقع:
http://tafsir.org/vb/showthread.php?t=4401
ولم أجد في ما وقفت عليه من ردود المسلمين المذكورة أحدا توسع في مسألة تحريف كتب اليهود بما يليق بالقضية إلا ابن حزم الأندلسي(وهذا يفسر لماذا استشهد به شيخ الإسلام ابن تيمية في فتواه حول التحريف التي لخصها ابن حجر في فتح الباري كما ذكرنا سابقا) وقد أعطيت وصفا مجملا عن منهج ابن حزم في بحث المسألة في مقال لي بعنوان: حقائق جديدة حول نقد اين حزم لأسفار التوراة. نشرته مجلة الفيصل عدد 347/2005م ص42-55.
وسأنقل لكم منه هنا ما لنا به حاجة قلتُ هناك:" يحتل ابن حزم مكانة متميزة لدى المعنيين بتاريخ الأديان, فالدراسات التي كتبت عنه تكاد تُجمع على اعتباره من أكبر الرواد المسلمين في ميدان التاريخ النقدي للملل و النحل, و خاصة دراسته لليهودية والنصرانية. قالت حواء لزاروس يافه Hava-Lazarus Yafeh:" لاشك أن النقد الذي خص به ابن حزم متن الكتاب المقدس يعد دراسة متكاملة لا مثيل لها في الكتب الإسلامية في القرون الوسطى" .
لقد أفرد ابن حزم, الديانة اليهودية بدراسة نقدية تتألف من ثلاث محاور متمايزة, شغلت 208 صفحات من كتابه " الفصل في الملل والأهواء والنحل".

- المحور الأول, سلك فيه ابن حزم مسلكين في النقد:
1- مسلك النقد التاريخي والعقلاني الذي يحاكم قصص الأسفار الخمسة إلى الحقائق القطعية في علوم الجغرافية والحساب والفلك. وساق نتائج بحثه مرتبة[ص45] على 57 فصلا, منها فصول لم تتجاوز بضعة أسطر, وفصول شغلت بضع عشرة صفحة.
2- مسلك الفحص الوثائقي لتاريخ تداول اليهود للتوراة منذ عصر يوشع بن نون إلى زمن عِزْرَا الورَّاق .
فدراسة متن الأسفار الخمسة قاد ت الإمام ابن حزم إلى تحرير تاريخ موجز لتطور دين اليهود منذ عصر القضاة وإلى زمن انقراض مملكة يهوذا على يد جيوش الملك نبوخدنصر الفارسي, وتدمير بيت المقدس, وإجلاء اليهود إلى مدينة بابل نحو عام587 قبل الميلادي. وقصد ابن حزم بهذا المسلك إبطال دعوى اليهود في أن:" موسى تلقى الأسفار الخمسة من الله, كما هي الآن, و كتبها بنفسه وسلمها لقومه, ثم تواتر نقلهم لها جيلا بعد جيل". [ص46]
فابن حزم يرى أن أمورا كثيرة قد حالت دون اتصال نقل التوراة من لدن عزرا إلى موسى, منها:
- ارتداد بني اسرائيل سبع ردات في عصر القضاة .
- ثم ارتداد جميع ملوك الأسباط العشرة (مملكةالشمال) وهم عشرون ملكا.
- فضلا عن ارتداد خمس عشرة ملكا من بين عشرين ملكا حكموا مملكة الجنوب و تسمى يهوذا .
ثم يشرح ابن حزم, تطور اليهودية بعد أن دَوَّنَ لهم عزرا الوراق التوراة, التي بأيديهم اليوم, وكيف تأسست طقوس اليهودية الحالية بصلواتها وأدعيتها, بفضل أحبار العصر المكابي, فهم الذين أحدثوا البِيَع والجوامع في كل مكان, خلافا لما كان عليه أسلافهم من عدم تجويز الصلاة والاجتماع للعبادة في غير بيت المقدس.
قال ابن حزم:"إلى أن أملها(أي التوراة) عليهم من حفظه عزرا الوراق الهاروني, وهم مقرون أنه وجدها عندهم وفيها خلل كثير فأصلحها, وهذا يكفي, وكان كتابة عزرا للتوراة بعد أزيد من سبعين سنة من خراب بيت المقدس, وكتبهم تدل على أن عزرا لم يكتبها لهم ويصلحها إلا بعد نحو أربعين عامًا من رجوعهم إلى البيت بعد السبعين عاما التي كانوا فيها جالين, ولم يكن فيهم حينئذ نبي أصلا(...), ومن ذلك الوقت انتشرت التوراة ونسخت, وظهرت ظهورا ضعيفا أيضا, ولم تزل تـتداولهمُ الأيدي مع ذلك إلى أن جعل أنطاكيوس الملك- الذي بنى أنطاكية- وثنا للعبادة في بيت المقدس, وأخذِ بني إسرائيلَ بعبادته, وقُرِّبَت الخنازير على مذبح البيت, ثم تولى أمرهم قوم من بني هارون بعد مِئِـين من السنين, وانقطعت القرابين, فحينئذ انتشرت نسخ التوراة التي بأيديهم اليوم, وأحدث لهم أحبارهم صلوات لم تكن عندهم جعلوها بدلا من القرابين, وعملوا لهم دينا جديدا, و رتبوا لهم [ص47 ] الكنائس في كل قرية بخلاف حالهم طول دولتهم. وبعد هلاك دولتهم بأزيد من أربعمائة عام أحدثوا لهم اجتماعا في كل سبت, على ما هم عليه اليوم, بخلاف ما كانوا طول دولتهم, فإنه لم يكن لهم في شيء من بلادهم بيت عبادة, ولا مجمع ذكر وتعلم, ولا مكان قربان قربة, البتة, إلا ببيت المقدس فقط. (...) ففي دون هذا كفاية, لمن عقل, في أنها(أي الأسفار الخمسة) كتاب مبدل مكذوب موضوع, و دين معمول خلاف الدين الذي يقرون أن موسى أتاهم به" .
- المحور الثاني:
يبحث فيه ابن حزم بإيجاز مسألة صحة نسبة باقي أسفار العهد القديم إلى مؤلفيها التقليدين, ويركز ابن حزم نقده على: سفر يشوع, وسفر المزامير المنسوب لداود, والأسفار الثلاثة المنسوبة لسليمان , وسفر إشعياء, وسفر حزقيال. وقد كشف هذا المحور عن الحقائق الآتية:
أولاها: أن ابن حزم أقدم ناقد مسلم عارض صحة نسبة سفر يشوع إلى يوشع بن نون, ورجح أن هذا السفر المذكور ألف بعد أن بنى سليمان بيت المقدس بزمن غير يسير..
ثانيتها: أن ابن حزم أول من اعترض على نسبة سفر المزامير إلى النبي داود عليه السلام.
ثالثتها: أنه أول من كَذَّب دعوى اليهود بأن سليمان هو مؤلف الأسفار الثلاثة المنسوبة إليه في كتاب العهد القديم .
رابعتها: أنه أول ناقد قال بأن بعض الأسفار المنسوبة لأنبياء العهد القديم قد كتبت( في عصر المكابيين) بعد القرن الخامس قبل الميلادي أي بعد بناء الهيكل الثاني .
ثم ختم ابن حزم كلامه في هذا المحور بالفقرة الآتية:
" لم نكتب مما في الكتب التي يضيفونها إلى الأنبياء إلا طرفا يسيرا دالا على فضيحتها أيضا وتبديلها(...) ثم لا ندري كيف يمكنهم اتصال شيء من ذلك إلى نبي من أنبيائهم, لا سيما من لم يكن إلا في أيام كفرهم مُخافاً أو مقتولا".
- المحور الثالث:
وفيه ينتقد ابن حزم بعض الأقوال الواردة في تآليف الأحبار, كالتلمود البابلي, وكتاب شِيعُر قُومَا, وكتاب سدر ناشيم وغيرها, وغرضه من ذلك هو الاستدلال على أن الأحبار – الذين نقل اليهود عنهم دينهم- كانوا مُشَبِّهة[ص48] مشركين بل كفارا, يجب- حسب ابن حزم- رفع الثقة عنهم, والشك في أمانتهم في الحفاظ على نص التوراة سليما من التحريف والتبديل .

وقد صنف الدكتور تيودور بولسيني Théodore Pulcini أغراض الحجج الحزمية الواردة في المحاور الثلاثة المذكورة إلى تسعة أصناف, كالآتي:
1- نقد النصوص التي بها قذف في حق الأنبياء.
2- نقد النصوص التي بها تجديف في حق الله.
3- نقد النصوص التي بها أغلاط حسابية.
4- نقد النصوص التي بها أخطاء تاريخية.
5- نقد النصوص المخالفة لعلم الجغرافية.
6- بيان المناقضات داخل النصوص التوراتية.
7- التنبيه على الاستحالات العقلية التي في التوراة.
8- نقد النصوص التي بها تشبيه للخالق بمخلوقاته.
9- نقد النصوص ذات المغزى الشركي أو تنسب لله البنين والبنات.
لقد سلط ابن حزم على متن الأسفار الخمسة نقداً معياريا يجلي مخالفة النصوص التوراتية لمعالم خارجية, كالعلوم الدقيقة والأخلاق والعقيدة, بعد ذلك يستنتج ابن حزم أن تلك الأسفار تشكو من عيوب كثيرة تحول دون الجزم بأنها التوراة التي أنزلها الله على نبيه موسى.

لقد اكتشفت بعد البحث, والتنقيب, أن قدراُ لا بأس به من اعتراضات ابن حزم لها ما يماثلها عند قدماء خصوم اليهودية قبل الإسلام وهم: مرقيونMarcion , وسلسوس المشرك Celsus , والفيلسوف فرفوريوسPorphyre (233- 304 م) , ويوليان المرتد Julian l'Apostat, وآخرون ظهروا بعد الإسلام وهم: حيويه البلخي اليهودي, وإسماعيل العكبري اليهودي, وألعازار بن عزريا , الذي يعد من الخوارج على دين اليهود.

ابن حزم وخصوم اليهود:
لقد سبق للدكتور يهوذا روزنتال Judah Rosenthal أن درس بإجمال انتقادات خصوم اليهودية( قبل الإسلام وبعده) للعهد القديم, فقال:" نقف في المؤلفات الجدلية للكنيسة(النصرانية) في أول العصور الوسطى على جل[49] اعتراضات المارقين(من الدين) على أسفار العهد القديم, مشفوعة بالرد عليها, لكن أهم تلك الاعتراضات نجدها معروضة في كتاب "الهادي إلى الصراط" Hodegos الذي ألفه أنستاسيوس السينائي Sinaita Anastasius وكان بطريارك مدينة أنطا كية خلال نهاية القرن السابع الميلادي, حيث حكى أنه لما زار المشرق ألقت عليه جماعة من المارقين عدة مسائل معضلة( حول الكتاب المقدس). ثم سرد أنستاسيوس ما يعدل 154 مسألة عن الكتاب المقدس مع جواباته عنها". قال روزنتال: "أغلب تلك المعضلات كان بشأن أسفار العهد الجديد, أما المسائل الباقية فكانت بشأن العهد القديم". ثم عدد روزنتال سلسلتين منها, الأولى شملت 7 أسـئلة, والثانية شملت 18 سؤالا. ثم أضاف أن في كتاب فوتيوس القسطنطيني Photius de Costantinople ( من القرن التاسع الميلادي) 324 مسألة كثير منها متعلق بالكتاب المقدس, ولكن روزنتال اقتصر على العرض الموجز لثمان وثلاثين مسألة فقط.
و قد سعيت لعرضها على ما لدى ابن حزم فكانت النتائج كالآتي:
- المسائل التي ذكرها أنستاسيوس ونجدها عند ابن حزم: وهي خمس مسائل, أعيد طرحها في كتاب "الفصل" لابن حزم.
المسألة الأولى:
الأربعمائة سنة التي قيل إن بني إسرائيل يستعبدون فيها بمصر(تكوين 15: 13- 16) تخالف الواقع, لأنهم لم يستعبدوا إلا 140 سنة بعد وفاة يوسف (خروج 1: 6- 11).
يقارن هذا بما في الفصل لابن حزم 1/124- 128( فصل13).
المسألة الثانية:
إن الله حدد أعمار البشر بعد طوفان نوح في 120 عاما(تكوين6: 3) و لم يلتزم بذلك(تكوين11: 12). يقارن هذا بكتاب الفصل1/121- 122 (فصل9).
المسألة الثالثة:
وعد الرب بني إسرائيل أن يعطيهم ميراثا [50] (تكوين 15: 18) ولم يرثوا إلا أقل من معشار الأرض الموعودة.
يقارن بكتاب الفصل1/ 128-129 (فصل14).
المسألة الرابعة:
بم نفسر النص الآتي:
" و بعد أن دخل أبناء الله على بنات الناس..."(تكوين6: 1-2. 6: 4)؟
يقارن مع كتاب الفصل 1/121 (فصل 8).
المسألة الخامسة:
كيف نقبل حكاية العَرَّافة المقيمة في عين دور التي قصدها الملك شاول متنكرا, وطلب منها استحضار روح النبي صموئيل(صموئيل الأول 28: 7- 14).
هذه الحكاية انتقدها ابن حزم في المحور الثالث, فقال:
" وفي بعض كتبهم مما لا يختلفون في صحته أن السحرة يحيون الموتى على الحقيقة (...) وأن عجوزا ساحرة أحيت لشاول الملك- وهو طالوت- شمؤال النبي بعد موته" ,( كتاب الفصل1/ 218).

- المسائل التي ذكرها فوتيوس, ونجدها لدى ابن حزم:
وهي أيضا خمس مسائل ترد في كتاب الفصل لابن حزم كالآتي.
المسألة الأولى:
لماذا لم يذكر موسى( في الأسفار الخمسة) شيئاً عن الآخرة؟
قال ابن حزم: " ليس في توراتهم ذكر لمعاد أصلا, ولا لجزاء بعد الموت" كتاب الفصل(1/207).
المسألة الثانية:
ما معنى النص:" لنصنع الإنسان على صورتنا"(تكوين 1: 26). راجع أيضا الفصل1/117- 118(فصل2).
المسألة الثالثة:
ما معنى:" الإنسان صار كواحد منا, يميز الخير والشر"؟ (تكوين 3: 22).
تقارن بكتاب الفصل 1/120- 121 (فصل4).
المسألة الرابعة:
كيف تعدون إبراهيم صالحا, وهو يقول لربه" كيف أعلم أني أرثها"؟(تكوين 15: 8).
قارن بكتاب الفصل1/129 (فصل15).
المسألة الخامسة:
لماذا صارع الملاكُ يعقوب؟ (تكوين 32: 25).قارن مع الفصل 1/ 141- 142 (فصل26).

- تشابه حجج ابن حزم وبعض مسائل حيويه البلخي:

يعد حيويه البلخي من أكبر خوارج اليهود خلال القرن التاسع الميلادي, وقد ألف كتابا يتألف من 200 مسألة ضد العهد القديم, تصدى للرد عليها الحبر اليهودي المعروف بسعديا الفيومي(ت.942م) في كتاب مفرد وصلتنا منه نقول يسيرة في كتاب تفسير سفر التكوين للربي يهوذا بن برزلي. وقد قام بعض الباحثين المعاصرين بجمع اعتراضات حيويه البلخي, منهم بوزننسكي Poznanski , ودافيد سون . Davidson
قال يهوذا روزنتال بشأنها:" من خلال ما وصلنا من آراء البلخي استطعنا أن نعرف أنه انتقد صحة الكتاب المقدس, واعترض على[51] شرائعه, وعلى ما وصف به الله فيه, و استخرج بعض التناقض الموجود في قصصه". لقد استطاع روزنتال أن يحصي 65 مسألة من مسائل البلخي المذكورة, فاكتشفت أن خمساً منها وردت في كتاب الفصل لابن حزم.
المسألة الأولى:
نجد في التوراة أن ذات الله ممثلة في ثلاث أشخاص .
تقارن بما في كتاب الفصل 1/ 130- 131 (فصل 16).
المسألة الثانية:
في التوراة يوصف الرب بأكل الطعام.
يقارن بما في الفصل لابن حزم 1/130 (فصل 16).
المسألة الثالثة:
الرب بارك يعقوب لكنه جعل ذرية عيسو أحسن حالا من بني إسرائيل.
يقارن بما في كتاب الفصل1/ 137- 139 (فصل24).
المسألة الرابعة:
في العهد القديم يوصف الرب بأنه يصعد وينزل (الخروج 33: 1- 5؛ 14).
يقارن بما في كتاب الفصل 1/ 164 (فصل 48).
المسألة الخامسة:
لا ذكر في كتب العهد القديم للجزاء ولا للحساب في اليوم الآخر.
وهي تشبه المسألة الأولى من مسائل فوتيوس المذكورة سابقا.
مناظرة:
- تأثر ابن حزم بالمناظرة التي جرت بين نصراني قبطي ويهودي في مجلس ابن طولون:
ذكر المسعودي في كتابه: مروج الذهب ومعادن الجوهر أن أحمد ابن طولون(ق 3 الهجري /9 الميلادي) أراد أن يعرف حقيقة أهرام بلاد مصر فدلّوه على شيخ من علماء النصارى الأقباط, فأشخصه لديه, وسأله عما شاء, وفي بعض تلك المجالس أراد طبيب يهودي أن يسخر من الشيخ القبطي فقال له القبطي:
- وما أنت أيها الرجل؟ وما نحلتك؟
- فقال له:[أنا] يهودي.
- فقال له: مجوسي إذاً ؟
- قال له: كيف ذلك وهو يهودي؟
- قال: لأنهم يرون نكاح البنات في بعض الحالات.
(...) ثم أقبل القبطي على ابن طولون, فقال: أيها [52] الأمير هِؤلاء يزعمون- وأشار إلى اليهودي- أن الله خلق آدم على صورته, وعن نبي من أنبيائهم – سماه( دانيال)- قال في كتابه: إنه رأى قديم الزمان أبيض الرأس واللحية, وأن الله تعالى قال: إني أنا النار المحرقة, والحمى الآخذة, وأنا الذي آخذ الأبناء بذنوب الآباء, ثم في توراتهم أن بنات لوط سقينه الخمر حتى سكر وزنى بهن, وحملن منه, وولدن, وأن موسى رد على الله الرسالة مرتين حتى اشتد غضب الله عليه. وأن هارون صنع العجل الذي عبده بنو إسرائيل, وأن موسى أظهر معجزات لفرعون, وفعلت السحرة مثلها, ثم ما قالوا في ذبائح الحيوان والتقرب إلى الله بدمها ولحومها, وتحكمهم على العقل ومنعهم من النظر بغير برهان, وهو قولهم: أن شريعتهم لا تنسخ, ولا يقبل قول أحد من الأنبياء بعد موسى, إذا انحرف عما جاء به موسى, ولا فرق في قضية العقل بين موسى وغيره من الأنبياء إذا أتى ببرهان, وبان بحجة. ثم الأكبر من كفرهم قولهم في يوم عيد الكفور, وهو يوم الاستغفار, وذاك لعشر تخلو من تشرين الأول: أن الرب الصغير و يسمونه ميططرون يقوم في هذا اليوم قائما, وينتف شعور رأسه, ويقول: "ويلي إذ أخربت بيتي, وأيتمت بني [وبناتي], قامتي منكسة لا أرفعها, حتى أبني بيتي". قال المسعودي:" وذكر عن اليهود أقاصيص وتخاليط كثيرة, ومناقضات واسعة" .
وقد وردت حجج القبطي متفرقة في كتاب الفصل لابن حزم كما يأتي:
- الفصل 1/117- 118 (فصل2).
- الفصل 1/133- 135 (فصل20).
- الفصل 1/154- 156(فصل39).
- الفصل 1/159-160(فصل43).
- الفصل 1/161- 163(فصل 46).
- الفصل 1/ 209.
- الفصل1/223.

هذا كله يشهد جليا على إلمام ابن حزم باعتراضات من سبقه وانتقائه بعضها ليدرجه في كتابه.
لا شك أن وصول تلك الحجج لابن حزم كان من خلال كتب المقالات والملل والنحل, وردود كل طائفة على الطوائف المخالفة لها في الملة أو النحلة. لكننا لا نشك في أن لابن حزم أيضا انتقادات وحجج لم يسبق إليها, نجد عليها طابعه الذي عرف به في النقد والجدل, أعني قدرته على كشف المناقضات, وصك وجوه الخصوم بالمعضلات, وفحص الروايات التاريخية بعرضها على المعارف العلمية, واستخراج أغلاطها لإثبات أن مؤلفيها ما كانوا معصومين من الزلل فهم بذلك ليسوا أنبياء." انتهى النقل من المقال المذكور.

وهذا التميز لابن حزم عن الباقين يدل على العناية الفائقة التي بدلها في بحث المسألة فهو لم ينقل نصوص الكتاب المقدس عن غيره من المسلمين أو المهتدين كما فعل كثير غيره بل لقد بحث عن الترجمة العربية للتوراة وباقي أسفار العهد القديم وطالع أجزاء من التلمود البابلي ومن كتب الأحبار التي كانت مترجمة على ما يبدو للعربية من طرف يهود الأندلس.
كما أحاط علم ابن حزم بتاريخ اليهود إحاطة تثير الإعجاب فهو مثلا لم يجعل حزقيال النبي معاصرا ليوشع ابن نون كما فعل ابن جرير الطبري في تاريخه, بل تجده ابن حزم لا تختلط عليه أسماء الأشخاص ولا عصورهم ولا الكتب المنسوبة إليهم وقد وقع له في النادر (نحو المرتين) الإحالة من ذاكرته على نص ثم يعزوه إلى غير موضعه نظرا لاشتراك الكتابين في مضامين متقاربة المعنى, لكن لن يخفى على المطلع الخبير مكان النص الذي يقصده ابن حزم وسبب غلطه في العزو.
كما يتميز ابن حزم بشيء آخر ألا وهو إخراجه قضية التحريف من دائرة الجدل النظري الضيق والفضفاض (الدائر منذ قرون قبله بين المسلمين وأهل الكتاب) حول إمكان أو استحالة وقوع التحريف في كتب أهل الكتاب المقدسة, إلى دائرة الفحص المباشر لتلك الكتب نفسها بغرض الفصل بين طرفي النزاع, ويعد هذا سابقة لابن حزم سبق بها مدارس نقد الكتاب المقدس في اوروبا.
(و المزيد يأتيكم إن شاء الله في الحلقات القادمة ).
وكتب سمير قدوري. 22 يناير 2005م.
 
أجوبة المسلمين على اعتراضات أهل الكتاب في مسألة التحريف[الحلقة 3]

أجوبة المسلمين على اعتراضات أهل الكتاب في مسألة التحريف[الحلقة 3]

نذكر القراء الكرام بالأسئلة التي طرحناها في الحلقة السابقة, وهي كالآتي:
- لماذا اختلفت أقوال المسلمين في مسألة تحريف أهل الكتاب لكتبهم المقدسة ؟
2- ما هي استدلالات أهل الكتاب ( اليهود ثم النصارى) التي بها يدفعون تهمة التحريف عن كتبهم المقدسة؟
3- وما هي أجوبة المسلمين على تلك الاستدلالات؟ وهل هي أجوبة كافية شافية؟
ثم ما هي نتائج النقد التاريخي والعلمي الأوروبي للكتاب المقدس؟
وسنتابع في هذه الحلقة بحث الجواب عن السؤال الأول وقسم من الثاني لأنه قد تبين لي أنه كان لاعتراضات أهل الكتاب أثر ظاهر في توجيه مواقف بعض المسلمين, وهذا ما سيظهر من خلال النصوص التي استخرجتها من كتابين هامين ناقشا أهل الكتاب وأجابا على بعض اعتراضاتهم.
الكتاب الأول هو كتاب الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد عليه السلام, ومؤلفه هو المحدث الفقيه المالكي الأصولي أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر الأنصاري القرطبي نزيل الإسكندرية والمتوفي بها سنة 656هـ, وهو شيخ أبي عبد الله القرطبي المفسر الذي نسب له البعض كتاب الإعلام خطاء.
والكتاب الثاني هو الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لشيخ الإسلام ابن تيمية(ت.728هـ) الذي رد فيه ردا موسعا على رسالة لبولس الراهب أسقف صيدا الذي أراد دفع تهمة التحريف عن الكتاب المقدس واحتج بعدة حجج أتى عليها ابن تيمية كلها.
وقد يسرت على القراء فهم كلام كلا المؤلفين المسلمين بتقسيمه إلى فقرات وتخريج نصوصه القرآنية أو الكتابية. وعلقت تعليقات يسيرة بين معقوفات على ما يحتاج إلى ذلك.
وقد يقول قائل إنك تتحدث عن تحريف التوراة فما بلك تأتي بكلام النصارى؟
فأقول لأن النصارى اجتهدوا أكثر من اليهود في الدفاع عن التوراة لحاجتهم إليها في إثبات دينهم ولتصديقهم بها.
فمن حججهم: نجد دعواهم تناقض موقف القرآن بشأن كتب أهل الكتاب, فتارة يقول بأنه جاء مصدقا لما بين يديه منها ويقول بأن التوراة هدى ونور ويطالب أهل الكتاب بالحكم بما أنزل في التوراة والإنجيل, وهذا تثبيت لتلك الكتب. وتارة يقول القرآن بأن أهل الكتاب يحرفون الكلم عن مواضعه إلخ... وهذا تناقض (في زعمهم).
ثم نجدهم ينازعون المسلمين في وقوع التحريف في كتبهم ويقولون هو غير ممكن لانتشار نسخ التوراة والإنجيل في الآفاق ولاختلاف النصارى طوائف النصارى من جهة واختلافهم جميعا مع اليهود في أمر المسيح فيستحيل اتفاقهم على تحريف التوراة.

فمن هذه الحجج ما أجاب عنه هذان العالمان المسلمان وقد أتى على جميع ذلك ابن حزم في كتابه الفصل كما سنبينه في حلقة قادمة. وأتمنى من القراء الكرام أن يسألوا عما يبدوا لهم غامضا فيما نشرناه فنحن نسعد كثيرا ببيان كل إشكال قد يعترضهم.

[ كلام أبي العباس أحمد بن عمر الأنصاري القرطبي(ت.656هـ) في مسألة تحريف التوراة أورده في كتابه: الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام]
قال أحمد بن عمر القرطبي:
فصل في بيان بعض ما طرأ في التوراة من الخلل وأنها لم تنقل نقلا متواترا فتسلم لأجله من الخطأ والزلل:
فأول دليل أنها لم تترك على ما كانت في الألواح التي كتبها الله تعالى لموسى ولا على ما انتسخها لهم موسى بل زيد فيها ولا بد ما ليس منها ولا كان في الألواح التي كتبها الله لموسى ويدل على ذلك أن في آخر السفر الخامس أن:" موسى توفي في أرض موآب بإزاء بيت فغور ولم يعرف إنسان موضع قبره إلى اليوم وكان قد أتى على موسى إذ توفى مائة وعشرون سنة ولم يضعف بصره ولم يتشيخ وجهه وبكى بنو إسرائيل على موسى ثلاثون يوما في عريب موآب فلما تمت أيام حزنهم على موسى امتلأ يشوع بن نون من روح الحكمة لأن موسى كان وضع يده على رأسه في حياته وكان بنو إسرائيل يطيعونه ويعملون كما أمر الرب موسى"[ التكوين 34: 5-9].
[قال القرطبي] ولا يشك الواقف على هذا التاريخ وهذه الوفاة أنها ليست مما أنزل الله على موسى ولا مما كتبها موسى عن نفسه وإنما هي من إثبات من أراد أن يثبتها بعد وفاة موسى بزمان ويدلك على ذلك قوله ولم يعرف إنسان موضع قبره إلى اليوم, يريد به اليوم الذي كتب فيه هذا. وهذا بين عند المنصف, ومع بيانه فليس أحد من اليهود والنصارى فيما أعلم يقول إن التوراة زيد فيها شيء بعد موسى, ولا يفرق بين هذا الكلام وغيره بل هي كلها عندهم كلام الله, وهذا جهل عظيم, وخطب جسيم. فهم بين أمرين إما أن يقولوا إن هذا الكلام هو مما كتبه الله لموسى وأخبر به موسى أو يقولوا إنه ليس مما أخبر الله به موسى ولم يخبر به موسى.
فإن قالوا الأول كذبه مساق الكلام فإن المفهوم منه على القطع أنه كتب بعد وفاة موسى بزمان.
وإن قالوا بالقول الآخر قيل لهم فلأي شيء خلطتم( ص188) كلام الله بكلام غيره وأجريتموهما في نسق واحد وزدتم على كلام الله ولم تشعروا بذلك بل نسبتم كل ذلك إلى أن الله أنزله. وإذا جاز زيادة مثل هذا ولم يتحرز منه جاز أن يكون كل حكاية فيها لا يصح نسبتها إلى الله, زائدة ولا سيما الحكايات الركيكة التي تحكى فيها عن الأنبياء التي لا يليق ذكرها بسفلة الناس وغالب الظن ولا يعلم الغيب إلى الله تعالى أن السفر الأول الذي هو سفر البدء والأنساب مما زيد على كلام الله تعالى ولم يشعروا بزيادته .
[استدلال للقرطبي كرره من بعده نقاد الكتاب المقدس في أروبا مثل اسبينوزا]
ومما يدل أيضا على هذا المعنى أن كثيرا مما يجيء فيها:" وكلم الرب موسى وقال له اقبض حساب بني جرشون"[ العدد: 4:21], "وكلم الرب موسى وقال له كلم بني إسرائيل" [العدد:15: 1-2] ومثل هذا كثير.
وهذا يدلك أنه ليس مما قاله الرب جل ذكره لموسى ولا مما قاله موسى لهم, أعني لفظ "وكلم الرب موسى وقال له", وما أشبهه من لفظ الحكاية عنه وإنما هو شيء حكى عنه بعد انقراضه وأضيف إلى كلام الله ثم لا يعرفون من الحاكي وإذا جاز مثل هذا ولا يشعرون به جاز أن يكون أكثرها مغيرا ومبدلا وليس من كلام الله ولا من كلام موسى ولا يشعرون به ومن وقف عليها متتبعا لهذا المعنى قطع بأنها زيد فيها ما ليس منها وعند انكشاف الغبار تتبين أفرس تحتك أم حمار. (ص189).
[بيان عدم تواتر التوراة ]
وأما بيان أنها ليست متواترة فهو:
(1) أن اليهود على بكرة أبيهم يعرفون ولا ينكرون أن التوراة إنما كانت طور مدة ملك بني إسرائيل عند الكوهان الأكبر الهاروني وحده وعنه تلقيت ولا ينكر ذلك منهم ولا منكم إلا مجاهر بالباطل.
(2) وكذلك ما يحكى من قتل بخت نصر جميع بني إسرائيل وإحراقه كتب التوراة حيث وجدت وإتلاف ما كان بأيديهم حتى لم يترك منهم إلا عددا يسيرا لا يحصل بخبرهم العلم وكان قد أجلاهم إلى بابل وهدم البيت, أو لعله كان الباقي منهم عددا كثيرا إلا أنهم لم يكونوا كلهم يحفظونها بل كانوا عددا يسيرا لا يحصل العلم بقولهم وكان هذا كله قبل المسيح بخمس مائة سنة تقريبا.
(3) وكذلك واقعة طيطش بن شبشان التي كانت بعد المسيح إلى أربعين سنة إذ فرقوا التفرقة التي هم اليوم عليها وهذا أيضا من المعروف عند الجميع بحيث لا ينكره إلا مكابر مجاهر. وهذه الأمور كلها مما تقدح في النقل الذي يدعونه متواترا.
ثم نقول هذه الأمور المذكورة إن وافقوا على وقوعها فقد اعترفوا بعدم التواتر فإن من شرط خبر التواتر أن ينقله العدد الكثير الذي تحيل العادة عليهم التواطؤ على الكذب والغلط عن عدد مثله هكذا ولا ينقطع, فإن رجع الخبر إلى عدد لا تحيل العادة عليهم الكذب لم يحصل بذلك الخبر العلم إذ لا يكون متواترا.وإن لم يوافقوا على وقوع هذه الوقائع هكذا لم يقدروا على جحد أصلها وإذا اعترفوا بأصلها لم يقدروا أن ينكروا إمكان وقوع ما يعترفون بأصله.
[بيان وقوع التحريف في التوراة]
وأما بيان التحريف فيها فهو:
(1) أن اليهود تعترف بأن سبعين كوهانا اجتمعوا على تبديل ثلاثة عشر حرفا من التوراة وذلك بعد المسيح في زمان القياصرة, ومن اجترأ على تبديل حرف من كتاب الله وتحريفه فلا يوثق بالذي في يده مما يدعى أنه كتاب الله لعدم الثقة به ولقلة مبالاته بالدين وأيضا فلعله قد حرفه كله أو أكثره.
(2) وكذلك يقرون ولا ينكرون أن طائفة منهم يقال لهم السامرية حرفوا التوراة تحريفا بينا كثيرا والسامرية يدعون عليهم مثل ذلك التحريف وكذلك النصارى أيضا يدعون على اليهود أنهم حرفوا في التوراة التاريخ ويزعمون أنهم نقصوا من تاريخ آدم صلى الله عليه وسلم ألف سنة ونحو المائتين.
وهذه احتمالات توجب على العاقل التوقف فلا يدعي حصول العلم بنقل التوراة مع انقداح هذه الممكنات إلا مجاهر متعسف.
[اعتراض لأهل الكتاب على التحريف]
فإن قيل كيف يصح أن يقال هذا وقد كان الأنبياء بعد موسى عليه السلام يحكمون بالتوراة ويرجعون إليها واحدا بعد واحد إلى زمن يحيى وعيسى ثم بعد ذلك تناقلها النصارى كما تناقلها اليهود خلفا عن سلف إلى اليوم؟ وإن جاز تطرق التحريف إلى ما هذا سبيله فيلزم عليه أن يحكم الأنبياء بالباطل, ويلزم عليه أيضا أن يقروا على الباطل غيرهم وهذا كله باطل على الأنبياء ويلزم عليه أيضا أن لا يحصل العلم بخبر متواتر ولا يوثق بكتاب يدعى أنه جاء عن نبي.
[جواب القرطبي]
فنقول وبالله التوفيق, إنا لم نعين لوقوع التحريف فيها زمانا ولا عينا من حرف منها شيئا ولا من ألحق بها شيئا فيحتمل أن يقع التحريف فيها قبلهم(يعني الأنبياء) أو بعدهم وإنما أبدينا تلك الاحتمالات ليُعلم أن الذي في نفوسكم من الثقة بها إنما هو اعتقاد جزم وليس بعلم .
ومما يدل على قبول تلك الاحتمالات وأنها قادحة في دعوى العلم سلامتها أنها لم تَقِرَّعلى ما تلقيت من موسى بل زيد فيها مالم يتلق عن موسى مثل الذي حكيناه من ذكر وفاته وحزن بني إسرائيل وحكاية قول كلم الله موسى وهذا يعلم منه على القطع أن الله لم يقله لموسى ولا موسى قاله عن نفسه يعلم ذلك من وقف عليه وتتبعه بضرورة مساق الكلام ولا بد. فالذي زاد ذلك لعله الذي وقع الخلل من جهته.
وأما ما ذكرتم من حكم الأنبياء بها فليس فيه حجة لإمكان أن تُنَازَعُوا في قولكم: "كانوا يحكمون بها", بل لعلهم كانوا يحكمون بما كان الله يعلمهم بما يوافق شريعة موسى ولا يخالفها, ولو سلمنا أنهم كانوا يحكمون بها فنقول كل شيء حكم به الأنبياء من التوراة فليس بمحرف, وأما ما لم يحكموا به منها فلعله الذي حُرِّفَ, مثل الأخبار التي حكيناها ونحكيها إن شاء الله تعالى.
[اعتراض لهم ثان وجوابه]
فإن قيل فيلزم منه أن يُقر الأنبياء على الخطأ ويتحدثوا بالكذب فإنهم كانوا يتحدثون بها. قلنا ليس بكاذب من حكى شيئا يعتقد صحته لا يتعلق به حكم الله تعالى وإن كان ذلك الخبر في نفسه مخالفا لما في الوجود ...وإنما الكاذب الذي يخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه من العلم بذلك وهو حد الكذب عندنا وحقيقته, وهذا إنما يجوز في حكاية الأخبار التي لا يتعلق بها حكم وأما ما تعلق به حكم منها فلا يجوز ذلك إذ الأنبياء معصومون فيما يبلغونه من الأحكام عن الله تعالى.
[رفض القرطبي للنصوص التوراتية التي تنسب للأنبياء ارتكاب الفواحش]
وإنما قلنا هذا حذرا من أن ننسب إلى الله تعالى ما لا يليق بجلاله أن ينزله في كتابه من الفواحش والفجور التي حكوها في التوراة وادعوا أنه فيها مسطور مع أنه ليس في ذكرها فائدة بل هي بكل ضلالة عائدة وكذلك ننزه موسى والأنبياء بعده صلوات الله عليهم عن ذلك الكلام الغث الركيك الذي لو حكى مثله عن بعض السفلة لأنف منه واستحى منه ولما كان ينبغي لعاقل أن يلتفت ويصغى إليه, ولكان يجب عليه أن يعرض عنه وينكره إذا سمعه هذا إذا كان محكيا عن لسفلة فكيف إذا حكاه الله عن نفسه أو عن خيرته من خلقه الذين برأهم الله عن الكبائر والنقائص التي تناقض نبوتهم فهم أكرم الخلق عليه وأحظاهم لديه ...والقائل بوقوع هذا مستهزئ مفتر على الله وسننقل عن بعض ما حكوا في التوراة .
ثم نقول لو سلمنا أنها لم تحرف في زمان الأنبياء لأمكن أن نقول فلعله حرف بعدهم وذلك بعد وقعة طيطش حيث أفناهم, والذين تنصروا منهم عدد يسير لا تقوم الحجة بقولهم. وإن قلنا إنهم كانوا عددا كثيرا, فلم يكن كل واحد منهم ممن يحفظها ولا يضبطها. ثم نقول للنصارى إن أنكرتم أن يكون شيء من التوراة حرف فلأي شيء تقولون إن اليهود حرفوا في التوراة في نسب آدم ونقصوا منه؟ وإذا جاز ذلك في نسب آدم جاز في غيره, وهذا بين.
وأما قولهم: "يلزم أن لا نقبل خبرا متواترا ولا يوثق بكتاب نبي", فلا يلزم شيء من ذلك فإن الخبر إذا تطرقت إليه أمثال تلك الاحتمالات فلا يوثق بنقله, ولا يعول عليه لإمكان تلك الآفات.
[اعتراض القرطبي على بعض ما في التوراة من نصوص] وبعد هذا فالآن حان أن نذكر بعض ما وقع في التوراة مما يطرق إليها التهم ومن ذلك.
[النص الأول] ما ذكروه فيها في المصحف الأول منها:" ورأى الله أن قد كثر فساد الآدميين في الأرض فندم على خلقهم وقال سأذهب الآدمي الذي خلقت على الأرض والخشاش وطيور السماء لأني نادم على خلقتها جدا "[ التكوين 6:6-7] وهذا في حق الله تعالى محال إذ الندم إنما يلحق من لا يعلم مصير المندوم عليه ومآله واعتقاد هذا في حق الله كفر إذ ينبئ عن أن الله تعالى جاهل وأنه متغير تعالى عن ذلك علوا كبيرا ولفظ الندم هنا نص لا يقبل التأويل فهو كذب وباطل قطعا.
[النص الثاني] ومن ذلك ما ظهر في الوجود خلافه وذلك أنهم حكوا فيها أن "بني إسرائيل يسكنون تلك الأرض إلى الانقراض"[التكوين13: 15] ثم لم يلبثوا أن رأيناهم أخرجوا منها رأي العين فقد ظهر أن ذلك باطل وكذب.( هذا الاعتراض نقله القرطبي عن كتاب مقامع هامات الصلبان لأحمد بن عبد الصمد الخزرجي(ت.582هـ) الذي نقله عن رسالة لابن حزم في الرد على ابن النغريلة اليهودي).
إلى غير ذلك مما أورده القرطبي في كتابه ص194- 202 من نصوص من الأسفار الخمسة المنسوبة لموسى (وتسمى عندهم التوراة) و من بعض أسفار العهد القديم الأخرى مثل سفر صموئيل الثاني وسفر الملوك الأول.
------.
[اعتراض بولس الراهب على وقوع التحريف في كتبهم]
(قال بولس الراهب) : "وإذا تبين للخاصة والعامة ممن آمن بمحمد ومن كفر به أنه كان مصدقا لما بين يديه من الكتب والأنبياء مصدقا للتوراة والإنجيل شاهدا بأن موسى عليه السلام ومن كان متبعا له على الحق وأن المسيح عليه السلام ومن اتبعه على الحق وإن كان يكفر جميع اليهود والنصارى وغيرهم ممن بلغته رسالته ولم يؤمن به وشهد عليهم بأنهم حرفوا كثيرا من معاني التوراة والإنجيل قبل نبوته وأن أهل الكتاب كلهم مع المسلمين يشهدون أيضا بأن كثيرا من معاني التوراة والإنجيل حرفها كثير من أهل الكتاب لم يجز لأحد من أهل الكتاب أن يحتج بقول محمد على صحة دينهم الذي شهد محمد بأنه باطل مبدل منسوخ وأهله من أهل النار كما تقدم بسطه وإذا قالوا نحن نذكر ذلك لنبين تناقضه حيث صدقها وهي تناقض بعض ما أخبر به أو لنبين أن ما أخبرت به الأنبياء قبله يناقض خبره فيكون ذلك قدحا فيما جاء به". (الجواب الصحيح1/350)
[جواب ابن تيمية]
قال ابن تيمية:" أجاب المسلمون عن هذا بعدة طرق:
[الطريق الأول] أن يقولوا أما مناقضة بعض خبره لبعض كما يزعمه هؤلاء من أن كتابه يمدح أهل الكتاب مرة, ويذمهم أخرى, وأنه يصدق الكتب المنزلة تارة ويذمها أخرى, فهذا قد ظهر بطلانه فإنه إنما مدح من اتبع موسى والمسيح على الدين الذي لم يُبَدَّل ولم ينسخ وأما من اتبع الدين المبدل المنسوخ فقد كفره.
فأما دعواهم مناقضة خبره لخبر غيره, فيقال هو مصدق للأنبياء فيما أخبروا به, وأما ما بُدِّل من ألفاظهم أو غيرها بالترجمة أو فسر بغير مرادهم فلم يصدقه.
ويقال أيضا إن نبوة محمد تثبت بمثل ما تثبت به نبوات الأنبياء قبله وبأعظم من ذلك كما قد بُسط في موضع آخر وبُين أن التكذيب بنبوة محمد مع التصديق بنبوة غيره في غاية التناقض والفساد وأنه ما من طريق يعلم بها نبوة غيره إلا ونبوته تعلم بمثل تلك الطريق وبأعظم منها, فلو لم تكن نبوته وطريق ثبوتها إلا مثل نبوة غيره وطريق ثبوتها لوجب التصديق بنبوته كما وجب التصديق بنبوة غيره ولكان تكذيبه كتكذيب إبراهيم وموسى وغيرهما من الرسل فكيف إذا كان ذلك أعظم من وجوه متعددة وحينئذ فالأنبياء كلهم صادقون مصدقون معصومون فيما يخبرون به عن الله لا يجوز أن يثبت في خبرهم عن الله خبر باطل لا عمدا ولا خطأ فلا يجوز أن يخبر أحدهم بخلاف ما أخبر به غيره بل ولا يفترقون في الدين الجامع كما قال تعالى:[ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه](سورة الشورى: 13) وقال تعالى:[يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون] ( المؤمنون:51- 53) وإنما يقع النسخ في بعض الشرائع كما يقع النسخ في شريعة الرسول الواحد وحينئذ فيعلم أن كل ما ينقل عن الأنبياء المتقدمين مما يناقض ما علم من أخبار محمد فهو باطل سواء كان:
(أ‌) اللفظ نفسه باطلا لم يقله ذلك النبي.
(ب‌) أو قد قال لفظا وغلط المترجمون له من لغة إلى لغة.
(ت‌) أو كان اللفظ وترجمته صحيحين لكن وقع الغلط في معرفة مراد ذلك النبي بذلك الكلام.
[شروط لابد منها للاحتجاج بالألفاظ المنقولة عن الأنبياء]: فإن كل ما يحتج به من الألفاظ المنقولة عن الأنبياء- أنبياء بني إسرائيل وغيرهم- ممن أرسل بغير اللغة العربية لا بد في الاحتجاج بألفاظه من هذه المقدمات:
- أن يعلم اللفظ الذي قاله.
- ويعلم ترجمته.
- ويعلم مراده بذلك اللفظ.
والمسلمون وأهل الكتاب متفقون على وقوع الغلط في تفسير بعض الألفاظ وبيان مراد الأنبياء بها وفي ترجمة بعضها فإنك تجد بالتوراة عدة نسخ مترجمة وبينها فروق يختلف بها المعنى المفهوم وكذلك في الإنجيل وغيره.
فهذا الطريق في الجواب طريق عام لكل من آمن بمحمد وشهد أنه رسول الله باطنا وظاهرا يخاطب به كل يهودي ونصراني على وجه الأرض وإن لم يكن عارفا بما عند أهل الكتاب فإنه لا يقدر أحد من أهل الأرض يقيم دليلا صحيحا على نبوة موسى وعيسى وبطلان نبوة محمد عليهم السلام فإن هذا ممتنع لذاته بل ولا يمكنه أن يقيم دليلا صحيحا على نبوة أحدهما إلا وإقامة مثل ذلك الدليل أو أعظم منه على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أولى وحينئذ فلا يمكن أحدا من أهل الكتاب أن يحتج بشيء من المنقولات عن الأنبياء المخالفة لما ثبت عن محمد سواء أقر بنبوته أو أنكرها بل إن احتج بشيء مما نُقل عن محمد صلى الله عليه وسلم بُيِّن له بطلان احتجاجه به وأنه حجة عليه لا له.
...فإن المسلمين لا يطعنون في نبوة أحد من الأنبياء المعروفين وإنما يطعنون في أنهم أخبروا بما يخالف خبر محمد صلى الله عليه وسلم فإن ذلك لا يثبت إن لم يثبت اللفظ والترجمة وتفسير اللفظ وهذه المقدمات يمتنع أن تقوم على شيء يخالف خبر محمد صلى الله عليه وسلم لا جملة ولا تفصيلا.
فأهل الكتاب يُطَالَبُون فيما يُعَارِضُون به بثلاث مقدمات:
- أحدها: تقدير أن أولئك صادقون ومحمد كاذب.
- والثاني: ثبوت ما أتوا به لفظا.
- والثالث: معرفة المراد باللفظ ترجمةً وتفسيرا.
وإن قال الكتابي للمسلم أنت توافقني على نبوة هؤلاء المتقدمين إجابة المسلم بوجوه: (الوجه الأول) منها أن يقول إني لم أوافقك على نبوة واحد منهم مع التكذيب بمحمد بل دين المسلمين كلهم أنه من آمن ببعض الأنبياء وكفر ببعض فهو كافر فكيف بمن كفر بمن هو عند المسلمين أفضل الأنبياء وخاتمهم, بل قد يقول له أكثر المسلمين نحن لم نعلم نبوة أولئك إلا بأخبار محمد صلى الله عليه وسلم أنهم أنبياء فلو قدحنا في الأصل الذي قد علمنا به نبوتهم لزم القدح في نبوتهم والفرع إذا قدح في أصله دل على فساده في نفسه ... (الوجه الثاني) وكذلك إذا قال له الكتابي قد اتفقنا على تصديق موسى والتوراة والمسيح والإنجيل قال له المسلم إنما وافقتك على تصديق موسى وعيسى اللَّذَيْن بَشَّرَا بمحمد كما أخبرنا به محمد عن الله حيث قال الله تعالى:[ ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر] الآية(سورة الأعراف:156- 157) وقال تعالى:[وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد](سورة الصف: 6) إلى أمثال ذلك, فأما الإيمان بموسى الذي ذكر أن شريعته مؤبدة لا ينسخ منها شيء أو بمسيح ادعى أنه الله أو أن الله اتحد به أو حل فيه, ونحو ذلك مما يدعيه أهل الكتاب في الرسولين والكتابين ويخالفهم فيه المسلمون, فهذا من موارد النزاع لا من مواقع الإجماع, فليس لأحد من أهل الكتاب أن يحتج على أحد من المسلمين بموافقته له على ذلك.
[ قلت: أقدم من جاء بهذا الجواب الذي شرحه ابن تيمية هو أبو الهذيل العلاف(ت.235هـ) كما تجده في نص المناظرة التي نشرناها في الملتقى المفتوح من هذا الموقع, وقد تكرر استعمالها لدى ابن حزم والجويني الطرطوشي ]
(الوجه الثالث) ومن تمام ذلك أن يقول المسلم نعم أنا أقر بنبوة موسى والمسيح وأن التوراة والإنجيل كلام الله لكن يمتنع عقلا الإقرار بنبوة واحد من هؤلاء دون نبوة محمد فإن البراهين والآيات والأدلة الدالة على صدق موسى والمسيح تدل على نبوة محمد بطريق الأولى فلو انتقضت تلك الأدلة لزم فسادها وأن لا أصدق بأحد من الأنبياء وإن كانت حقا لزم تصديقهم كلهم فلزم إما أن نصدقهم كلهم وإما أن نكذبهم كلهم ولهذا كان من آمن ببعض وكذب ببعض كافرا.
(الوجه الرابع) ومن الأجوبة للمسلمين أن يقولوا نحن نصدق الأنبياء المتقدمين في كل ما أخبروا به لكن من نقل عنهم أنهم أخبروا بما يناقض خبر محمد صلى الله عليه وسلم فلا بد له من مقدمتين:
1) ثبوت ذلك اللفظ عن الأنبياء.
2) والعلم بمعناه الذي يُعلم أنه مناقض للمعنى الذي علم أن محمدا صلى الله عليه وسلم عناه.
ثم العلم باللفظ يحتاج مع الخطاب بغير ألسن الأنبياء العربية- سواء كانت عربية أو رومية أو سريانية أو قبطية- إلى أن يُعرف أن هذا اللفظ الذي ترجم به لفظه مطابق للفظه,ويمتنع ثبوت المقدمتين لأن في ثبوتهما تناقض الأدلة العلمية, والأدلة العلمية لا تتناقض.
الطريق الثاني [في الجواب على اعتراض أهل الكتاب]:
أن يقول المسلمون ما تذكرونه من المنقول عن الأنبياء مناقِضَةً لما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم أمورٌ لم تُعلم صحتها, فلا يجوز اعتقاد ثبوتها والجزم بها, ولو لم يعلم أن محمدا أخبر بخلافها, فكيف إذا عُلم أنه أخبر بخلافها؟
وذلك أن العلم بثبوتها مبني على مقدمات:
أحدها: العلم بنبوتهم وهذا ممتنع مع تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم.
والثانية: أنهم قالوا هذه الألفاظ, وهذا يحتاج إلى إثبات تواتر هذه الألفاظ عن الأنبياء, ولم يَثبت أنها تواترت عنهم.
والثالثة: أن معناها هو المعنى المُناقض لخبر محمد صلى الله عليه وسلم, ولم يُعلم ذلك.
وكل واحدة من هذه المقدمات تمنع العلم بثبوت هذه المعاني المناقضة لخبر محمد فكيف إذا اجتمعت, وهي تمنع العلم بصحتها ولو لم تناقض خبر محمد فكيف إذا ناقضته.

الطريق الثالث: طريقُ من يُبين أن ألفاظ هذه الكتب لم تتواتر ويثبتون ذلك بانقطاع تواتر التوراة لما خرب بيت المقدس وانقطاع تواتر الإنجيل في أول الأمر.

الطريق الرابع: طريق من يبين أن بعض ألفاظ الكتب حُرفت ويقيم الأدلة الشرعية والعقلية على تبديل بعض ألفاظها.

الطريق الخامس: أن يبين أن الألفاظ التي بأيديهم لا تناقض ما أخبر به محمد بل تدل على صدق محمد ويتكلم على تفسير تلك الألفاظ بأعيانها, وهذه الطريق يسلكها من لا ينازع في ثبوت الألفاظ من المسلمين.
وأما الجمهور الذين يقولون بتبديل هذه الألفاظ فيسلكون هذه الطريق ويسلكون أيضا بيان عدم تواتر الألفاظ بل بيان التبديل في ألفاظها. ومن حجة الجمهور الذين يمنعون أن تكون جميع ألفاظ هذه الكتب المتقدمة- الموجودة عند أهل الكتاب- منزلة من عند الله... ويقولون إنه وقع التبديل في بعض ألفاظها, أو يقولون إنه لم يُعلم أن ألفاظها منزلة من عند الله فلا يجوز أن يُحتج بما فيها من الألفاظ في معارضة ما عُلم ثبوته, أنهم قالوا:

التوراة والإنجيل الموجودة اليوم بيد أهل الكتاب لم تتواتر عن موسى وعيسى عليهما السلام.
أما التوراة: فإن نقلها انقطع لما خرب بيت المقدس أولا وأُجلى منه بنو إسرائيل, ثم ذكروا أن الذي أملاها عليهم بعد ذلك شخص واحد يقال له عزرا, وزعموا أنه نبي- ومن الناس من يقول إنه لم يكن نبيا- وأنها قوبلت بنسخة وجدت عتيقة, وقد قيل إنه أحضرت نسخة كانت بالمغرب وهذا كله لا يوجب تواتر جميع ألفاظها ولا يمنع وقوع الغلط في بعضها كما يجري مثل ذلك في الكتب التي يلي نسخها ومقابلتها وحفظها القليل, الاثنان والثلاثة.
وأما الإنجيل: الذي بأيديهم فهم معترفون بأنه لم يكتبه المسيح عليه السلام ولا أملاه على من كتبه وإنما أملوه بعد رفع المسيح متى و يوحنا وكانا قد صحبا المسيح ولم يحفظه خلق كثير يبلغون عدد التواتر ومرقس ولوقا وهما لم يريا المسيح عليه السلام, وقد ذكر هؤلاء أنهم ذكروا بعض ما قاله المسيح وبعض أخباره وأنهم لم يستوعبوا ذكر أقواله وأفعاله. ونقل اثنين وثلاثة وأربعة يجوز عليه الغلط لا سيما وقد غلطوا في المسيح نفسه حتى اشتبه عليهم بالمصلوب, ولكن النصارى يزعمون أن الحواريين رسل الله مثل عيسى بن مريم وموسى عليهما السلام وأنهم معصومون وأنهم سلموا إليهم التوراة والإنجيل وأن لهم معجزات, وقالوا لهم هذه التوراة وهذا الإنجيل ويقرون مع هذا بأنهم ليسوا بأنبياء فإذا لم يكونوا أنبياء فمن ليس بنبي ليس بمعصوم من الخطأ ولو كان من أعظم أولياء الله ولو كان له خوارق عادات. ( الجواب الصحيح 1/350- 356).



وللحديث بقية في الحلقات المقبلة إن شاء الله وننتظر أسئلتكم واستفساراتكم لننشط في البحث أكثر
__________________
 
عودة
أعلى