طلال بن صالح النفيعي
New member
كَلامٌ جَامِعٌ لأهْلِ العِلمِ في الغِنَاءِ والمَعَازِفِ
* * *
حَيْثُ قَالَ عَنْهُ الآلُوسِيُّ فِي «غَايَةِ الأمَانِي» (2/5): «هُوَ كِتَابٌ مَشْهُورٌ مِنْ كُتُبِ السُّنَّةِ، أوْدَعَهُ مُؤَلِّفُهُ رَحِمَهُ الله مُهِمَّاتِ المَطَالِبِ، وأبْطَلَ بِهِ حَبَائِلَ الشَّيْطَانِ ومَصَايِدَهُ، ودَسَائِسَهُ ومَكَائِدَهُ...»، لِهَذَا فَقَدِ انْتَقَيْنَا مِنْهُ جُمْلَةً مِنْ كَلَامِ أهْلِ العِلْمِ، عِلْمًا أنَّ مَا تَرَكْنَاهُ أكْثَرَ مِمَّا دَوَّنَّاهُ هُنَا.
* * *
وَمِنْ مَكَايِدِ عَدُوِّ الله ومَصَايِدِهِ الَّتِي كَادَ بِهَا مَنْ قَلَّ نَصِيبُهُ مِنَ العِلْمَِ والعَقْلِ والدِّينِ وصَادَ بِهَا قُلُوبَ الجَاهِلِينَ والمُبْطِلِينَ: سَمَاعُ المُكَاءِ والتَّصْدِيَةِ والغِنَاءِ بِالآلَاتِ المُحَرَّمَةِ الَّذِي يَصُدُّ القُلُوبَ عَنِ القُرْآنِ، ويَجْعَلُهَا عَاكِفَةً عَلَى الفُسُوقِ والعِصْيَانِ.
فَهُوَ قُرْآنُ الشَّيْطَانِ، والحِجَابُ الكَثِيفُ عَنِ الرَّحْمَنِ، وهُوَ رُقْيَةُ اللِّوَاطِ والزِّنَا; وبِهِ يَنَالُ العَاشِقُ مِنْ مَعْشُوقِهِ غَايَةَ المُنَى.
كَادَ بِهِ الشَّيْطَانُ النُّفُوسَ المُبْطِلَةَ، وحَسَّنَهُ لَهَا مَكْرًا مِنْهُ وغُرُورًا، وأوْحَى إلَيْهَا الشُّبَهَ البَاطِلَةَ عَلَى حُسْنِهِ، فَقَبِلَتْ وحْيَهُ، واتَّخَذَتْ لأجْلِهِ القُرْآنَ مَهْجُورًا.
فَلَوْ رَأيْتَهُمْ عِنْدَ ذِيَاكَ السَّمَاعِ، وقَدْ خَشَعَتْ مِنْهُ الأصْوَاتُ، وهَدَأتْ مِنْهُ الحَرَكَاتُ وعَكَفَتْ قُلُوبُهُمْ بِكُلِّيَّتِهَا عَلَيْهِ وانْصَبَّتِ انْصِبَابَةً واحِدَةً إلَيْهِ.
فَتَمَايَلُوا لَهُ ولَا كَتَمَايُلِ النَّشْوَانِ وتَكَسَّرُوا فِي حَرَكَاتِهِمْ ورَقْصِهِمْ، أرَأيْتَ تَكَسُّرَ المَخَانِيثِ والنِّسْوَانِ؟
وَيَحِقُّ لَهُمْ ذَلِكَ، وقَدْ خَالَطَ خُمَارُهُ النُّفُوسَ، فَفَعَلَ فِيْهَا أعْظَمَ مَا يَفْعَلُهُ حُمَيَّا الكُؤُوسِ.
فَلِغَيْرِ الله ـ بَلْ لِلشَّيْطَانِ ـ قُلُوبٌ هُنَاكَ تُمَزَّقُ وأثْوَابٌ تُشَقَّقُ وأمْوَالٌ فِي غَيْرِ طَاعَةِ الله تُنْفَقُ; حَتَّى إذَا عَمِلَ السُّكْرُ فِيهِمْ عَمَلَهُ، وبَلَغَ الشَّيْطَانُ مِنْهُمْ أُمْنِيَّتَهُ وأمَلَهُ، واسْتَفَزَّهُمْ بِصَوْتِهِ وحِيَلِهِ، وأجْلَبَ عَلَيْهِمْ بِرَجِلِهِ وخَيْلِهِ: وخَزَ فِي صُدُورِهِمْ وخْزًا، وأزَّهُمْ إلَى ضَرْبِ الأرْضِ بِالأقْدَامِ أزًّا، فَطَوْرًا يَجْعَلُهُمْ كَالحَمِيرِ حَوْلَ المَدَارِ، وتَارَةً كَالذُّبَابِ تَرْقُصُ وُسَيْطَ الدِّيَارِ.
* * *
مَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ أحَبُّ إلَيْهِمْ مِنِ اسْتِمَاعِ سُوَرِ القُرْآنِ، ولَوْ سَمِعَ أحَدُهُمُ القُرْآنَ مِنْ أوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ لَمَا حَرَّكَ لَهُ سَاكِنًا، ولَا أزْعَجَ لَهُ قَاطِنًا، ولَا أثَارَ فِيْهِ وجْدًا، ولَا قَدَحَ فِيْهِ مِنْ لَوَاعِجِ الشَّوْقِ إلَى الله زَنْدًا.
حَتَّى إذَا تُلِيَ عَلَيْهِ قُرْآنُ الشَّيْطَانِ ووَلَجَ مَزْمُورُهُ سَمْعَهُ تَفَجَّرَتْ يَنَابِيعُ الوَجْدِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى عَيْنَيْهِ فَجَرَتْ وعَلَى أقْدَامِهِ فَرَقَصَتْ، وعَلَى يَدَيْهِ فَصَفَّقَتْ، وعَلَى سَائِرِ أعْضَائِهِ فَاهْتَزَّتْ وطَرِبَتْ، وعَلَى أنْفَاسِهِ فَتَصَاعَدَتْ، وعَلَى زَفَرَاتِهِ فَتَزَايَدَتْ، وعَلَى نِيرَانِ أشْوَاقِهِ فَاشْتَعَلَتْ!
فَيَا أيُّهَا الفَاتِنُ المَفْتُونُ، والبَائِعُ حَظَّهُ مِنَ الله بِنَصِيبِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ صَفْقَةَ خَاسِرٍ مَغْبُونٍ، هَلَّا كَانَتْ هَذِهِ الأشْجَانُ عِنْدَ سَمَاعِ القُرْآنِ؟ وهَذِهِ الأذْوَاقُ والمَوَاجِيدُ عِنْدَ سَمَاعِ قِرَاءَةِ القُرْآنِ المَجِيدِ؟ وهَذِهِ الأحْوَالُ السَّنِيَّاتُ عِنْدَ تِلَاوَةِ السُّوَرِ والآيَاتِ؟
وَلَكِنْ كُلُّ امْرِئٍ يَصْبُو إلَى مَا يُنَاسِبُهُ، ويَمِيلُ إلَى مَا يُشَاكِلُهُ، والجِنْسِيَّةُ عِلَّةُ الضَّمِّ قَدَرًا وشَرْعًا، والمُشَاكَلَةُ سَبَبُ المَيْلِ عَقْلاً وطَبْعًا، فَمِنْ أيْنَ هَذَا الإخَاءُ والنَّسَبُ؟ لَوْلَا التَّعَلُّقُ مِنَ الشَّيْطَانِ بِأقْوَى سَبَبٍ.
وَمِنْ أيْنَ هَذِهِ المَصْلَحَةُ الَّتِي أوْقَعَتْ فِي عَقْدِ الإيمَانِ وعَهْدِ الرَّحْمَنِ خَلَلاً؟ قَالَ تَعَالَى: «أفَتَتَّخِذُونَهُ وذُرِّيَّتَهُ أوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا» (الكهف: 50).
* * *
فَرَأيْتُ أنْ أُوَضِّحَ الحَقَّ وأكْشِفَ عَنْ شُبَهِ أهْلِ البَاطِلِ بِالحُجَجِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا كِتَابُ الله وسُنَّةُ رَسُولِهِ، وأبْدَأُ بِذِكْرِ أقَاوِيلِ العُلَمَاءِ الَّذِينَ تَدُورُ الفُتْيَا عَلَيْهِمْ فِي أقَاصِي الأرْضِ ودَانِيهَا حَتَّى تَعْلَمَ هَذِهِ الطَّائِفَةُ أنَّهَا قَدْ خَالَفَتْ عُلَمَاءَ المُسْلِمِيْنَ فِي بِدْعَتِهَا، والله ولِيُّ التَّوْفِيقِ».
ثُمَّ قَالَ: «أمَّا مَالِكٌ فَإنَّهُ نَهَى عَنِ الغِنَاءِ وعَنِ اسْتِمَاعِهِ، وقَالَ: إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَجَدَهَا مُغَنِّيَةً كَانَ لَهُ أنْ يَرُدَّهَا بِالعَيْبِ، وسُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ الله: عَمَّا يُرَخِّصُ فِيْهِ أهْلُ المَدِينَةِ مِنَ الغِنَاءِ؟ فَقَالَ: إنَّمَا يَفْعَلُهُ عِنْدَنَا الفُسَّاقُ».
قَالَ: وأمَّا أبُو حَنِيفَةَ: فَإنَّهُ يَكْرَهُ الغِنَاءَ، ويَجْعَلُهُ مِنَ الذُّنُوبِ، وكَذَلِكَ مَذْهَبُ أهْلِ الكُوفَةِ: سُفْيَانَ وحَمَّادٍ وإبْرَاهِيمَ والشَّافِعِيِّ وغَيْرِهِمْ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، ولَا نَعْلَمُ خِلَافًا أيْضًا بَيْنَ أهْلِ البَصْرَةِ فِي المَنْعِ مِنْهُ...».
* * *
وَأمَّا الشَّافِعِيُّ: فَقَدْ صَرَّحَ أصْحَابُهُ العَارِفُونَ بِمَذْهَبِهِ بِتَحْرِيمِهِ، وأنْكَرُوا عَلَى مَنْ نَسَبَ إلَيْهِ حِلَّهُ، كَالقَاضِي أبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ، والشَّيْخِ أبِي إسْحَاقَ، وابْنِ الصَّبَّاغِ.
وقَدْ حَكَى أبُو عَمْرِو ابْنُ الصَّلَاحِ الإجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ السَّمَاعِ الَّذِي جَمَعَ الدُّفَّ والشَّبَّابَةَ، فَقَالَ فِي فَتَاوِيهِ: «وَأمَّا إبَاحَةُ هَذَا السَّمَاعِ وتَحْلِيلُهُ، فَلْيُعْلَمْ أنَّ الدُّفَّ والشَّبَّابَةَ والغِنَاءَ إذَا اجْتَمَعَتْ فَاسْتِمَاعُ ذَلِكَ حَرَامٌ عِنْدَ أئِمَّةِ المَذَاهِبِ وغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ المُسْلِمِيْنَ، ولَمْ يَثْبُتْ عَنْ أحَدٍ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ فِي الإجْمَاعِ والاخْتِلَافِ أنَّهُ أبَاحَ هَذَا السَّمَاعَ، والخِلَافُ المَنْقُولُ عَنْ بَعْضِ أصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إنَّمَا نُقِلَ فِي الشَّبَّابَةِ مُنْفَرِدَةً والدُّفِّ مُنْفَرِدًا، فَمَنْ لَا يُحَصِّلُ أوْ لَا يَتَأمَّلُ رُبَّمَا اعْتَقَدَ خِلَافًا بَيْنَ الشَّافِعِيِّينَ فِي هَذَا السَّمَاعِ الجَامِعِ هَذِهِ المَلَاهِيَ، وذَلِكَ وهْمٌ بَيِّنٌ مِنَ الصَّائِرِ إلَيْهِ، تُنَادِي عَلَيْهِ أدِلَّةُ الشَّرْعِ والعَقْلِ، مَعَ أنَّهُ لَيْسَ كُلُّ خِلَافٍ يُسْتَرْوَحُ إلَيْهِ ويُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، ومَنْ تَتَبَّعَ مَا اخْتَلَفَ فِيْهِ العُلَمَاءُ وأخَذَ الرُّخَصَ مِنْ أقَاوِيلِهِمْ تَزَنْدَقَ أوْ كَادَ!
وَقَالَ: وقَوْلُهُمْ فِي السَّمَاعِ المَذْكُورِ إنَّهُ مِنَ القُرُبَاتِ والطَّاعَاتِ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لإجْمَاعِ المُسْلِمِيْنَ، ومَنْ خَالَفَ إجْمَاعَهُمْ فَعَلَيْهِ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «ومَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وسَاءَتْ مَصِيرًا» (النساء: 115) انْتَهَى.
* * *
وَأمَّا مَذْهَبُ الإمَامِ أحْمَدَ فَقَالَ عَبْدُ الله ابْنُهُ: سَالتُ أبِي عَنِ الغِنَاءِ؟ فَقَالَ: الغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي القَلْبِ، لَا يُعْجِبُنِي، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ مَالِكٍ: إنَّمَا يَفْعَلُهُ عِنْدَنَا الفُسَّاقُ!
وَأمَّا سَمَاعُهُ مِنَ المَرْأةِ الأجْنَبِيَّةِ، أوِ الأمْرَدِ، فَمِنْ أعْظَمِ المُحَرَّمَاتِ، وأشَدِّهَا فَسَادًا لِلدِّينِ!
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ الله: وصَاحِبُ الجَارِيَةِ إذَا جَمَعَ النَّاسَ لِسَمَاعِهَا فَهُوَ سَفِيهٌ، وتُرَدُّ شَهَادَتُهُ، وأغْلَظَ القَوْلَ فِيهِ، وقَالَ هُوَ: دِيَاثَةٌ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ دَيُّوثًا.
قَالَ أبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ: وهَذِهِ الطَّائِفَةُ مُخَالِفَةٌ لِجَمَاعَةِ المُسْلِمِيْنَ، لأنَّهُمْ جَعَلُوا الغِنَاءَ دِينًا وطَاعَةً، ورَأتْ إعْلَانَهُ فِي المَسَاجِدِ والجَوَامِعِ وسَائِرِ البِقَاعِ الشَّرِيفَةِ، والمَشَاهِدِ الكَرِيمَةِ، ولَيْسَ فِي الأُمَّةِ مَنْ رَأى هَذَا الرَّأْيَ.
* * *
أسْمَاؤُهُ دَلَّتْ عَلَى أوْصَافِهِ تَبًّا لِذِي الأسْمَاءِ والأوْصَافِ
* * *
* * *
فَدَعْ صَاحِبَ المِزْمَارِ والدُّفِّ والغِنَا ومَا اخْتَارَهُ عَنْ طَاعَةِ الله مَذْهَبَا
وَدَعْهُ يَعِشْ فِي غَيِّهِ وضَلَالِهِ عَلَى مَا نَشَا يَحْيَى ويُبْعَثُ أشْيَبَا
وَفِي بَيْنِنَا يَوْمَ المَعَادِ نَجَاتُهُ إلَى الجَنَّةِ الحَمْرَاءِ يُدْعَى مُقَرَّبَا
سَيَعْلَمُ يَوْمَ العَرْضِ أيَّ بِضَاعَةٍ أضَاعَ وعِنْدَ الوَزْنِ مَا خَفَّ أوْ رَبَا
وَيَعْلَمُ مَا قَدْ كَانَ فِيهِ حَيَاتُهُ إذَا حُصِّلَتْ أعْمَالُهُ كُلُّهَا هَبَا
دَعَاهُ الهُدَى والغَيُّ مَنْ ذَا يُجِيبُهُ فَقَالَ لِدَاعِي الغَيِّ أهْلاً ومَرْحَبَا
وَأعْرَضَ عَنْ دَاعِي الهُدَى قَائِلاً لَهُ هَوَايَ إلَى صَوْتِ المَعَازِفِ قَدْ صَبَا
يَرَاعٍ ودُفٍّ بِالصُّنُوجِ وشَاهدٍ وصَوْتِ مُغَنٍّ صَوْتُهُ يَقْنِصُ الظِّبَا
إذَا مَا تَغَنَّى فَالظِّبَاءُ مُجِيبَةٌ إلَى أنْ يَرَاهَا حَوْلَهُ تُشْبِهُ الدِّبَا
فَمَا شِئْتَ مِنْ صَيْدٍ بِغَيْرِ تَطَارُدٍ ووَصْلِ حَبِيبٍ كَانَ بِالهَجْرِ عُذِّبَا
فَيَا آمِرًا بِالرُّشْدِ لَوْ كُنْتَ حَاضِرًا لَكَانَ إلَى المَنْهِيِّ عِنْدَكَ أقْرَبَا
وَدَعْهُ يَعِشْ فِي غَيِّهِ وضَلَالِهِ عَلَى مَا نَشَا يَحْيَى ويُبْعَثُ أشْيَبَا
وَفِي بَيْنِنَا يَوْمَ المَعَادِ نَجَاتُهُ إلَى الجَنَّةِ الحَمْرَاءِ يُدْعَى مُقَرَّبَا
سَيَعْلَمُ يَوْمَ العَرْضِ أيَّ بِضَاعَةٍ أضَاعَ وعِنْدَ الوَزْنِ مَا خَفَّ أوْ رَبَا
وَيَعْلَمُ مَا قَدْ كَانَ فِيهِ حَيَاتُهُ إذَا حُصِّلَتْ أعْمَالُهُ كُلُّهَا هَبَا
دَعَاهُ الهُدَى والغَيُّ مَنْ ذَا يُجِيبُهُ فَقَالَ لِدَاعِي الغَيِّ أهْلاً ومَرْحَبَا
وَأعْرَضَ عَنْ دَاعِي الهُدَى قَائِلاً لَهُ هَوَايَ إلَى صَوْتِ المَعَازِفِ قَدْ صَبَا
يَرَاعٍ ودُفٍّ بِالصُّنُوجِ وشَاهدٍ وصَوْتِ مُغَنٍّ صَوْتُهُ يَقْنِصُ الظِّبَا
إذَا مَا تَغَنَّى فَالظِّبَاءُ مُجِيبَةٌ إلَى أنْ يَرَاهَا حَوْلَهُ تُشْبِهُ الدِّبَا
فَمَا شِئْتَ مِنْ صَيْدٍ بِغَيْرِ تَطَارُدٍ ووَصْلِ حَبِيبٍ كَانَ بِالهَجْرِ عُذِّبَا
فَيَا آمِرًا بِالرُّشْدِ لَوْ كُنْتَ حَاضِرًا لَكَانَ إلَى المَنْهِيِّ عِنْدَكَ أقْرَبَا
فَلَعُمْرُ الله كَمْ مِنْ حُرَّةٍ صَارَتْ بِالغِنَاءِ مِنَ البَغَايَا، وكَمْ مِنْ حُرٍّ أصْبَحَ بِهِ عَبْدًا لِلصِّبْيَانِ أوِ الصَّبَايَا، وكَمْ مِنْ غَيُورٍ تَبَدَّلَ بِهِ اسْمًا قَبِيحًا بَيْنَ البَرَايَا، وكَمْ مِنْ ذِي غِنًى وثَرْوَةٍ أصْبَحَ بِسَبَبِهِ عَلَى الأرْضِ بَعْدَ المَطَارِفِ والحَشَايَا، وكَمْ مِنْ مُعَافًى تَعَرَّضَ لَهُ فَأمْسَى وقَدْ حَلَّتْ بِهِ أنْوَاعُ البَلَايَا، وكَمْ أهْدَى لِلْمَشْغُوفِ بِهِ مِنْ أشْجَانٍ وأحْزَانٍ فَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ قَبُولِ تِلْكَ الهَدَايَا، وكَمْ جَرَّعَ مِنْ غُصَّةٍ وأزَالَ مِنْ نِعْمَةٍ، وجَلَبَ مِنْ نِقْمَةٍ وذَلِكَ مِنْهُ مِنْ إحْدَى العَطَايَا، وكَمْ خَبَّ لأهْلِهِ مِنْ آلَامٍ مُنْتَظَرَةٍ وغُمُومٍ مُتَوَقَّعَةٍ وهُمُومٍ مُسْتَقْبَلَةٍ... انْتَهَى كَلامُهُ رَحِمَهُ الله.
وَبَعْدَ هَذِهِ النُّقُولاتِ لِبَعْضِ كَلَامِ أهْلِ العِلْمِ فِي مَسْألَةِ الغِنَاءِ ـ مِمَّا لَمْ تَدَعْ شَكًّا أوْ حَيْرَةً فِي حُرْمَةِ الغِنَاءِ والمَعَازِفِ فَإنَّنَا نَسْتَوْقِفُ القَلَمَ، ونَكْتَفِي بِمَا ذُكِرَ وجَرَى، وبِمَا انْقَضَى ومَضَى.
والحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِيْن
فصل
حُكْمُ غِنَاءِ أهْلِ عَصْرِنَا
بَلْ لا أُبَالِغُ إذَا قُلْتُ: إنَّ غِنَاءَ الأوَائِلِ على عِلَّاتِ فَسَادِهِ وشَرِّهِ، وآيَاتِ حُرْمَتِهِ ومَقْتِهِ؛ لم يَصِلْ إلى هَذَا الحَدِّ المَشِيْنِ الَّذِي طَاوَلَهُ غِنَاءُ أهْلِ العَصْرِ مِنَ العَبَثِ بأخْلاقِ المُسْلِمِيْنَ والمُسْلِمَاتِ، بَلْهَ مَرْتَعًا لأكْثَرِ أهْلِ المُجُوْنِ والفَسَادِ.
وإنَّ نَاظِرًا لَحْظَةً وَاحِدَةً إلى مُجَّانِ غِنَاءِ أهْلِ العَصْرِ، أو خَائِضًا في أوْحَالِ أوْكَارِهِم، أو سَامِعًا لِقَالاتِ ألْفَاظِهِم؛ لعَلِمَ يَقِيْنًا: أنَّ القَوْمَ في سُفُوْدٍ وفُجُوْرٍ، وخُمُوْرٍ وعُرِيٍّ...!
وَيْكَأنَّ غَالِبَ مُغَنِّي زَمَانِنَا: هُمْ أخْبَثُ النَّاسِ نُفُوسًا، وأسْوَؤهُم أخْلَاقًا، وأكْثَرُهُم شَرًّا، وأقَلُّهُم مَعْرُوفًا، وأقْبَحُهُم لَفْظًا، وأجْرَؤُهُم ذَنْبًا... إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي وقَلِيْلٌ مَا هُم، والحُكْمُ للأغْلَبِ، والعِبْرَةُ بعُمُوْمِ البَلْوَى.
وشَاهِدُ الحَالِ قَائِمٌ قَاطِعٌ بُحُرْمَةِ غِنَاءِ أهْلِ العَصْرِ جُمْلَةً وتَفْصِيْلًا، ولا يُنْكِرُهُ إلَّا مُكَابِرٌ أو جَاهِلٌ، أو مَاجِنٌ قَدْ أعْمَاهُ هَوَاهُ، أو زِنْدِيْقٌ قَدْ خَسِرَ دِيْنَهُ ودُنْيَاهُ!
* * *
أوَّلًا: أنَّ غِنَاءَ أهْلِ عَصْرِنَا: هُوَ عِبارَةٌ عَنْ تَلْحِيْنٍ وتَمطِيْطٍ وتَكْسِيْرٍ وتَهْيِيْجٍ وتَكْلُّفٍ وتَصَنُّعٍ ممَّا هُوَ خَارِجٌ عَنِ العَادَةِ، وسَنَنِ العَرَبِ في إنْشَادِهَا.
وقَدْ عُلِمَ بالاضْطِرَارِ أنَّ مُغَنِّي أهْلِ العَصْرِ لَهُمْ في طَرِيْقَةِ غِنَائِهِم مَوَازِيْنُ وقَوَانِيْنُ وألْحَانٌ مَدْرُوْسَةٌ وإقَاعَاتٌ مَعْرُوْفَةٌ... حَتَّى إنَّ لَهُم مَدَارِسَ ومَعَاهِدَ أنْشِئَتْ للْوَزْنِ والتَّلْحِيْنِ، كَمَا لَهُم مُلَحِّنُوْنَ مَشَاهِيْرُ يَلْجَؤُوْنَ إلَيْهِم في تَلْحِيْنِ أغَانِيْهِم!
فَكُلُّ غِنَاءٍ هَذَا وَصْفُهُ فَهُوَ حَرَامٌ بالإجْمَاعِ، وقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ.
ثَانِيًا: أنَّ غِنَاءَهُم لا يَخْلُو مِنْ وُجُوْدِ بَعْضِ المَعَازِفِ: كآلاتِ اللَّهْوِ والطَّرَبِ، كالعُوْدِ، والطَّبْلِ، والزَّمَّارَةِ، والكَمَنْجَةِ، والقَانُوْنِ، وغَيْرِهَا مِنْ آلاتِ المُوْسِيْقَى الشَّرْقِيَّةِ مِنْهَا أو الغَرْبِيَّةِ، وهَذَا حَرَامٌ بالإجْمَاعِ.
ثَالِثًا: أنَّ غَالِبَ غِنَائِهِم لا يَخْلُو مِنْ وَصْفٍ مُحَرَّمٍ: كَوَصْفِ الخُدُودِ والقُدُودِ، والشُّعُوْرِ والفُتُوْرِ، والغَرَامِ والهُيَامِ... مِمَّا يَكُونُ مَثَارَةً لِلشَّهَوَاتِ، وبَرِيدًا لِلفَاحِشَةِ، وهَذَا حَرَامٌ بِالإجْمَاعِ.
رَابِعًا: أنَّ غَالِبَ غِنَائِهِم لا يَخْلُو مِنْ كَوْنِهِ بَيْنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ، أو بَيْنَ المُرْدَانِ والنِّسْوَانِ، وهَذَا حَرَامٌ بالإجْمَاعِ.
خَامِسًا: أنَّ غَالِبَ مُغَنِّي عَصْرِنَا هُم مِنَ الرِّجَالِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ عَامَّةِ المُسْلِمِيْنَ سَلفًا وخَلَفًا أنَّ الغِنَاءَ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ والجَوَارِي، وعَلَيْهِ فَمَنْ تَغَنَّى مِنَ الرِّجَالِ فَفِيهِ تَشَبُّهٌ بِالنِّسَاءِ، وفِيهِ نَوْعُ تَخَنُّثٍ عِيَاذًا بالله!
لِذَا كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّوْنَ المُغَنِّي مِنَ الرِّجَالِ مُخَنَّثًا؛ لأنَّ الغِنَاءَ لا يَتَعَاطَاهُ، ولا يَشْتَغِلُ بِهِ إلَّا النِّسَاءُ قَطُّ!
وقَدْ لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ» البُخَارِيُّ.
قَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ الله في «مَسْألَةِ السَّمَاعِ» (347): «ولَوْ لم يَكُنْ في هَذَا السَّمَاعِ مِنَ المَفْسَدَةِ إلَّا تَشَبُّهَ الرِّجَالِ بالنِّسَاءِ، فَإنَّ الغِنَاءَ في الأصْلِ إنَّما جُعِلَ للنِّسَاءِ، ولِذَلِكَ مَا شُرِعَ مِنْهُ في الأعْرَاسِ والأعْيَادِ إنَّمَا شُرِعَ للنِّسَاءِ والجَوَارِي الصِّغَارِ والوِلْدَانِ صَغِيْرِيِّ الأسْنَانِ.
فإذَا تَشَبَّهَ بِهِم الرَّجُلُ كَانَ مُخنَّثًا، وقَدْ لَعَنَ الرَّسُوْلُ صلى الله عليه وسلم المُخَنَّثِيْنَ مِنَ الرِّجَالِ (أخْرَجَهُ البُخَارِيُّ)، وكَذَلِكَ مَنْ يَحْضُرُوْنَهُ في السَّمَاعِ مِنَ الشَّاهِدِ فِيْهِم مِنَ التَّخْنِيْثِ بقَدْرِ مَا تَشَبَّهُوا بِهِ مِنْ أمْرِ النِّسَاءِ، وعَلَيْهِم مِنَ اللَّعْنَةِ بقَدْرِ نَصِيْبِهِم مِنَ ذَلِكَ التَّشَبُّهِ، وقَدْ أمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بإخْرَاجِ المُخَنَّثِيْنَ ونَفْيِهِم، وقَالَ: «أخْرِجُوْهُم مِنْ بِيُوْتِكُم»، (أخْرَجَهُ البُخَارِيُّ)، فَكَيْفَ بِمَنْ يُقَرِّبُهُم ويُعَظِّمُهُم؟!» انْتَهَى.
سَادِسًا: أنَّ غِنَاءَ اليَوْمَ أصْبَحَ حِرْفَةً ومِهْنَةً عِنْدَ مُغَنِّي عَصْرِنَا؛ حَتَّى أمْسَى الوَاحِدُ مِنْهُم لا يُعْرَفُ إلَّا بالغِنَاءِ، ولا يُمَيَّزُ إلَّا بِهِ، وهَذَا مُحَرَّمٌ.
سَابِعًا: أنَّ الغِنَاءَ اليَوْمَ أصْبَحَ مِنْ أكْبَرِ الصَّوَارِفِ عَنْ أمُوْرِ الدِّيْنِ والدُّنْيَا؛ بَلْ أضْحَى مُقَدَّمًا عِنْدَ كَثِيْرٍ مِنَ المُسْلِمِيْنَ على قِرَاءَةِ القُرْآنِ، وذِكْرِ الله، وطَلَبِ العِلْمِ الشَّرعِيِّ، وقَدْ عُلِمَ أنَّ العِلْمَ المَفْضُوْلَ إذَا قُدِّمَ على الفَاضِلِ وزَاحَمَهُ أصْبَحَ حَرَامًا، فَكَيْفَ إذَا كَانَ المَفْضُوْلُ غِنَاءً مُحَرَّمًا، فَلا شَكَّ أنَّه حَرَامٌ بالإجْمَاعِ.
* * *
ومَا جَرَى هُنَالِكَ مِنْ خِلافٍ قَدِيْمٍ عِنْدَ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ في حُكْمِ الغِنَاءِ: فَقَدْ كَانَ بَعِيْدًا كُلَّ البُعْدِ عَنْ غِنَاءِ أهْلِ عَصْرِنَا، فاللهَ اللهَ اللهَ!
كَمَا قَدْ عُلِمَ بالإجْمَاعِ: أنَّ قَاعِدَةَ سَدِّ الذَّرَائِعِ مَقْصُوْدَةٌ شَرْعًا، ومَطْلُوْبَةٌ طَبْعًا، والله يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.
والحَمْدُ لله رَبِّ العَالمِيْنَ، ولا عُدْوَانَ إلَّا على الظَّالِمِيْنَ
وهذا مقال مستل من كتاب الريح القاصف
على أهل الغناء والمعازف
للشيخ الدكتور ذياب بن سعد الغامدي
على أهل الغناء والمعازف
للشيخ الدكتور ذياب بن سعد الغامدي