سمير القدوري
New member
بعد هذا العرض لما في فتح الباري يجمل بنا أن نسأل:
1- لماذا اختلفت أقوال المسلمين في مسألة تحريف أهل الكتاب لكتبهم المقدسة ؟
2- ما هي استدلالات أهل الكتاب ( اليهود أو النصارى) التي بها يدفعون تهمة التحريف عن كتبهم المقدسة؟
3- وما هي أجوبة المسلمين على تلك الاستدلالات؟ وهل هي أجوبة كافية شافية أم أن فيها الغث والسمين والخالص والهجين.
ثم ما هي نتائج النقد التاريخي والعلمي الأوروبي للكتاب المقدس؟
فبمعرفة عن هذه المسائل تكتمل الصورة لدى من يحب استيعاب المسألة من جميع جوانبها ويريد النظر إليها بإنصاف وتجرد.
للجواب عن السؤال الأول كان علينا استقراء أقوال المسلمين ليس فقط في كتب التفسير, بل في كتب المسلمين في الجدل مع اليهود والنصارى, وهي كثيرة تفوق 130مؤلفا لم يصنا منها إلا القليل.
ففي تلك الكتب يجدر البحث عن مذاهب المسلمين في مسألة تحريف الكتب المقدسة لدى أهل الكتاب.
لعل القارئ يلحظ أن المسألة تنقسم من ذات نفسها إلى قسمين كبيرين باعتبار كتب اليهود, واعتبار كتب النصارى.
بحث السؤال الأول: لماذا اختلفت أقوال المسلمين في مسألة تحريف أهل الكتاب لكتبهم المقدسة ؟
يحسن بنا أن نعطي جردا بأسماء الكتب التي ألفها المسلمون في الجدل مع اليهود والنصارى
1- الكتب التي ردت على اليهود:
وعددها نحو 30 لم يصلنا سوى بعضها, ونذكر منها:
1- الرد على اليهود لأبي بكر الأصم. مفقود.
2- كتاب في الرد على اليهود والنصارى للخليفة العباسي المأمون عبد الله بن هارون الرشيد بن المهدي محمد بن المنصور. بويع بالخلافة سنة 198هـ, وتوفي سنة 218هـ.
3- الرد على اليهود لأبي الهذيل العلاف. مفقود. وله مناظرة مع بعض اليهود أوردناها في هذا الموقع, (أنظر مقالي: مناظرات بين مسلمين وأهل الكتاب).
4- الرد على اليهود لأبي عيسى محمد بن هارون الوراق. مفقود
5- كتاب الرد على الأحبار و المجوس في العدل والتجوير لعيسى بن صُبيح المردار.مفقود.
6- الرد على اليهود للجاحظ. مفقود.
7- الرد على اليهود للقاضي الحنفي أبي بكر محمد بن عبد الرحمن بن صبر توفي سنة 380هـ. مفقود.
8- الرد على ابن النغريلة اليهودي لابن حزم الأندلسي. مطبوع.
9- إظهار تبديل اليهود للتوراة والإنجيل وبيان تناقض ما بأيديهم من ذلك مما لا يحتمل التأويل لابن حزم الأندلسي(ت456هـ). يقال أنه مدمج في الفصل وهو مطبوع.
10- شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل, لأبي المعالي الجويني(ت478هـ). مطبوع.
11- كتاب السعود في الرد على اليهود لأبي بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف الفهري الطرطوشي(ت.520هـ) , وهو مفقود.(وله مناظرة مع يهودي تجدها في هذا الموقع في المقال المشار له أعلاه).
12- قصيدة في الرد على اليهود والنصارى, لأبي الفضل سعيد بن سوسف بن الحسن بن سمرة الأواني الكاتب, وكان يهوديا وأسلم, وكان كاتبا جليلا حسن العبارة بليغا, كان حيا سنة 561هـ.
13- إفحام اليهود للسموأل بن عباس بن يحيى المغربي(571هـ). ألفه حوالي 558هـ. وهو مطبوع.
14- مجالس في ذم اليهود وتخليدهم في النار لابن عساكر.مفقود.
15- مقالة في الرد على اليهود و النصارى لعبد اللطيف بن يوسف بن محمد الموصلي البغداد(ت629هــ).مفقود.
16- الأجوبة الفاخرة لأحمد بن إدريس القرافي(ت684هـ). مطبوع.
17- الدر المنضود في الرد على ابن كمونة فيلسوف اليهود لأحمد بن علي بن تغلب أو ثعلب ابن الساعاتي الحنفي. ولد ببعلبك و انتقل مع أبيه إلى بغداد فنشأ بها في المدرسة المستنصرية, وتولى بها تدريس الحنفية وكان ممن يضرب به المثل في الذكاء والفصاحة وحسن الخط, وكان أبوه ساعاتيا عمل الساعات المشهورة على باب المدرسة المستنصرية ببغداد, وتوفي فيها سنة 694هـ/ 1295م. لم يكتشف الكتاب بعد ولعله رد على كتاب تنقيح الأبحاث للملل الثلاث لابن كمونة اليهودي.
18- مسالك النظر في نبوة سيد البشر للمهتدي الحبر سعيد بن حسن الإسكندراني(698هـ). طبع مرتين.
19- الأسئلة على التوراة لعلاء الدين الباجي الشافعي(ت.714هـ). طبع بالقاهرة 1980م تحت عنوان بليد وهو: (كتاب) على التوراة. مع أن المؤلف ذكر العنوان (الذي ترجمنا به) في آخر كتابه.
20- تأييد الملة لبعض الأندلسيين المسلمين المُدَجَّنِين من مدينة وشقة بشمال اسبانيا(القرن 8هـ). الكتاب حقق و ترجم للإنجليزية في الولايات المتحدة.
21- الحسام المحدود في الرد على أحبار اليهود, لأبي محمد عبد الحق الإسلامي السبتي (كان يهوديا وأسلم خفية سنة 780هـ ثم أعلن إسلامه سنة 796هـ وفيها ألف كتابه هذا).
وهو كتاب مطبوع عدة طبعات كلها سقيمة.
22- الرسالة الهادية في الرد على الموسوية لعبد السلام المهتدي كتبها ردا على اليهود بعدما أسلم. أولها:" الحمد لله الذي من على عباده في آخر الزمان برسالة حبيبه المبعوث من بني عدنان. وتوجد منه مخطوطة بخزانة أحمد الثالث رقم 1735(في 37 ورقة كتبها المؤلف في جمادى الأولى سنة 902هـ).(كشف الظنون 1/900) وهي على ثلاثة أقسام: الأول في إبطال أدلة اليهود. الثاني: في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من عبارة التوراة بعدما غيره اليهود. والثالث: في تغييرهم بعض كلمات التوراة.
23- الرسالة السبيعية الحاوية للضوابط الإرشادية, للحبر الأعظم إسرائيل بن شموئيل الأورشليمي. طبعت بدار القلم – دمشق 1989م.
24- النور الباهر في نصرة الدين الطاهر ليوسف بن عبد الله الإسلامي انتقل إلى الإسلام بعد 1020هـ. مخطوط.
هذا فضلا عن الردود التي وصلتنا على صورة فصول أومباحث مضمنة في كتب علم الكلام وتاريخ الملل والنحل, وكتب بعض المؤرخين مثل المسعودي وطاهر بن مطهر المقدسي. كما وصلتنا شذرات من مناظرات جرت بين مسلمين ويهود ليس في واحد من تلك المناظرات بحث لقضية التحريف(أنظر جملة من تلك المناظرات كنت قد نشرتها سابقا على هذا الموقع:
http://tafsir.org/vb/showthread.php?t=4401
ولم أجد في ما وقفت عليه من ردود المسلمين المذكورة أحدا توسع في مسألة تحريف كتب اليهود بما يليق بالقضية إلا ابن حزم الأندلسي(وهذا يفسر لماذا استشهد به شيخ الإسلام ابن تيمية في فتواه حول التحريف التي لخصها ابن حجر في فتح الباري كما ذكرنا سابقا) وقد أعطيت وصفا مجملا عن منهج ابن حزم في بحث المسألة في مقال لي بعنوان: حقائق جديدة حول نقد اين حزم لأسفار التوراة. نشرته مجلة الفيصل عدد 347/2005م ص42-55.
وسأنقل لكم منه هنا ما لنا به حاجة قلتُ هناك:" يحتل ابن حزم مكانة متميزة لدى المعنيين بتاريخ الأديان, فالدراسات التي كتبت عنه تكاد تُجمع على اعتباره من أكبر الرواد المسلمين في ميدان التاريخ النقدي للملل و النحل, و خاصة دراسته لليهودية والنصرانية. قالت حواء لزاروس يافه Hava-Lazarus Yafeh:" لاشك أن النقد الذي خص به ابن حزم متن الكتاب المقدس يعد دراسة متكاملة لا مثيل لها في الكتب الإسلامية في القرون الوسطى" .
لقد أفرد ابن حزم, الديانة اليهودية بدراسة نقدية تتألف من ثلاث محاور متمايزة, شغلت 208 صفحات من كتابه " الفصل في الملل والأهواء والنحل".
- المحور الأول, سلك فيه ابن حزم مسلكين في النقد:
1- مسلك النقد التاريخي والعقلاني الذي يحاكم قصص الأسفار الخمسة إلى الحقائق القطعية في علوم الجغرافية والحساب والفلك. وساق نتائج بحثه مرتبة[ص45] على 57 فصلا, منها فصول لم تتجاوز بضعة أسطر, وفصول شغلت بضع عشرة صفحة.
2- مسلك الفحص الوثائقي لتاريخ تداول اليهود للتوراة منذ عصر يوشع بن نون إلى زمن عِزْرَا الورَّاق .
فدراسة متن الأسفار الخمسة قاد ت الإمام ابن حزم إلى تحرير تاريخ موجز لتطور دين اليهود منذ عصر القضاة وإلى زمن انقراض مملكة يهوذا على يد جيوش الملك نبوخدنصر الفارسي, وتدمير بيت المقدس, وإجلاء اليهود إلى مدينة بابل نحو عام587 قبل الميلادي. وقصد ابن حزم بهذا المسلك إبطال دعوى اليهود في أن:" موسى تلقى الأسفار الخمسة من الله, كما هي الآن, و كتبها بنفسه وسلمها لقومه, ثم تواتر نقلهم لها جيلا بعد جيل". [ص46]
فابن حزم يرى أن أمورا كثيرة قد حالت دون اتصال نقل التوراة من لدن عزرا إلى موسى, منها:
- ارتداد بني اسرائيل سبع ردات في عصر القضاة .
- ثم ارتداد جميع ملوك الأسباط العشرة (مملكةالشمال) وهم عشرون ملكا.
- فضلا عن ارتداد خمس عشرة ملكا من بين عشرين ملكا حكموا مملكة الجنوب و تسمى يهوذا .
ثم يشرح ابن حزم, تطور اليهودية بعد أن دَوَّنَ لهم عزرا الوراق التوراة, التي بأيديهم اليوم, وكيف تأسست طقوس اليهودية الحالية بصلواتها وأدعيتها, بفضل أحبار العصر المكابي, فهم الذين أحدثوا البِيَع والجوامع في كل مكان, خلافا لما كان عليه أسلافهم من عدم تجويز الصلاة والاجتماع للعبادة في غير بيت المقدس.
قال ابن حزم:"إلى أن أملها(أي التوراة) عليهم من حفظه عزرا الوراق الهاروني, وهم مقرون أنه وجدها عندهم وفيها خلل كثير فأصلحها, وهذا يكفي, وكان كتابة عزرا للتوراة بعد أزيد من سبعين سنة من خراب بيت المقدس, وكتبهم تدل على أن عزرا لم يكتبها لهم ويصلحها إلا بعد نحو أربعين عامًا من رجوعهم إلى البيت بعد السبعين عاما التي كانوا فيها جالين, ولم يكن فيهم حينئذ نبي أصلا(...), ومن ذلك الوقت انتشرت التوراة ونسخت, وظهرت ظهورا ضعيفا أيضا, ولم تزل تـتداولهمُ الأيدي مع ذلك إلى أن جعل أنطاكيوس الملك- الذي بنى أنطاكية- وثنا للعبادة في بيت المقدس, وأخذِ بني إسرائيلَ بعبادته, وقُرِّبَت الخنازير على مذبح البيت, ثم تولى أمرهم قوم من بني هارون بعد مِئِـين من السنين, وانقطعت القرابين, فحينئذ انتشرت نسخ التوراة التي بأيديهم اليوم, وأحدث لهم أحبارهم صلوات لم تكن عندهم جعلوها بدلا من القرابين, وعملوا لهم دينا جديدا, و رتبوا لهم [ص47 ] الكنائس في كل قرية بخلاف حالهم طول دولتهم. وبعد هلاك دولتهم بأزيد من أربعمائة عام أحدثوا لهم اجتماعا في كل سبت, على ما هم عليه اليوم, بخلاف ما كانوا طول دولتهم, فإنه لم يكن لهم في شيء من بلادهم بيت عبادة, ولا مجمع ذكر وتعلم, ولا مكان قربان قربة, البتة, إلا ببيت المقدس فقط. (...) ففي دون هذا كفاية, لمن عقل, في أنها(أي الأسفار الخمسة) كتاب مبدل مكذوب موضوع, و دين معمول خلاف الدين الذي يقرون أن موسى أتاهم به" .
- المحور الثاني:
يبحث فيه ابن حزم بإيجاز مسألة صحة نسبة باقي أسفار العهد القديم إلى مؤلفيها التقليدين, ويركز ابن حزم نقده على: سفر يشوع, وسفر المزامير المنسوب لداود, والأسفار الثلاثة المنسوبة لسليمان , وسفر إشعياء, وسفر حزقيال. وقد كشف هذا المحور عن الحقائق الآتية:
أولاها: أن ابن حزم أقدم ناقد مسلم عارض صحة نسبة سفر يشوع إلى يوشع بن نون, ورجح أن هذا السفر المذكور ألف بعد أن بنى سليمان بيت المقدس بزمن غير يسير..
ثانيتها: أن ابن حزم أول من اعترض على نسبة سفر المزامير إلى النبي داود عليه السلام.
ثالثتها: أنه أول من كَذَّب دعوى اليهود بأن سليمان هو مؤلف الأسفار الثلاثة المنسوبة إليه في كتاب العهد القديم .
رابعتها: أنه أول ناقد قال بأن بعض الأسفار المنسوبة لأنبياء العهد القديم قد كتبت( في عصر المكابيين) بعد القرن الخامس قبل الميلادي أي بعد بناء الهيكل الثاني .
ثم ختم ابن حزم كلامه في هذا المحور بالفقرة الآتية:
" لم نكتب مما في الكتب التي يضيفونها إلى الأنبياء إلا طرفا يسيرا دالا على فضيحتها أيضا وتبديلها(...) ثم لا ندري كيف يمكنهم اتصال شيء من ذلك إلى نبي من أنبيائهم, لا سيما من لم يكن إلا في أيام كفرهم مُخافاً أو مقتولا".
- المحور الثالث:
وفيه ينتقد ابن حزم بعض الأقوال الواردة في تآليف الأحبار, كالتلمود البابلي, وكتاب شِيعُر قُومَا, وكتاب سدر ناشيم وغيرها, وغرضه من ذلك هو الاستدلال على أن الأحبار – الذين نقل اليهود عنهم دينهم- كانوا مُشَبِّهة[ص48] مشركين بل كفارا, يجب- حسب ابن حزم- رفع الثقة عنهم, والشك في أمانتهم في الحفاظ على نص التوراة سليما من التحريف والتبديل .
وقد صنف الدكتور تيودور بولسيني Théodore Pulcini أغراض الحجج الحزمية الواردة في المحاور الثلاثة المذكورة إلى تسعة أصناف, كالآتي:
1- نقد النصوص التي بها قذف في حق الأنبياء.
2- نقد النصوص التي بها تجديف في حق الله.
3- نقد النصوص التي بها أغلاط حسابية.
4- نقد النصوص التي بها أخطاء تاريخية.
5- نقد النصوص المخالفة لعلم الجغرافية.
6- بيان المناقضات داخل النصوص التوراتية.
7- التنبيه على الاستحالات العقلية التي في التوراة.
8- نقد النصوص التي بها تشبيه للخالق بمخلوقاته.
9- نقد النصوص ذات المغزى الشركي أو تنسب لله البنين والبنات.
لقد سلط ابن حزم على متن الأسفار الخمسة نقداً معياريا يجلي مخالفة النصوص التوراتية لمعالم خارجية, كالعلوم الدقيقة والأخلاق والعقيدة, بعد ذلك يستنتج ابن حزم أن تلك الأسفار تشكو من عيوب كثيرة تحول دون الجزم بأنها التوراة التي أنزلها الله على نبيه موسى.
لقد اكتشفت بعد البحث, والتنقيب, أن قدراُ لا بأس به من اعتراضات ابن حزم لها ما يماثلها عند قدماء خصوم اليهودية قبل الإسلام وهم: مرقيونMarcion , وسلسوس المشرك Celsus , والفيلسوف فرفوريوسPorphyre (233- 304 م) , ويوليان المرتد Julian l'Apostat, وآخرون ظهروا بعد الإسلام وهم: حيويه البلخي اليهودي, وإسماعيل العكبري اليهودي, وألعازار بن عزريا , الذي يعد من الخوارج على دين اليهود.
ابن حزم وخصوم اليهود:
لقد سبق للدكتور يهوذا روزنتال Judah Rosenthal أن درس بإجمال انتقادات خصوم اليهودية( قبل الإسلام وبعده) للعهد القديم, فقال:" نقف في المؤلفات الجدلية للكنيسة(النصرانية) في أول العصور الوسطى على جل[49] اعتراضات المارقين(من الدين) على أسفار العهد القديم, مشفوعة بالرد عليها, لكن أهم تلك الاعتراضات نجدها معروضة في كتاب "الهادي إلى الصراط" Hodegos الذي ألفه أنستاسيوس السينائي Sinaita Anastasius وكان بطريارك مدينة أنطا كية خلال نهاية القرن السابع الميلادي, حيث حكى أنه لما زار المشرق ألقت عليه جماعة من المارقين عدة مسائل معضلة( حول الكتاب المقدس). ثم سرد أنستاسيوس ما يعدل 154 مسألة عن الكتاب المقدس مع جواباته عنها". قال روزنتال: "أغلب تلك المعضلات كان بشأن أسفار العهد الجديد, أما المسائل الباقية فكانت بشأن العهد القديم". ثم عدد روزنتال سلسلتين منها, الأولى شملت 7 أسـئلة, والثانية شملت 18 سؤالا. ثم أضاف أن في كتاب فوتيوس القسطنطيني Photius de Costantinople ( من القرن التاسع الميلادي) 324 مسألة كثير منها متعلق بالكتاب المقدس, ولكن روزنتال اقتصر على العرض الموجز لثمان وثلاثين مسألة فقط.
و قد سعيت لعرضها على ما لدى ابن حزم فكانت النتائج كالآتي:
- المسائل التي ذكرها أنستاسيوس ونجدها عند ابن حزم: وهي خمس مسائل, أعيد طرحها في كتاب "الفصل" لابن حزم.
المسألة الأولى:
الأربعمائة سنة التي قيل إن بني إسرائيل يستعبدون فيها بمصر(تكوين 15: 13- 16) تخالف الواقع, لأنهم لم يستعبدوا إلا 140 سنة بعد وفاة يوسف (خروج 1: 6- 11).
يقارن هذا بما في الفصل لابن حزم 1/124- 128( فصل13).
المسألة الثانية:
إن الله حدد أعمار البشر بعد طوفان نوح في 120 عاما(تكوين6: 3) و لم يلتزم بذلك(تكوين11: 12). يقارن هذا بكتاب الفصل1/121- 122 (فصل9).
المسألة الثالثة:
وعد الرب بني إسرائيل أن يعطيهم ميراثا [50] (تكوين 15: 18) ولم يرثوا إلا أقل من معشار الأرض الموعودة.
يقارن بكتاب الفصل1/ 128-129 (فصل14).
المسألة الرابعة:
بم نفسر النص الآتي:
" و بعد أن دخل أبناء الله على بنات الناس..."(تكوين6: 1-2. 6: 4)؟
يقارن مع كتاب الفصل 1/121 (فصل 8).
المسألة الخامسة:
كيف نقبل حكاية العَرَّافة المقيمة في عين دور التي قصدها الملك شاول متنكرا, وطلب منها استحضار روح النبي صموئيل(صموئيل الأول 28: 7- 14).
هذه الحكاية انتقدها ابن حزم في المحور الثالث, فقال:
" وفي بعض كتبهم مما لا يختلفون في صحته أن السحرة يحيون الموتى على الحقيقة (...) وأن عجوزا ساحرة أحيت لشاول الملك- وهو طالوت- شمؤال النبي بعد موته" ,( كتاب الفصل1/ 218).
- المسائل التي ذكرها فوتيوس, ونجدها لدى ابن حزم:
وهي أيضا خمس مسائل ترد في كتاب الفصل لابن حزم كالآتي.
المسألة الأولى:
لماذا لم يذكر موسى( في الأسفار الخمسة) شيئاً عن الآخرة؟
قال ابن حزم: " ليس في توراتهم ذكر لمعاد أصلا, ولا لجزاء بعد الموت" كتاب الفصل(1/207).
المسألة الثانية:
ما معنى النص:" لنصنع الإنسان على صورتنا"(تكوين 1: 26). راجع أيضا الفصل1/117- 118(فصل2).
المسألة الثالثة:
ما معنى:" الإنسان صار كواحد منا, يميز الخير والشر"؟ (تكوين 3: 22).
تقارن بكتاب الفصل 1/120- 121 (فصل4).
المسألة الرابعة:
كيف تعدون إبراهيم صالحا, وهو يقول لربه" كيف أعلم أني أرثها"؟(تكوين 15: 8).
قارن بكتاب الفصل1/129 (فصل15).
المسألة الخامسة:
لماذا صارع الملاكُ يعقوب؟ (تكوين 32: 25).قارن مع الفصل 1/ 141- 142 (فصل26).
- تشابه حجج ابن حزم وبعض مسائل حيويه البلخي:
يعد حيويه البلخي من أكبر خوارج اليهود خلال القرن التاسع الميلادي, وقد ألف كتابا يتألف من 200 مسألة ضد العهد القديم, تصدى للرد عليها الحبر اليهودي المعروف بسعديا الفيومي(ت.942م) في كتاب مفرد وصلتنا منه نقول يسيرة في كتاب تفسير سفر التكوين للربي يهوذا بن برزلي. وقد قام بعض الباحثين المعاصرين بجمع اعتراضات حيويه البلخي, منهم بوزننسكي Poznanski , ودافيد سون . Davidson
قال يهوذا روزنتال بشأنها:" من خلال ما وصلنا من آراء البلخي استطعنا أن نعرف أنه انتقد صحة الكتاب المقدس, واعترض على[51] شرائعه, وعلى ما وصف به الله فيه, و استخرج بعض التناقض الموجود في قصصه". لقد استطاع روزنتال أن يحصي 65 مسألة من مسائل البلخي المذكورة, فاكتشفت أن خمساً منها وردت في كتاب الفصل لابن حزم.
المسألة الأولى:
نجد في التوراة أن ذات الله ممثلة في ثلاث أشخاص .
تقارن بما في كتاب الفصل 1/ 130- 131 (فصل 16).
المسألة الثانية:
في التوراة يوصف الرب بأكل الطعام.
يقارن بما في الفصل لابن حزم 1/130 (فصل 16).
المسألة الثالثة:
الرب بارك يعقوب لكنه جعل ذرية عيسو أحسن حالا من بني إسرائيل.
يقارن بما في كتاب الفصل1/ 137- 139 (فصل24).
المسألة الرابعة:
في العهد القديم يوصف الرب بأنه يصعد وينزل (الخروج 33: 1- 5؛ 14).
يقارن بما في كتاب الفصل 1/ 164 (فصل 48).
المسألة الخامسة:
لا ذكر في كتب العهد القديم للجزاء ولا للحساب في اليوم الآخر.
وهي تشبه المسألة الأولى من مسائل فوتيوس المذكورة سابقا.
مناظرة:
- تأثر ابن حزم بالمناظرة التي جرت بين نصراني قبطي ويهودي في مجلس ابن طولون:
ذكر المسعودي في كتابه: مروج الذهب ومعادن الجوهر أن أحمد ابن طولون(ق 3 الهجري /9 الميلادي) أراد أن يعرف حقيقة أهرام بلاد مصر فدلّوه على شيخ من علماء النصارى الأقباط, فأشخصه لديه, وسأله عما شاء, وفي بعض تلك المجالس أراد طبيب يهودي أن يسخر من الشيخ القبطي فقال له القبطي:
- وما أنت أيها الرجل؟ وما نحلتك؟
- فقال له:[أنا] يهودي.
- فقال له: مجوسي إذاً ؟
- قال له: كيف ذلك وهو يهودي؟
- قال: لأنهم يرون نكاح البنات في بعض الحالات.
(...) ثم أقبل القبطي على ابن طولون, فقال: أيها [52] الأمير هِؤلاء يزعمون- وأشار إلى اليهودي- أن الله خلق آدم على صورته, وعن نبي من أنبيائهم – سماه( دانيال)- قال في كتابه: إنه رأى قديم الزمان أبيض الرأس واللحية, وأن الله تعالى قال: إني أنا النار المحرقة, والحمى الآخذة, وأنا الذي آخذ الأبناء بذنوب الآباء, ثم في توراتهم أن بنات لوط سقينه الخمر حتى سكر وزنى بهن, وحملن منه, وولدن, وأن موسى رد على الله الرسالة مرتين حتى اشتد غضب الله عليه. وأن هارون صنع العجل الذي عبده بنو إسرائيل, وأن موسى أظهر معجزات لفرعون, وفعلت السحرة مثلها, ثم ما قالوا في ذبائح الحيوان والتقرب إلى الله بدمها ولحومها, وتحكمهم على العقل ومنعهم من النظر بغير برهان, وهو قولهم: أن شريعتهم لا تنسخ, ولا يقبل قول أحد من الأنبياء بعد موسى, إذا انحرف عما جاء به موسى, ولا فرق في قضية العقل بين موسى وغيره من الأنبياء إذا أتى ببرهان, وبان بحجة. ثم الأكبر من كفرهم قولهم في يوم عيد الكفور, وهو يوم الاستغفار, وذاك لعشر تخلو من تشرين الأول: أن الرب الصغير و يسمونه ميططرون يقوم في هذا اليوم قائما, وينتف شعور رأسه, ويقول: "ويلي إذ أخربت بيتي, وأيتمت بني [وبناتي], قامتي منكسة لا أرفعها, حتى أبني بيتي". قال المسعودي:" وذكر عن اليهود أقاصيص وتخاليط كثيرة, ومناقضات واسعة" .
وقد وردت حجج القبطي متفرقة في كتاب الفصل لابن حزم كما يأتي:
- الفصل 1/117- 118 (فصل2).
- الفصل 1/133- 135 (فصل20).
- الفصل 1/154- 156(فصل39).
- الفصل 1/159-160(فصل43).
- الفصل 1/161- 163(فصل 46).
- الفصل 1/ 209.
- الفصل1/223.
هذا كله يشهد جليا على إلمام ابن حزم باعتراضات من سبقه وانتقائه بعضها ليدرجه في كتابه.
لا شك أن وصول تلك الحجج لابن حزم كان من خلال كتب المقالات والملل والنحل, وردود كل طائفة على الطوائف المخالفة لها في الملة أو النحلة. لكننا لا نشك في أن لابن حزم أيضا انتقادات وحجج لم يسبق إليها, نجد عليها طابعه الذي عرف به في النقد والجدل, أعني قدرته على كشف المناقضات, وصك وجوه الخصوم بالمعضلات, وفحص الروايات التاريخية بعرضها على المعارف العلمية, واستخراج أغلاطها لإثبات أن مؤلفيها ما كانوا معصومين من الزلل فهم بذلك ليسوا أنبياء." انتهى النقل من المقال المذكور.
وهذا التميز لابن حزم عن الباقين يدل على العناية الفائقة التي بدلها في بحث المسألة فهو لم ينقل نصوص الكتاب المقدس عن غيره من المسلمين أو المهتدين كما فعل كثير غيره بل لقد بحث عن الترجمة العربية للتوراة وباقي أسفار العهد القديم وطالع أجزاء من التلمود البابلي ومن كتب الأحبار التي كانت مترجمة على ما يبدو للعربية من طرف يهود الأندلس.
كما أحاط علم ابن حزم بتاريخ اليهود إحاطة تثير الإعجاب فهو مثلا لم يجعل حزقيال النبي معاصرا ليوشع ابن نون كما فعل ابن جرير الطبري في تاريخه, بل تجده ابن حزم لا تختلط عليه أسماء الأشخاص ولا عصورهم ولا الكتب المنسوبة إليهم وقد وقع له في النادر (نحو المرتين) الإحالة من ذاكرته على نص ثم يعزوه إلى غير موضعه نظرا لاشتراك الكتابين في مضامين متقاربة المعنى, لكن لن يخفى على المطلع الخبير مكان النص الذي يقصده ابن حزم وسبب غلطه في العزو.
كما يتميز ابن حزم بشيء آخر ألا وهو إخراجه قضية التحريف من دائرة الجدل النظري الضيق والفضفاض (الدائر منذ قرون قبله بين المسلمين وأهل الكتاب) حول إمكان أو استحالة وقوع التحريف في كتب أهل الكتاب المقدسة, إلى دائرة الفحص المباشر لتلك الكتب نفسها بغرض الفصل بين طرفي النزاع, ويعد هذا سابقة لابن حزم سبق بها مدارس نقد الكتاب المقدس في اوروبا.
(و المزيد يأتيكم إن شاء الله في الحلقات القادمة ).
وكتب سمير قدوري. 22 يناير 2005م.
1- لماذا اختلفت أقوال المسلمين في مسألة تحريف أهل الكتاب لكتبهم المقدسة ؟
2- ما هي استدلالات أهل الكتاب ( اليهود أو النصارى) التي بها يدفعون تهمة التحريف عن كتبهم المقدسة؟
3- وما هي أجوبة المسلمين على تلك الاستدلالات؟ وهل هي أجوبة كافية شافية أم أن فيها الغث والسمين والخالص والهجين.
ثم ما هي نتائج النقد التاريخي والعلمي الأوروبي للكتاب المقدس؟
فبمعرفة عن هذه المسائل تكتمل الصورة لدى من يحب استيعاب المسألة من جميع جوانبها ويريد النظر إليها بإنصاف وتجرد.
للجواب عن السؤال الأول كان علينا استقراء أقوال المسلمين ليس فقط في كتب التفسير, بل في كتب المسلمين في الجدل مع اليهود والنصارى, وهي كثيرة تفوق 130مؤلفا لم يصنا منها إلا القليل.
ففي تلك الكتب يجدر البحث عن مذاهب المسلمين في مسألة تحريف الكتب المقدسة لدى أهل الكتاب.
لعل القارئ يلحظ أن المسألة تنقسم من ذات نفسها إلى قسمين كبيرين باعتبار كتب اليهود, واعتبار كتب النصارى.
بحث السؤال الأول: لماذا اختلفت أقوال المسلمين في مسألة تحريف أهل الكتاب لكتبهم المقدسة ؟
يحسن بنا أن نعطي جردا بأسماء الكتب التي ألفها المسلمون في الجدل مع اليهود والنصارى
1- الكتب التي ردت على اليهود:
وعددها نحو 30 لم يصلنا سوى بعضها, ونذكر منها:
1- الرد على اليهود لأبي بكر الأصم. مفقود.
2- كتاب في الرد على اليهود والنصارى للخليفة العباسي المأمون عبد الله بن هارون الرشيد بن المهدي محمد بن المنصور. بويع بالخلافة سنة 198هـ, وتوفي سنة 218هـ.
3- الرد على اليهود لأبي الهذيل العلاف. مفقود. وله مناظرة مع بعض اليهود أوردناها في هذا الموقع, (أنظر مقالي: مناظرات بين مسلمين وأهل الكتاب).
4- الرد على اليهود لأبي عيسى محمد بن هارون الوراق. مفقود
5- كتاب الرد على الأحبار و المجوس في العدل والتجوير لعيسى بن صُبيح المردار.مفقود.
6- الرد على اليهود للجاحظ. مفقود.
7- الرد على اليهود للقاضي الحنفي أبي بكر محمد بن عبد الرحمن بن صبر توفي سنة 380هـ. مفقود.
8- الرد على ابن النغريلة اليهودي لابن حزم الأندلسي. مطبوع.
9- إظهار تبديل اليهود للتوراة والإنجيل وبيان تناقض ما بأيديهم من ذلك مما لا يحتمل التأويل لابن حزم الأندلسي(ت456هـ). يقال أنه مدمج في الفصل وهو مطبوع.
10- شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل, لأبي المعالي الجويني(ت478هـ). مطبوع.
11- كتاب السعود في الرد على اليهود لأبي بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف الفهري الطرطوشي(ت.520هـ) , وهو مفقود.(وله مناظرة مع يهودي تجدها في هذا الموقع في المقال المشار له أعلاه).
12- قصيدة في الرد على اليهود والنصارى, لأبي الفضل سعيد بن سوسف بن الحسن بن سمرة الأواني الكاتب, وكان يهوديا وأسلم, وكان كاتبا جليلا حسن العبارة بليغا, كان حيا سنة 561هـ.
13- إفحام اليهود للسموأل بن عباس بن يحيى المغربي(571هـ). ألفه حوالي 558هـ. وهو مطبوع.
14- مجالس في ذم اليهود وتخليدهم في النار لابن عساكر.مفقود.
15- مقالة في الرد على اليهود و النصارى لعبد اللطيف بن يوسف بن محمد الموصلي البغداد(ت629هــ).مفقود.
16- الأجوبة الفاخرة لأحمد بن إدريس القرافي(ت684هـ). مطبوع.
17- الدر المنضود في الرد على ابن كمونة فيلسوف اليهود لأحمد بن علي بن تغلب أو ثعلب ابن الساعاتي الحنفي. ولد ببعلبك و انتقل مع أبيه إلى بغداد فنشأ بها في المدرسة المستنصرية, وتولى بها تدريس الحنفية وكان ممن يضرب به المثل في الذكاء والفصاحة وحسن الخط, وكان أبوه ساعاتيا عمل الساعات المشهورة على باب المدرسة المستنصرية ببغداد, وتوفي فيها سنة 694هـ/ 1295م. لم يكتشف الكتاب بعد ولعله رد على كتاب تنقيح الأبحاث للملل الثلاث لابن كمونة اليهودي.
18- مسالك النظر في نبوة سيد البشر للمهتدي الحبر سعيد بن حسن الإسكندراني(698هـ). طبع مرتين.
19- الأسئلة على التوراة لعلاء الدين الباجي الشافعي(ت.714هـ). طبع بالقاهرة 1980م تحت عنوان بليد وهو: (كتاب) على التوراة. مع أن المؤلف ذكر العنوان (الذي ترجمنا به) في آخر كتابه.
20- تأييد الملة لبعض الأندلسيين المسلمين المُدَجَّنِين من مدينة وشقة بشمال اسبانيا(القرن 8هـ). الكتاب حقق و ترجم للإنجليزية في الولايات المتحدة.
21- الحسام المحدود في الرد على أحبار اليهود, لأبي محمد عبد الحق الإسلامي السبتي (كان يهوديا وأسلم خفية سنة 780هـ ثم أعلن إسلامه سنة 796هـ وفيها ألف كتابه هذا).
وهو كتاب مطبوع عدة طبعات كلها سقيمة.
22- الرسالة الهادية في الرد على الموسوية لعبد السلام المهتدي كتبها ردا على اليهود بعدما أسلم. أولها:" الحمد لله الذي من على عباده في آخر الزمان برسالة حبيبه المبعوث من بني عدنان. وتوجد منه مخطوطة بخزانة أحمد الثالث رقم 1735(في 37 ورقة كتبها المؤلف في جمادى الأولى سنة 902هـ).(كشف الظنون 1/900) وهي على ثلاثة أقسام: الأول في إبطال أدلة اليهود. الثاني: في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من عبارة التوراة بعدما غيره اليهود. والثالث: في تغييرهم بعض كلمات التوراة.
23- الرسالة السبيعية الحاوية للضوابط الإرشادية, للحبر الأعظم إسرائيل بن شموئيل الأورشليمي. طبعت بدار القلم – دمشق 1989م.
24- النور الباهر في نصرة الدين الطاهر ليوسف بن عبد الله الإسلامي انتقل إلى الإسلام بعد 1020هـ. مخطوط.
هذا فضلا عن الردود التي وصلتنا على صورة فصول أومباحث مضمنة في كتب علم الكلام وتاريخ الملل والنحل, وكتب بعض المؤرخين مثل المسعودي وطاهر بن مطهر المقدسي. كما وصلتنا شذرات من مناظرات جرت بين مسلمين ويهود ليس في واحد من تلك المناظرات بحث لقضية التحريف(أنظر جملة من تلك المناظرات كنت قد نشرتها سابقا على هذا الموقع:
http://tafsir.org/vb/showthread.php?t=4401
ولم أجد في ما وقفت عليه من ردود المسلمين المذكورة أحدا توسع في مسألة تحريف كتب اليهود بما يليق بالقضية إلا ابن حزم الأندلسي(وهذا يفسر لماذا استشهد به شيخ الإسلام ابن تيمية في فتواه حول التحريف التي لخصها ابن حجر في فتح الباري كما ذكرنا سابقا) وقد أعطيت وصفا مجملا عن منهج ابن حزم في بحث المسألة في مقال لي بعنوان: حقائق جديدة حول نقد اين حزم لأسفار التوراة. نشرته مجلة الفيصل عدد 347/2005م ص42-55.
وسأنقل لكم منه هنا ما لنا به حاجة قلتُ هناك:" يحتل ابن حزم مكانة متميزة لدى المعنيين بتاريخ الأديان, فالدراسات التي كتبت عنه تكاد تُجمع على اعتباره من أكبر الرواد المسلمين في ميدان التاريخ النقدي للملل و النحل, و خاصة دراسته لليهودية والنصرانية. قالت حواء لزاروس يافه Hava-Lazarus Yafeh:" لاشك أن النقد الذي خص به ابن حزم متن الكتاب المقدس يعد دراسة متكاملة لا مثيل لها في الكتب الإسلامية في القرون الوسطى" .
لقد أفرد ابن حزم, الديانة اليهودية بدراسة نقدية تتألف من ثلاث محاور متمايزة, شغلت 208 صفحات من كتابه " الفصل في الملل والأهواء والنحل".
- المحور الأول, سلك فيه ابن حزم مسلكين في النقد:
1- مسلك النقد التاريخي والعقلاني الذي يحاكم قصص الأسفار الخمسة إلى الحقائق القطعية في علوم الجغرافية والحساب والفلك. وساق نتائج بحثه مرتبة[ص45] على 57 فصلا, منها فصول لم تتجاوز بضعة أسطر, وفصول شغلت بضع عشرة صفحة.
2- مسلك الفحص الوثائقي لتاريخ تداول اليهود للتوراة منذ عصر يوشع بن نون إلى زمن عِزْرَا الورَّاق .
فدراسة متن الأسفار الخمسة قاد ت الإمام ابن حزم إلى تحرير تاريخ موجز لتطور دين اليهود منذ عصر القضاة وإلى زمن انقراض مملكة يهوذا على يد جيوش الملك نبوخدنصر الفارسي, وتدمير بيت المقدس, وإجلاء اليهود إلى مدينة بابل نحو عام587 قبل الميلادي. وقصد ابن حزم بهذا المسلك إبطال دعوى اليهود في أن:" موسى تلقى الأسفار الخمسة من الله, كما هي الآن, و كتبها بنفسه وسلمها لقومه, ثم تواتر نقلهم لها جيلا بعد جيل". [ص46]
فابن حزم يرى أن أمورا كثيرة قد حالت دون اتصال نقل التوراة من لدن عزرا إلى موسى, منها:
- ارتداد بني اسرائيل سبع ردات في عصر القضاة .
- ثم ارتداد جميع ملوك الأسباط العشرة (مملكةالشمال) وهم عشرون ملكا.
- فضلا عن ارتداد خمس عشرة ملكا من بين عشرين ملكا حكموا مملكة الجنوب و تسمى يهوذا .
ثم يشرح ابن حزم, تطور اليهودية بعد أن دَوَّنَ لهم عزرا الوراق التوراة, التي بأيديهم اليوم, وكيف تأسست طقوس اليهودية الحالية بصلواتها وأدعيتها, بفضل أحبار العصر المكابي, فهم الذين أحدثوا البِيَع والجوامع في كل مكان, خلافا لما كان عليه أسلافهم من عدم تجويز الصلاة والاجتماع للعبادة في غير بيت المقدس.
قال ابن حزم:"إلى أن أملها(أي التوراة) عليهم من حفظه عزرا الوراق الهاروني, وهم مقرون أنه وجدها عندهم وفيها خلل كثير فأصلحها, وهذا يكفي, وكان كتابة عزرا للتوراة بعد أزيد من سبعين سنة من خراب بيت المقدس, وكتبهم تدل على أن عزرا لم يكتبها لهم ويصلحها إلا بعد نحو أربعين عامًا من رجوعهم إلى البيت بعد السبعين عاما التي كانوا فيها جالين, ولم يكن فيهم حينئذ نبي أصلا(...), ومن ذلك الوقت انتشرت التوراة ونسخت, وظهرت ظهورا ضعيفا أيضا, ولم تزل تـتداولهمُ الأيدي مع ذلك إلى أن جعل أنطاكيوس الملك- الذي بنى أنطاكية- وثنا للعبادة في بيت المقدس, وأخذِ بني إسرائيلَ بعبادته, وقُرِّبَت الخنازير على مذبح البيت, ثم تولى أمرهم قوم من بني هارون بعد مِئِـين من السنين, وانقطعت القرابين, فحينئذ انتشرت نسخ التوراة التي بأيديهم اليوم, وأحدث لهم أحبارهم صلوات لم تكن عندهم جعلوها بدلا من القرابين, وعملوا لهم دينا جديدا, و رتبوا لهم [ص47 ] الكنائس في كل قرية بخلاف حالهم طول دولتهم. وبعد هلاك دولتهم بأزيد من أربعمائة عام أحدثوا لهم اجتماعا في كل سبت, على ما هم عليه اليوم, بخلاف ما كانوا طول دولتهم, فإنه لم يكن لهم في شيء من بلادهم بيت عبادة, ولا مجمع ذكر وتعلم, ولا مكان قربان قربة, البتة, إلا ببيت المقدس فقط. (...) ففي دون هذا كفاية, لمن عقل, في أنها(أي الأسفار الخمسة) كتاب مبدل مكذوب موضوع, و دين معمول خلاف الدين الذي يقرون أن موسى أتاهم به" .
- المحور الثاني:
يبحث فيه ابن حزم بإيجاز مسألة صحة نسبة باقي أسفار العهد القديم إلى مؤلفيها التقليدين, ويركز ابن حزم نقده على: سفر يشوع, وسفر المزامير المنسوب لداود, والأسفار الثلاثة المنسوبة لسليمان , وسفر إشعياء, وسفر حزقيال. وقد كشف هذا المحور عن الحقائق الآتية:
أولاها: أن ابن حزم أقدم ناقد مسلم عارض صحة نسبة سفر يشوع إلى يوشع بن نون, ورجح أن هذا السفر المذكور ألف بعد أن بنى سليمان بيت المقدس بزمن غير يسير..
ثانيتها: أن ابن حزم أول من اعترض على نسبة سفر المزامير إلى النبي داود عليه السلام.
ثالثتها: أنه أول من كَذَّب دعوى اليهود بأن سليمان هو مؤلف الأسفار الثلاثة المنسوبة إليه في كتاب العهد القديم .
رابعتها: أنه أول ناقد قال بأن بعض الأسفار المنسوبة لأنبياء العهد القديم قد كتبت( في عصر المكابيين) بعد القرن الخامس قبل الميلادي أي بعد بناء الهيكل الثاني .
ثم ختم ابن حزم كلامه في هذا المحور بالفقرة الآتية:
" لم نكتب مما في الكتب التي يضيفونها إلى الأنبياء إلا طرفا يسيرا دالا على فضيحتها أيضا وتبديلها(...) ثم لا ندري كيف يمكنهم اتصال شيء من ذلك إلى نبي من أنبيائهم, لا سيما من لم يكن إلا في أيام كفرهم مُخافاً أو مقتولا".
- المحور الثالث:
وفيه ينتقد ابن حزم بعض الأقوال الواردة في تآليف الأحبار, كالتلمود البابلي, وكتاب شِيعُر قُومَا, وكتاب سدر ناشيم وغيرها, وغرضه من ذلك هو الاستدلال على أن الأحبار – الذين نقل اليهود عنهم دينهم- كانوا مُشَبِّهة[ص48] مشركين بل كفارا, يجب- حسب ابن حزم- رفع الثقة عنهم, والشك في أمانتهم في الحفاظ على نص التوراة سليما من التحريف والتبديل .
وقد صنف الدكتور تيودور بولسيني Théodore Pulcini أغراض الحجج الحزمية الواردة في المحاور الثلاثة المذكورة إلى تسعة أصناف, كالآتي:
1- نقد النصوص التي بها قذف في حق الأنبياء.
2- نقد النصوص التي بها تجديف في حق الله.
3- نقد النصوص التي بها أغلاط حسابية.
4- نقد النصوص التي بها أخطاء تاريخية.
5- نقد النصوص المخالفة لعلم الجغرافية.
6- بيان المناقضات داخل النصوص التوراتية.
7- التنبيه على الاستحالات العقلية التي في التوراة.
8- نقد النصوص التي بها تشبيه للخالق بمخلوقاته.
9- نقد النصوص ذات المغزى الشركي أو تنسب لله البنين والبنات.
لقد سلط ابن حزم على متن الأسفار الخمسة نقداً معياريا يجلي مخالفة النصوص التوراتية لمعالم خارجية, كالعلوم الدقيقة والأخلاق والعقيدة, بعد ذلك يستنتج ابن حزم أن تلك الأسفار تشكو من عيوب كثيرة تحول دون الجزم بأنها التوراة التي أنزلها الله على نبيه موسى.
لقد اكتشفت بعد البحث, والتنقيب, أن قدراُ لا بأس به من اعتراضات ابن حزم لها ما يماثلها عند قدماء خصوم اليهودية قبل الإسلام وهم: مرقيونMarcion , وسلسوس المشرك Celsus , والفيلسوف فرفوريوسPorphyre (233- 304 م) , ويوليان المرتد Julian l'Apostat, وآخرون ظهروا بعد الإسلام وهم: حيويه البلخي اليهودي, وإسماعيل العكبري اليهودي, وألعازار بن عزريا , الذي يعد من الخوارج على دين اليهود.
ابن حزم وخصوم اليهود:
لقد سبق للدكتور يهوذا روزنتال Judah Rosenthal أن درس بإجمال انتقادات خصوم اليهودية( قبل الإسلام وبعده) للعهد القديم, فقال:" نقف في المؤلفات الجدلية للكنيسة(النصرانية) في أول العصور الوسطى على جل[49] اعتراضات المارقين(من الدين) على أسفار العهد القديم, مشفوعة بالرد عليها, لكن أهم تلك الاعتراضات نجدها معروضة في كتاب "الهادي إلى الصراط" Hodegos الذي ألفه أنستاسيوس السينائي Sinaita Anastasius وكان بطريارك مدينة أنطا كية خلال نهاية القرن السابع الميلادي, حيث حكى أنه لما زار المشرق ألقت عليه جماعة من المارقين عدة مسائل معضلة( حول الكتاب المقدس). ثم سرد أنستاسيوس ما يعدل 154 مسألة عن الكتاب المقدس مع جواباته عنها". قال روزنتال: "أغلب تلك المعضلات كان بشأن أسفار العهد الجديد, أما المسائل الباقية فكانت بشأن العهد القديم". ثم عدد روزنتال سلسلتين منها, الأولى شملت 7 أسـئلة, والثانية شملت 18 سؤالا. ثم أضاف أن في كتاب فوتيوس القسطنطيني Photius de Costantinople ( من القرن التاسع الميلادي) 324 مسألة كثير منها متعلق بالكتاب المقدس, ولكن روزنتال اقتصر على العرض الموجز لثمان وثلاثين مسألة فقط.
و قد سعيت لعرضها على ما لدى ابن حزم فكانت النتائج كالآتي:
- المسائل التي ذكرها أنستاسيوس ونجدها عند ابن حزم: وهي خمس مسائل, أعيد طرحها في كتاب "الفصل" لابن حزم.
المسألة الأولى:
الأربعمائة سنة التي قيل إن بني إسرائيل يستعبدون فيها بمصر(تكوين 15: 13- 16) تخالف الواقع, لأنهم لم يستعبدوا إلا 140 سنة بعد وفاة يوسف (خروج 1: 6- 11).
يقارن هذا بما في الفصل لابن حزم 1/124- 128( فصل13).
المسألة الثانية:
إن الله حدد أعمار البشر بعد طوفان نوح في 120 عاما(تكوين6: 3) و لم يلتزم بذلك(تكوين11: 12). يقارن هذا بكتاب الفصل1/121- 122 (فصل9).
المسألة الثالثة:
وعد الرب بني إسرائيل أن يعطيهم ميراثا [50] (تكوين 15: 18) ولم يرثوا إلا أقل من معشار الأرض الموعودة.
يقارن بكتاب الفصل1/ 128-129 (فصل14).
المسألة الرابعة:
بم نفسر النص الآتي:
" و بعد أن دخل أبناء الله على بنات الناس..."(تكوين6: 1-2. 6: 4)؟
يقارن مع كتاب الفصل 1/121 (فصل 8).
المسألة الخامسة:
كيف نقبل حكاية العَرَّافة المقيمة في عين دور التي قصدها الملك شاول متنكرا, وطلب منها استحضار روح النبي صموئيل(صموئيل الأول 28: 7- 14).
هذه الحكاية انتقدها ابن حزم في المحور الثالث, فقال:
" وفي بعض كتبهم مما لا يختلفون في صحته أن السحرة يحيون الموتى على الحقيقة (...) وأن عجوزا ساحرة أحيت لشاول الملك- وهو طالوت- شمؤال النبي بعد موته" ,( كتاب الفصل1/ 218).
- المسائل التي ذكرها فوتيوس, ونجدها لدى ابن حزم:
وهي أيضا خمس مسائل ترد في كتاب الفصل لابن حزم كالآتي.
المسألة الأولى:
لماذا لم يذكر موسى( في الأسفار الخمسة) شيئاً عن الآخرة؟
قال ابن حزم: " ليس في توراتهم ذكر لمعاد أصلا, ولا لجزاء بعد الموت" كتاب الفصل(1/207).
المسألة الثانية:
ما معنى النص:" لنصنع الإنسان على صورتنا"(تكوين 1: 26). راجع أيضا الفصل1/117- 118(فصل2).
المسألة الثالثة:
ما معنى:" الإنسان صار كواحد منا, يميز الخير والشر"؟ (تكوين 3: 22).
تقارن بكتاب الفصل 1/120- 121 (فصل4).
المسألة الرابعة:
كيف تعدون إبراهيم صالحا, وهو يقول لربه" كيف أعلم أني أرثها"؟(تكوين 15: 8).
قارن بكتاب الفصل1/129 (فصل15).
المسألة الخامسة:
لماذا صارع الملاكُ يعقوب؟ (تكوين 32: 25).قارن مع الفصل 1/ 141- 142 (فصل26).
- تشابه حجج ابن حزم وبعض مسائل حيويه البلخي:
يعد حيويه البلخي من أكبر خوارج اليهود خلال القرن التاسع الميلادي, وقد ألف كتابا يتألف من 200 مسألة ضد العهد القديم, تصدى للرد عليها الحبر اليهودي المعروف بسعديا الفيومي(ت.942م) في كتاب مفرد وصلتنا منه نقول يسيرة في كتاب تفسير سفر التكوين للربي يهوذا بن برزلي. وقد قام بعض الباحثين المعاصرين بجمع اعتراضات حيويه البلخي, منهم بوزننسكي Poznanski , ودافيد سون . Davidson
قال يهوذا روزنتال بشأنها:" من خلال ما وصلنا من آراء البلخي استطعنا أن نعرف أنه انتقد صحة الكتاب المقدس, واعترض على[51] شرائعه, وعلى ما وصف به الله فيه, و استخرج بعض التناقض الموجود في قصصه". لقد استطاع روزنتال أن يحصي 65 مسألة من مسائل البلخي المذكورة, فاكتشفت أن خمساً منها وردت في كتاب الفصل لابن حزم.
المسألة الأولى:
نجد في التوراة أن ذات الله ممثلة في ثلاث أشخاص .
تقارن بما في كتاب الفصل 1/ 130- 131 (فصل 16).
المسألة الثانية:
في التوراة يوصف الرب بأكل الطعام.
يقارن بما في الفصل لابن حزم 1/130 (فصل 16).
المسألة الثالثة:
الرب بارك يعقوب لكنه جعل ذرية عيسو أحسن حالا من بني إسرائيل.
يقارن بما في كتاب الفصل1/ 137- 139 (فصل24).
المسألة الرابعة:
في العهد القديم يوصف الرب بأنه يصعد وينزل (الخروج 33: 1- 5؛ 14).
يقارن بما في كتاب الفصل 1/ 164 (فصل 48).
المسألة الخامسة:
لا ذكر في كتب العهد القديم للجزاء ولا للحساب في اليوم الآخر.
وهي تشبه المسألة الأولى من مسائل فوتيوس المذكورة سابقا.
مناظرة:
- تأثر ابن حزم بالمناظرة التي جرت بين نصراني قبطي ويهودي في مجلس ابن طولون:
ذكر المسعودي في كتابه: مروج الذهب ومعادن الجوهر أن أحمد ابن طولون(ق 3 الهجري /9 الميلادي) أراد أن يعرف حقيقة أهرام بلاد مصر فدلّوه على شيخ من علماء النصارى الأقباط, فأشخصه لديه, وسأله عما شاء, وفي بعض تلك المجالس أراد طبيب يهودي أن يسخر من الشيخ القبطي فقال له القبطي:
- وما أنت أيها الرجل؟ وما نحلتك؟
- فقال له:[أنا] يهودي.
- فقال له: مجوسي إذاً ؟
- قال له: كيف ذلك وهو يهودي؟
- قال: لأنهم يرون نكاح البنات في بعض الحالات.
(...) ثم أقبل القبطي على ابن طولون, فقال: أيها [52] الأمير هِؤلاء يزعمون- وأشار إلى اليهودي- أن الله خلق آدم على صورته, وعن نبي من أنبيائهم – سماه( دانيال)- قال في كتابه: إنه رأى قديم الزمان أبيض الرأس واللحية, وأن الله تعالى قال: إني أنا النار المحرقة, والحمى الآخذة, وأنا الذي آخذ الأبناء بذنوب الآباء, ثم في توراتهم أن بنات لوط سقينه الخمر حتى سكر وزنى بهن, وحملن منه, وولدن, وأن موسى رد على الله الرسالة مرتين حتى اشتد غضب الله عليه. وأن هارون صنع العجل الذي عبده بنو إسرائيل, وأن موسى أظهر معجزات لفرعون, وفعلت السحرة مثلها, ثم ما قالوا في ذبائح الحيوان والتقرب إلى الله بدمها ولحومها, وتحكمهم على العقل ومنعهم من النظر بغير برهان, وهو قولهم: أن شريعتهم لا تنسخ, ولا يقبل قول أحد من الأنبياء بعد موسى, إذا انحرف عما جاء به موسى, ولا فرق في قضية العقل بين موسى وغيره من الأنبياء إذا أتى ببرهان, وبان بحجة. ثم الأكبر من كفرهم قولهم في يوم عيد الكفور, وهو يوم الاستغفار, وذاك لعشر تخلو من تشرين الأول: أن الرب الصغير و يسمونه ميططرون يقوم في هذا اليوم قائما, وينتف شعور رأسه, ويقول: "ويلي إذ أخربت بيتي, وأيتمت بني [وبناتي], قامتي منكسة لا أرفعها, حتى أبني بيتي". قال المسعودي:" وذكر عن اليهود أقاصيص وتخاليط كثيرة, ومناقضات واسعة" .
وقد وردت حجج القبطي متفرقة في كتاب الفصل لابن حزم كما يأتي:
- الفصل 1/117- 118 (فصل2).
- الفصل 1/133- 135 (فصل20).
- الفصل 1/154- 156(فصل39).
- الفصل 1/159-160(فصل43).
- الفصل 1/161- 163(فصل 46).
- الفصل 1/ 209.
- الفصل1/223.
هذا كله يشهد جليا على إلمام ابن حزم باعتراضات من سبقه وانتقائه بعضها ليدرجه في كتابه.
لا شك أن وصول تلك الحجج لابن حزم كان من خلال كتب المقالات والملل والنحل, وردود كل طائفة على الطوائف المخالفة لها في الملة أو النحلة. لكننا لا نشك في أن لابن حزم أيضا انتقادات وحجج لم يسبق إليها, نجد عليها طابعه الذي عرف به في النقد والجدل, أعني قدرته على كشف المناقضات, وصك وجوه الخصوم بالمعضلات, وفحص الروايات التاريخية بعرضها على المعارف العلمية, واستخراج أغلاطها لإثبات أن مؤلفيها ما كانوا معصومين من الزلل فهم بذلك ليسوا أنبياء." انتهى النقل من المقال المذكور.
وهذا التميز لابن حزم عن الباقين يدل على العناية الفائقة التي بدلها في بحث المسألة فهو لم ينقل نصوص الكتاب المقدس عن غيره من المسلمين أو المهتدين كما فعل كثير غيره بل لقد بحث عن الترجمة العربية للتوراة وباقي أسفار العهد القديم وطالع أجزاء من التلمود البابلي ومن كتب الأحبار التي كانت مترجمة على ما يبدو للعربية من طرف يهود الأندلس.
كما أحاط علم ابن حزم بتاريخ اليهود إحاطة تثير الإعجاب فهو مثلا لم يجعل حزقيال النبي معاصرا ليوشع ابن نون كما فعل ابن جرير الطبري في تاريخه, بل تجده ابن حزم لا تختلط عليه أسماء الأشخاص ولا عصورهم ولا الكتب المنسوبة إليهم وقد وقع له في النادر (نحو المرتين) الإحالة من ذاكرته على نص ثم يعزوه إلى غير موضعه نظرا لاشتراك الكتابين في مضامين متقاربة المعنى, لكن لن يخفى على المطلع الخبير مكان النص الذي يقصده ابن حزم وسبب غلطه في العزو.
كما يتميز ابن حزم بشيء آخر ألا وهو إخراجه قضية التحريف من دائرة الجدل النظري الضيق والفضفاض (الدائر منذ قرون قبله بين المسلمين وأهل الكتاب) حول إمكان أو استحالة وقوع التحريف في كتب أهل الكتاب المقدسة, إلى دائرة الفحص المباشر لتلك الكتب نفسها بغرض الفصل بين طرفي النزاع, ويعد هذا سابقة لابن حزم سبق بها مدارس نقد الكتاب المقدس في اوروبا.
(و المزيد يأتيكم إن شاء الله في الحلقات القادمة ).
وكتب سمير قدوري. 22 يناير 2005م.