أحمد العمراني
New member
الكتاتيب القرآنية بالمغرب بين الموجود والمقصود "سبل تطويرها مع الحفاظ على خصوصياتها "
الحمد لله رب العالمين القائل في محكم التنزيل:" اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق ، اقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم". والصلاة والسلام على محمد النبي الأمين القائل:" خيركم من تعلم القرآن وعلمه "[1] ، وعلى آله وأصحابه الذي ورثوا علمه، وشهدوا أموره، وبلغوها لمن كان غائبا لحظتها، وعلى أتباعه ومن تحملها بعدهم وعلينا الى يوم الدين .
وبعد:
إذا كان قد قيل على لسان الأستاذ محمد إقبال رحمه الله:" إن التعليم -الغربي- هو الحامض الذي يذيب شخصية الكائن الحي، ثم يكون كما شاء، وأن هذا الحامض هو أشد قوة وتأثيراً من أي مادة كيماوية".([2]) فإني أقول بأن:" الكتاتيب القرآنية هي خط الدفاع الأول عن هذا الكائن الحي، والمحافظ الأول على فطرته". إنها الحقيقة التاريخية التي لا تُنكر، حقيقة دور الكتاب القرآني في الأمة الاسلامية بصفة عامة، والأمة المغربية في كل مدنها وقراها بصفة خاصة.
أولا:الكتاتيب القرآنية بالمغرب ، دواعي الوجود وتجلياته :
لا يستطيع أحد أن ينكر وجود هذه الكتاتيب وانتشارها انتشارا أفقيا وعموديا في كل أرض المغرب الحبيب، وقد تحدث السيد وزير الأوقاف والشؤون الاسلامية الدكتور أحمد التوفيق يوم الأربعاء 28 ذو القعدة 1424/ موافق 21/01/2004 ، في قبة البرلمان عن عددها، وهو يجيب السائلين عن ذلك من نواب الأمة، فقال: يبلغ عدد مؤسسات الكتاتيب القرآنية ما يناهز (16400) كتابا قرآنيا، حسب إحصاء مؤقت تتوفر عليه الوزارة، وأنها قد تكون أكثر من ذلك بزيادة ثلاثين في المائة، وأن الوزارة مهتمة حاليا بإحصاء جديد ودقيق لهذه الكتاتيب. وذكر سيادته أن (3600 ) كتاب منها تابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية، من حيث الانفاق والاشراف المباشر عليها، بينما يتكفل الخواص والجماعات بنحو اثني عشر ألفا وثمانمائة (12800 ) كتاب قرآني.[3].
-كما لا يمكننا أن ننكر دور الدولة وخاصة الوزارة المعنية في الاهتمام بهذا المجال المعرفي الهام من حيث التمويل والعناية والتسيير .
بل واهتمام جلالة الملك محمد السادس بها وبإحيائها والتشجيع على تجديدها ، حيث أحدثت جائزة محمد السادس للكتاتيب القرآنية باعتبارها من مؤسسات التعليم العتيق بتاريخ 23/07/2002. تشمل منهجية التلقين، وطرق التسيير، ومردودية التعليم .
ثانيا : واقع الكتاتيب القرآنية بالمغرب ( الموجود ) :
يعتبر الكتاب القرآني رافدا من روافد العلم والمعرفة التي أسهمت في حماية وصقل المجتمع المغربي قديما وحديثا، وهو نوع من التعليم المحصن للسان من حيث الأداء اللغوي ، وللفكر من حيث سلامة العقيدة ، وللروح من حيث البناء السليم .
لكن هذا النوع من التعليم عرف منافسة شديدة من قبل الوسائل التعليمية الأخرى المتطورة، كالمدارس التعليمية المهنية المتخصصة، والفضائيات التعليمية، والشبكة العنكبوتية. كما عرف هذا النوع من التعليم نوعا من التراجع النسبي من حيث كثرة رواده، وضعف المتخصصين في التدريس فيه من حيث عدم مواكبتهم للتطور التقني العلمي المعاصر. وهذا العرض هو محاولة لتقديم وسائل معينة على تطوير الكتاب القرآني ، يستطيع من خلالها وبها مواكبة تطور العصر وتطور الانسان .وهذا لن يتم إلا بالنظر السديد في مكوناته الست الأساسية ، بقصد النظر فيها والسعي لتطويرها مع الحفاظ على خصوصيتها .وتتمثل هذه المكونات الست في :
1-واقع الفضاء التعليمي :
إذا انطلقنا من التقرير الذي أعدته وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية عن عدد الكتاتيب والجوائز التي تقدمها تشجيعا لهذه المؤسسات وأهلها ، تبين لنا أن الكتاتيب موجودة في حياتنا وحياة المغاربة ، وأن أثرها واقع على شريحة كبيرة، إن لم نقل على قسم كبير منهم .
وهي عبارة عن بيوت هيئت أو أفرغت لهذا الغرض ، أو المساجد نفسها يؤخذ منها محل تابع لها ، أو مكان الصلاة نفسه في غير وقت الصلاة وخصوصا في بعض البوادي ، أو بيوت المعلمين أنفسهم في بعض الأحيان ، فهي إذن أماكن قد تكون صالحة لتلقي العلم والمعارف وقد لا تكون . وفي الوقت الحالي ، بدأ النظر يتغير الى هذا الموضوع ، حيث بدأ يتم بناء الكتاتيب القرآنية مع بناء المساجد الجديدة خصوصا التي تبنى من طرف المحسنين .
2-واقع الزمن التعليمي :
وهو الوقت المعروف منذ القديم ، بحسب كل بيئة وكل منطقة ، فقد يأخذ اليوم كله ، ويبتدئ من بعد صلاة الصبح الى صلاة العصر وتنعقد في كل أيام الأسبوع ما عدا يوم الجمعة ، وفي بعض القرى ما عدا يوم التسوق ، قد يكون يوم الأحد أو غيره . وكذا أيام المناسبات الوطنية والدينية . والذي يلاحظ هو طول الفترة الدراسية خلال اليوم ، فهي تستمر ساعات طويلة لا يتخللها شيء من وقت الراحة إلا ما أخذ لوجبة الغذاء ، أو للصلاة ، أو لمحو اللوحة الخشبية قصد تجديد الكتابة عليها . وهو نظام قد يناسب البعض دون آخرين ، ونظام أيضا قد يكون مناسبا لزمن غير زمننا ، إذ يأخذ من التلميذ جل وقته ، دون أن يستطيع الاستفادة من شيء آخر في حياته ، أو يستفاد منه .
3-واقع المتعلمين :
أغلبهم من الأطفال الصغار، اختار لهم آباؤهم هذا الطريق بإرادتهم أم بدونها ، اختيار له ما يبرره واقعا ومستقبلا ، فمن حيث الواقع ، فلأن هذه الرغبة نابعة من صميم ذوات الأسر وعميق إيمانهم . ومستقبلا لأن قارئ القرآن وحافظه مهما صعبت الظروف ، له المكانة المحترمة في حواضرنا وقرانا . وبالتأكيد أن ما يتعلم في الصغر يبقى هو الأساس في تكوين الفرد المسلم .
وقد يكونون أيضا من الشباب الذين تأخروا في اختيار هذا المسار، فيتوجهون إليه بعد أن يكونوا قد تجاوزوا سن العاشرة أو أكثر، وهذا أحيانا يكون باختيارهم وإرادتهم، وهو منتشر بقوة في بلدنا .
ومما يلاحظ في هذا الجانب، بُعد الفتاة عن هذا الفن من التعليم إلا ما ندر، إضافة الى الانقطاع الذي يحصل لعدد لا يستهان به من هؤلاء المتعلمين عن مواصلة الدراسة لعدة أسباب، منها: عدم استغناء الأسرة عن خدمات البعض منهم في كثير من أعمال الزراعة والرعي والسقي، كما هو الشأن في البوادي، أو الخروج للبحث عن العمل ومساعدة الأهل في لقمة العيش .
4-واقع منهج التلقين :
يختلف من كتاب الى آخر ، بحسب البيئة ومستوى ثقافة الملقن .
-حيث يجلس المعلم على الارض في مواجهة المتعلمين الذين يجلسون أمامه في صفوف منتظمة على شكل حلقات يختلف حجم الواحدة منها عن الأخرى ، يتجمع التلاميذ المبتدئون على مسافة قريبة من المعلم حيث يقوم مساعد له بإرشادهم في التلاوة ، بينما يكون التلاميذ الآخرون مع المعلم نفسه يعين لتلميذ سورة أو مجموعة من السور لقراءتها خلال ذلك اليوم ويتلوها مرة أولى أمامه، ويحاول عند تلاوة المعلم تتبع تلاوته بالاشارة الى الكلمات في النص الموجود أمامه. وبعدما ينتهي المعلم من التلاوة يذهب التلميذ الى مكانه ليقرأ سورته تلك مرارا وتكرارا ، وبين الحين والآخر ينادي عليه المعلم ليعيد عليه ما قرأ ويصحح له أخطاءه إذا ما دعت الحاجة لذلك.
-وغالبا ما يعتمد التحفيظ على وسائل معروفة، من ألواح خشبية وأقلام، وعندما ينتهي التلميذ من حفظ ما كتب يؤذن له بمحو " البالية " الوجه القديم ، ويكتب " الجديدة ". ما كتب جديدا ولم يقرأ بعد أو يحفظ ، وهي وسائل أصيلة خدمت القرآن وخدمت الانسان .
-أما نظام العقوبات، فالتلاميذ هم أبناء المعلم، لهذا فإن له الحرية المطلقة في التصرف في تربيتهم وتأديبهم، وذلك ناتج كما قلنا سابقا عن الثقة الكاملة في تربية المعلم وفقهه وعلمه.
وكثيرا ما سمعنا من آباء قالوا لمعلمي أبنائهم: " أنت تقتل وأنا أدفن ".
وعندما يلاحظ المعلم بعض التلاميذ غير المنتبهين فإنه يحذرهم أولا ، فإن لم يجد التحذير والعتاب كانت العصا هي العلاج ، فيضربهم على ظهورهم فيتعلم التلاميذ من أخطائهم السابقة حتى لا يقعوا فيها خوفا من العقاب . وكذلك في حال تأخر التلميذ في الحفظ أو تهاونه في ذلك فإنه يعرض نفسه للعقاب بالضرب أو باستبقائه في المسجد أو الكتاب وقتا من الأوقات.
ولعل التربية بالعصا قد بدأت تقل لتأثر المدرسين بالواقع المتغير، لكنهم ما استعملوها إلا لما يعلمون من أهميتها وأثرها في الإعداد التربوي.
ومما يحكى من نوادر المعلمين في هذا الباب ما حكاه الجاحظ قال :" مررت بمعلم صبيان وعنده عصا طويلة وعصا قصيرة وصولجان وكرة وطبل وبوق ، فقلت : ما هذه ؟ فقال : عندي صغار أوباش فأقول لأحدهم اقرأ لوحك فيصفر لي بضرطة فأضربه بالعصا القصيرة ، فيتأخر فأضربه بالعصا الطويلة، فيفر من بين يدي فأضع الكرة في الصولجان وأضربه فأشجه ، فتقوم إلي الصغار كلهم بالألواح ، فأجعل الطبل في عنقي والبوق في فمي وأضرب الطبل وأنفخ في البوق ، فيسمع أهل الدرب ذلك فيسارعون إلي ويخلصوني منهم ".[4]
وبالتأكيد أن فقهاء يومنا ومعلمي كتاتيبنا بعيدون عن مثل هذا النوع من العقاب ، لكن العقاب كان موجودا ولا يزال ، ترك آثاره السلبية في نفوس كثير من القراء والحفاظ وكذا الآثار الايجابية، وهذا لا ينكر إلا جاحد...
ومن الأمور التي تؤخذ على هذا المنهج، قيامه على وسائل تقليدية تقوم على الحفظ دون الفهم والممارسة، مما يقيم قطيعة بين تلاوة القرآن وتدبره، ويلغي البعد العملي في تعاليم الاسلام ، ويهمل أبعادا متعددة من كيان المتعلم كلها ، كالبعد النفسي والخلقي والاجتماعي والاقتصادي.
-إضافة الى النقص الملاحظ في تنوع المواد المدرسة ، فالنص القرآني وحده لا يكفي لتحقيق تكوين شامل ومتوازن لدى الناشئة .
-ويضاف الى كل هذا انفصال التعليم بالكتاتيب عن العمل المنتج والحياة المهنية
-ولا ننسى الانفصام التام الموجود بين هذه الكتاتيب والتعليم النظامي الحديث الذي أثر في وجودها وصيرورتها.
5-واقع المدرسين :
هم في الأعم الأغلب أئمة المساجد نفسها ، أو حفاظ يتفرغون لهذا العلم وراثة عن الأجداد والآباء ، أو متطوعون "بالشرط " يكون من مهامهم القيام بتعليم أبناء الحي أو أبناء الدوار أو المدشر ، يساعدهم في ذلك أبناؤهم أو أحد التلاميذ المتفوقين...
وهذا يعني أنهم لا يكادون يأخذون مقابل عملهم إلا الكفاف من العيش والقليل من العوض، "كالحدية" أو" الآربعية" ولها أسماء مختلفة بحسب الأقاليم، وهو عوض مالي قليل، يتسلمه الفقيه من التلاميذ يوم الأربعاء والأحد، وكذا ما قد يحصل عليه في بعض المناسبات الدينية وهي ضئيلة،ومن بعض الهدايا البسيطة في بعض المناسبات الخاصة كحفل ختم القرآن .
مع أخذنا بعين الاعتبار المؤسسات التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية ، التي تدر على الكتاتيب التابعة لها بعض المنح التشجيعية غير الكافية بالطبع. ولا ننسى أن عددا من هؤلاء المعلمين يتمتعون بكل الحب والاحترام من قبل المتعلمين وأهاليهم خصوصا إذا كان المدرس من أهل العلم والصلاح، وكان متضلعا في الفقه والفتوى ...
-ومما يلاحظ على بعض من انبرى للتعليم بهذا الميدان ، ضعف تكوينهم علميا ومنهجيا ، فأكثرهم لا يزيد على حفظ نص القرآن –إن حفظه- دون إلمام كاف باللغة العربية أو بعض العلوم الاسلامية ، فضلا عن المعارف العصرية ، أو مناهج التدريس وعلوم النفس والتربية ، وإذا كان المعلم قليل العلم مختل المنهج أو منعدمه فإن ذلك سينعكس ولا ريب سلبا على أساليب التدريس ومضامينه ونتائجه.
6-واقع التسيير والتدبير:
تقوم الكتاتيب القرآنية في أغلب الأحوال على مبدأي التطوع والكفاف في التمويل والتسيير، بحيث لا تحتاج في أداء مهمتها إلا الى أبسط حد ممكن من التجهيزات المادية. وهي تجهيزات قد توجد ملتصقة بالمساجد سواء في الحواضر أم البوادي، أو قد يوفرها المجتمع المعني تطوعا واختيارا، لكن هذا لا يفي بالغرض المطلوب والمرغوب في زمننا، عصر الفضائيات والشبكة العنكبوتية التي اقتحمت كل بيت أينما بعد أو قرب، وعصر تنامي الأفكار وتلاقحها، وانتشار القض والقضيض والغث والسمين من الأفكار والتوجهات التي أثرت سلبا على كثير من خريجي الكتاتيب القرآنية ، باعتبارهم من حملة القرآن الكريم .
وهذا يبين حاجة هذه المؤسسات لمن يأخذ بيدها قبل فوات الأوان، وقبل أن تفعل فيها موجة العولمة عولمتها، فتحصل المنافسة غير المتكافئة بين إدارة وتسيير عفويين، وبين واقع يدار بتدبير وتخطيط .
ثالثا: آفاق الكتاتيب القرآنية ( المقصود) :
إن الحديث عن الآفاق ، هو حديث عن الإحياء والتجديد اللازمين لهذه المؤسسات بكل مكوناتها الست ، وهذا لا يتم إلا بالحديث المفصل بعض الشيء عما يلزم كل مكون من هذه المكونات داخل المنظومة التعليمية ببلدنا ، وتحديد الهدف -وإن لم يكن – التفكير في وضعه والبناء عليه .
1-آفاق الفضاء التعليمي :
هو المكان الذي يجلس فيه المتعلمون ساعات طويلة ليتلقوا القرآن الكريم حفظا وفهما وسلوكا، وهو مكان إن لم تتوفر فيه شروط السلامة والصحة، وكذا وسائل الترغيب في البقاء فيه لحين إدراك المرغوب، فإن الملل سيكون رفيق كل متعلم ، خصوصا والأمر لم يعد كما كان قديما ، فالطفل يحتاج -إضافة الى تلقي المعارف في صغره -الى اللعب واللهو ، وهي مرحلة إن تجووزت أضرت بالمراحل التي قد تأتي بعد. وأذكر هنا المنشور الوزاري الذي أصدرته وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية الذي يتضمن الوثائق والشروط المطلوبة للحصول على فتح كتاب قرآني، ويهمنا منها ما يتعلق بالمكان، حيث طلب المنشور: إحضار شهادة صلاحية المحل المعد لذلك، مسلمة من لدن المصالح الصحية المختصة بالاقليم .
ولكن ما ينبغي الانتباه له الآن ، هو كيف نقلل من كثرة هذه الكتاتيب من حيث الكم غير المتقن من حيث المكان والمؤطر والمؤطر ، وهذا أمر ليس بالسهل تناوله ، إذ يحتاج الى خريطة دقيقة بالموجود ، ووضع سترجة " استراتيجية" للتغيير ، وليكن في تصورنا أن نوجد مثلا كتابا في كل قرية ، نحرص على دعمه ومراقبته متابعته ، وذلك بترميم المكان وتطويره .
وإن كان الموجود غير كاف أو أن هناك نقصا ما في أماكن معينة ، فبإنشاء كتاتيب جديدة وتوزيعها توزيعاً جيداً .
2-آفاق الزمن التعليمي :
وهو أيضا يحتاج الى نظر وتجديد، تراعى فيه خصوصية كل منطقة ، وخصوصية الأشخاص المتعلمين وحاجياتهم .
إذ لابد من وضع برنامج يصلح لكل فئة تعليمية، ولكل منطقة، يناسب أحوال الناس وأسرهم وحاجاتهم، حتى لا يستهلك وقت المتعلمين فقط في تلقيهم للعلوم النظرية ، دون استفادة أسرهم منهم، واستفادتهم هم أيضا من الوقت لأعمال أخرى أو معارف أو صنعة أخرى قد تنفعهم في حياتهم المهنية . ولم لا مثلا ، اختيار وقت الصباح كله للدراسة ، وتفريغ المتعلمين بعد ذلك ...وهذا سيسمح لكثير من الأطفال ولوج هذه الأقسام باعتبارها تمنحهم ما يستطيعون من خلاله تلبية حاجيات أخرى لهم ولأسرهم ...ولم لا امتهان حرفة أو مهنة ...
3-آفاق المتعلمين: وبدون وجودهم لن تكون عندنا كتاتيب، ولا عملية تعليمية ، فتشجيعهم على اقتحام هذا المجال، وتوفير الشروط الضرورية لذلك أمر واجب اليوم على المديرية المعنية، فإذا وفرنا الفضاء والمؤطر والمنهج والتسيير، يبقى علينا توفير المتعلمين، وهم في الأعم الأغلب أبناء القرى والبوادي .
نعم ، إن رغبة الآباء قوية من أجل الدفع بأبنائهم للكتاتيب ، سواء بالمدن أو بالقرى ، لكن هناك أمور تعيق نجاح هذا التوجه ، منه على سبيل المثال ما يتعلق بأبناء البوادي، وعلى رأسه: مشكل التوقيت الذي يستغرق كل يوم المتعلم، وهذا أمر يمكن تدارسه داخل كل منطقة على حدة ، مما يقتضي توفير إدارة أو مراقبين يحرصون على مثل هذا الفعل.
أما داخل المدن ، فما نشاهده هو رغبة الآباء في هذا النوع من التعليم ، لكن الوقت أيضا لا يسمح بذلك، وقد تغلب على هذه الصعوبة بنوع من الاجتهاد والتنظيم ، حيث تم الاتفاق في بعض المدن وبعض المساجد وبعض المؤطرين على أن يكون التعليم بالكتاب ساعة فراغ الأبناء من الدراسة النظامية، وذلك كل يوم أربعاء مساء ، ويوم السبت والأحد صباحا، صحيح أن هذا الوقت غير كاف لتحقيق المطلوب ، لكنه معين على تنشئة الأبناء التنشئة المطلوبة وانقاذ ما يمكن انقاذه ...
4-آفاق منهج التلقين :
أ-طرق التلقين :
وهي ما سميتها قبل قليل بالطرق البيداغوجية ، كما يشمل الوسائل المعينة على حسن تلقي التلقين .
-فطريقة التلقين والتحفيظ تحتاج الى تجديد ونظر ، فاللوحة الخشبية أعطت الكثير لأبناء الكتاتيب، ولم ولن يتوقف عطاؤها وصلاحيتها، لكن يمكن الاستفادة من وسائل معاصرة ، ولما لا تكون السبورة المتحركة، أو الدفاتر والكراريس بأقلام جد متوفرة تعين التلميذ على اكتساب الخط، وتعلم الكتابة. وطبعا بحسب المكان والزمان والامكانيات .
فحيث أمكن فعل هذا يكون أحسن، وحيث امتنع يُبحث عن السبل الكفيلة لتحقيقه . إذ وسائل تلقي المعارف والعلوم قد تطورت، فلماذا يكتفى بالوسائل القديمة وإن أثبتت صلاحيتها واستمراريتها وصمودها ؟. ولا يبحث عن الارتقاء بها، كما تم الارتقاء بذلك في المدارس النظامية .
-وفي هذا يمكن الاستعانة بكل ما أنجز من برامج معينة في الموضوع، وأقراص ومطبوعات، وكلها متوفرة في الأسواق، وبُذل فيها جهد لا يستهان به.
-ولا ننسى المحافظة على تلقي الرسم والكتابة القرآنية من طرف الفقيه وتصحيحها والحفاظ عليها، وهو علم بدأ يقل ويندرس، بل ويهمل في واقعنا، خصوصا عند الحفاظ عن طريق الصحف والكتب .
بل ويجب أن لا يهمل ما عادته الاهمال في كتاتيبنا، وهو حسن ترتيل القرآن، وكذا تعليم قواعد التجويد في الكتاتيب، إذ عادة ما يلاحظ على غالبية الحفاظ المتخرجين منها ضعف حسهم التجويدي، وعدم حسن إتقانهم لمخارج الحروف. ويمكن الاستعانة على كل هذا بالكثير من الوسائل السمعية والبصرية التي يستخدمها اليوم مدرسو القرآن الكريم في العالم الاسلامي ، في مختلف مراحل سلك التعليم .
ب-ضرورة ربط العلم بالعمل :
وهذا من التجديد، وهو مما يعاب على أغلب خريجي الكتاتيب القرآنية، إذ الهدف في نظر معلميهم، وفي نظر آبائهم، هو الحفظ ثم الحفظ، وهذا غير كاف، إذ ينبغي تغيير الأهداف المسطرة في الكتاتيب وعند القائمين بأمورها.
بهذا نستطيع أن نبني أمتنا من خلال بناء أبنائنا داخل هذه المؤسسة الصغيرة ، الكبيرة في واقعنا وفي آثارها الايجابية . وبدون ربط المتعلمين بالعمل بما تعلموه ، سيفرز لنا هذا التعليم أفرادا يحفظون أمورا يخالفونها تطبيقا وممارسة ، وأوضحها قلة اكتراثهم بالشعائر التعبدية وبالمسجد.
ج- تدبر المحفوظ وتفسيره:
وهذا موضوع لا يجب الاستهانة به، إذ لا يعقل أن يتخرج شاب أو حافظ لكتاب الله حفظا متقنا دون أن يكون له علم بآياته وشرح لمعانيه. وهذا ما يدفعنا الى القول بضرورة تدخل المديرية المعنية بفرض تفسير معين على جميع الكتاتيب القرآنية وعلى مؤطريها، ولما لا يكون تفسير الشيخ العلامة المكي الناصري، فهو سهل ميسر يتتبع المغاربة سماعه كل يوم عبر الاذاعة ويفهمونه لبساطته وسهولة مأخذه.أو ينجز تفسير لهذ الغرض يتفرغ له الأكفاء من أبناء أمتنا وعلمائنا الأفذاذ.وهذا أمر إن تم سيخرج لنا رجالا يفهمون ما يحفظون ، وسيسهل عليهم العمل بمما يفهمون، بل وحسن تبليغه إن فتح لهم مجال التبليغ أو اقتحموه.ولا أنسى أن أذكر بضرورة أن يساير المعلم تلاميذه أثناء حفظ القرآن بما يلزم من معرفة ، كمتن أو منظومة ابن بري في قراءة نافع ، وبعض المنظومات في رسم القرآن ...
د-توحيد المنهج العقدي :
فالمغرب ولله الحمد والمنة ، امتاز بوحدة مذهبه الفقهي ، ونهجه العقدي وسلوكه التربوي ، كما تعلمنا من متن ابن عاشر :
وبعد:
إذا كان قد قيل على لسان الأستاذ محمد إقبال رحمه الله:" إن التعليم -الغربي- هو الحامض الذي يذيب شخصية الكائن الحي، ثم يكون كما شاء، وأن هذا الحامض هو أشد قوة وتأثيراً من أي مادة كيماوية".([2]) فإني أقول بأن:" الكتاتيب القرآنية هي خط الدفاع الأول عن هذا الكائن الحي، والمحافظ الأول على فطرته". إنها الحقيقة التاريخية التي لا تُنكر، حقيقة دور الكتاب القرآني في الأمة الاسلامية بصفة عامة، والأمة المغربية في كل مدنها وقراها بصفة خاصة.
أولا:الكتاتيب القرآنية بالمغرب ، دواعي الوجود وتجلياته :
لا يستطيع أحد أن ينكر وجود هذه الكتاتيب وانتشارها انتشارا أفقيا وعموديا في كل أرض المغرب الحبيب، وقد تحدث السيد وزير الأوقاف والشؤون الاسلامية الدكتور أحمد التوفيق يوم الأربعاء 28 ذو القعدة 1424/ موافق 21/01/2004 ، في قبة البرلمان عن عددها، وهو يجيب السائلين عن ذلك من نواب الأمة، فقال: يبلغ عدد مؤسسات الكتاتيب القرآنية ما يناهز (16400) كتابا قرآنيا، حسب إحصاء مؤقت تتوفر عليه الوزارة، وأنها قد تكون أكثر من ذلك بزيادة ثلاثين في المائة، وأن الوزارة مهتمة حاليا بإحصاء جديد ودقيق لهذه الكتاتيب. وذكر سيادته أن (3600 ) كتاب منها تابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية، من حيث الانفاق والاشراف المباشر عليها، بينما يتكفل الخواص والجماعات بنحو اثني عشر ألفا وثمانمائة (12800 ) كتاب قرآني.[3].
-كما لا يمكننا أن ننكر دور الدولة وخاصة الوزارة المعنية في الاهتمام بهذا المجال المعرفي الهام من حيث التمويل والعناية والتسيير .
بل واهتمام جلالة الملك محمد السادس بها وبإحيائها والتشجيع على تجديدها ، حيث أحدثت جائزة محمد السادس للكتاتيب القرآنية باعتبارها من مؤسسات التعليم العتيق بتاريخ 23/07/2002. تشمل منهجية التلقين، وطرق التسيير، ومردودية التعليم .
ثانيا : واقع الكتاتيب القرآنية بالمغرب ( الموجود ) :
يعتبر الكتاب القرآني رافدا من روافد العلم والمعرفة التي أسهمت في حماية وصقل المجتمع المغربي قديما وحديثا، وهو نوع من التعليم المحصن للسان من حيث الأداء اللغوي ، وللفكر من حيث سلامة العقيدة ، وللروح من حيث البناء السليم .
لكن هذا النوع من التعليم عرف منافسة شديدة من قبل الوسائل التعليمية الأخرى المتطورة، كالمدارس التعليمية المهنية المتخصصة، والفضائيات التعليمية، والشبكة العنكبوتية. كما عرف هذا النوع من التعليم نوعا من التراجع النسبي من حيث كثرة رواده، وضعف المتخصصين في التدريس فيه من حيث عدم مواكبتهم للتطور التقني العلمي المعاصر. وهذا العرض هو محاولة لتقديم وسائل معينة على تطوير الكتاب القرآني ، يستطيع من خلالها وبها مواكبة تطور العصر وتطور الانسان .وهذا لن يتم إلا بالنظر السديد في مكوناته الست الأساسية ، بقصد النظر فيها والسعي لتطويرها مع الحفاظ على خصوصيتها .وتتمثل هذه المكونات الست في :
1-واقع الفضاء التعليمي :
إذا انطلقنا من التقرير الذي أعدته وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية عن عدد الكتاتيب والجوائز التي تقدمها تشجيعا لهذه المؤسسات وأهلها ، تبين لنا أن الكتاتيب موجودة في حياتنا وحياة المغاربة ، وأن أثرها واقع على شريحة كبيرة، إن لم نقل على قسم كبير منهم .
وهي عبارة عن بيوت هيئت أو أفرغت لهذا الغرض ، أو المساجد نفسها يؤخذ منها محل تابع لها ، أو مكان الصلاة نفسه في غير وقت الصلاة وخصوصا في بعض البوادي ، أو بيوت المعلمين أنفسهم في بعض الأحيان ، فهي إذن أماكن قد تكون صالحة لتلقي العلم والمعارف وقد لا تكون . وفي الوقت الحالي ، بدأ النظر يتغير الى هذا الموضوع ، حيث بدأ يتم بناء الكتاتيب القرآنية مع بناء المساجد الجديدة خصوصا التي تبنى من طرف المحسنين .
2-واقع الزمن التعليمي :
وهو الوقت المعروف منذ القديم ، بحسب كل بيئة وكل منطقة ، فقد يأخذ اليوم كله ، ويبتدئ من بعد صلاة الصبح الى صلاة العصر وتنعقد في كل أيام الأسبوع ما عدا يوم الجمعة ، وفي بعض القرى ما عدا يوم التسوق ، قد يكون يوم الأحد أو غيره . وكذا أيام المناسبات الوطنية والدينية . والذي يلاحظ هو طول الفترة الدراسية خلال اليوم ، فهي تستمر ساعات طويلة لا يتخللها شيء من وقت الراحة إلا ما أخذ لوجبة الغذاء ، أو للصلاة ، أو لمحو اللوحة الخشبية قصد تجديد الكتابة عليها . وهو نظام قد يناسب البعض دون آخرين ، ونظام أيضا قد يكون مناسبا لزمن غير زمننا ، إذ يأخذ من التلميذ جل وقته ، دون أن يستطيع الاستفادة من شيء آخر في حياته ، أو يستفاد منه .
3-واقع المتعلمين :
أغلبهم من الأطفال الصغار، اختار لهم آباؤهم هذا الطريق بإرادتهم أم بدونها ، اختيار له ما يبرره واقعا ومستقبلا ، فمن حيث الواقع ، فلأن هذه الرغبة نابعة من صميم ذوات الأسر وعميق إيمانهم . ومستقبلا لأن قارئ القرآن وحافظه مهما صعبت الظروف ، له المكانة المحترمة في حواضرنا وقرانا . وبالتأكيد أن ما يتعلم في الصغر يبقى هو الأساس في تكوين الفرد المسلم .
وقد يكونون أيضا من الشباب الذين تأخروا في اختيار هذا المسار، فيتوجهون إليه بعد أن يكونوا قد تجاوزوا سن العاشرة أو أكثر، وهذا أحيانا يكون باختيارهم وإرادتهم، وهو منتشر بقوة في بلدنا .
ومما يلاحظ في هذا الجانب، بُعد الفتاة عن هذا الفن من التعليم إلا ما ندر، إضافة الى الانقطاع الذي يحصل لعدد لا يستهان به من هؤلاء المتعلمين عن مواصلة الدراسة لعدة أسباب، منها: عدم استغناء الأسرة عن خدمات البعض منهم في كثير من أعمال الزراعة والرعي والسقي، كما هو الشأن في البوادي، أو الخروج للبحث عن العمل ومساعدة الأهل في لقمة العيش .
4-واقع منهج التلقين :
يختلف من كتاب الى آخر ، بحسب البيئة ومستوى ثقافة الملقن .
-حيث يجلس المعلم على الارض في مواجهة المتعلمين الذين يجلسون أمامه في صفوف منتظمة على شكل حلقات يختلف حجم الواحدة منها عن الأخرى ، يتجمع التلاميذ المبتدئون على مسافة قريبة من المعلم حيث يقوم مساعد له بإرشادهم في التلاوة ، بينما يكون التلاميذ الآخرون مع المعلم نفسه يعين لتلميذ سورة أو مجموعة من السور لقراءتها خلال ذلك اليوم ويتلوها مرة أولى أمامه، ويحاول عند تلاوة المعلم تتبع تلاوته بالاشارة الى الكلمات في النص الموجود أمامه. وبعدما ينتهي المعلم من التلاوة يذهب التلميذ الى مكانه ليقرأ سورته تلك مرارا وتكرارا ، وبين الحين والآخر ينادي عليه المعلم ليعيد عليه ما قرأ ويصحح له أخطاءه إذا ما دعت الحاجة لذلك.
-وغالبا ما يعتمد التحفيظ على وسائل معروفة، من ألواح خشبية وأقلام، وعندما ينتهي التلميذ من حفظ ما كتب يؤذن له بمحو " البالية " الوجه القديم ، ويكتب " الجديدة ". ما كتب جديدا ولم يقرأ بعد أو يحفظ ، وهي وسائل أصيلة خدمت القرآن وخدمت الانسان .
-أما نظام العقوبات، فالتلاميذ هم أبناء المعلم، لهذا فإن له الحرية المطلقة في التصرف في تربيتهم وتأديبهم، وذلك ناتج كما قلنا سابقا عن الثقة الكاملة في تربية المعلم وفقهه وعلمه.
وكثيرا ما سمعنا من آباء قالوا لمعلمي أبنائهم: " أنت تقتل وأنا أدفن ".
وعندما يلاحظ المعلم بعض التلاميذ غير المنتبهين فإنه يحذرهم أولا ، فإن لم يجد التحذير والعتاب كانت العصا هي العلاج ، فيضربهم على ظهورهم فيتعلم التلاميذ من أخطائهم السابقة حتى لا يقعوا فيها خوفا من العقاب . وكذلك في حال تأخر التلميذ في الحفظ أو تهاونه في ذلك فإنه يعرض نفسه للعقاب بالضرب أو باستبقائه في المسجد أو الكتاب وقتا من الأوقات.
ولعل التربية بالعصا قد بدأت تقل لتأثر المدرسين بالواقع المتغير، لكنهم ما استعملوها إلا لما يعلمون من أهميتها وأثرها في الإعداد التربوي.
ومما يحكى من نوادر المعلمين في هذا الباب ما حكاه الجاحظ قال :" مررت بمعلم صبيان وعنده عصا طويلة وعصا قصيرة وصولجان وكرة وطبل وبوق ، فقلت : ما هذه ؟ فقال : عندي صغار أوباش فأقول لأحدهم اقرأ لوحك فيصفر لي بضرطة فأضربه بالعصا القصيرة ، فيتأخر فأضربه بالعصا الطويلة، فيفر من بين يدي فأضع الكرة في الصولجان وأضربه فأشجه ، فتقوم إلي الصغار كلهم بالألواح ، فأجعل الطبل في عنقي والبوق في فمي وأضرب الطبل وأنفخ في البوق ، فيسمع أهل الدرب ذلك فيسارعون إلي ويخلصوني منهم ".[4]
وبالتأكيد أن فقهاء يومنا ومعلمي كتاتيبنا بعيدون عن مثل هذا النوع من العقاب ، لكن العقاب كان موجودا ولا يزال ، ترك آثاره السلبية في نفوس كثير من القراء والحفاظ وكذا الآثار الايجابية، وهذا لا ينكر إلا جاحد...
ومن الأمور التي تؤخذ على هذا المنهج، قيامه على وسائل تقليدية تقوم على الحفظ دون الفهم والممارسة، مما يقيم قطيعة بين تلاوة القرآن وتدبره، ويلغي البعد العملي في تعاليم الاسلام ، ويهمل أبعادا متعددة من كيان المتعلم كلها ، كالبعد النفسي والخلقي والاجتماعي والاقتصادي.
-إضافة الى النقص الملاحظ في تنوع المواد المدرسة ، فالنص القرآني وحده لا يكفي لتحقيق تكوين شامل ومتوازن لدى الناشئة .
-ويضاف الى كل هذا انفصال التعليم بالكتاتيب عن العمل المنتج والحياة المهنية
-ولا ننسى الانفصام التام الموجود بين هذه الكتاتيب والتعليم النظامي الحديث الذي أثر في وجودها وصيرورتها.
5-واقع المدرسين :
هم في الأعم الأغلب أئمة المساجد نفسها ، أو حفاظ يتفرغون لهذا العلم وراثة عن الأجداد والآباء ، أو متطوعون "بالشرط " يكون من مهامهم القيام بتعليم أبناء الحي أو أبناء الدوار أو المدشر ، يساعدهم في ذلك أبناؤهم أو أحد التلاميذ المتفوقين...
وهذا يعني أنهم لا يكادون يأخذون مقابل عملهم إلا الكفاف من العيش والقليل من العوض، "كالحدية" أو" الآربعية" ولها أسماء مختلفة بحسب الأقاليم، وهو عوض مالي قليل، يتسلمه الفقيه من التلاميذ يوم الأربعاء والأحد، وكذا ما قد يحصل عليه في بعض المناسبات الدينية وهي ضئيلة،ومن بعض الهدايا البسيطة في بعض المناسبات الخاصة كحفل ختم القرآن .
مع أخذنا بعين الاعتبار المؤسسات التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية ، التي تدر على الكتاتيب التابعة لها بعض المنح التشجيعية غير الكافية بالطبع. ولا ننسى أن عددا من هؤلاء المعلمين يتمتعون بكل الحب والاحترام من قبل المتعلمين وأهاليهم خصوصا إذا كان المدرس من أهل العلم والصلاح، وكان متضلعا في الفقه والفتوى ...
-ومما يلاحظ على بعض من انبرى للتعليم بهذا الميدان ، ضعف تكوينهم علميا ومنهجيا ، فأكثرهم لا يزيد على حفظ نص القرآن –إن حفظه- دون إلمام كاف باللغة العربية أو بعض العلوم الاسلامية ، فضلا عن المعارف العصرية ، أو مناهج التدريس وعلوم النفس والتربية ، وإذا كان المعلم قليل العلم مختل المنهج أو منعدمه فإن ذلك سينعكس ولا ريب سلبا على أساليب التدريس ومضامينه ونتائجه.
6-واقع التسيير والتدبير:
تقوم الكتاتيب القرآنية في أغلب الأحوال على مبدأي التطوع والكفاف في التمويل والتسيير، بحيث لا تحتاج في أداء مهمتها إلا الى أبسط حد ممكن من التجهيزات المادية. وهي تجهيزات قد توجد ملتصقة بالمساجد سواء في الحواضر أم البوادي، أو قد يوفرها المجتمع المعني تطوعا واختيارا، لكن هذا لا يفي بالغرض المطلوب والمرغوب في زمننا، عصر الفضائيات والشبكة العنكبوتية التي اقتحمت كل بيت أينما بعد أو قرب، وعصر تنامي الأفكار وتلاقحها، وانتشار القض والقضيض والغث والسمين من الأفكار والتوجهات التي أثرت سلبا على كثير من خريجي الكتاتيب القرآنية ، باعتبارهم من حملة القرآن الكريم .
وهذا يبين حاجة هذه المؤسسات لمن يأخذ بيدها قبل فوات الأوان، وقبل أن تفعل فيها موجة العولمة عولمتها، فتحصل المنافسة غير المتكافئة بين إدارة وتسيير عفويين، وبين واقع يدار بتدبير وتخطيط .
ثالثا: آفاق الكتاتيب القرآنية ( المقصود) :
إن الحديث عن الآفاق ، هو حديث عن الإحياء والتجديد اللازمين لهذه المؤسسات بكل مكوناتها الست ، وهذا لا يتم إلا بالحديث المفصل بعض الشيء عما يلزم كل مكون من هذه المكونات داخل المنظومة التعليمية ببلدنا ، وتحديد الهدف -وإن لم يكن – التفكير في وضعه والبناء عليه .
1-آفاق الفضاء التعليمي :
هو المكان الذي يجلس فيه المتعلمون ساعات طويلة ليتلقوا القرآن الكريم حفظا وفهما وسلوكا، وهو مكان إن لم تتوفر فيه شروط السلامة والصحة، وكذا وسائل الترغيب في البقاء فيه لحين إدراك المرغوب، فإن الملل سيكون رفيق كل متعلم ، خصوصا والأمر لم يعد كما كان قديما ، فالطفل يحتاج -إضافة الى تلقي المعارف في صغره -الى اللعب واللهو ، وهي مرحلة إن تجووزت أضرت بالمراحل التي قد تأتي بعد. وأذكر هنا المنشور الوزاري الذي أصدرته وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية الذي يتضمن الوثائق والشروط المطلوبة للحصول على فتح كتاب قرآني، ويهمنا منها ما يتعلق بالمكان، حيث طلب المنشور: إحضار شهادة صلاحية المحل المعد لذلك، مسلمة من لدن المصالح الصحية المختصة بالاقليم .
ولكن ما ينبغي الانتباه له الآن ، هو كيف نقلل من كثرة هذه الكتاتيب من حيث الكم غير المتقن من حيث المكان والمؤطر والمؤطر ، وهذا أمر ليس بالسهل تناوله ، إذ يحتاج الى خريطة دقيقة بالموجود ، ووضع سترجة " استراتيجية" للتغيير ، وليكن في تصورنا أن نوجد مثلا كتابا في كل قرية ، نحرص على دعمه ومراقبته متابعته ، وذلك بترميم المكان وتطويره .
وإن كان الموجود غير كاف أو أن هناك نقصا ما في أماكن معينة ، فبإنشاء كتاتيب جديدة وتوزيعها توزيعاً جيداً .
2-آفاق الزمن التعليمي :
وهو أيضا يحتاج الى نظر وتجديد، تراعى فيه خصوصية كل منطقة ، وخصوصية الأشخاص المتعلمين وحاجياتهم .
إذ لابد من وضع برنامج يصلح لكل فئة تعليمية، ولكل منطقة، يناسب أحوال الناس وأسرهم وحاجاتهم، حتى لا يستهلك وقت المتعلمين فقط في تلقيهم للعلوم النظرية ، دون استفادة أسرهم منهم، واستفادتهم هم أيضا من الوقت لأعمال أخرى أو معارف أو صنعة أخرى قد تنفعهم في حياتهم المهنية . ولم لا مثلا ، اختيار وقت الصباح كله للدراسة ، وتفريغ المتعلمين بعد ذلك ...وهذا سيسمح لكثير من الأطفال ولوج هذه الأقسام باعتبارها تمنحهم ما يستطيعون من خلاله تلبية حاجيات أخرى لهم ولأسرهم ...ولم لا امتهان حرفة أو مهنة ...
3-آفاق المتعلمين: وبدون وجودهم لن تكون عندنا كتاتيب، ولا عملية تعليمية ، فتشجيعهم على اقتحام هذا المجال، وتوفير الشروط الضرورية لذلك أمر واجب اليوم على المديرية المعنية، فإذا وفرنا الفضاء والمؤطر والمنهج والتسيير، يبقى علينا توفير المتعلمين، وهم في الأعم الأغلب أبناء القرى والبوادي .
نعم ، إن رغبة الآباء قوية من أجل الدفع بأبنائهم للكتاتيب ، سواء بالمدن أو بالقرى ، لكن هناك أمور تعيق نجاح هذا التوجه ، منه على سبيل المثال ما يتعلق بأبناء البوادي، وعلى رأسه: مشكل التوقيت الذي يستغرق كل يوم المتعلم، وهذا أمر يمكن تدارسه داخل كل منطقة على حدة ، مما يقتضي توفير إدارة أو مراقبين يحرصون على مثل هذا الفعل.
أما داخل المدن ، فما نشاهده هو رغبة الآباء في هذا النوع من التعليم ، لكن الوقت أيضا لا يسمح بذلك، وقد تغلب على هذه الصعوبة بنوع من الاجتهاد والتنظيم ، حيث تم الاتفاق في بعض المدن وبعض المساجد وبعض المؤطرين على أن يكون التعليم بالكتاب ساعة فراغ الأبناء من الدراسة النظامية، وذلك كل يوم أربعاء مساء ، ويوم السبت والأحد صباحا، صحيح أن هذا الوقت غير كاف لتحقيق المطلوب ، لكنه معين على تنشئة الأبناء التنشئة المطلوبة وانقاذ ما يمكن انقاذه ...
4-آفاق منهج التلقين :
أ-طرق التلقين :
وهي ما سميتها قبل قليل بالطرق البيداغوجية ، كما يشمل الوسائل المعينة على حسن تلقي التلقين .
-فطريقة التلقين والتحفيظ تحتاج الى تجديد ونظر ، فاللوحة الخشبية أعطت الكثير لأبناء الكتاتيب، ولم ولن يتوقف عطاؤها وصلاحيتها، لكن يمكن الاستفادة من وسائل معاصرة ، ولما لا تكون السبورة المتحركة، أو الدفاتر والكراريس بأقلام جد متوفرة تعين التلميذ على اكتساب الخط، وتعلم الكتابة. وطبعا بحسب المكان والزمان والامكانيات .
فحيث أمكن فعل هذا يكون أحسن، وحيث امتنع يُبحث عن السبل الكفيلة لتحقيقه . إذ وسائل تلقي المعارف والعلوم قد تطورت، فلماذا يكتفى بالوسائل القديمة وإن أثبتت صلاحيتها واستمراريتها وصمودها ؟. ولا يبحث عن الارتقاء بها، كما تم الارتقاء بذلك في المدارس النظامية .
-وفي هذا يمكن الاستعانة بكل ما أنجز من برامج معينة في الموضوع، وأقراص ومطبوعات، وكلها متوفرة في الأسواق، وبُذل فيها جهد لا يستهان به.
-ولا ننسى المحافظة على تلقي الرسم والكتابة القرآنية من طرف الفقيه وتصحيحها والحفاظ عليها، وهو علم بدأ يقل ويندرس، بل ويهمل في واقعنا، خصوصا عند الحفاظ عن طريق الصحف والكتب .
بل ويجب أن لا يهمل ما عادته الاهمال في كتاتيبنا، وهو حسن ترتيل القرآن، وكذا تعليم قواعد التجويد في الكتاتيب، إذ عادة ما يلاحظ على غالبية الحفاظ المتخرجين منها ضعف حسهم التجويدي، وعدم حسن إتقانهم لمخارج الحروف. ويمكن الاستعانة على كل هذا بالكثير من الوسائل السمعية والبصرية التي يستخدمها اليوم مدرسو القرآن الكريم في العالم الاسلامي ، في مختلف مراحل سلك التعليم .
ب-ضرورة ربط العلم بالعمل :
وهذا من التجديد، وهو مما يعاب على أغلب خريجي الكتاتيب القرآنية، إذ الهدف في نظر معلميهم، وفي نظر آبائهم، هو الحفظ ثم الحفظ، وهذا غير كاف، إذ ينبغي تغيير الأهداف المسطرة في الكتاتيب وعند القائمين بأمورها.
بهذا نستطيع أن نبني أمتنا من خلال بناء أبنائنا داخل هذه المؤسسة الصغيرة ، الكبيرة في واقعنا وفي آثارها الايجابية . وبدون ربط المتعلمين بالعمل بما تعلموه ، سيفرز لنا هذا التعليم أفرادا يحفظون أمورا يخالفونها تطبيقا وممارسة ، وأوضحها قلة اكتراثهم بالشعائر التعبدية وبالمسجد.
ج- تدبر المحفوظ وتفسيره:
وهذا موضوع لا يجب الاستهانة به، إذ لا يعقل أن يتخرج شاب أو حافظ لكتاب الله حفظا متقنا دون أن يكون له علم بآياته وشرح لمعانيه. وهذا ما يدفعنا الى القول بضرورة تدخل المديرية المعنية بفرض تفسير معين على جميع الكتاتيب القرآنية وعلى مؤطريها، ولما لا يكون تفسير الشيخ العلامة المكي الناصري، فهو سهل ميسر يتتبع المغاربة سماعه كل يوم عبر الاذاعة ويفهمونه لبساطته وسهولة مأخذه.أو ينجز تفسير لهذ الغرض يتفرغ له الأكفاء من أبناء أمتنا وعلمائنا الأفذاذ.وهذا أمر إن تم سيخرج لنا رجالا يفهمون ما يحفظون ، وسيسهل عليهم العمل بمما يفهمون، بل وحسن تبليغه إن فتح لهم مجال التبليغ أو اقتحموه.ولا أنسى أن أذكر بضرورة أن يساير المعلم تلاميذه أثناء حفظ القرآن بما يلزم من معرفة ، كمتن أو منظومة ابن بري في قراءة نافع ، وبعض المنظومات في رسم القرآن ...
د-توحيد المنهج العقدي :
فالمغرب ولله الحمد والمنة ، امتاز بوحدة مذهبه الفقهي ، ونهجه العقدي وسلوكه التربوي ، كما تعلمنا من متن ابن عاشر :
وبعد فالعون من الله المجيد ***في نظم أبيات للأمي تفيد
في عقد الأشعري وفقه مالك***وفي طريقة الجنيد السالك
في عقد الأشعري وفقه مالك***وفي طريقة الجنيد السالك
وهذه الاشارة في هذا الباب أثيرها قصدا، لما يحصل من التأثر بالمناهج الأخرى داخل الكتاتيب القرآنية، وهي غير ضارة في حد ذاتها، بقدر ما تنتج لنا من أناس يختلفون مع غيرهم فيما تعلموه وتربوا عليه في البلد الواحد. إذ تلقي الرأي الآخر ومعرفة الخلاف العالي وباقي المذاهب لا يضر مع مستقبل الأيام، لكن في هذه المراحل الأولية من التعليم بالكتاتيب، يُحتاج الى توحيد الرأي والمذهب والفقه أثناء الشرح والتوجيه. مما يقتضي توفر الكتاتيب على مؤطرين لهم نفس التوجه الفكري والعقدي، فالتعليم بالقدوة له أكبر الأثر في نفسية المتلقي ، فإن غاب الأمر عن المقتدى به فلا يمكننا انتظاره من المقتدي .
هـ-الحرص على تعليم اللغة العربية مع حفظ القرآن :
مما يلاحظ على مؤطرينا أنهم لا يستعملون اللغة العربية للتخاطب والتحدث بها بين المتعلمين أنفسهم فضلاً عن بقية المجتمع ، بل يضطر المعلم أن يشرح في كثير من الأحيان أو يوجه باللهجات المحلية لتلاميذه!.كما أنه من بين أسباب ضعف اللغة الاقتصار على تعلم النحو والصرف غالباً –دون دراسة الأدب والبلاغة والتعبير-، مما يخرج طالباً قارئاً كاتباً فقط !.فتقويم لسان الأطفال داخل الكتاب أمر أساسي ، والحفظ يمنح بعض هذا ، ولكن لا يمنحه كاملا ، لهذا يبقى دور الفقيه والمعلم أساسي في هذا الأمر ، ولعل مما يعين عليه ، التحدث بها داخل الكتاب ، وحسن توجيههم نحو فهمها والقراءة فيها . ويستحسن أن يرفق تعليم القرآن بتعليم وحفظ متن الأجرومية في النحو ، ولامية ابن الوردي في الأدب ...
وهذا يدفعني الى القول والسؤال ، لماذا لا يتم تنظيم هذه الكتاتيب في إطار يجمعها ويحدد منهجها ، ويضعها في درج سلم معين ، من ارتقاه وصل الى ما يليه.
و-التدرج في التعليم :
وهذا منهج فريد تميزت به شريعة الرحمان ، بحيث يلزم اتباعه حين الرغبة في إيصال المعارف والعلوم ، إذ لا يعقل أن يلقى العلم أو تعطى المعارف جملة أو طفرة واحدة ، بل لابد من التدرج في إملاء العلوم وتلقينها ، وخصوصا تحفيظ القرآن ، فإملاؤه على المتعلمين يكون بحسب معرفة مداركهم وقوة حفظهم ومدى استيعابهم ، وكذا سائر العلوم التي يحتاجها الحافظ لكتاب الله من تفسير ولغة وبيان ...
إن التدرج في التعليم له ما له من إيجابيات ، بحيث يستطيع المعلم اكتشاف قدرات مريديه ، فيميز بين المتفوق منهم والبسيط في الفهم ...فيبني على ذلك حلقاته وتوجيهاته .
ز-التربية العقابية:
لن نبدع بالتأكيد في مسألة العقاب ووسائله، ولكني أقدم هذه الأسئلة لتجيب عن نفسها في الموضوع .لماذا الضرب في حد ذاته ؟ .وهل أعطى ثماره في السابقين ؟ .
ألا يحتاج الأمر بعض الاستقراء وبعض الحوارات مع من تخلوا عن الدراسات بالكتاب بسبب الضرب الشديد الذي تلقوه على يد الفقيه ؟.
بل ألا يحتاج الأمر الاستفسار عمن انحرفوا بعد الحفظ بسبب هذا النوع من العقاب ؟.
نعم ، إنها أسئلة ، ولكني أجيب باختصار ، بأن زمن الضرب قد ولى، واقتحم عليه المجال زمن الحوار والافهام والتواصل بشتى أنواعه، كما حل محله زمن الترغيب والمسابقات والمباريات ...
ويجب أيضا على معلمي الكتاتيب كما يبدعون في وسائل التعليم وتحبيب المواد المدرسة، أن يبدعوا في وسائل العقاب الايجابية ، بدل السلبية التي لا تثمر شيئا سوى الحقد والكراهية وحب الانتقام مع توالي الأيام ، أما الوسائل العقابية الايجابية فهي تثمر التحفيز والرغبة والمسارعة نحو تجاوز الأخطاء والتقدم على الأقران ....وهذا لا يعني أبدا ترك الحبل على الغارب ، بل يعني ضمن ما يعنيه الحزم من غير فضاضة والرفق دون هزل كما قال الشاعر:
هـ-الحرص على تعليم اللغة العربية مع حفظ القرآن :
مما يلاحظ على مؤطرينا أنهم لا يستعملون اللغة العربية للتخاطب والتحدث بها بين المتعلمين أنفسهم فضلاً عن بقية المجتمع ، بل يضطر المعلم أن يشرح في كثير من الأحيان أو يوجه باللهجات المحلية لتلاميذه!.كما أنه من بين أسباب ضعف اللغة الاقتصار على تعلم النحو والصرف غالباً –دون دراسة الأدب والبلاغة والتعبير-، مما يخرج طالباً قارئاً كاتباً فقط !.فتقويم لسان الأطفال داخل الكتاب أمر أساسي ، والحفظ يمنح بعض هذا ، ولكن لا يمنحه كاملا ، لهذا يبقى دور الفقيه والمعلم أساسي في هذا الأمر ، ولعل مما يعين عليه ، التحدث بها داخل الكتاب ، وحسن توجيههم نحو فهمها والقراءة فيها . ويستحسن أن يرفق تعليم القرآن بتعليم وحفظ متن الأجرومية في النحو ، ولامية ابن الوردي في الأدب ...
وهذا يدفعني الى القول والسؤال ، لماذا لا يتم تنظيم هذه الكتاتيب في إطار يجمعها ويحدد منهجها ، ويضعها في درج سلم معين ، من ارتقاه وصل الى ما يليه.
و-التدرج في التعليم :
وهذا منهج فريد تميزت به شريعة الرحمان ، بحيث يلزم اتباعه حين الرغبة في إيصال المعارف والعلوم ، إذ لا يعقل أن يلقى العلم أو تعطى المعارف جملة أو طفرة واحدة ، بل لابد من التدرج في إملاء العلوم وتلقينها ، وخصوصا تحفيظ القرآن ، فإملاؤه على المتعلمين يكون بحسب معرفة مداركهم وقوة حفظهم ومدى استيعابهم ، وكذا سائر العلوم التي يحتاجها الحافظ لكتاب الله من تفسير ولغة وبيان ...
إن التدرج في التعليم له ما له من إيجابيات ، بحيث يستطيع المعلم اكتشاف قدرات مريديه ، فيميز بين المتفوق منهم والبسيط في الفهم ...فيبني على ذلك حلقاته وتوجيهاته .
ز-التربية العقابية:
لن نبدع بالتأكيد في مسألة العقاب ووسائله، ولكني أقدم هذه الأسئلة لتجيب عن نفسها في الموضوع .لماذا الضرب في حد ذاته ؟ .وهل أعطى ثماره في السابقين ؟ .
ألا يحتاج الأمر بعض الاستقراء وبعض الحوارات مع من تخلوا عن الدراسات بالكتاب بسبب الضرب الشديد الذي تلقوه على يد الفقيه ؟.
بل ألا يحتاج الأمر الاستفسار عمن انحرفوا بعد الحفظ بسبب هذا النوع من العقاب ؟.
نعم ، إنها أسئلة ، ولكني أجيب باختصار ، بأن زمن الضرب قد ولى، واقتحم عليه المجال زمن الحوار والافهام والتواصل بشتى أنواعه، كما حل محله زمن الترغيب والمسابقات والمباريات ...
ويجب أيضا على معلمي الكتاتيب كما يبدعون في وسائل التعليم وتحبيب المواد المدرسة، أن يبدعوا في وسائل العقاب الايجابية ، بدل السلبية التي لا تثمر شيئا سوى الحقد والكراهية وحب الانتقام مع توالي الأيام ، أما الوسائل العقابية الايجابية فهي تثمر التحفيز والرغبة والمسارعة نحو تجاوز الأخطاء والتقدم على الأقران ....وهذا لا يعني أبدا ترك الحبل على الغارب ، بل يعني ضمن ما يعنيه الحزم من غير فضاضة والرفق دون هزل كما قال الشاعر:
فقسا ليزجره ومن يك حازماً *** فليقس أحياناً على من يرحم[5]
5-آفاق المدرسين :
وهم من أقطاب العملية التربوية والتعليمية ، وينبغي الاهتمام بوضعيتهم ، ومكانتهم ، ومؤهلاتهم .ولن يتم ذلك إلا بما يلي :
أ-إحصاء المدرسين بكتاتيبهم .
ب-وضع ملف علمي لكل معلم بالكتاتيب ، لمعرفة الموجود كما يلزم للانطلاق الى المقصود .
ج-توحيد الشواهد التي ينبغي توفرها في معلم الكتاب .
د- تأطير خاص للمعلمين، تعد له الوزارة المعنية ولو جهويا أو بجمع الجهات المتقاربة .[6] وهذا إن حصل سيكون له أكبر الأثر في الدفع بمسار التعليم بالكتاتيب القرآنية ببلدنا.
وأقترح هنا :
-أن يكون اختيار معلمي الكتاتيب اختيارا دقيقا ، حيث يكونوا أصحاب أهلية علمية ، وخبرة عملية ، وهمة وبصيرة دعوية ، ليكون تأثيرهم أكثر وأنفع.
-عقد دورات تدريبية لمدرسي الكتاتيب يحضرها ويؤطرها المتخصصون ، وتكون تحت عناية ونظر المديرية المعنية .
وأقترح أن يشمل هذا البرنامج ثلاث نقط :
أ-طرق التحفيظ : من أجل النظر فيها، وتجديد ما يمكن تجديده فيها، وتجنب ما ينبغي تجنبه فيها.
ب –الطرق البيداغوجية: من أجل تبني الصالح منها ، وتصحيح السلبي أو المتجاوز منها، وهذا ليس عيبا، بل هو عين الحقيقة وعين الواقع، فلكل زمان منهجه ونهجه التربوي، وقديما قيل :" لا تكرهوا أولادكم على آثاركم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم".[7]
فقديما كان التحفيظ من أجل التحفيظ، واليوم ينبغي أن يحدد الهدف من التحفيظ ، والهدف الأكبر الذي يطمح للوصول إليه .ومهما اختلفت مناهج التلقين ، فإن وضع الرجل المناسب في المكان المناسب معين على تجاوز صعوبات المنهج ، واختلاف الطرق التربوية...
ج-وضع دليل عام - كما فعلت الوزارة المعنية مع الأئمة ، بحيث قامت بإنجاز دليل للامام قبل إعداد دورات تكوينية لهم - يقدم جملة من الملاحظات والتوجيهات التربوية والمنهجية ، الهدف منه الاسهام في رفع مستوى المربين معرفيا منهجيا.
6- آفاق التسيير والتدبير :
وهذا موضوع لا يجب الاستهانة به ، فالتنظيم هو أساس كل تنمية، وعملية الكتاتيب هي عملية تنموية للموارد البشرية ، وتنظيمها وحسن إدارتها هو إسهام في التنمية البشرية وضبطها ...
فكما هو معلوم ف" لا عقل كالتدبير". [8] وتدبير الأشياء عامل في نجاحها، وحافظ لها مما قد يلم بها ...
وقد قدمت بعض هذه الاقتراحات حين معالجة المكونات الست التي تقوم عليها الكتاتيب القرآنية، وأضيف إليها الآن أمرين اثنين :
أ-بعد إحصاء الموجود من الكتاتيب إحصاء دقيقا، ووضع أرشيف للمؤطرين، ومستواهم العلمي، يتم إعداد دليل علمي عليه يسير الجميع، مع مراقبة تنفيذ هذه الإجراءات من طرف المجالس العلمية وفروعها، بتنسيق مع مندوبيات الشؤون الاسلامية .
ب-وهذا أمر يجب الانتباه إليه ووضعه في الحسبان، ويتمثل في أسئلة أساسية ينبغي وضعها ، تبعا لهذا الاهتمام، وتتمثل الأسئلة في :
-ما هو مستقبل خريجي الكتاتيب القرآنية ؟ وكيف يمكن التنسيق بين الموجود من الكتاتيب والمعاهد الاسلامية .؟.وكيف يمكن التنسيق أيضا بين الكتاتيب والمدارس القرآنية والعتيقة ؟. وما هي علاقة هذا التعليم كله بالتعليم الأصيل الذي شهد إصلاحات جوهرية بداية من شهر شتنبر 2005 .
بالتأكيد أن هذا الموضوع يحتاج الى تدبير إداري وعلمي ، إذا رغبنا في السير قدما بالتعليم الديني والعتيق في بلدنا ، وذلك ب :
-ربط الصلة بين هذه المؤسسات جميعها ربطا محكما ، بحيث تصب كل واحدة في الأخرى .
-وأمر آخر يجب ان لا ينسى أو يهمل ، ويتمثل في البحث عن كيفية استفادة المتعلمين بالكتاتيب من قناة محمد السادس للقرآن الكريم ؟. وكذا الدروس التي تعدها وزارة الأوقاف للأئمة في المساجد .؟.
هذه إذن إشارات وددت بها تقديم اقتراحات في موضوع الكتاتيب ، إسهاما مني في التنمية البشرية التي يسير في ضوئها بلدنا الحبيب في جميع الميادين ، والرغبة في العمل شيء إيجابي ، يحتاج من بعد الى إتقان العمل المطلوب ، حتى لا يضيع الوقت ويضيع الجهد ، فرقي الأمم اليوم يقاس بمدى استغلالها للجهد والوقت والعاطفة ، وهو ما بينه الرسول الكريم في سنته حيث قال : " إن الله يحب إذا عمل العبد عملا أن يتقنه".[9].
خلاصة :
هذه هي التنمية البشرية التي نسعى إليها، والانسان هو محورها ونواتها وأصلها وقاعدتها، فبدون الانسان الصالح، لن نستطيع أن نخلق تنمية ولا أن نبني حضارة، ولا أن نشيد صرحا.
هذا ما يجب أن يفهمه الخاص والعام من أبنائنا، ويعمل الجميع من أجله، وربنا يقول : " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمومنون "."سورة التوبة/105" .فإما أن نعمل لنكون، وإما أن الحضارة ستتجاوزنا، والركب سيسبقنا، ولن يكون النادم غيرنا، فحي على العمل حتى نحقق للتنمية تنميتها .
د/أحمد العمراني
الجديدة المغرب
[1]-صحيح البخاري رقم الحديث :4739
[2]-بواسطة كتاب: الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية للندوي.
[3]-كتاب نشرة الأئمة العدد السادس : 1424/2004.ص/28.
[4]-المستطرف في كل فن مستظرف لشهاب الدين أبي الفتح محمد بن أحمد الأبشيهي: 2/519-520.
[5]-الوافي في الوفيات: 1/903.
[6]- كما حصل في شهر مارس من سنة 2006 بإقليم دكالة ، من اختيار سبعة أفراد من خمس جهات يدرسون بالمدارس العتيقة ، بحيث تبادلوا المعارف والتجارب ، كما تلقوا توجيهات وتدريبات موحدة ستعمل بكل تأكيد على تجديد نظرتهم للتعليم العتيق .
[7]-إغاثة اللهفان :2/265. والملل والنحل للشهرستاني :2/82.
[8]-سنن ابن ماجه :2/1410/4218، والمعجم الكبير للطبراني :2/157/1651، ومجمع الزوائد للهيثمي :4/392/7113، وصحيح ابن حبان :2/76/361. وضعفه الألباني في الضعيفة ..:4/382/1910.
[9]-المعجم الكبير للطبراني :24/306/ والسلسلة الصحيحة :3/106.
وهم من أقطاب العملية التربوية والتعليمية ، وينبغي الاهتمام بوضعيتهم ، ومكانتهم ، ومؤهلاتهم .ولن يتم ذلك إلا بما يلي :
أ-إحصاء المدرسين بكتاتيبهم .
ب-وضع ملف علمي لكل معلم بالكتاتيب ، لمعرفة الموجود كما يلزم للانطلاق الى المقصود .
ج-توحيد الشواهد التي ينبغي توفرها في معلم الكتاب .
د- تأطير خاص للمعلمين، تعد له الوزارة المعنية ولو جهويا أو بجمع الجهات المتقاربة .[6] وهذا إن حصل سيكون له أكبر الأثر في الدفع بمسار التعليم بالكتاتيب القرآنية ببلدنا.
وأقترح هنا :
-أن يكون اختيار معلمي الكتاتيب اختيارا دقيقا ، حيث يكونوا أصحاب أهلية علمية ، وخبرة عملية ، وهمة وبصيرة دعوية ، ليكون تأثيرهم أكثر وأنفع.
-عقد دورات تدريبية لمدرسي الكتاتيب يحضرها ويؤطرها المتخصصون ، وتكون تحت عناية ونظر المديرية المعنية .
وأقترح أن يشمل هذا البرنامج ثلاث نقط :
أ-طرق التحفيظ : من أجل النظر فيها، وتجديد ما يمكن تجديده فيها، وتجنب ما ينبغي تجنبه فيها.
ب –الطرق البيداغوجية: من أجل تبني الصالح منها ، وتصحيح السلبي أو المتجاوز منها، وهذا ليس عيبا، بل هو عين الحقيقة وعين الواقع، فلكل زمان منهجه ونهجه التربوي، وقديما قيل :" لا تكرهوا أولادكم على آثاركم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم".[7]
فقديما كان التحفيظ من أجل التحفيظ، واليوم ينبغي أن يحدد الهدف من التحفيظ ، والهدف الأكبر الذي يطمح للوصول إليه .ومهما اختلفت مناهج التلقين ، فإن وضع الرجل المناسب في المكان المناسب معين على تجاوز صعوبات المنهج ، واختلاف الطرق التربوية...
ج-وضع دليل عام - كما فعلت الوزارة المعنية مع الأئمة ، بحيث قامت بإنجاز دليل للامام قبل إعداد دورات تكوينية لهم - يقدم جملة من الملاحظات والتوجيهات التربوية والمنهجية ، الهدف منه الاسهام في رفع مستوى المربين معرفيا منهجيا.
6- آفاق التسيير والتدبير :
وهذا موضوع لا يجب الاستهانة به ، فالتنظيم هو أساس كل تنمية، وعملية الكتاتيب هي عملية تنموية للموارد البشرية ، وتنظيمها وحسن إدارتها هو إسهام في التنمية البشرية وضبطها ...
فكما هو معلوم ف" لا عقل كالتدبير". [8] وتدبير الأشياء عامل في نجاحها، وحافظ لها مما قد يلم بها ...
وقد قدمت بعض هذه الاقتراحات حين معالجة المكونات الست التي تقوم عليها الكتاتيب القرآنية، وأضيف إليها الآن أمرين اثنين :
أ-بعد إحصاء الموجود من الكتاتيب إحصاء دقيقا، ووضع أرشيف للمؤطرين، ومستواهم العلمي، يتم إعداد دليل علمي عليه يسير الجميع، مع مراقبة تنفيذ هذه الإجراءات من طرف المجالس العلمية وفروعها، بتنسيق مع مندوبيات الشؤون الاسلامية .
ب-وهذا أمر يجب الانتباه إليه ووضعه في الحسبان، ويتمثل في أسئلة أساسية ينبغي وضعها ، تبعا لهذا الاهتمام، وتتمثل الأسئلة في :
-ما هو مستقبل خريجي الكتاتيب القرآنية ؟ وكيف يمكن التنسيق بين الموجود من الكتاتيب والمعاهد الاسلامية .؟.وكيف يمكن التنسيق أيضا بين الكتاتيب والمدارس القرآنية والعتيقة ؟. وما هي علاقة هذا التعليم كله بالتعليم الأصيل الذي شهد إصلاحات جوهرية بداية من شهر شتنبر 2005 .
بالتأكيد أن هذا الموضوع يحتاج الى تدبير إداري وعلمي ، إذا رغبنا في السير قدما بالتعليم الديني والعتيق في بلدنا ، وذلك ب :
-ربط الصلة بين هذه المؤسسات جميعها ربطا محكما ، بحيث تصب كل واحدة في الأخرى .
-وأمر آخر يجب ان لا ينسى أو يهمل ، ويتمثل في البحث عن كيفية استفادة المتعلمين بالكتاتيب من قناة محمد السادس للقرآن الكريم ؟. وكذا الدروس التي تعدها وزارة الأوقاف للأئمة في المساجد .؟.
هذه إذن إشارات وددت بها تقديم اقتراحات في موضوع الكتاتيب ، إسهاما مني في التنمية البشرية التي يسير في ضوئها بلدنا الحبيب في جميع الميادين ، والرغبة في العمل شيء إيجابي ، يحتاج من بعد الى إتقان العمل المطلوب ، حتى لا يضيع الوقت ويضيع الجهد ، فرقي الأمم اليوم يقاس بمدى استغلالها للجهد والوقت والعاطفة ، وهو ما بينه الرسول الكريم في سنته حيث قال : " إن الله يحب إذا عمل العبد عملا أن يتقنه".[9].
خلاصة :
هذه هي التنمية البشرية التي نسعى إليها، والانسان هو محورها ونواتها وأصلها وقاعدتها، فبدون الانسان الصالح، لن نستطيع أن نخلق تنمية ولا أن نبني حضارة، ولا أن نشيد صرحا.
هذا ما يجب أن يفهمه الخاص والعام من أبنائنا، ويعمل الجميع من أجله، وربنا يقول : " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمومنون "."سورة التوبة/105" .فإما أن نعمل لنكون، وإما أن الحضارة ستتجاوزنا، والركب سيسبقنا، ولن يكون النادم غيرنا، فحي على العمل حتى نحقق للتنمية تنميتها .
د/أحمد العمراني
الجديدة المغرب
[1]-صحيح البخاري رقم الحديث :4739
[2]-بواسطة كتاب: الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية للندوي.
[3]-كتاب نشرة الأئمة العدد السادس : 1424/2004.ص/28.
[4]-المستطرف في كل فن مستظرف لشهاب الدين أبي الفتح محمد بن أحمد الأبشيهي: 2/519-520.
[5]-الوافي في الوفيات: 1/903.
[6]- كما حصل في شهر مارس من سنة 2006 بإقليم دكالة ، من اختيار سبعة أفراد من خمس جهات يدرسون بالمدارس العتيقة ، بحيث تبادلوا المعارف والتجارب ، كما تلقوا توجيهات وتدريبات موحدة ستعمل بكل تأكيد على تجديد نظرتهم للتعليم العتيق .
[7]-إغاثة اللهفان :2/265. والملل والنحل للشهرستاني :2/82.
[8]-سنن ابن ماجه :2/1410/4218، والمعجم الكبير للطبراني :2/157/1651، ومجمع الزوائد للهيثمي :4/392/7113، وصحيح ابن حبان :2/76/361. وضعفه الألباني في الضعيفة ..:4/382/1910.
[9]-المعجم الكبير للطبراني :24/306/ والسلسلة الصحيحة :3/106.