طارق منينة
New member
- إنضم
- 19/07/2010
- المشاركات
- 6,331
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 36
هو ملف اقتطفته من مجلة المنار بما يتعلق به(الملف وضعته أسفل في المداخلة الثالثة) ولااعرف هل هو كامل الحلقات أم لم انتبه لبعض الحلقات فلم أضعها هنا وعلى كل فتوفر ملف ورد للكتاب يعين الباحث على موضوعه
غرة رجب - 1320هـ
3 أكتوبر - 1902م
3 أكتوبر - 1902م
(5/)
الكاتب : محمد عبده
__________
الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية
وهو المقال الثالث لذلك الإمام الحكيم والأستاذ العليم
نتائج هذه الأصول وآثارها في المسلمين
إلام أفضت طبيعة الإسلام بالمسلمين ؟ وماذا كان أثرها في أسلافهم الأولين ؟
فتح عمرو بن العاص رضي الله عنه مصر واستولى بجيشه على الإسكندرية بعد
لحاق النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - بالرفيق الأعلى بست سنوات ، في
رواية وتسع سنوات ، في رواية أخرى والإسلام في طلوع فجره ، وتَفَتُّح نوره ، فكان
من بقايا ما تركت الأزمان الأولى : رجلُ مسيحيُ من اليعقوبيين اسمه يوحنا النحوي
كان في بدء أمره ملاحًا يعبرُ الناسُ بسفينته ، وكان يميل إلى العلم بطبيعته فإذا ركب
معه بعض أهل العلم أصغى إلى مذاكرتهم .
اشتد به الشوق فترك الملاحة واشتغل بالعلم وهو ابن أربعين سنة فبلغ فيه ما
لم يبلغه الناشئون فيه من طفوليتهم وقد أحسن من العلم فنونًا كثيرةً حتى عُدَّ من فلاسفة
وقته وأطبائه ومناطقته .
يقول كثير من مؤرخي الغربييين ومؤرخي المسلمين : إن عمرو بن العاص
سمع به فاستدناه منه وأكرمه لعلمه ووقعت بينهما محبة ظهر أمرها واشتهر حتى قال
أحد فلاسفة الغربيين : ( إن المحبة التي نشأت بين عمرو بن العاص فاتح مصر
ويوحنا النحوي ترينا مبلغ ما يسمو إليه العقل العربي من الأفكار الحرّة والرأي
العالي . بمجرد ما أعتق من الوثنية الجاهلية ودخل في التوحيد المحمدي أصبح على
غاية من الاستعداد للجوَلان في ميادين العلوم الفلسفية والأدبية من كل نوع ) .
خالط المسلمون أهل فارس و سوريا وسواد العراق وأدخلوهم في أعمالهم ولم
يمنعهم الدين عن استعمالهم حتى كانت دفاترهم بالرومية في سوريا ولم تغيّر
بالعربية إلا بعد عشرات من السنين فاحتكت الأفكار بالأفكار ، وأفضت سماحة الدين
إلى أن أخذ المسلمون في دراسة العلوم والفنون والصنائع .
* * *
( اشتغال المسلمين بالعلوم الأدبية ثم العقلية )
وبعد عشرين سنة من وفاته عليه الصلاة والسلام أخذ الخليفة علي بن أبي
طالب - كرم الله وجهه - يحضُّ على تعليم الآداب العربية ويطلب وضع القواعد لها
لما رأى من حاجة الناس إلى ذلك ، وأخذ المسلمون يتحسّسُون نور العلم في ظلام تلك
الفتن استرسالاً مع ما يدعوهم إليه دينهم وتنبّههم لطلبه شريعتهم . وإن كانت
الحروب الداخلية التي اشتعلت نارها في أطراف بلادهم للنزاع في أمر الخلافة قد
شغلتهم عن كل شيء من مصالحهم فإنها لم تشغلهم عن تلمس العلوم والتناول منها
بالتدريج على سنة الفطرة . فالبراعة في الآداب من علم بوقائع العرب وتاريخهم
وقول الشعر وإنشاء البليغ من النثر قد بلغت في خلافة بني أمية مبلغًا لم تبلغه أمة قط
في مثل مدتها ، وكان الخلفاء الأمويون يعلون منزلتها ويرفعون مكانات الشعراء
والخطباء والعلماء بالسير ، ثم ظهرت آثار العلوم العقلية في آخر دولتهم وترجمت
جملة من الكتب العقلية والصناعية قبل نهاية القرن الأول .
نقل الخلفاء الأمويون دار الخلافة من المدينة إلى الشام ، ولم يسيروا في الزهد
سيرة الخلفاء الراشدين فقد جاء رسول من الفرس إلى عمر بن الخطاب - رضي
الله عنه - فلما سأل عنه دُلَّ عليه فذهب إليه فإذا هو نائم على الأرض تحت نخل
البقيع بين الفقراء وجاءت رسل الملوك إلى معاوية - رحمه الله - فإذا هو في قصر
مشيد محلَّى البنيان بأجمل ما يكون من الصنعة العربية ، مزين بالجنات والرياض
وينابيع الماء ، مفروش بأحسن الفرش يرى الناظر فيه أفخر الأثاث والرياش . ولم
يكن معاوية في ذلك قد خالف الدين أو حاد عن طريقه وإنما تناول مباحًا وتمتع
برخصة آتاه الله إياها ولا يخفى ما في ذلك من ترويج فنون الإبداع في الصنعة على
اختلاف ضروبها .
* * *
( اشتغالهم بالعلوم الكونية في أوائل القرن الثاني )
انقضت دولة بني أمية والناس في ظلمات من الفتن كما قلنا ودالت الدولة لبني
العباس واستقرت في نصابها من آل بيت النبي قرب نهاية الثلث الأول من القرن
الثاني للهجرة ( سنة 132 ) ، ثم نقل المنصور عاصمة الملك إلى بغداد فصارت بعد
ذلك عاصمة العلم والمدنية أيضًا . وأخذ المنصور ينشئ المدارس للطب والشريعة
وكان قد جعل من زمنه ما ينفقه في تعلم العلوم الفلكية ، وأكْمَلَ حفيدُه الرشيدُ ما شرع
فيه وأمر بأن يلحق بكل مسجد مدرسة لتعليم العلوم بأنواعها . وجاء المأمون
فوصلت به دولة العلم إلى أوج قوتها ، ونالت به أكبر ثروتها ، ويقال : إنه حمل
إلى بغداد من الكتب المكتوبة بالقلم ما يثقل مائة بعير ، وكان من شروط صلحه مع
ميشيل الثالث أن يعطيَهُ مكتبةً من مكاتب الأستانة . فوجد مما فيها من النفائس كتاب
بطليموس في الرياضة السماوية فأمر المأمون في الحال بترجمته وسمَوه بالمجسطي
ولا يسهل على كاتب إحصاء ما ترجم من كتب العلوم على اختلافها في دولة بني
العباس أبناء عم الرسول صلى الله عليه وسلم .
* * *
( إنشاؤهم دور الكتب العامة والخاصة )
وقد أخذت دول الإسلام تعتني بديار الكتب عناية لم يسبقْها مثلها من دول
سواها حتى كان في القاهرة في أوائل القرن الرابع مكتبة تحتوي على مائة ألف
مجلد منها ستة آلاف في الطب والفلك لا غير . وكان من نظامها أن تعار بعض
الكتب للطلبة المقيمين في القاهرة . وكان فيها كُرَتَان سماويتان إحداهما من الفضة
يقال : إن صانعها بطليموس نفسه وإنه أنفق فيها ثلاثة آلاف دينار . والثانية من
البرنز ، ومكتبة الخلفاء في أسبانيا بلغ ما فيها ست مائة ألف مجلد . وكان فهرستها
أربعة وأربعين مجلدًا . وقد حققوا أنه كان في أسبانيا وحدها سبعون مكتبة عمومية .
وكان في هذه المكاتب مواضع خاصة للمطالعة والنسخ والترجمة .
وبعض الخاصة كانوا يولعون بالكتب ويجعلون ديارهم معاهد دراسة لما
تحتوي عليه . يقال إن سلطان بخارى دعا طبيبًا أندلسيًّا ليزوره فأجابه أن ذلك لا
يمكنه ؛ لأن كتبه تحتاج إلى أربعمائة جَمَل لتحملها وهو لا يستغني عنها كلها .
وكان حنين بن إسحق النسطوري في بغداد ممن جعل في داره مكتبة عامة يَفِدُ إليها
طلاب العلوم العقلية والرياضية وكان يتبرع بمذاكرتهم فيما يريدون المذاكرة فيه .
* * *
( إنشاؤهم المدارس للعلوم وكيفية التدريس )
غُطي بسيط المملكة الإسلامية على سعتها بالمدارس . نقول ( على سعتها )
لأنها زادت في السعة على المملكة الرومانية بكثير . فكنت تجد المدارس في كل
الأقطار : في المغول ، في التتار من جهة المشرق ، في مراكش ، في فاس ، في
أسبانيا من جهة المغرب .
كانت طريقة الأساتذة في التدريس أن كل مدرس يُعِدُّ درسه ويكتب في
الموضوع الذي يلقي الدرس فيه ما يريد أن يكتب ثم يلقيه على التلامذة وهم يكتبون
عنه ، ثم تكون هذه الدروس كتبًا وأماليّ تنشر بين الناس في كل علم . وهنا نبادر
إلى القول بأن المؤرخين قد أجمعوا على أن جميع المقالات والكتب كانت تنشر
ويتداولها الناس بدون أدنى مراقبة ولا حجر ولا نقص شيء مما كتب صاحب
الكتاب غير أن مؤرخًا واحدًا رأيته ذكر أنه قد وُضِعَ قانونٌ في بعض الممالك
الإسلامية لنشر كتب العقائد مقتضاه أن لا ينشر منها شيء إلا بإذنٍ ، على أني لا
أعلم شيئًا من ذلك وقع في الممالك الإسلامية أيام كان الإسلام إسلامًا .
نرجع إلى الكلام في المدارس الإسلامية ، يقول جبون في كلامه على حماية
المسلمين للعلم في الشرق وفي الغرب : ( إن ولاة الأقاليم والوزراء كانوا ينافسون
الخلفاء ، في إعلاء مقام العلم والعلماء ، وبسط اليد في الإنفاق على إقامة بيوت
العلم ومساعدة الفقراء على طلبه ، وكان عن ذلك أن ذوق العلم ووجدان اللذة في
تحصيله قد انتشرا في نفوس الناس من سمرقند وبخارى إلى فاس و قرطبة . أنفق
وزير واحد لأحد السلاطين ( هو نظام الملك ) مائتي ألف دينار على بناء مدرسة في
بغداد ، وجعل لها من الريع يصرف في شئونها خمسة عشر ألف دينار في السنة .
وكان الذين يُغْذوْن بالمعارف فيها ستة آلاف تلميذ فيهم ابن أعظم العظماء في
المملكة وابن أفقر الصناع فيها ، غير أن الفقير ينفق عليه من الريع المخصص
للمدرسة وابن الغني يكتفي بمال أبيه . والمعلمون كانوا يُنقدون رواتب
وافرة ) . ا هـ
انقسمت الممالك الإسلامية في زمن من الأزمان إلى ثلاثة أقسام وتنازع
الخلافة ثلاث شيع . كان العباسيون في آسيا ( الشرق ) والأمويون في الأندلس من
أوروبا ( الغرب ) والفاطميون في مصر من أفريقيا ( الوسط ) ولم يكن تنافس هذه
الدول الثلاث قاصرًا على الملك والسلطان ولكن كان التنافس في العلم والأدب .
وكان مرصد سمرقند قائمًا في ناحية المشرق يشير إلى ما كان عليه المشرقيون من
العناية برياضة الأفلاك ، ومرصد جيرالد في الأندلس يجيبه بأن أهل المغرب ليسوا
بأحط منهم في الإدراك .
جميع المدارس في البلاد الإسلامية أخذت نظام الامتحان في المدارس الطبية
عن مدرسة الطب في القاهرة وكان من أشد النظامات وأدقها . ولم يكن لطبيب أن
يمارس صناعته إلا على شريطة أن تكون بعد شهادة بأنه فاز في الامتحان على
شدته . وأول مدرسة طبية أنشئت في قارة أوربا على هذا النظام المحكم هي التي
أنشأها العرب في ساليرن من بلاد إيطاليا ، وأول مرصد فلكي أقيم في أوروبا هو
الذي أقامه العرب في أشبيلية من بلاد أسبانيا .
وُلع المسلمون بالعلوم الكونية على اختلافها ، والفنون الأدبية بجميع أنواعها ،
حتى القصص والأساطير الخيالية ، في الأحوال الاجتماعية ، وابتدأوا بأخذ العلم
عن اليونانية والسريانية ، وأخذوا ينقلون كتب الأولين من تلك الألسن إلى اللغة
العربية بالترجمة الصحيحة ، وكان مترجموهم في أول الأمر مسيحيين وصابئين
وغيرهم ، ثم تعلم كثير من علماء المسلمين اللسان اليوناني واللاتيني وكتبوا معاجم
في اللسانين . وذلك كله ليأخذوا العلوم من أصولها ، وينقلوها إلى لسانهم على
حسب ما يصل إليه علمهم فيها ، وكان المعلمون لأبناء العظماء في أول الأمر من
المسيحيين واليهود ثم أنشئت المدارس الجامعة وكان المدرسون فيها من كل ملة
ودين . كلٌّ يعلّم العلم الذي عرف هو بالبراعة فيه .
* * *
( علوم العرب واكتشافاتهم )
كان علم العرب في أول الأمر يونانيًّا لكنه لم يلبث كذلك إلا دون قرن واحد ثم
صار عربيًّا . ولم يرض العربيّ أن يكون تلميذًا لأرسطو و أفلاطون أو إقليدس أو
بطليموس زمنًا طويلاً كما بقي الأوربي كذلك عشرة قرون كاملة من التاريخ
المسيحي .
قالوا : إن باكون هو أول من جعل التجربة والمشاهدة قاعدة للعلوم العصرية
وأقامها مقام الرواية عن الأساتذة والتمسك بآراء المصنفين وأطلق العلم من رق
التقليد . ذلك حق في أوربا . أما عند العرب فقد وضعت هذه القاعدة عندهم لبناء
العلم عليها في أواخر القرن الثاني من الهجرة . أول شيء تميز به فلاسفة العرب
عمن سواهم من فلاسفة الأمم هو بناء معارفهم على المشاهدات والتجربيات وأن لا
يكتفوا بمجرد المقدمات العقلية في العلوم ما لم تؤيدها التجربة حتى لقد نقل
جوستاف لوبون عن أحد فلاسفة الأوربيين : أن القاعدة عند العرب هي ( جرّب
وشاهد ولاحظ تكن عارفًا ) وعند الأوربي إلى ما بعد القرن العاشر من التاريخ
المسيحي ( اقرأ في الكتب وكرر ما يقول الأساتذة تكن عالمًا ) . ( فلينظر
المصريون وغيرهم من الشرقيين كيف انقلب الحال ، وماذا أعقب من سوء المآل )
قال ديلاَمبْر في تاريخ علم الهيأة : ( إذا عددت في اليونان اثنين أو ثلاثة من
الراصدين أمكنك أن تعد من العرب عددًا كبيرًا غير محصور ) . أما في الكيمياء
فلا يمكنك أن تعد مُجَرِّبًا واحدًا عند اليونانيين ولكنك تعد من المجرّبين مئين عند
العرب ، ولهذا عدت الكيمياء الحقيقية من اكتشاف العرب دون سواهم . وقد كانوا
يعدون الهندسة والفنون الرياضية من الآلات المنطقية ، يستعملونها في الاستدلال
على القضايا النظرية ، وهي من أصدق الأدلة في الإيصال إلى المجهولات كما هو
معروف .
العرب هم أول من استعمل الساعات الدَّقَّاقة للدلالة على أقسام الزمن وهم
أوّل من أتقن استعمال الساعات الزوالية لهذا الغرض . وقد اكتشفوا قوانين لثقل
الجسام جامدها ومائعها حتى وضعوا لها جداول في غاية الدقة والصحة كما وضعوا
جداول للأرصاد الفلكية وكانت تلك الجداول معروفة يطلع عليها الناظرون في
سمرقند وبغداد وقرطبة حتى لقد وصلوا بتلك القوانين إلى ما يقرب من اكتشاف
الجاذبية .
لا يمكنني في مقالي هذا أن أعدّ ما اكتشف العرب ولا ما زادوه في العلوم
على اختلاف أنواعها فذلك يحتاج إلى سِفْر كبير . وقد أحصى ذلك أهل المعرفة
والإنصاف من فلاسفة الأوربيين ومؤرخيهم . وربما يتيسر لأبناء الأمة العربية أن
ينشروا ذلك لإخوانهم حتى يعرفوا ما كان عليه أسلافهم[1] ولكني أذكر كلمة قالها
بعض حكماء الغربيين[2] : ( تأخذنا الدهشة أحيانًا عندما ننظر في كتب العرب فنجد
آراء كنا نعتقد أنها لم تولد إلا في زماننا كالرأي الجديد في ترقي الكائنات العضوية
وتدرجها في كمال أنواعها فإن هذا الرأي كان مما يعلّمه العرب في مدارسهم وكانوا
يذهبون به إلى أبعد مما ذهبنا ، فكان عندهم عامًّا يشمل الكائنات غير العضوية
والمعادن .
والأصل الذي بنيت عليه الكيمياء عندهم هو ترقي المعادن في أشكالها .
قال الخازني : إذا سمع الشعب الجاهل ما يقال بين العلماء أن الذهب قد تقلب في
الأشكال المختلفة حتى صار ذهبًا ظن من هذا أنه مرَّ في صور معادن أخرى فكان
رصاصًا ثم قصديرًا ثم صُفرًا ثم فضة ثم صار بعد ذلك ذهبًا . ولا يعلم أن الفلاسفة
إذا قالوا ذلك فإنما يقصدون منه ما أرادوه من قولهم في الإنسان أنه وصل إلى حالته
الحاضرة بالتدريج ومن طريق الترقي وهم لم يعنوا بقولهم هذا أنه تقلب في صور
الأنواع المختلفة كأنْ كان ثورًا ثم حمارًا ثم فرسًا ثم قردًا ثم صار بعد ذلك
إنسانًا ) . ا هـ ، ويقول الفيلسوف كوستاف لوبون : ( إن العرب أول من علّم العالم
كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين ) .
وهنا أنكر على بعض فلاسفتهم ما نقلوه عن ابن رشد من أنه ذهب في حرية
الرأي إلى نقض أصل الدين وقال : إن الروح لا بقاء لها بعد فناء الجسد وإنما الذي
يبقى هي أرواح الأنواع . فإن هذا خطأ عرض لهم من سوء فهم كلامه في بيان
بقاء الأنواع دون الأشخاص فإنه قال كما قال أرسطو وغيره : إن الأشخاص توجد
وتفنى ، وأما الأنواع فهي باقية لا تزول . وهذا باب آخر يغير بالمرة ما استنتجوا
منه ( وقد سبق الكلام في بيان رأيه من وجه آخر ) [3] كما أخطأوا في قولهم عنه
أنه كان يعتقد بأن الله روح العالم يظهر في صورة والكل يرجع إليه بمعنى : أنه يفنى
في ذاته ولا يبقى في العالم باقٍ آخر وهو يقرب من قولهم السابق . فإن ابن رشد
كان مسلمًا وكان يعرف أن الإسلام لا ينافي العلم وإنما ينافي هذا الضرب من الوهم
الذي لم يسقط فيه أحد إلا من عثرة في طريق العلم أو الاسترسال مع الخيال .
وكثير ممن سكروا بهذا الرأي أفاقوا منه . ولكن كتب ابن رشد التي بين أيدينا تبعد
بنا عن نسبة هذا الرأي إليه كما سبق بيانه[4] ولكني لا أنكر نسبته لو نسب إلى ابن
سبعين وهو ممن أخذ عن تلامذة ابن رشد فإن في كلامه ما يدل على ذلك .
ويقول فيلسوف آخر : ( إن العلوم التي تلقاها العرب عن اليونانيين وغيرهم
وكانت ميتة بين دفات الدفاتر مقبورة بين جدران المكاتب أو مخزونة في بعض
الرءوس ، كأنها أحجار ثمينة في بعض الخزائن لا حظَّ للإنسانية منها سوى النظر
إليها - صار عند العرب حياة الآداب ، وغذاء الأرواح ، وروح الثروة ، وقوام
الصنعة ، ومهمازًا للقوى البشرية يسوقها إلى كمالها الذي أعِدَّتْ له . وليس في
الأوربيين من درس التاريخ وحكم العقل ثم ينكر أن الفضل - في إخراج أوربا من
ظلمة الجهل إلى ضياء العلم وفي تعليمها . كيف تنظر وكيف تتفكر وفي معرفتها أن
التجربة والمشاهدة هما الأصلان اللذان يبنى عليهما العلم - إنما هو للمسلمين
وآدابهم ومعارفهم التي حملوها إليهم وأدخلوها من أسبانيا وجنوب إيطاليا وفرنسا
عليهم . وكان من حظ العلم العربي والأدب المحمدي عندما دخلا إلى إيطاليا أن
البابا كان غائبًا لأن كرسيه كان انتقل إلى فرنسا في أفنيون نحو سبعين سنة فدبّ
العلم إلى شمال إيطاليا واستقر به القرار هناك . إن شوارع باريس لم تفرش
بالحجارة إلا في القرن الثاني عشر وقد رصّت بالبلاط على نحو ما رصّت به مدن
أسبانيا ) . اهـ
ويقول آخر : ( لا أدري كيف أعطانا الإسلام في مدة قرنين عددًا من الفلكيين
يطول سرد أفراده وإن الكنيسة تسلّطت على العالم المسيحي اثني عشر قرنًا في
أوربا ولم تمنحنا فلكيًّا واحدًا ) .
هذا النماء والزكاء العلمي لم يكن خاصًّا بطائفة دون طائفة بل كان الناس في
التمكن من تناوله سواء ، وإنما كان التفاضل بالجِدِّ والعمل ، والفضل في ذلك كله
لحلم الخلفاء وعمّالهم ، وسماحة الدين ويسره وسهولته على أهله وأهل ذمته . قال
بعض فلاسفة الغربيين قولاً يعرفه الحق وتثبته المشاهدة : ( إن شعوب الأرض لم
تَرَ قط فاتحًا بلغ من الحلم هذا المبلغ ( يريد فاتحي الإسلام على اختلافهم ) ولا دينًا
بلغ في لينه ولطفه هذا الحد ) .
* * *
( أخذ الخلفاء والأمراء بيد العلم والعلماء )
إن الخلفاء الذين يقال عنهم : إنهم رؤساء دين وحكام سياسة معًا كانوا هم
بأنفسهم المتعلمين للعلوم الداعين إلى تعلمها . كانوا العالمين العاملين . كان خليفة
كالمأمون يضطهد أحيانًا أعداء الفلسفة ، وقد عرف التاريخ كثيرين من أرباب
الشهرة الذين قضوا في سجنه الشهور أو السنين ؛ لأنهم كانوا يعادون الفلسفة ظنًّا
منهم أن منها ما يعدو على الدين فيفسده . هل رأيت في غير الإسلام رئيسًا
يضطهد أعداء العلم وجفاة الفلسفة ؟ لعلك لا تجده أبدًا .
كان أهل العلم والأدب عامة يجدون من الاحترام عند الخلفاء والأمراء
والخاصة ما يليق بهم كيفما كان حالهم . وسأضرب المثل بالشيخ أبي العلاء المعري
لشهرته بين الناس بما يشبه الزندقة : يذكر عليُ بن يوسف القفطي أن صالح بن
مرداس صاحب حلب خرج إلى المعرة وقد عصى أهلها عليه فنازلها وشرع في
حصارها ورماها بالمنجنيق فلما أحسّ أهلها بالغَلب سعوا إلى أبي العلاء بن سليمان
وسألوه أن يخرج ويشفع فيهم فخرج ومعه قائد يقوده فأكرمه صالح واحترمه ثم قال :
ألك حاجة ؟ قال : الأمير أطال الله بقاءه كالسيف القاطع لان مسّه وخشن حده ،
وكالنهار البالغ قاظ وسطه وطاب برده { خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الجَاهِلِينَ } ( الأعراف : 199 ) ، فقال له صالح : قد وهبتها لك . ثم قال له :
أنشدنا شيئًا من شعرك لنرويه فأنشده على البديهة أبياتًا فيه فترحل صالح . فانظر
كيف وهب الأمير بلدًا عصى أهله لفيلسوف معروف بما هو عنه معروف ، ولو
ذكرت ما نال العلماء والفلاسفة عند الأمراء والخلفاء لطال بي المقال أكثر مما طال
وفيما سبق كفاية لمكتف .
* * *
( إزالة شبهتين وبيان حقيقة الاضطهاد )
قد يتوهم قوم أن الاضطهاد قد يظهر في مقت العامة وخلقهم ما يخلقون من
المفتريات على أهل العلم والفكر الحر وهمس بعضهم في آذان بعض وتغامزهم
على أهل الفضل ، ولمزهم إياهم بالألقاب بل واحتقارهم في بعض الأحيان وهذا
النوع منه عند المسلمين بلا نكير ، وهو خطأ ظاهر ؛ لأن هذا النوع مما يكره أهل
العلم لا تخلو منه أرض ولا تطهر منه بلاد مهما بلغ أهلها من الحرية ومهما بلغ
ذوق العلم من نفوس أهلها فإن القائمين على عقيدة الكاثوليك إلى اليوم في أرض
فرنسا نفسها يمقتون الفلاسفة الذين يظهرون بمعاداة الكنيسة ويكتبون ما يوهن
قواعدها وقد يخلق عليهم أحزاب الكاثوليك ما لم يقولوه ، ويرون أن النظر في كتبهم
لا يجوز في شريعة الدين . ونحن لا نرتاب في أن نحو هذا كان عند المسلمين أيام
كانت سوق الفلسفة رائجة عندهم ولكنه ليس من الاضطهاد في شيء وإنما هي نفرة
الإنسان مما لا يعرف مع ترك صاحبه وشأنه يمضي في سبيله إلى حيث يشاء .
يقول آخرون : إن التاريخ يروي لنا أن بعض أرباب الأفكار قد أخذه السيف
لغلوّه في فكره فلم يترك له من الحرية ما يتمتع به إلى منتهى ما يبلغ به وليس
يصح أن ينكر ما صنع الخليفة المنصور وغيره بالزنادقة .
وأقول : إن كثيرًا من الغلوّ إذا انتشر بين العامة أفسد نظامها وأضرّ بأمنها
كما كان من آراء الحلاج وأمثاله[5] فتضطر السياسة للدخول في الأمر لحفظ أمن
العامة فتأخذ صاحب الفكر لا لأنه تفكر ولكن لأنه لم يرد أن يقصر حق الحرية على
شخصه بل أراد أن يقيد غيره بما رآه من الحرية لنفسه مع أن غيره في غِنى عمّا يراه
هو حقًّا له ، وتخشى الفتنة إذا استمر مدعي الحرية في غلوائه لهذا يرى حُفاظ النظام
أن أمثال هؤلاء يجب أن يُنقَّى منهم المجتمع صونًا له عما يزعزع أركانه . ونحن
نرى الفلسفة اليوم تضطهد الدين هذا الضرب من الاضطهاد . ألم تقض الحكومة
الفرنسية على الراهبين والراهبات أن تكون جمعياتهم ومدارسهم تحت سيطرة
الحكومة وأن لا ينشأ شيء منها إلا بإذن من الحكومة ، ومن لم يخضع لذلك تنحل
جمعيته وتقفل مدارسه بقوة السلاح . وقد ينفى من البلاد كما نفي كثيرون في سنين سابقة ؟ ولكن هل يسمَّى هذا اضطهادًا ؟ كلا ولكن الاضطهاد حق الاضطهاد هو اضطهاد محكمة التفتيش واضطهاد رؤساء الإصلاح بعدها في أول نشأتهم .
ماذا يقول القائلون ؟ إن التعليم عند المسلمين كان غريبًا أمرُه ، يكاد يكون خفيًّا والمتكلم والمحدث والنحويّ والمتأدب والفيلسوف والفلكي والمهندس ! ينتقل الطالب من بين يدي الفقيه ليجلس بين يدي الفيلسوف ومن مجلس الحديث إلى مجلس الأدب . وإذا وقعت مذاكرة بينهم في مسألة من المسائل أخذت الحرية مأخذها في الإقناع والإلزام وسقطت قيمة الغلوّ في التعبير وأخذ التسامح بينهم مأخذه . كان عمرو بين عبيد رئيس المعتزلة وأشدهم صلابة في أصول مذهبه ومع ذلك هو من مشايخ الإمام البخاري صاحب الصحيح وكانت له منزلة عند المنصور تعلو كل ذي منزلة عنده حتى قال له يومًا وهو خارج من بين يديه : ( رَميتُ لكل الناس حَبًّا فلقطوا إلا أنت يا عمرو بن عبيد ) فانظر كيف كان لإمام من أئمة السنة أن يصل سنده في الحديث برئيس من رؤساء المعتزلة ولا يرى في ذلك بأسًا .
إذا عدَّ عادٌّ بعض رجال العلم الذين أخذتهم القسوة في الإسلام وقتلتهم حماقة
الملوك بإغراء الفقهاء وأهل الغلوّ في الدين فما عليه إلا أن ينظر في أحوالهم فيقف
لأول وهلة على أن الذي أثار أولئك عليهم ليس مجرد العصبية للدين ، وأن ليست
الغيرة عليه هي الباعث لهم على الوشاية بهم وطلب تنكيلهم . وإنما تجد الحسد هو
العامل الأول ذلك كله والدين آلة له . ولهذا لا ترى مثل ذلك الأذى يقع إلا على
قاضي قضاة ( كابن رشد ورجوع الحاكم إلى العفو عنه وإنزاله منزلته دليل على
ذلك ) أو وزير أو جليس خليفة أو سلطان أو ذي نفوذ عظيم بين العامة . وهذا كما
يقع من الفقهاء مثلاً لإيذاء الفلاسفة يقع من الفقهاء بعضهم مع بعض لإهلاك بعضهم
بعضًا كما يشهد به العيان ويحكي لنا التاريخ ، فليس هذا كذلك معدودًا من معنى
اضطهاد الدين للفلسفة ؛ لأن التحاسد أكثر ما يقع بين من لا دين لهم على الحقيقة
وإن لبسوا لباسه . وإنما ذلك الاضطهاد هو الذي يحمل عليه محض الاختلاف في
العقيدة أو ظن المخالفة للدين في شيء من العلم أو العمل لضيق الدين عن أن يسع
المخالف بجانبه وهذا لم يقع في الإسلام ، اللهم إلا أن يكون حادث لم يصل إلينا .
هذه طبيعة الدين الإسلامي عرضت عليك في أهمّ عناصرها ومقوّمات مزاجها.
وهذا كان أثرها في العالم الشرقيّ والغربي . وهذه سعة فضل الدين وقوته على
احتمال مخالفيه وتيسيره لأولئك المخالفين أن يحتموا به متى رضوا بأن يستظلُّوا
بظله ، هل في هذا خفاء على ناظر ، وهل يرضى لبيب لنفسه أن ينكر الضوء
الباهر ، أفلا يبسم الإسلام عجبًا وهو في أشدّ الكرب لعقوق أبنائه ، من أديب لم
يكن يعده من أعدائه إن لم يحسبه في أحبائه ، عندما يراه يسدّد سهمه إليه ، ويجور
كما يجور الجائرون في حكمه عليه ؟
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) قد نشرنا جملة صالحة من ذلك في مقالات (مدنية العرب) في المجلد الثالث .
(2) هو الفيلسوف درابر الأمريكاني .
(3 و 4) قد سبق ذلك في المقالة الأولى التي رد بها الكاتب على الجامعة .
(5) المنار: ذكر إمام الحرمين في كتابه (الشامل) في أصول الدين أنه كان بين الحلاج و الجنابي رئيس القرامطة اتفاق سري على قلب الدولة وأن ذلك هو السبب في قتل الحلاج .
__________
الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية
وهو المقال الثالث لذلك الإمام الحكيم والأستاذ العليم
نتائج هذه الأصول وآثارها في المسلمين
إلام أفضت طبيعة الإسلام بالمسلمين ؟ وماذا كان أثرها في أسلافهم الأولين ؟
فتح عمرو بن العاص رضي الله عنه مصر واستولى بجيشه على الإسكندرية بعد
لحاق النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - بالرفيق الأعلى بست سنوات ، في
رواية وتسع سنوات ، في رواية أخرى والإسلام في طلوع فجره ، وتَفَتُّح نوره ، فكان
من بقايا ما تركت الأزمان الأولى : رجلُ مسيحيُ من اليعقوبيين اسمه يوحنا النحوي
كان في بدء أمره ملاحًا يعبرُ الناسُ بسفينته ، وكان يميل إلى العلم بطبيعته فإذا ركب
معه بعض أهل العلم أصغى إلى مذاكرتهم .
اشتد به الشوق فترك الملاحة واشتغل بالعلم وهو ابن أربعين سنة فبلغ فيه ما
لم يبلغه الناشئون فيه من طفوليتهم وقد أحسن من العلم فنونًا كثيرةً حتى عُدَّ من فلاسفة
وقته وأطبائه ومناطقته .
يقول كثير من مؤرخي الغربييين ومؤرخي المسلمين : إن عمرو بن العاص
سمع به فاستدناه منه وأكرمه لعلمه ووقعت بينهما محبة ظهر أمرها واشتهر حتى قال
أحد فلاسفة الغربيين : ( إن المحبة التي نشأت بين عمرو بن العاص فاتح مصر
ويوحنا النحوي ترينا مبلغ ما يسمو إليه العقل العربي من الأفكار الحرّة والرأي
العالي . بمجرد ما أعتق من الوثنية الجاهلية ودخل في التوحيد المحمدي أصبح على
غاية من الاستعداد للجوَلان في ميادين العلوم الفلسفية والأدبية من كل نوع ) .
خالط المسلمون أهل فارس و سوريا وسواد العراق وأدخلوهم في أعمالهم ولم
يمنعهم الدين عن استعمالهم حتى كانت دفاترهم بالرومية في سوريا ولم تغيّر
بالعربية إلا بعد عشرات من السنين فاحتكت الأفكار بالأفكار ، وأفضت سماحة الدين
إلى أن أخذ المسلمون في دراسة العلوم والفنون والصنائع .
* * *
( اشتغال المسلمين بالعلوم الأدبية ثم العقلية )
وبعد عشرين سنة من وفاته عليه الصلاة والسلام أخذ الخليفة علي بن أبي
طالب - كرم الله وجهه - يحضُّ على تعليم الآداب العربية ويطلب وضع القواعد لها
لما رأى من حاجة الناس إلى ذلك ، وأخذ المسلمون يتحسّسُون نور العلم في ظلام تلك
الفتن استرسالاً مع ما يدعوهم إليه دينهم وتنبّههم لطلبه شريعتهم . وإن كانت
الحروب الداخلية التي اشتعلت نارها في أطراف بلادهم للنزاع في أمر الخلافة قد
شغلتهم عن كل شيء من مصالحهم فإنها لم تشغلهم عن تلمس العلوم والتناول منها
بالتدريج على سنة الفطرة . فالبراعة في الآداب من علم بوقائع العرب وتاريخهم
وقول الشعر وإنشاء البليغ من النثر قد بلغت في خلافة بني أمية مبلغًا لم تبلغه أمة قط
في مثل مدتها ، وكان الخلفاء الأمويون يعلون منزلتها ويرفعون مكانات الشعراء
والخطباء والعلماء بالسير ، ثم ظهرت آثار العلوم العقلية في آخر دولتهم وترجمت
جملة من الكتب العقلية والصناعية قبل نهاية القرن الأول .
نقل الخلفاء الأمويون دار الخلافة من المدينة إلى الشام ، ولم يسيروا في الزهد
سيرة الخلفاء الراشدين فقد جاء رسول من الفرس إلى عمر بن الخطاب - رضي
الله عنه - فلما سأل عنه دُلَّ عليه فذهب إليه فإذا هو نائم على الأرض تحت نخل
البقيع بين الفقراء وجاءت رسل الملوك إلى معاوية - رحمه الله - فإذا هو في قصر
مشيد محلَّى البنيان بأجمل ما يكون من الصنعة العربية ، مزين بالجنات والرياض
وينابيع الماء ، مفروش بأحسن الفرش يرى الناظر فيه أفخر الأثاث والرياش . ولم
يكن معاوية في ذلك قد خالف الدين أو حاد عن طريقه وإنما تناول مباحًا وتمتع
برخصة آتاه الله إياها ولا يخفى ما في ذلك من ترويج فنون الإبداع في الصنعة على
اختلاف ضروبها .
* * *
( اشتغالهم بالعلوم الكونية في أوائل القرن الثاني )
انقضت دولة بني أمية والناس في ظلمات من الفتن كما قلنا ودالت الدولة لبني
العباس واستقرت في نصابها من آل بيت النبي قرب نهاية الثلث الأول من القرن
الثاني للهجرة ( سنة 132 ) ، ثم نقل المنصور عاصمة الملك إلى بغداد فصارت بعد
ذلك عاصمة العلم والمدنية أيضًا . وأخذ المنصور ينشئ المدارس للطب والشريعة
وكان قد جعل من زمنه ما ينفقه في تعلم العلوم الفلكية ، وأكْمَلَ حفيدُه الرشيدُ ما شرع
فيه وأمر بأن يلحق بكل مسجد مدرسة لتعليم العلوم بأنواعها . وجاء المأمون
فوصلت به دولة العلم إلى أوج قوتها ، ونالت به أكبر ثروتها ، ويقال : إنه حمل
إلى بغداد من الكتب المكتوبة بالقلم ما يثقل مائة بعير ، وكان من شروط صلحه مع
ميشيل الثالث أن يعطيَهُ مكتبةً من مكاتب الأستانة . فوجد مما فيها من النفائس كتاب
بطليموس في الرياضة السماوية فأمر المأمون في الحال بترجمته وسمَوه بالمجسطي
ولا يسهل على كاتب إحصاء ما ترجم من كتب العلوم على اختلافها في دولة بني
العباس أبناء عم الرسول صلى الله عليه وسلم .
* * *
( إنشاؤهم دور الكتب العامة والخاصة )
وقد أخذت دول الإسلام تعتني بديار الكتب عناية لم يسبقْها مثلها من دول
سواها حتى كان في القاهرة في أوائل القرن الرابع مكتبة تحتوي على مائة ألف
مجلد منها ستة آلاف في الطب والفلك لا غير . وكان من نظامها أن تعار بعض
الكتب للطلبة المقيمين في القاهرة . وكان فيها كُرَتَان سماويتان إحداهما من الفضة
يقال : إن صانعها بطليموس نفسه وإنه أنفق فيها ثلاثة آلاف دينار . والثانية من
البرنز ، ومكتبة الخلفاء في أسبانيا بلغ ما فيها ست مائة ألف مجلد . وكان فهرستها
أربعة وأربعين مجلدًا . وقد حققوا أنه كان في أسبانيا وحدها سبعون مكتبة عمومية .
وكان في هذه المكاتب مواضع خاصة للمطالعة والنسخ والترجمة .
وبعض الخاصة كانوا يولعون بالكتب ويجعلون ديارهم معاهد دراسة لما
تحتوي عليه . يقال إن سلطان بخارى دعا طبيبًا أندلسيًّا ليزوره فأجابه أن ذلك لا
يمكنه ؛ لأن كتبه تحتاج إلى أربعمائة جَمَل لتحملها وهو لا يستغني عنها كلها .
وكان حنين بن إسحق النسطوري في بغداد ممن جعل في داره مكتبة عامة يَفِدُ إليها
طلاب العلوم العقلية والرياضية وكان يتبرع بمذاكرتهم فيما يريدون المذاكرة فيه .
* * *
( إنشاؤهم المدارس للعلوم وكيفية التدريس )
غُطي بسيط المملكة الإسلامية على سعتها بالمدارس . نقول ( على سعتها )
لأنها زادت في السعة على المملكة الرومانية بكثير . فكنت تجد المدارس في كل
الأقطار : في المغول ، في التتار من جهة المشرق ، في مراكش ، في فاس ، في
أسبانيا من جهة المغرب .
كانت طريقة الأساتذة في التدريس أن كل مدرس يُعِدُّ درسه ويكتب في
الموضوع الذي يلقي الدرس فيه ما يريد أن يكتب ثم يلقيه على التلامذة وهم يكتبون
عنه ، ثم تكون هذه الدروس كتبًا وأماليّ تنشر بين الناس في كل علم . وهنا نبادر
إلى القول بأن المؤرخين قد أجمعوا على أن جميع المقالات والكتب كانت تنشر
ويتداولها الناس بدون أدنى مراقبة ولا حجر ولا نقص شيء مما كتب صاحب
الكتاب غير أن مؤرخًا واحدًا رأيته ذكر أنه قد وُضِعَ قانونٌ في بعض الممالك
الإسلامية لنشر كتب العقائد مقتضاه أن لا ينشر منها شيء إلا بإذنٍ ، على أني لا
أعلم شيئًا من ذلك وقع في الممالك الإسلامية أيام كان الإسلام إسلامًا .
نرجع إلى الكلام في المدارس الإسلامية ، يقول جبون في كلامه على حماية
المسلمين للعلم في الشرق وفي الغرب : ( إن ولاة الأقاليم والوزراء كانوا ينافسون
الخلفاء ، في إعلاء مقام العلم والعلماء ، وبسط اليد في الإنفاق على إقامة بيوت
العلم ومساعدة الفقراء على طلبه ، وكان عن ذلك أن ذوق العلم ووجدان اللذة في
تحصيله قد انتشرا في نفوس الناس من سمرقند وبخارى إلى فاس و قرطبة . أنفق
وزير واحد لأحد السلاطين ( هو نظام الملك ) مائتي ألف دينار على بناء مدرسة في
بغداد ، وجعل لها من الريع يصرف في شئونها خمسة عشر ألف دينار في السنة .
وكان الذين يُغْذوْن بالمعارف فيها ستة آلاف تلميذ فيهم ابن أعظم العظماء في
المملكة وابن أفقر الصناع فيها ، غير أن الفقير ينفق عليه من الريع المخصص
للمدرسة وابن الغني يكتفي بمال أبيه . والمعلمون كانوا يُنقدون رواتب
وافرة ) . ا هـ
انقسمت الممالك الإسلامية في زمن من الأزمان إلى ثلاثة أقسام وتنازع
الخلافة ثلاث شيع . كان العباسيون في آسيا ( الشرق ) والأمويون في الأندلس من
أوروبا ( الغرب ) والفاطميون في مصر من أفريقيا ( الوسط ) ولم يكن تنافس هذه
الدول الثلاث قاصرًا على الملك والسلطان ولكن كان التنافس في العلم والأدب .
وكان مرصد سمرقند قائمًا في ناحية المشرق يشير إلى ما كان عليه المشرقيون من
العناية برياضة الأفلاك ، ومرصد جيرالد في الأندلس يجيبه بأن أهل المغرب ليسوا
بأحط منهم في الإدراك .
جميع المدارس في البلاد الإسلامية أخذت نظام الامتحان في المدارس الطبية
عن مدرسة الطب في القاهرة وكان من أشد النظامات وأدقها . ولم يكن لطبيب أن
يمارس صناعته إلا على شريطة أن تكون بعد شهادة بأنه فاز في الامتحان على
شدته . وأول مدرسة طبية أنشئت في قارة أوربا على هذا النظام المحكم هي التي
أنشأها العرب في ساليرن من بلاد إيطاليا ، وأول مرصد فلكي أقيم في أوروبا هو
الذي أقامه العرب في أشبيلية من بلاد أسبانيا .
وُلع المسلمون بالعلوم الكونية على اختلافها ، والفنون الأدبية بجميع أنواعها ،
حتى القصص والأساطير الخيالية ، في الأحوال الاجتماعية ، وابتدأوا بأخذ العلم
عن اليونانية والسريانية ، وأخذوا ينقلون كتب الأولين من تلك الألسن إلى اللغة
العربية بالترجمة الصحيحة ، وكان مترجموهم في أول الأمر مسيحيين وصابئين
وغيرهم ، ثم تعلم كثير من علماء المسلمين اللسان اليوناني واللاتيني وكتبوا معاجم
في اللسانين . وذلك كله ليأخذوا العلوم من أصولها ، وينقلوها إلى لسانهم على
حسب ما يصل إليه علمهم فيها ، وكان المعلمون لأبناء العظماء في أول الأمر من
المسيحيين واليهود ثم أنشئت المدارس الجامعة وكان المدرسون فيها من كل ملة
ودين . كلٌّ يعلّم العلم الذي عرف هو بالبراعة فيه .
* * *
( علوم العرب واكتشافاتهم )
كان علم العرب في أول الأمر يونانيًّا لكنه لم يلبث كذلك إلا دون قرن واحد ثم
صار عربيًّا . ولم يرض العربيّ أن يكون تلميذًا لأرسطو و أفلاطون أو إقليدس أو
بطليموس زمنًا طويلاً كما بقي الأوربي كذلك عشرة قرون كاملة من التاريخ
المسيحي .
قالوا : إن باكون هو أول من جعل التجربة والمشاهدة قاعدة للعلوم العصرية
وأقامها مقام الرواية عن الأساتذة والتمسك بآراء المصنفين وأطلق العلم من رق
التقليد . ذلك حق في أوربا . أما عند العرب فقد وضعت هذه القاعدة عندهم لبناء
العلم عليها في أواخر القرن الثاني من الهجرة . أول شيء تميز به فلاسفة العرب
عمن سواهم من فلاسفة الأمم هو بناء معارفهم على المشاهدات والتجربيات وأن لا
يكتفوا بمجرد المقدمات العقلية في العلوم ما لم تؤيدها التجربة حتى لقد نقل
جوستاف لوبون عن أحد فلاسفة الأوربيين : أن القاعدة عند العرب هي ( جرّب
وشاهد ولاحظ تكن عارفًا ) وعند الأوربي إلى ما بعد القرن العاشر من التاريخ
المسيحي ( اقرأ في الكتب وكرر ما يقول الأساتذة تكن عالمًا ) . ( فلينظر
المصريون وغيرهم من الشرقيين كيف انقلب الحال ، وماذا أعقب من سوء المآل )
قال ديلاَمبْر في تاريخ علم الهيأة : ( إذا عددت في اليونان اثنين أو ثلاثة من
الراصدين أمكنك أن تعد من العرب عددًا كبيرًا غير محصور ) . أما في الكيمياء
فلا يمكنك أن تعد مُجَرِّبًا واحدًا عند اليونانيين ولكنك تعد من المجرّبين مئين عند
العرب ، ولهذا عدت الكيمياء الحقيقية من اكتشاف العرب دون سواهم . وقد كانوا
يعدون الهندسة والفنون الرياضية من الآلات المنطقية ، يستعملونها في الاستدلال
على القضايا النظرية ، وهي من أصدق الأدلة في الإيصال إلى المجهولات كما هو
معروف .
العرب هم أول من استعمل الساعات الدَّقَّاقة للدلالة على أقسام الزمن وهم
أوّل من أتقن استعمال الساعات الزوالية لهذا الغرض . وقد اكتشفوا قوانين لثقل
الجسام جامدها ومائعها حتى وضعوا لها جداول في غاية الدقة والصحة كما وضعوا
جداول للأرصاد الفلكية وكانت تلك الجداول معروفة يطلع عليها الناظرون في
سمرقند وبغداد وقرطبة حتى لقد وصلوا بتلك القوانين إلى ما يقرب من اكتشاف
الجاذبية .
لا يمكنني في مقالي هذا أن أعدّ ما اكتشف العرب ولا ما زادوه في العلوم
على اختلاف أنواعها فذلك يحتاج إلى سِفْر كبير . وقد أحصى ذلك أهل المعرفة
والإنصاف من فلاسفة الأوربيين ومؤرخيهم . وربما يتيسر لأبناء الأمة العربية أن
ينشروا ذلك لإخوانهم حتى يعرفوا ما كان عليه أسلافهم[1] ولكني أذكر كلمة قالها
بعض حكماء الغربيين[2] : ( تأخذنا الدهشة أحيانًا عندما ننظر في كتب العرب فنجد
آراء كنا نعتقد أنها لم تولد إلا في زماننا كالرأي الجديد في ترقي الكائنات العضوية
وتدرجها في كمال أنواعها فإن هذا الرأي كان مما يعلّمه العرب في مدارسهم وكانوا
يذهبون به إلى أبعد مما ذهبنا ، فكان عندهم عامًّا يشمل الكائنات غير العضوية
والمعادن .
والأصل الذي بنيت عليه الكيمياء عندهم هو ترقي المعادن في أشكالها .
قال الخازني : إذا سمع الشعب الجاهل ما يقال بين العلماء أن الذهب قد تقلب في
الأشكال المختلفة حتى صار ذهبًا ظن من هذا أنه مرَّ في صور معادن أخرى فكان
رصاصًا ثم قصديرًا ثم صُفرًا ثم فضة ثم صار بعد ذلك ذهبًا . ولا يعلم أن الفلاسفة
إذا قالوا ذلك فإنما يقصدون منه ما أرادوه من قولهم في الإنسان أنه وصل إلى حالته
الحاضرة بالتدريج ومن طريق الترقي وهم لم يعنوا بقولهم هذا أنه تقلب في صور
الأنواع المختلفة كأنْ كان ثورًا ثم حمارًا ثم فرسًا ثم قردًا ثم صار بعد ذلك
إنسانًا ) . ا هـ ، ويقول الفيلسوف كوستاف لوبون : ( إن العرب أول من علّم العالم
كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين ) .
وهنا أنكر على بعض فلاسفتهم ما نقلوه عن ابن رشد من أنه ذهب في حرية
الرأي إلى نقض أصل الدين وقال : إن الروح لا بقاء لها بعد فناء الجسد وإنما الذي
يبقى هي أرواح الأنواع . فإن هذا خطأ عرض لهم من سوء فهم كلامه في بيان
بقاء الأنواع دون الأشخاص فإنه قال كما قال أرسطو وغيره : إن الأشخاص توجد
وتفنى ، وأما الأنواع فهي باقية لا تزول . وهذا باب آخر يغير بالمرة ما استنتجوا
منه ( وقد سبق الكلام في بيان رأيه من وجه آخر ) [3] كما أخطأوا في قولهم عنه
أنه كان يعتقد بأن الله روح العالم يظهر في صورة والكل يرجع إليه بمعنى : أنه يفنى
في ذاته ولا يبقى في العالم باقٍ آخر وهو يقرب من قولهم السابق . فإن ابن رشد
كان مسلمًا وكان يعرف أن الإسلام لا ينافي العلم وإنما ينافي هذا الضرب من الوهم
الذي لم يسقط فيه أحد إلا من عثرة في طريق العلم أو الاسترسال مع الخيال .
وكثير ممن سكروا بهذا الرأي أفاقوا منه . ولكن كتب ابن رشد التي بين أيدينا تبعد
بنا عن نسبة هذا الرأي إليه كما سبق بيانه[4] ولكني لا أنكر نسبته لو نسب إلى ابن
سبعين وهو ممن أخذ عن تلامذة ابن رشد فإن في كلامه ما يدل على ذلك .
ويقول فيلسوف آخر : ( إن العلوم التي تلقاها العرب عن اليونانيين وغيرهم
وكانت ميتة بين دفات الدفاتر مقبورة بين جدران المكاتب أو مخزونة في بعض
الرءوس ، كأنها أحجار ثمينة في بعض الخزائن لا حظَّ للإنسانية منها سوى النظر
إليها - صار عند العرب حياة الآداب ، وغذاء الأرواح ، وروح الثروة ، وقوام
الصنعة ، ومهمازًا للقوى البشرية يسوقها إلى كمالها الذي أعِدَّتْ له . وليس في
الأوربيين من درس التاريخ وحكم العقل ثم ينكر أن الفضل - في إخراج أوربا من
ظلمة الجهل إلى ضياء العلم وفي تعليمها . كيف تنظر وكيف تتفكر وفي معرفتها أن
التجربة والمشاهدة هما الأصلان اللذان يبنى عليهما العلم - إنما هو للمسلمين
وآدابهم ومعارفهم التي حملوها إليهم وأدخلوها من أسبانيا وجنوب إيطاليا وفرنسا
عليهم . وكان من حظ العلم العربي والأدب المحمدي عندما دخلا إلى إيطاليا أن
البابا كان غائبًا لأن كرسيه كان انتقل إلى فرنسا في أفنيون نحو سبعين سنة فدبّ
العلم إلى شمال إيطاليا واستقر به القرار هناك . إن شوارع باريس لم تفرش
بالحجارة إلا في القرن الثاني عشر وقد رصّت بالبلاط على نحو ما رصّت به مدن
أسبانيا ) . اهـ
ويقول آخر : ( لا أدري كيف أعطانا الإسلام في مدة قرنين عددًا من الفلكيين
يطول سرد أفراده وإن الكنيسة تسلّطت على العالم المسيحي اثني عشر قرنًا في
أوربا ولم تمنحنا فلكيًّا واحدًا ) .
هذا النماء والزكاء العلمي لم يكن خاصًّا بطائفة دون طائفة بل كان الناس في
التمكن من تناوله سواء ، وإنما كان التفاضل بالجِدِّ والعمل ، والفضل في ذلك كله
لحلم الخلفاء وعمّالهم ، وسماحة الدين ويسره وسهولته على أهله وأهل ذمته . قال
بعض فلاسفة الغربيين قولاً يعرفه الحق وتثبته المشاهدة : ( إن شعوب الأرض لم
تَرَ قط فاتحًا بلغ من الحلم هذا المبلغ ( يريد فاتحي الإسلام على اختلافهم ) ولا دينًا
بلغ في لينه ولطفه هذا الحد ) .
* * *
( أخذ الخلفاء والأمراء بيد العلم والعلماء )
إن الخلفاء الذين يقال عنهم : إنهم رؤساء دين وحكام سياسة معًا كانوا هم
بأنفسهم المتعلمين للعلوم الداعين إلى تعلمها . كانوا العالمين العاملين . كان خليفة
كالمأمون يضطهد أحيانًا أعداء الفلسفة ، وقد عرف التاريخ كثيرين من أرباب
الشهرة الذين قضوا في سجنه الشهور أو السنين ؛ لأنهم كانوا يعادون الفلسفة ظنًّا
منهم أن منها ما يعدو على الدين فيفسده . هل رأيت في غير الإسلام رئيسًا
يضطهد أعداء العلم وجفاة الفلسفة ؟ لعلك لا تجده أبدًا .
كان أهل العلم والأدب عامة يجدون من الاحترام عند الخلفاء والأمراء
والخاصة ما يليق بهم كيفما كان حالهم . وسأضرب المثل بالشيخ أبي العلاء المعري
لشهرته بين الناس بما يشبه الزندقة : يذكر عليُ بن يوسف القفطي أن صالح بن
مرداس صاحب حلب خرج إلى المعرة وقد عصى أهلها عليه فنازلها وشرع في
حصارها ورماها بالمنجنيق فلما أحسّ أهلها بالغَلب سعوا إلى أبي العلاء بن سليمان
وسألوه أن يخرج ويشفع فيهم فخرج ومعه قائد يقوده فأكرمه صالح واحترمه ثم قال :
ألك حاجة ؟ قال : الأمير أطال الله بقاءه كالسيف القاطع لان مسّه وخشن حده ،
وكالنهار البالغ قاظ وسطه وطاب برده { خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الجَاهِلِينَ } ( الأعراف : 199 ) ، فقال له صالح : قد وهبتها لك . ثم قال له :
أنشدنا شيئًا من شعرك لنرويه فأنشده على البديهة أبياتًا فيه فترحل صالح . فانظر
كيف وهب الأمير بلدًا عصى أهله لفيلسوف معروف بما هو عنه معروف ، ولو
ذكرت ما نال العلماء والفلاسفة عند الأمراء والخلفاء لطال بي المقال أكثر مما طال
وفيما سبق كفاية لمكتف .
* * *
( إزالة شبهتين وبيان حقيقة الاضطهاد )
قد يتوهم قوم أن الاضطهاد قد يظهر في مقت العامة وخلقهم ما يخلقون من
المفتريات على أهل العلم والفكر الحر وهمس بعضهم في آذان بعض وتغامزهم
على أهل الفضل ، ولمزهم إياهم بالألقاب بل واحتقارهم في بعض الأحيان وهذا
النوع منه عند المسلمين بلا نكير ، وهو خطأ ظاهر ؛ لأن هذا النوع مما يكره أهل
العلم لا تخلو منه أرض ولا تطهر منه بلاد مهما بلغ أهلها من الحرية ومهما بلغ
ذوق العلم من نفوس أهلها فإن القائمين على عقيدة الكاثوليك إلى اليوم في أرض
فرنسا نفسها يمقتون الفلاسفة الذين يظهرون بمعاداة الكنيسة ويكتبون ما يوهن
قواعدها وقد يخلق عليهم أحزاب الكاثوليك ما لم يقولوه ، ويرون أن النظر في كتبهم
لا يجوز في شريعة الدين . ونحن لا نرتاب في أن نحو هذا كان عند المسلمين أيام
كانت سوق الفلسفة رائجة عندهم ولكنه ليس من الاضطهاد في شيء وإنما هي نفرة
الإنسان مما لا يعرف مع ترك صاحبه وشأنه يمضي في سبيله إلى حيث يشاء .
يقول آخرون : إن التاريخ يروي لنا أن بعض أرباب الأفكار قد أخذه السيف
لغلوّه في فكره فلم يترك له من الحرية ما يتمتع به إلى منتهى ما يبلغ به وليس
يصح أن ينكر ما صنع الخليفة المنصور وغيره بالزنادقة .
وأقول : إن كثيرًا من الغلوّ إذا انتشر بين العامة أفسد نظامها وأضرّ بأمنها
كما كان من آراء الحلاج وأمثاله[5] فتضطر السياسة للدخول في الأمر لحفظ أمن
العامة فتأخذ صاحب الفكر لا لأنه تفكر ولكن لأنه لم يرد أن يقصر حق الحرية على
شخصه بل أراد أن يقيد غيره بما رآه من الحرية لنفسه مع أن غيره في غِنى عمّا يراه
هو حقًّا له ، وتخشى الفتنة إذا استمر مدعي الحرية في غلوائه لهذا يرى حُفاظ النظام
أن أمثال هؤلاء يجب أن يُنقَّى منهم المجتمع صونًا له عما يزعزع أركانه . ونحن
نرى الفلسفة اليوم تضطهد الدين هذا الضرب من الاضطهاد . ألم تقض الحكومة
الفرنسية على الراهبين والراهبات أن تكون جمعياتهم ومدارسهم تحت سيطرة
الحكومة وأن لا ينشأ شيء منها إلا بإذن من الحكومة ، ومن لم يخضع لذلك تنحل
جمعيته وتقفل مدارسه بقوة السلاح . وقد ينفى من البلاد كما نفي كثيرون في سنين سابقة ؟ ولكن هل يسمَّى هذا اضطهادًا ؟ كلا ولكن الاضطهاد حق الاضطهاد هو اضطهاد محكمة التفتيش واضطهاد رؤساء الإصلاح بعدها في أول نشأتهم .
ماذا يقول القائلون ؟ إن التعليم عند المسلمين كان غريبًا أمرُه ، يكاد يكون خفيًّا والمتكلم والمحدث والنحويّ والمتأدب والفيلسوف والفلكي والمهندس ! ينتقل الطالب من بين يدي الفقيه ليجلس بين يدي الفيلسوف ومن مجلس الحديث إلى مجلس الأدب . وإذا وقعت مذاكرة بينهم في مسألة من المسائل أخذت الحرية مأخذها في الإقناع والإلزام وسقطت قيمة الغلوّ في التعبير وأخذ التسامح بينهم مأخذه . كان عمرو بين عبيد رئيس المعتزلة وأشدهم صلابة في أصول مذهبه ومع ذلك هو من مشايخ الإمام البخاري صاحب الصحيح وكانت له منزلة عند المنصور تعلو كل ذي منزلة عنده حتى قال له يومًا وهو خارج من بين يديه : ( رَميتُ لكل الناس حَبًّا فلقطوا إلا أنت يا عمرو بن عبيد ) فانظر كيف كان لإمام من أئمة السنة أن يصل سنده في الحديث برئيس من رؤساء المعتزلة ولا يرى في ذلك بأسًا .
إذا عدَّ عادٌّ بعض رجال العلم الذين أخذتهم القسوة في الإسلام وقتلتهم حماقة
الملوك بإغراء الفقهاء وأهل الغلوّ في الدين فما عليه إلا أن ينظر في أحوالهم فيقف
لأول وهلة على أن الذي أثار أولئك عليهم ليس مجرد العصبية للدين ، وأن ليست
الغيرة عليه هي الباعث لهم على الوشاية بهم وطلب تنكيلهم . وإنما تجد الحسد هو
العامل الأول ذلك كله والدين آلة له . ولهذا لا ترى مثل ذلك الأذى يقع إلا على
قاضي قضاة ( كابن رشد ورجوع الحاكم إلى العفو عنه وإنزاله منزلته دليل على
ذلك ) أو وزير أو جليس خليفة أو سلطان أو ذي نفوذ عظيم بين العامة . وهذا كما
يقع من الفقهاء مثلاً لإيذاء الفلاسفة يقع من الفقهاء بعضهم مع بعض لإهلاك بعضهم
بعضًا كما يشهد به العيان ويحكي لنا التاريخ ، فليس هذا كذلك معدودًا من معنى
اضطهاد الدين للفلسفة ؛ لأن التحاسد أكثر ما يقع بين من لا دين لهم على الحقيقة
وإن لبسوا لباسه . وإنما ذلك الاضطهاد هو الذي يحمل عليه محض الاختلاف في
العقيدة أو ظن المخالفة للدين في شيء من العلم أو العمل لضيق الدين عن أن يسع
المخالف بجانبه وهذا لم يقع في الإسلام ، اللهم إلا أن يكون حادث لم يصل إلينا .
هذه طبيعة الدين الإسلامي عرضت عليك في أهمّ عناصرها ومقوّمات مزاجها.
وهذا كان أثرها في العالم الشرقيّ والغربي . وهذه سعة فضل الدين وقوته على
احتمال مخالفيه وتيسيره لأولئك المخالفين أن يحتموا به متى رضوا بأن يستظلُّوا
بظله ، هل في هذا خفاء على ناظر ، وهل يرضى لبيب لنفسه أن ينكر الضوء
الباهر ، أفلا يبسم الإسلام عجبًا وهو في أشدّ الكرب لعقوق أبنائه ، من أديب لم
يكن يعده من أعدائه إن لم يحسبه في أحبائه ، عندما يراه يسدّد سهمه إليه ، ويجور
كما يجور الجائرون في حكمه عليه ؟
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) قد نشرنا جملة صالحة من ذلك في مقالات (مدنية العرب) في المجلد الثالث .
(2) هو الفيلسوف درابر الأمريكاني .
(3 و 4) قد سبق ذلك في المقالة الأولى التي رد بها الكاتب على الجامعة .
(5) المنار: ذكر إمام الحرمين في كتابه (الشامل) في أصول الدين أنه كان بين الحلاج و الجنابي رئيس القرامطة اتفاق سري على قلب الدولة وأن ذلك هو السبب في قتل الحلاج .
(5/481)
الكاتب : محمد عبده
__________
الإسلام اليوم
أو الاحتجاج بالمسلمين على الإسلام
المقال الرابع لذلك الإمام الحكيم
ربما يسأل سائل فيقول : سلمنا أن طبيعة الإسلام تأبى اضطهاد العلم بمعناه
الحقيقي ، وأنه لم يقع من المسلمين الأولين تعذيب ولا إحراق ولا شنق لحملة العلوم
الكونية ، ومقوّمي العقول البشرية ، لكن أليس العلماء من المسلمين اليوم أعداء
العلوم العقلية ، والفنون العصرية ، أوَليس الناس تبعًا لهم ؟ أفلا يكون للأديب عذره
فيما يراه ويسمعه حوله ؟ ألم يسمع بأن رجلاً في بلاد إسلامية غير البلاد المصرية
كتب مقالاً في الاجتهاد والتقليد وذهب فيه إلى ما ذهب إليه أئمة المسلمين كافة ،
ومقالاً بَيَّنَ فيه رأيه في مذهب الصوفية وقال : إنه ليس مما انتفع به الإسلام بل قد
يكون مما رزئ به أو ما يقرب من هذا وهو قول قال به جمهور أهل السنة من قبله ،
فلما طبع مقاله في مصر تحت اسمه هاج عليه حَمَلَةُ العمائم ، وسَكَنَةُ الأثواب
العَباعِب ، وقالوا : إنه مرق من الدين ، أو جاء بالإفك المبين ، ثم رفع أمره إلى
الوالي فقبض عليه وألقاه في السجن . فرفع شكواه إلى عاصمة الملك وسأل السلطان
أن يأمر بنقله إلى العاصمة ليثبت براءته مما اختلف عليه بين يدي عادل لا يجور ،
ومهيمن على الحق لا يحيف ، إلخ ما يقال في الشكوى . فأجيب طلبه لكن لم ينفعه
ذلك كله فقد صدر الأمر هناك أيضًا بسجنه ولم يعف عنه إلا بعد أشهر مع أنه لم
يَقُل إلا ما يتفق مع أصول الدين ولا ينكره القارئ والكاتب ، ولا الآكل والشارب .
ألم يسمع السامعون أن الشيخ السنوسي ( والد السنوسي صاحب الجغبوب )
كتب كتابًا في أصول الفقه زاد فيه بعض مسائل على أصول المالكية ، وجاء في
كتاب له ما يدل على دعواه أنه ممن يفهم الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة وقد
يرى ما يخالف رأي مجتهد أو مجتهدين . فعلم بذلك أحد المشايخ المالكية ( رحمه
الله تعالى ) وكان المقدم في علماء الجامع الأزهر الشريف فحمل حربة وطلب
الشيخ السنوسي ليطعنه بها ؛ لأنه خرق حرمة الدين ، واتبع سبيلاً غير سبيل
المؤمنين ، وربما كان يجترئ الأستاذ على طعن الشيخ السنوسي بالحربة لو لاقاه
وإنما الذي خَلَّصَ السنوسي من الطعنة ، ونجّى الشيخ المرحوم من سوء المغبة ،
وارتكاب الجريمة باسم الشريعة ، هو مفارقة السنوسي للقاهرة قبل أن يلاقيه الأستاذ
المالكي .
هل غاب عن الأذهان ما كان ينشر في الجرائد من نحو ثلاث سنين بأقلام
بعض علماء الجامع الأزهر من المقالات الطويلة الأذيال الواسعة الأردان في
استهجان إدخال علم تقويم البلدان ( الجغرافيا ) بين العلوم التي يتلقاها طلبة الجامع
الأزهر ؟ وكان كتاب تلك المقالات يعرضون علوم الدين . أم لم تنشر في العام
الماضي فصول بأقلام بعضهم تشير إلى الطعن في عقيدة البعض الآخر وإرادة
التشهير به مع أنه لم يجهر بمنكر ولم يقل قولاً يبعد من الكتاب والسنة ؟
ألم تحمل إلينا الرواة ما عند علماء الأفغان و الهند والعجم من شدة التمسك
بالقديم ، والحرص على ما ورثوا عن آبائهم الأقربين ، وإقامة الحرب على كل من
حاول أن يزحزحهم أصبعًا عما كان عليه سلفهم ، وإن كان في البقاء عليه تلفهم ،
وما عليه الحال اليوم في حكومة المغرب من الغلوّ في التعصب والمعاقبة بقطع
بعض الأعضاء في شرب الدخان أو بالقتل في كلمة ينكرها السامعون ، وإن أجمع
عليها المسلمون الآخرون .
ثم ألا يتخيل المؤمل أنه يسمع من جوف المستقبل صَخَبًا ولَجَبًا وضوضاء
وجَلَبَةً ، وهَيْعاتٍ مضطربة ، إذا قيل إنه ينبغي لطلبة الأزهر أن يدرسوا طرفًا من
مبادئ الطبيعة أو يُحَصِّلُوا جملة من التاريخ الطبيعي ؟ ألا تقوم قيامة المتقين ، ألا
يصيحون أكتعين أبتعين : هذا عدوان على الدين ، هذا توهين لعقده المتين ، هذا
تغرير بأهله المساكين ، ولا يزالون يشيرون بهذا إلى أن لا يبقى شيء عرف له
اسم في اللغة إلا ألصقوه بهذه البدعة في زعمهم .
هل هذه الحال جديدة على المسلمين حتى يقال : إنها عارض عرض عليهم ،
أو مرض من الأمراض الوافدة إليهم ؟ لا يسهل على من يعرض أحوال المسلمين
تحت نظره من قرون متعددة أن يظن أن هذه الحال من العلل الطارئة على أمزجة
الأمم خصوصًا عندما يجد الوحدة في الصفات ، والشمول في جميع الاعتبارات ،
فلو أخذ مسلمًا من شاطئ الأطلانطيق وآخر من تحت جدار الصين لوجد كلمة
واحدة تخرج من أفواههما وهي : { بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } ( الزخرف : 22 ) ، وكلهم أعداء لكل مخالف لما هم عليه وإن
نطق به الكتاب واجتمعت عليه الآثار . اللهم إلا فئة قليلة زعمت أنها نفضت غبار
التقليد وأزالت الحُجُبَ التي كانت تحول بينها وبين النظر في آيات القرآن ومتون
الأحاديث لتفهم أحكام الله منها . ولكن هذه الفئة أضيق عطنًا وأحرج صدرًا من
المقلّدين وإن أنكرت كثيرًا من البدع ونحّت عن الدين كثيرًا مما أضيف إليه وليس
منه . فإنها ترى وجوب الأخذ بما يفهم من لفظ الوارد ، والتقيد به بدون التفات إلى ما
تقتضيه الأصول التي قام عليها الدين ، وإليها كانت الدعوة ، ولأجلها منحت النبوة ،
فلم يكونوا للعلم أولياء ، ولا للمدينة السليمة أحبّاء .
هل يمكن أن ينكر أحد جمود الفقهاء ووقوفهم عند عبارات المصنفين على
تباينها واختلافها واضطراب الآراء في فهمها ، وإذا عرضت حادثة من الحوادث ولم
يكن لمصنف معروف رأي فيها أحجموا عن إبداء الرأي واجتهدوا في تحويلها عن
حقيقتها إلى أن تتفق مع قول معروف في كتاب من الكتب حتى لقد جاء طالب علم
من بلد من بلاد الدولة العثمانية وأراد الالتحاق بأحد الأروقة في الجامع الأزهر فوقع
الشكل هل بلده مما لأهله استحقاق في ذلك الرواق على حسب نص الواقف ؟ فقال
قائل لشيخ الرواق : إن كتب تقويم البلدان تشهد بأن البلد داخل في شرط الواقف
فقال : إنني لا أقنع بما في تلك الكتب وإنما الذي يصح أن آخذ به هو أن يكون فقيه
( ممن مات ) قال : إن هذه البلد من قطر كذا وهو الذي وقف الواقف على أهله .
وإذا قيل لأحدهم : إن الأئمة أنفسهم لم يعينوا مواقع البلدان ولم يضعوا لنا جدولاً
لبيان ما يحويه كل قطر وبيان الحدود التي ينتهي إليها ، وإن أصول ديننا تسمح لنا
بأن نأخذ بأقوال العلماء في هذه الفنون ( وهم منا ) وبتواتر الأخبار وما أشبه ذلك
من البديهيات قال : إنما أريد نصًّا فقهيًّا ، لا دليلاً عقليًّا .
وإذا قيل لهم : اختلت الشئون ، وفسدت الملكات والظنون ، وساءت أعمال
الناس ، وضلت عقائدهم ، وخوت عباداتهم من روح الإخلاص ، فوثب بعضهم
على بعض بالشر ، وغالت أكثرهم أغوال الفقر ، فتضعضعت القوة ، واخترق
السياج ، وضاعت البيضة ، وانقلبت العزة ذلة ، والهداية ضلة ، وساكنتكم الحاجة ،
وألفتكم الضرورة ، ولا تزالون تألمون مما نزل بكم وبالناس ، فهلا نبهكم ذلك إلى
البحث في أسباب ما كان سلفكم عليه ، ثم علل ما صرتم وصار الناس إليه - قالوا :
ذلك ليس إلينا ، ولا فرضه الله علينا ، وإنما هو للحكام ينظرون فيه ، ويبحثون عن
وسائل تلافيه ، فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا ، فذلك لأنه آخر الزمان وقد ورد في
الأخبار ما يدل على أنه كائن لا محالة وأن الإسلام لا بد أن يرفع من الأرض ولا
تقوم القيامة إلى على لُكَع ابن لكع . واحتجوا على اليأس والقنوط بآيات وأحاديث
وآثار تقطع الأمل ، ولا تدع في نفس حركة إلى عمل .
رأي رنان في الإسلام : هذا الجمود - الذي لو أردنا بيان ما امتد إليه من
طبقات الأفكار وثنيات الوجدان لكتبنا فيه كتبًا - هو الذي حمل الموسيو رنان
الفيلسوف الفرنسي المشهور أن يقول في عرض كلام له في تساهل المذاهب الدينية
مع العلم نقلته عنه الجامعة : ( على أنني أخشى أن يثبت الدين الإسلاميّ وحده في
وجه هذا التسامح العام في العقائد ولكنني أعرف أن في نفوس بعض الرجال
المتمسكين بآداب الدين الإسلامي القديمة وفي بضعة من رجال الآستانة وبلاد
الفرس جراثيم جيدة تدل على فكر واسع وعقل ميال إلى المسالمة . إلا أنني أخشى
أن تختنق هذه الجراثيم بتعصب بعض الفقهاء فإذا اختنقت قُضيَ على الدين
الإسلامي . ذلك أنه من الثابت الآن أمران - الأول أن التمدن الحديث لا يريد إماتة
الأديان بالمرة ؛ لأنها تصلح أن تكون وسيلة إليه . والثاني : أنه لا يطيق أن تكون
الأديان عثرة في سبيله . فعلى هذه الأديان أن تسالم وتلين وإلا كان موتها ضربة
لازب ) . ا هـ كلام رينان بتصرف لفظي قليل .
فمن أين يكون هذا الجمود العام الذي سمح للطاعنين أن يحكموا على الإسلام
بأنه عثرة في طريق المسلمين يسقط بهم دون أن ينالوا فلاحًا في سعيهم ، أو نجاحًا
في أعمالهم ، من أين يكون هذه الجمود إن لم يكن من طبيعة الدين ؟ ومن أين يكون
ما سردناه من الحوادث إن لم يكن ناشئًا من أصول الدين ؟ فإن لم تسلم بأن هذا
اضطهاد من لوازم الدين الإسلامي فعليك أن تسلم بأنه عداوة للعلم أو اشمئزاز منه ،
أو استهجان له أو احتقار لشأنه ، وأحد هذه الأمور كافٍ إذا عم بين المسلمين في أن
ينفر بهم عن كل مجد ، وأن يحرمهم كل نفع ، وأن يحقق فيهم ما تنبأ به رنان
وغيره فما قولك في هذا ؟ ؟ ( له بقية )
( المنار ) سيأتي الجواب في الجزء الآتي وفيه بيان حقيقة هذا الجمود
وأسبابه وكونه لا بد أن يزول إن شاء الله تعالى فانتظر العجب العجاب .
(( يتبع بمقال تال ))
__________
__________
الإسلام اليوم
أو الاحتجاج بالمسلمين على الإسلام
المقال الرابع لذلك الإمام الحكيم
ربما يسأل سائل فيقول : سلمنا أن طبيعة الإسلام تأبى اضطهاد العلم بمعناه
الحقيقي ، وأنه لم يقع من المسلمين الأولين تعذيب ولا إحراق ولا شنق لحملة العلوم
الكونية ، ومقوّمي العقول البشرية ، لكن أليس العلماء من المسلمين اليوم أعداء
العلوم العقلية ، والفنون العصرية ، أوَليس الناس تبعًا لهم ؟ أفلا يكون للأديب عذره
فيما يراه ويسمعه حوله ؟ ألم يسمع بأن رجلاً في بلاد إسلامية غير البلاد المصرية
كتب مقالاً في الاجتهاد والتقليد وذهب فيه إلى ما ذهب إليه أئمة المسلمين كافة ،
ومقالاً بَيَّنَ فيه رأيه في مذهب الصوفية وقال : إنه ليس مما انتفع به الإسلام بل قد
يكون مما رزئ به أو ما يقرب من هذا وهو قول قال به جمهور أهل السنة من قبله ،
فلما طبع مقاله في مصر تحت اسمه هاج عليه حَمَلَةُ العمائم ، وسَكَنَةُ الأثواب
العَباعِب ، وقالوا : إنه مرق من الدين ، أو جاء بالإفك المبين ، ثم رفع أمره إلى
الوالي فقبض عليه وألقاه في السجن . فرفع شكواه إلى عاصمة الملك وسأل السلطان
أن يأمر بنقله إلى العاصمة ليثبت براءته مما اختلف عليه بين يدي عادل لا يجور ،
ومهيمن على الحق لا يحيف ، إلخ ما يقال في الشكوى . فأجيب طلبه لكن لم ينفعه
ذلك كله فقد صدر الأمر هناك أيضًا بسجنه ولم يعف عنه إلا بعد أشهر مع أنه لم
يَقُل إلا ما يتفق مع أصول الدين ولا ينكره القارئ والكاتب ، ولا الآكل والشارب .
ألم يسمع السامعون أن الشيخ السنوسي ( والد السنوسي صاحب الجغبوب )
كتب كتابًا في أصول الفقه زاد فيه بعض مسائل على أصول المالكية ، وجاء في
كتاب له ما يدل على دعواه أنه ممن يفهم الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة وقد
يرى ما يخالف رأي مجتهد أو مجتهدين . فعلم بذلك أحد المشايخ المالكية ( رحمه
الله تعالى ) وكان المقدم في علماء الجامع الأزهر الشريف فحمل حربة وطلب
الشيخ السنوسي ليطعنه بها ؛ لأنه خرق حرمة الدين ، واتبع سبيلاً غير سبيل
المؤمنين ، وربما كان يجترئ الأستاذ على طعن الشيخ السنوسي بالحربة لو لاقاه
وإنما الذي خَلَّصَ السنوسي من الطعنة ، ونجّى الشيخ المرحوم من سوء المغبة ،
وارتكاب الجريمة باسم الشريعة ، هو مفارقة السنوسي للقاهرة قبل أن يلاقيه الأستاذ
المالكي .
هل غاب عن الأذهان ما كان ينشر في الجرائد من نحو ثلاث سنين بأقلام
بعض علماء الجامع الأزهر من المقالات الطويلة الأذيال الواسعة الأردان في
استهجان إدخال علم تقويم البلدان ( الجغرافيا ) بين العلوم التي يتلقاها طلبة الجامع
الأزهر ؟ وكان كتاب تلك المقالات يعرضون علوم الدين . أم لم تنشر في العام
الماضي فصول بأقلام بعضهم تشير إلى الطعن في عقيدة البعض الآخر وإرادة
التشهير به مع أنه لم يجهر بمنكر ولم يقل قولاً يبعد من الكتاب والسنة ؟
ألم تحمل إلينا الرواة ما عند علماء الأفغان و الهند والعجم من شدة التمسك
بالقديم ، والحرص على ما ورثوا عن آبائهم الأقربين ، وإقامة الحرب على كل من
حاول أن يزحزحهم أصبعًا عما كان عليه سلفهم ، وإن كان في البقاء عليه تلفهم ،
وما عليه الحال اليوم في حكومة المغرب من الغلوّ في التعصب والمعاقبة بقطع
بعض الأعضاء في شرب الدخان أو بالقتل في كلمة ينكرها السامعون ، وإن أجمع
عليها المسلمون الآخرون .
ثم ألا يتخيل المؤمل أنه يسمع من جوف المستقبل صَخَبًا ولَجَبًا وضوضاء
وجَلَبَةً ، وهَيْعاتٍ مضطربة ، إذا قيل إنه ينبغي لطلبة الأزهر أن يدرسوا طرفًا من
مبادئ الطبيعة أو يُحَصِّلُوا جملة من التاريخ الطبيعي ؟ ألا تقوم قيامة المتقين ، ألا
يصيحون أكتعين أبتعين : هذا عدوان على الدين ، هذا توهين لعقده المتين ، هذا
تغرير بأهله المساكين ، ولا يزالون يشيرون بهذا إلى أن لا يبقى شيء عرف له
اسم في اللغة إلا ألصقوه بهذه البدعة في زعمهم .
هل هذه الحال جديدة على المسلمين حتى يقال : إنها عارض عرض عليهم ،
أو مرض من الأمراض الوافدة إليهم ؟ لا يسهل على من يعرض أحوال المسلمين
تحت نظره من قرون متعددة أن يظن أن هذه الحال من العلل الطارئة على أمزجة
الأمم خصوصًا عندما يجد الوحدة في الصفات ، والشمول في جميع الاعتبارات ،
فلو أخذ مسلمًا من شاطئ الأطلانطيق وآخر من تحت جدار الصين لوجد كلمة
واحدة تخرج من أفواههما وهي : { بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } ( الزخرف : 22 ) ، وكلهم أعداء لكل مخالف لما هم عليه وإن
نطق به الكتاب واجتمعت عليه الآثار . اللهم إلا فئة قليلة زعمت أنها نفضت غبار
التقليد وأزالت الحُجُبَ التي كانت تحول بينها وبين النظر في آيات القرآن ومتون
الأحاديث لتفهم أحكام الله منها . ولكن هذه الفئة أضيق عطنًا وأحرج صدرًا من
المقلّدين وإن أنكرت كثيرًا من البدع ونحّت عن الدين كثيرًا مما أضيف إليه وليس
منه . فإنها ترى وجوب الأخذ بما يفهم من لفظ الوارد ، والتقيد به بدون التفات إلى ما
تقتضيه الأصول التي قام عليها الدين ، وإليها كانت الدعوة ، ولأجلها منحت النبوة ،
فلم يكونوا للعلم أولياء ، ولا للمدينة السليمة أحبّاء .
هل يمكن أن ينكر أحد جمود الفقهاء ووقوفهم عند عبارات المصنفين على
تباينها واختلافها واضطراب الآراء في فهمها ، وإذا عرضت حادثة من الحوادث ولم
يكن لمصنف معروف رأي فيها أحجموا عن إبداء الرأي واجتهدوا في تحويلها عن
حقيقتها إلى أن تتفق مع قول معروف في كتاب من الكتب حتى لقد جاء طالب علم
من بلد من بلاد الدولة العثمانية وأراد الالتحاق بأحد الأروقة في الجامع الأزهر فوقع
الشكل هل بلده مما لأهله استحقاق في ذلك الرواق على حسب نص الواقف ؟ فقال
قائل لشيخ الرواق : إن كتب تقويم البلدان تشهد بأن البلد داخل في شرط الواقف
فقال : إنني لا أقنع بما في تلك الكتب وإنما الذي يصح أن آخذ به هو أن يكون فقيه
( ممن مات ) قال : إن هذه البلد من قطر كذا وهو الذي وقف الواقف على أهله .
وإذا قيل لأحدهم : إن الأئمة أنفسهم لم يعينوا مواقع البلدان ولم يضعوا لنا جدولاً
لبيان ما يحويه كل قطر وبيان الحدود التي ينتهي إليها ، وإن أصول ديننا تسمح لنا
بأن نأخذ بأقوال العلماء في هذه الفنون ( وهم منا ) وبتواتر الأخبار وما أشبه ذلك
من البديهيات قال : إنما أريد نصًّا فقهيًّا ، لا دليلاً عقليًّا .
وإذا قيل لهم : اختلت الشئون ، وفسدت الملكات والظنون ، وساءت أعمال
الناس ، وضلت عقائدهم ، وخوت عباداتهم من روح الإخلاص ، فوثب بعضهم
على بعض بالشر ، وغالت أكثرهم أغوال الفقر ، فتضعضعت القوة ، واخترق
السياج ، وضاعت البيضة ، وانقلبت العزة ذلة ، والهداية ضلة ، وساكنتكم الحاجة ،
وألفتكم الضرورة ، ولا تزالون تألمون مما نزل بكم وبالناس ، فهلا نبهكم ذلك إلى
البحث في أسباب ما كان سلفكم عليه ، ثم علل ما صرتم وصار الناس إليه - قالوا :
ذلك ليس إلينا ، ولا فرضه الله علينا ، وإنما هو للحكام ينظرون فيه ، ويبحثون عن
وسائل تلافيه ، فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا ، فذلك لأنه آخر الزمان وقد ورد في
الأخبار ما يدل على أنه كائن لا محالة وأن الإسلام لا بد أن يرفع من الأرض ولا
تقوم القيامة إلى على لُكَع ابن لكع . واحتجوا على اليأس والقنوط بآيات وأحاديث
وآثار تقطع الأمل ، ولا تدع في نفس حركة إلى عمل .
رأي رنان في الإسلام : هذا الجمود - الذي لو أردنا بيان ما امتد إليه من
طبقات الأفكار وثنيات الوجدان لكتبنا فيه كتبًا - هو الذي حمل الموسيو رنان
الفيلسوف الفرنسي المشهور أن يقول في عرض كلام له في تساهل المذاهب الدينية
مع العلم نقلته عنه الجامعة : ( على أنني أخشى أن يثبت الدين الإسلاميّ وحده في
وجه هذا التسامح العام في العقائد ولكنني أعرف أن في نفوس بعض الرجال
المتمسكين بآداب الدين الإسلامي القديمة وفي بضعة من رجال الآستانة وبلاد
الفرس جراثيم جيدة تدل على فكر واسع وعقل ميال إلى المسالمة . إلا أنني أخشى
أن تختنق هذه الجراثيم بتعصب بعض الفقهاء فإذا اختنقت قُضيَ على الدين
الإسلامي . ذلك أنه من الثابت الآن أمران - الأول أن التمدن الحديث لا يريد إماتة
الأديان بالمرة ؛ لأنها تصلح أن تكون وسيلة إليه . والثاني : أنه لا يطيق أن تكون
الأديان عثرة في سبيله . فعلى هذه الأديان أن تسالم وتلين وإلا كان موتها ضربة
لازب ) . ا هـ كلام رينان بتصرف لفظي قليل .
فمن أين يكون هذا الجمود العام الذي سمح للطاعنين أن يحكموا على الإسلام
بأنه عثرة في طريق المسلمين يسقط بهم دون أن ينالوا فلاحًا في سعيهم ، أو نجاحًا
في أعمالهم ، من أين يكون هذه الجمود إن لم يكن من طبيعة الدين ؟ ومن أين يكون
ما سردناه من الحوادث إن لم يكن ناشئًا من أصول الدين ؟ فإن لم تسلم بأن هذا
اضطهاد من لوازم الدين الإسلامي فعليك أن تسلم بأنه عداوة للعلم أو اشمئزاز منه ،
أو استهجان له أو احتقار لشأنه ، وأحد هذه الأمور كافٍ إذا عم بين المسلمين في أن
ينفر بهم عن كل مجد ، وأن يحرمهم كل نفع ، وأن يحقق فيهم ما تنبأ به رنان
وغيره فما قولك في هذا ؟ ؟ ( له بقية )
( المنار ) سيأتي الجواب في الجزء الآتي وفيه بيان حقيقة هذا الجمود
وأسبابه وكونه لا بد أن يزول إن شاء الله تعالى فانتظر العجب العجاب .
(( يتبع بمقال تال ))
__________
غرة رجب - 1320هـ
3 أكتوبر - 1902م
3 أكتوبر - 1902م
(5/)
الكاتب : محمد عبده
__________
الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية
وهو المقال الثالث لذلك الإمام الحكيم والأستاذ العليم
نتائج هذه الأصول وآثارها في المسلمين
إلام أفضت طبيعة الإسلام بالمسلمين ؟ وماذا كان أثرها في أسلافهم الأولين ؟
فتح عمرو بن العاص رضي الله عنه مصر واستولى بجيشه على الإسكندرية بعد
لحاق النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - بالرفيق الأعلى بست سنوات ، في
رواية وتسع سنوات ، في رواية أخرى والإسلام في طلوع فجره ، وتَفَتُّح نوره ، فكان
من بقايا ما تركت الأزمان الأولى : رجلُ مسيحيُ من اليعقوبيين اسمه يوحنا النحوي
كان في بدء أمره ملاحًا يعبرُ الناسُ بسفينته ، وكان يميل إلى العلم بطبيعته فإذا ركب
معه بعض أهل العلم أصغى إلى مذاكرتهم .
اشتد به الشوق فترك الملاحة واشتغل بالعلم وهو ابن أربعين سنة فبلغ فيه ما
لم يبلغه الناشئون فيه من طفوليتهم وقد أحسن من العلم فنونًا كثيرةً حتى عُدَّ من فلاسفة
وقته وأطبائه ومناطقته .
يقول كثير من مؤرخي الغربييين ومؤرخي المسلمين : إن عمرو بن العاص
سمع به فاستدناه منه وأكرمه لعلمه ووقعت بينهما محبة ظهر أمرها واشتهر حتى قال
أحد فلاسفة الغربيين : ( إن المحبة التي نشأت بين عمرو بن العاص فاتح مصر
ويوحنا النحوي ترينا مبلغ ما يسمو إليه العقل العربي من الأفكار الحرّة والرأي
العالي . بمجرد ما أعتق من الوثنية الجاهلية ودخل في التوحيد المحمدي أصبح على
غاية من الاستعداد للجوَلان في ميادين العلوم الفلسفية والأدبية من كل نوع ) .
خالط المسلمون أهل فارس و سوريا وسواد العراق وأدخلوهم في أعمالهم ولم
يمنعهم الدين عن استعمالهم حتى كانت دفاترهم بالرومية في سوريا ولم تغيّر
بالعربية إلا بعد عشرات من السنين فاحتكت الأفكار بالأفكار ، وأفضت سماحة الدين
إلى أن أخذ المسلمون في دراسة العلوم والفنون والصنائع .
* * *
( اشتغال المسلمين بالعلوم الأدبية ثم العقلية )
وبعد عشرين سنة من وفاته عليه الصلاة والسلام أخذ الخليفة علي بن أبي
طالب - كرم الله وجهه - يحضُّ على تعليم الآداب العربية ويطلب وضع القواعد لها
لما رأى من حاجة الناس إلى ذلك ، وأخذ المسلمون يتحسّسُون نور العلم في ظلام تلك
الفتن استرسالاً مع ما يدعوهم إليه دينهم وتنبّههم لطلبه شريعتهم . وإن كانت
الحروب الداخلية التي اشتعلت نارها في أطراف بلادهم للنزاع في أمر الخلافة قد
شغلتهم عن كل شيء من مصالحهم فإنها لم تشغلهم عن تلمس العلوم والتناول منها
بالتدريج على سنة الفطرة . فالبراعة في الآداب من علم بوقائع العرب وتاريخهم
وقول الشعر وإنشاء البليغ من النثر قد بلغت في خلافة بني أمية مبلغًا لم تبلغه أمة قط
في مثل مدتها ، وكان الخلفاء الأمويون يعلون منزلتها ويرفعون مكانات الشعراء
والخطباء والعلماء بالسير ، ثم ظهرت آثار العلوم العقلية في آخر دولتهم وترجمت
جملة من الكتب العقلية والصناعية قبل نهاية القرن الأول .
نقل الخلفاء الأمويون دار الخلافة من المدينة إلى الشام ، ولم يسيروا في الزهد
سيرة الخلفاء الراشدين فقد جاء رسول من الفرس إلى عمر بن الخطاب - رضي
الله عنه - فلما سأل عنه دُلَّ عليه فذهب إليه فإذا هو نائم على الأرض تحت نخل
البقيع بين الفقراء وجاءت رسل الملوك إلى معاوية - رحمه الله - فإذا هو في قصر
مشيد محلَّى البنيان بأجمل ما يكون من الصنعة العربية ، مزين بالجنات والرياض
وينابيع الماء ، مفروش بأحسن الفرش يرى الناظر فيه أفخر الأثاث والرياش . ولم
يكن معاوية في ذلك قد خالف الدين أو حاد عن طريقه وإنما تناول مباحًا وتمتع
برخصة آتاه الله إياها ولا يخفى ما في ذلك من ترويج فنون الإبداع في الصنعة على
اختلاف ضروبها .
* * *
( اشتغالهم بالعلوم الكونية في أوائل القرن الثاني )
انقضت دولة بني أمية والناس في ظلمات من الفتن كما قلنا ودالت الدولة لبني
العباس واستقرت في نصابها من آل بيت النبي قرب نهاية الثلث الأول من القرن
الثاني للهجرة ( سنة 132 ) ، ثم نقل المنصور عاصمة الملك إلى بغداد فصارت بعد
ذلك عاصمة العلم والمدنية أيضًا . وأخذ المنصور ينشئ المدارس للطب والشريعة
وكان قد جعل من زمنه ما ينفقه في تعلم العلوم الفلكية ، وأكْمَلَ حفيدُه الرشيدُ ما شرع
فيه وأمر بأن يلحق بكل مسجد مدرسة لتعليم العلوم بأنواعها . وجاء المأمون
فوصلت به دولة العلم إلى أوج قوتها ، ونالت به أكبر ثروتها ، ويقال : إنه حمل
إلى بغداد من الكتب المكتوبة بالقلم ما يثقل مائة بعير ، وكان من شروط صلحه مع
ميشيل الثالث أن يعطيَهُ مكتبةً من مكاتب الأستانة . فوجد مما فيها من النفائس كتاب
بطليموس في الرياضة السماوية فأمر المأمون في الحال بترجمته وسمَوه بالمجسطي
ولا يسهل على كاتب إحصاء ما ترجم من كتب العلوم على اختلافها في دولة بني
العباس أبناء عم الرسول صلى الله عليه وسلم .
* * *
( إنشاؤهم دور الكتب العامة والخاصة )
وقد أخذت دول الإسلام تعتني بديار الكتب عناية لم يسبقْها مثلها من دول
سواها حتى كان في القاهرة في أوائل القرن الرابع مكتبة تحتوي على مائة ألف
مجلد منها ستة آلاف في الطب والفلك لا غير . وكان من نظامها أن تعار بعض
الكتب للطلبة المقيمين في القاهرة . وكان فيها كُرَتَان سماويتان إحداهما من الفضة
يقال : إن صانعها بطليموس نفسه وإنه أنفق فيها ثلاثة آلاف دينار . والثانية من
البرنز ، ومكتبة الخلفاء في أسبانيا بلغ ما فيها ست مائة ألف مجلد . وكان فهرستها
أربعة وأربعين مجلدًا . وقد حققوا أنه كان في أسبانيا وحدها سبعون مكتبة عمومية .
وكان في هذه المكاتب مواضع خاصة للمطالعة والنسخ والترجمة .
وبعض الخاصة كانوا يولعون بالكتب ويجعلون ديارهم معاهد دراسة لما
تحتوي عليه . يقال إن سلطان بخارى دعا طبيبًا أندلسيًّا ليزوره فأجابه أن ذلك لا
يمكنه ؛ لأن كتبه تحتاج إلى أربعمائة جَمَل لتحملها وهو لا يستغني عنها كلها .
وكان حنين بن إسحق النسطوري في بغداد ممن جعل في داره مكتبة عامة يَفِدُ إليها
طلاب العلوم العقلية والرياضية وكان يتبرع بمذاكرتهم فيما يريدون المذاكرة فيه .
* * *
( إنشاؤهم المدارس للعلوم وكيفية التدريس )
غُطي بسيط المملكة الإسلامية على سعتها بالمدارس . نقول ( على سعتها )
لأنها زادت في السعة على المملكة الرومانية بكثير . فكنت تجد المدارس في كل
الأقطار : في المغول ، في التتار من جهة المشرق ، في مراكش ، في فاس ، في
أسبانيا من جهة المغرب .
كانت طريقة الأساتذة في التدريس أن كل مدرس يُعِدُّ درسه ويكتب في
الموضوع الذي يلقي الدرس فيه ما يريد أن يكتب ثم يلقيه على التلامذة وهم يكتبون
عنه ، ثم تكون هذه الدروس كتبًا وأماليّ تنشر بين الناس في كل علم . وهنا نبادر
إلى القول بأن المؤرخين قد أجمعوا على أن جميع المقالات والكتب كانت تنشر
ويتداولها الناس بدون أدنى مراقبة ولا حجر ولا نقص شيء مما كتب صاحب
الكتاب غير أن مؤرخًا واحدًا رأيته ذكر أنه قد وُضِعَ قانونٌ في بعض الممالك
الإسلامية لنشر كتب العقائد مقتضاه أن لا ينشر منها شيء إلا بإذنٍ ، على أني لا
أعلم شيئًا من ذلك وقع في الممالك الإسلامية أيام كان الإسلام إسلامًا .
نرجع إلى الكلام في المدارس الإسلامية ، يقول جبون في كلامه على حماية
المسلمين للعلم في الشرق وفي الغرب : ( إن ولاة الأقاليم والوزراء كانوا ينافسون
الخلفاء ، في إعلاء مقام العلم والعلماء ، وبسط اليد في الإنفاق على إقامة بيوت
العلم ومساعدة الفقراء على طلبه ، وكان عن ذلك أن ذوق العلم ووجدان اللذة في
تحصيله قد انتشرا في نفوس الناس من سمرقند وبخارى إلى فاس و قرطبة . أنفق
وزير واحد لأحد السلاطين ( هو نظام الملك ) مائتي ألف دينار على بناء مدرسة في
بغداد ، وجعل لها من الريع يصرف في شئونها خمسة عشر ألف دينار في السنة .
وكان الذين يُغْذوْن بالمعارف فيها ستة آلاف تلميذ فيهم ابن أعظم العظماء في
المملكة وابن أفقر الصناع فيها ، غير أن الفقير ينفق عليه من الريع المخصص
للمدرسة وابن الغني يكتفي بمال أبيه . والمعلمون كانوا يُنقدون رواتب
وافرة ) . ا هـ
انقسمت الممالك الإسلامية في زمن من الأزمان إلى ثلاثة أقسام وتنازع
الخلافة ثلاث شيع . كان العباسيون في آسيا ( الشرق ) والأمويون في الأندلس من
أوروبا ( الغرب ) والفاطميون في مصر من أفريقيا ( الوسط ) ولم يكن تنافس هذه
الدول الثلاث قاصرًا على الملك والسلطان ولكن كان التنافس في العلم والأدب .
وكان مرصد سمرقند قائمًا في ناحية المشرق يشير إلى ما كان عليه المشرقيون من
العناية برياضة الأفلاك ، ومرصد جيرالد في الأندلس يجيبه بأن أهل المغرب ليسوا
بأحط منهم في الإدراك .
جميع المدارس في البلاد الإسلامية أخذت نظام الامتحان في المدارس الطبية
عن مدرسة الطب في القاهرة وكان من أشد النظامات وأدقها . ولم يكن لطبيب أن
يمارس صناعته إلا على شريطة أن تكون بعد شهادة بأنه فاز في الامتحان على
شدته . وأول مدرسة طبية أنشئت في قارة أوربا على هذا النظام المحكم هي التي
أنشأها العرب في ساليرن من بلاد إيطاليا ، وأول مرصد فلكي أقيم في أوروبا هو
الذي أقامه العرب في أشبيلية من بلاد أسبانيا .
وُلع المسلمون بالعلوم الكونية على اختلافها ، والفنون الأدبية بجميع أنواعها ،
حتى القصص والأساطير الخيالية ، في الأحوال الاجتماعية ، وابتدأوا بأخذ العلم
عن اليونانية والسريانية ، وأخذوا ينقلون كتب الأولين من تلك الألسن إلى اللغة
العربية بالترجمة الصحيحة ، وكان مترجموهم في أول الأمر مسيحيين وصابئين
وغيرهم ، ثم تعلم كثير من علماء المسلمين اللسان اليوناني واللاتيني وكتبوا معاجم
في اللسانين . وذلك كله ليأخذوا العلوم من أصولها ، وينقلوها إلى لسانهم على
حسب ما يصل إليه علمهم فيها ، وكان المعلمون لأبناء العظماء في أول الأمر من
المسيحيين واليهود ثم أنشئت المدارس الجامعة وكان المدرسون فيها من كل ملة
ودين . كلٌّ يعلّم العلم الذي عرف هو بالبراعة فيه .
* * *
( علوم العرب واكتشافاتهم )
كان علم العرب في أول الأمر يونانيًّا لكنه لم يلبث كذلك إلا دون قرن واحد ثم
صار عربيًّا . ولم يرض العربيّ أن يكون تلميذًا لأرسطو و أفلاطون أو إقليدس أو
بطليموس زمنًا طويلاً كما بقي الأوربي كذلك عشرة قرون كاملة من التاريخ
المسيحي .
قالوا : إن باكون هو أول من جعل التجربة والمشاهدة قاعدة للعلوم العصرية
وأقامها مقام الرواية عن الأساتذة والتمسك بآراء المصنفين وأطلق العلم من رق
التقليد . ذلك حق في أوربا . أما عند العرب فقد وضعت هذه القاعدة عندهم لبناء
العلم عليها في أواخر القرن الثاني من الهجرة . أول شيء تميز به فلاسفة العرب
عمن سواهم من فلاسفة الأمم هو بناء معارفهم على المشاهدات والتجربيات وأن لا
يكتفوا بمجرد المقدمات العقلية في العلوم ما لم تؤيدها التجربة حتى لقد نقل
جوستاف لوبون عن أحد فلاسفة الأوربيين : أن القاعدة عند العرب هي ( جرّب
وشاهد ولاحظ تكن عارفًا ) وعند الأوربي إلى ما بعد القرن العاشر من التاريخ
المسيحي ( اقرأ في الكتب وكرر ما يقول الأساتذة تكن عالمًا ) . ( فلينظر
المصريون وغيرهم من الشرقيين كيف انقلب الحال ، وماذا أعقب من سوء المآل )
قال ديلاَمبْر في تاريخ علم الهيأة : ( إذا عددت في اليونان اثنين أو ثلاثة من
الراصدين أمكنك أن تعد من العرب عددًا كبيرًا غير محصور ) . أما في الكيمياء
فلا يمكنك أن تعد مُجَرِّبًا واحدًا عند اليونانيين ولكنك تعد من المجرّبين مئين عند
العرب ، ولهذا عدت الكيمياء الحقيقية من اكتشاف العرب دون سواهم . وقد كانوا
يعدون الهندسة والفنون الرياضية من الآلات المنطقية ، يستعملونها في الاستدلال
على القضايا النظرية ، وهي من أصدق الأدلة في الإيصال إلى المجهولات كما هو
معروف .
العرب هم أول من استعمل الساعات الدَّقَّاقة للدلالة على أقسام الزمن وهم
أوّل من أتقن استعمال الساعات الزوالية لهذا الغرض . وقد اكتشفوا قوانين لثقل
الجسام جامدها ومائعها حتى وضعوا لها جداول في غاية الدقة والصحة كما وضعوا
جداول للأرصاد الفلكية وكانت تلك الجداول معروفة يطلع عليها الناظرون في
سمرقند وبغداد وقرطبة حتى لقد وصلوا بتلك القوانين إلى ما يقرب من اكتشاف
الجاذبية .
لا يمكنني في مقالي هذا أن أعدّ ما اكتشف العرب ولا ما زادوه في العلوم
على اختلاف أنواعها فذلك يحتاج إلى سِفْر كبير . وقد أحصى ذلك أهل المعرفة
والإنصاف من فلاسفة الأوربيين ومؤرخيهم . وربما يتيسر لأبناء الأمة العربية أن
ينشروا ذلك لإخوانهم حتى يعرفوا ما كان عليه أسلافهم[1] ولكني أذكر كلمة قالها
بعض حكماء الغربيين[2] : ( تأخذنا الدهشة أحيانًا عندما ننظر في كتب العرب فنجد
آراء كنا نعتقد أنها لم تولد إلا في زماننا كالرأي الجديد في ترقي الكائنات العضوية
وتدرجها في كمال أنواعها فإن هذا الرأي كان مما يعلّمه العرب في مدارسهم وكانوا
يذهبون به إلى أبعد مما ذهبنا ، فكان عندهم عامًّا يشمل الكائنات غير العضوية
والمعادن .
والأصل الذي بنيت عليه الكيمياء عندهم هو ترقي المعادن في أشكالها .
قال الخازني : إذا سمع الشعب الجاهل ما يقال بين العلماء أن الذهب قد تقلب في
الأشكال المختلفة حتى صار ذهبًا ظن من هذا أنه مرَّ في صور معادن أخرى فكان
رصاصًا ثم قصديرًا ثم صُفرًا ثم فضة ثم صار بعد ذلك ذهبًا . ولا يعلم أن الفلاسفة
إذا قالوا ذلك فإنما يقصدون منه ما أرادوه من قولهم في الإنسان أنه وصل إلى حالته
الحاضرة بالتدريج ومن طريق الترقي وهم لم يعنوا بقولهم هذا أنه تقلب في صور
الأنواع المختلفة كأنْ كان ثورًا ثم حمارًا ثم فرسًا ثم قردًا ثم صار بعد ذلك
إنسانًا ) . ا هـ ، ويقول الفيلسوف كوستاف لوبون : ( إن العرب أول من علّم العالم
كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين ) .
وهنا أنكر على بعض فلاسفتهم ما نقلوه عن ابن رشد من أنه ذهب في حرية
الرأي إلى نقض أصل الدين وقال : إن الروح لا بقاء لها بعد فناء الجسد وإنما الذي
يبقى هي أرواح الأنواع . فإن هذا خطأ عرض لهم من سوء فهم كلامه في بيان
بقاء الأنواع دون الأشخاص فإنه قال كما قال أرسطو وغيره : إن الأشخاص توجد
وتفنى ، وأما الأنواع فهي باقية لا تزول . وهذا باب آخر يغير بالمرة ما استنتجوا
منه ( وقد سبق الكلام في بيان رأيه من وجه آخر ) [3] كما أخطأوا في قولهم عنه
أنه كان يعتقد بأن الله روح العالم يظهر في صورة والكل يرجع إليه بمعنى : أنه يفنى
في ذاته ولا يبقى في العالم باقٍ آخر وهو يقرب من قولهم السابق . فإن ابن رشد
كان مسلمًا وكان يعرف أن الإسلام لا ينافي العلم وإنما ينافي هذا الضرب من الوهم
الذي لم يسقط فيه أحد إلا من عثرة في طريق العلم أو الاسترسال مع الخيال .
وكثير ممن سكروا بهذا الرأي أفاقوا منه . ولكن كتب ابن رشد التي بين أيدينا تبعد
بنا عن نسبة هذا الرأي إليه كما سبق بيانه[4] ولكني لا أنكر نسبته لو نسب إلى ابن
سبعين وهو ممن أخذ عن تلامذة ابن رشد فإن في كلامه ما يدل على ذلك .
ويقول فيلسوف آخر : ( إن العلوم التي تلقاها العرب عن اليونانيين وغيرهم
وكانت ميتة بين دفات الدفاتر مقبورة بين جدران المكاتب أو مخزونة في بعض
الرءوس ، كأنها أحجار ثمينة في بعض الخزائن لا حظَّ للإنسانية منها سوى النظر
إليها - صار عند العرب حياة الآداب ، وغذاء الأرواح ، وروح الثروة ، وقوام
الصنعة ، ومهمازًا للقوى البشرية يسوقها إلى كمالها الذي أعِدَّتْ له . وليس في
الأوربيين من درس التاريخ وحكم العقل ثم ينكر أن الفضل - في إخراج أوربا من
ظلمة الجهل إلى ضياء العلم وفي تعليمها . كيف تنظر وكيف تتفكر وفي معرفتها أن
التجربة والمشاهدة هما الأصلان اللذان يبنى عليهما العلم - إنما هو للمسلمين
وآدابهم ومعارفهم التي حملوها إليهم وأدخلوها من أسبانيا وجنوب إيطاليا وفرنسا
عليهم . وكان من حظ العلم العربي والأدب المحمدي عندما دخلا إلى إيطاليا أن
البابا كان غائبًا لأن كرسيه كان انتقل إلى فرنسا في أفنيون نحو سبعين سنة فدبّ
العلم إلى شمال إيطاليا واستقر به القرار هناك . إن شوارع باريس لم تفرش
بالحجارة إلا في القرن الثاني عشر وقد رصّت بالبلاط على نحو ما رصّت به مدن
أسبانيا ) . اهـ
ويقول آخر : ( لا أدري كيف أعطانا الإسلام في مدة قرنين عددًا من الفلكيين
يطول سرد أفراده وإن الكنيسة تسلّطت على العالم المسيحي اثني عشر قرنًا في
أوربا ولم تمنحنا فلكيًّا واحدًا ) .
هذا النماء والزكاء العلمي لم يكن خاصًّا بطائفة دون طائفة بل كان الناس في
التمكن من تناوله سواء ، وإنما كان التفاضل بالجِدِّ والعمل ، والفضل في ذلك كله
لحلم الخلفاء وعمّالهم ، وسماحة الدين ويسره وسهولته على أهله وأهل ذمته . قال
بعض فلاسفة الغربيين قولاً يعرفه الحق وتثبته المشاهدة : ( إن شعوب الأرض لم
تَرَ قط فاتحًا بلغ من الحلم هذا المبلغ ( يريد فاتحي الإسلام على اختلافهم ) ولا دينًا
بلغ في لينه ولطفه هذا الحد ) .
* * *
( أخذ الخلفاء والأمراء بيد العلم والعلماء )
إن الخلفاء الذين يقال عنهم : إنهم رؤساء دين وحكام سياسة معًا كانوا هم
بأنفسهم المتعلمين للعلوم الداعين إلى تعلمها . كانوا العالمين العاملين . كان خليفة
كالمأمون يضطهد أحيانًا أعداء الفلسفة ، وقد عرف التاريخ كثيرين من أرباب
الشهرة الذين قضوا في سجنه الشهور أو السنين ؛ لأنهم كانوا يعادون الفلسفة ظنًّا
منهم أن منها ما يعدو على الدين فيفسده . هل رأيت في غير الإسلام رئيسًا
يضطهد أعداء العلم وجفاة الفلسفة ؟ لعلك لا تجده أبدًا .
كان أهل العلم والأدب عامة يجدون من الاحترام عند الخلفاء والأمراء
والخاصة ما يليق بهم كيفما كان حالهم . وسأضرب المثل بالشيخ أبي العلاء المعري
لشهرته بين الناس بما يشبه الزندقة : يذكر عليُ بن يوسف القفطي أن صالح بن
مرداس صاحب حلب خرج إلى المعرة وقد عصى أهلها عليه فنازلها وشرع في
حصارها ورماها بالمنجنيق فلما أحسّ أهلها بالغَلب سعوا إلى أبي العلاء بن سليمان
وسألوه أن يخرج ويشفع فيهم فخرج ومعه قائد يقوده فأكرمه صالح واحترمه ثم قال :
ألك حاجة ؟ قال : الأمير أطال الله بقاءه كالسيف القاطع لان مسّه وخشن حده ،
وكالنهار البالغ قاظ وسطه وطاب برده { خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الجَاهِلِينَ } ( الأعراف : 199 ) ، فقال له صالح : قد وهبتها لك . ثم قال له :
أنشدنا شيئًا من شعرك لنرويه فأنشده على البديهة أبياتًا فيه فترحل صالح . فانظر
كيف وهب الأمير بلدًا عصى أهله لفيلسوف معروف بما هو عنه معروف ، ولو
ذكرت ما نال العلماء والفلاسفة عند الأمراء والخلفاء لطال بي المقال أكثر مما طال
وفيما سبق كفاية لمكتف .
* * *
( إزالة شبهتين وبيان حقيقة الاضطهاد )
قد يتوهم قوم أن الاضطهاد قد يظهر في مقت العامة وخلقهم ما يخلقون من
المفتريات على أهل العلم والفكر الحر وهمس بعضهم في آذان بعض وتغامزهم
على أهل الفضل ، ولمزهم إياهم بالألقاب بل واحتقارهم في بعض الأحيان وهذا
النوع منه عند المسلمين بلا نكير ، وهو خطأ ظاهر ؛ لأن هذا النوع مما يكره أهل
العلم لا تخلو منه أرض ولا تطهر منه بلاد مهما بلغ أهلها من الحرية ومهما بلغ
ذوق العلم من نفوس أهلها فإن القائمين على عقيدة الكاثوليك إلى اليوم في أرض
فرنسا نفسها يمقتون الفلاسفة الذين يظهرون بمعاداة الكنيسة ويكتبون ما يوهن
قواعدها وقد يخلق عليهم أحزاب الكاثوليك ما لم يقولوه ، ويرون أن النظر في كتبهم
لا يجوز في شريعة الدين . ونحن لا نرتاب في أن نحو هذا كان عند المسلمين أيام
كانت سوق الفلسفة رائجة عندهم ولكنه ليس من الاضطهاد في شيء وإنما هي نفرة
الإنسان مما لا يعرف مع ترك صاحبه وشأنه يمضي في سبيله إلى حيث يشاء .
يقول آخرون : إن التاريخ يروي لنا أن بعض أرباب الأفكار قد أخذه السيف
لغلوّه في فكره فلم يترك له من الحرية ما يتمتع به إلى منتهى ما يبلغ به وليس
يصح أن ينكر ما صنع الخليفة المنصور وغيره بالزنادقة .
وأقول : إن كثيرًا من الغلوّ إذا انتشر بين العامة أفسد نظامها وأضرّ بأمنها
كما كان من آراء الحلاج وأمثاله[5] فتضطر السياسة للدخول في الأمر لحفظ أمن
العامة فتأخذ صاحب الفكر لا لأنه تفكر ولكن لأنه لم يرد أن يقصر حق الحرية على
شخصه بل أراد أن يقيد غيره بما رآه من الحرية لنفسه مع أن غيره في غِنى عمّا يراه
هو حقًّا له ، وتخشى الفتنة إذا استمر مدعي الحرية في غلوائه لهذا يرى حُفاظ النظام
أن أمثال هؤلاء يجب أن يُنقَّى منهم المجتمع صونًا له عما يزعزع أركانه . ونحن
نرى الفلسفة اليوم تضطهد الدين هذا الضرب من الاضطهاد . ألم تقض الحكومة
الفرنسية على الراهبين والراهبات أن تكون جمعياتهم ومدارسهم تحت سيطرة
الحكومة وأن لا ينشأ شيء منها إلا بإذن من الحكومة ، ومن لم يخضع لذلك تنحل
جمعيته وتقفل مدارسه بقوة السلاح . وقد ينفى من البلاد كما نفي كثيرون في سنين سابقة ؟ ولكن هل يسمَّى هذا اضطهادًا ؟ كلا ولكن الاضطهاد حق الاضطهاد هو اضطهاد محكمة التفتيش واضطهاد رؤساء الإصلاح بعدها في أول نشأتهم .
ماذا يقول القائلون ؟ إن التعليم عند المسلمين كان غريبًا أمرُه ، يكاد يكون خفيًّا والمتكلم والمحدث والنحويّ والمتأدب والفيلسوف والفلكي والمهندس ! ينتقل الطالب من بين يدي الفقيه ليجلس بين يدي الفيلسوف ومن مجلس الحديث إلى مجلس الأدب . وإذا وقعت مذاكرة بينهم في مسألة من المسائل أخذت الحرية مأخذها في الإقناع والإلزام وسقطت قيمة الغلوّ في التعبير وأخذ التسامح بينهم مأخذه . كان عمرو بين عبيد رئيس المعتزلة وأشدهم صلابة في أصول مذهبه ومع ذلك هو من مشايخ الإمام البخاري صاحب الصحيح وكانت له منزلة عند المنصور تعلو كل ذي منزلة عنده حتى قال له يومًا وهو خارج من بين يديه : ( رَميتُ لكل الناس حَبًّا فلقطوا إلا أنت يا عمرو بن عبيد ) فانظر كيف كان لإمام من أئمة السنة أن يصل سنده في الحديث برئيس من رؤساء المعتزلة ولا يرى في ذلك بأسًا .
إذا عدَّ عادٌّ بعض رجال العلم الذين أخذتهم القسوة في الإسلام وقتلتهم حماقة
الملوك بإغراء الفقهاء وأهل الغلوّ في الدين فما عليه إلا أن ينظر في أحوالهم فيقف
لأول وهلة على أن الذي أثار أولئك عليهم ليس مجرد العصبية للدين ، وأن ليست
الغيرة عليه هي الباعث لهم على الوشاية بهم وطلب تنكيلهم . وإنما تجد الحسد هو
العامل الأول ذلك كله والدين آلة له . ولهذا لا ترى مثل ذلك الأذى يقع إلا على
قاضي قضاة ( كابن رشد ورجوع الحاكم إلى العفو عنه وإنزاله منزلته دليل على
ذلك ) أو وزير أو جليس خليفة أو سلطان أو ذي نفوذ عظيم بين العامة . وهذا كما
يقع من الفقهاء مثلاً لإيذاء الفلاسفة يقع من الفقهاء بعضهم مع بعض لإهلاك بعضهم
بعضًا كما يشهد به العيان ويحكي لنا التاريخ ، فليس هذا كذلك معدودًا من معنى
اضطهاد الدين للفلسفة ؛ لأن التحاسد أكثر ما يقع بين من لا دين لهم على الحقيقة
وإن لبسوا لباسه . وإنما ذلك الاضطهاد هو الذي يحمل عليه محض الاختلاف في
العقيدة أو ظن المخالفة للدين في شيء من العلم أو العمل لضيق الدين عن أن يسع
المخالف بجانبه وهذا لم يقع في الإسلام ، اللهم إلا أن يكون حادث لم يصل إلينا .
هذه طبيعة الدين الإسلامي عرضت عليك في أهمّ عناصرها ومقوّمات مزاجها.
وهذا كان أثرها في العالم الشرقيّ والغربي . وهذه سعة فضل الدين وقوته على
احتمال مخالفيه وتيسيره لأولئك المخالفين أن يحتموا به متى رضوا بأن يستظلُّوا
بظله ، هل في هذا خفاء على ناظر ، وهل يرضى لبيب لنفسه أن ينكر الضوء
الباهر ، أفلا يبسم الإسلام عجبًا وهو في أشدّ الكرب لعقوق أبنائه ، من أديب لم
يكن يعده من أعدائه إن لم يحسبه في أحبائه ، عندما يراه يسدّد سهمه إليه ، ويجور
كما يجور الجائرون في حكمه عليه ؟
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) قد نشرنا جملة صالحة من ذلك في مقالات (مدنية العرب) في المجلد الثالث .
(2) هو الفيلسوف درابر الأمريكاني .
(3 و 4) قد سبق ذلك في المقالة الأولى التي رد بها الكاتب على الجامعة .
(5) المنار: ذكر إمام الحرمين في كتابه (الشامل) في أصول الدين أنه كان بين الحلاج و الجنابي رئيس القرامطة اتفاق سري على قلب الدولة وأن ذلك هو السبب في قتل الحلاج .
__________
الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية
وهو المقال الثالث لذلك الإمام الحكيم والأستاذ العليم
نتائج هذه الأصول وآثارها في المسلمين
إلام أفضت طبيعة الإسلام بالمسلمين ؟ وماذا كان أثرها في أسلافهم الأولين ؟
فتح عمرو بن العاص رضي الله عنه مصر واستولى بجيشه على الإسكندرية بعد
لحاق النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - بالرفيق الأعلى بست سنوات ، في
رواية وتسع سنوات ، في رواية أخرى والإسلام في طلوع فجره ، وتَفَتُّح نوره ، فكان
من بقايا ما تركت الأزمان الأولى : رجلُ مسيحيُ من اليعقوبيين اسمه يوحنا النحوي
كان في بدء أمره ملاحًا يعبرُ الناسُ بسفينته ، وكان يميل إلى العلم بطبيعته فإذا ركب
معه بعض أهل العلم أصغى إلى مذاكرتهم .
اشتد به الشوق فترك الملاحة واشتغل بالعلم وهو ابن أربعين سنة فبلغ فيه ما
لم يبلغه الناشئون فيه من طفوليتهم وقد أحسن من العلم فنونًا كثيرةً حتى عُدَّ من فلاسفة
وقته وأطبائه ومناطقته .
يقول كثير من مؤرخي الغربييين ومؤرخي المسلمين : إن عمرو بن العاص
سمع به فاستدناه منه وأكرمه لعلمه ووقعت بينهما محبة ظهر أمرها واشتهر حتى قال
أحد فلاسفة الغربيين : ( إن المحبة التي نشأت بين عمرو بن العاص فاتح مصر
ويوحنا النحوي ترينا مبلغ ما يسمو إليه العقل العربي من الأفكار الحرّة والرأي
العالي . بمجرد ما أعتق من الوثنية الجاهلية ودخل في التوحيد المحمدي أصبح على
غاية من الاستعداد للجوَلان في ميادين العلوم الفلسفية والأدبية من كل نوع ) .
خالط المسلمون أهل فارس و سوريا وسواد العراق وأدخلوهم في أعمالهم ولم
يمنعهم الدين عن استعمالهم حتى كانت دفاترهم بالرومية في سوريا ولم تغيّر
بالعربية إلا بعد عشرات من السنين فاحتكت الأفكار بالأفكار ، وأفضت سماحة الدين
إلى أن أخذ المسلمون في دراسة العلوم والفنون والصنائع .
* * *
( اشتغال المسلمين بالعلوم الأدبية ثم العقلية )
وبعد عشرين سنة من وفاته عليه الصلاة والسلام أخذ الخليفة علي بن أبي
طالب - كرم الله وجهه - يحضُّ على تعليم الآداب العربية ويطلب وضع القواعد لها
لما رأى من حاجة الناس إلى ذلك ، وأخذ المسلمون يتحسّسُون نور العلم في ظلام تلك
الفتن استرسالاً مع ما يدعوهم إليه دينهم وتنبّههم لطلبه شريعتهم . وإن كانت
الحروب الداخلية التي اشتعلت نارها في أطراف بلادهم للنزاع في أمر الخلافة قد
شغلتهم عن كل شيء من مصالحهم فإنها لم تشغلهم عن تلمس العلوم والتناول منها
بالتدريج على سنة الفطرة . فالبراعة في الآداب من علم بوقائع العرب وتاريخهم
وقول الشعر وإنشاء البليغ من النثر قد بلغت في خلافة بني أمية مبلغًا لم تبلغه أمة قط
في مثل مدتها ، وكان الخلفاء الأمويون يعلون منزلتها ويرفعون مكانات الشعراء
والخطباء والعلماء بالسير ، ثم ظهرت آثار العلوم العقلية في آخر دولتهم وترجمت
جملة من الكتب العقلية والصناعية قبل نهاية القرن الأول .
نقل الخلفاء الأمويون دار الخلافة من المدينة إلى الشام ، ولم يسيروا في الزهد
سيرة الخلفاء الراشدين فقد جاء رسول من الفرس إلى عمر بن الخطاب - رضي
الله عنه - فلما سأل عنه دُلَّ عليه فذهب إليه فإذا هو نائم على الأرض تحت نخل
البقيع بين الفقراء وجاءت رسل الملوك إلى معاوية - رحمه الله - فإذا هو في قصر
مشيد محلَّى البنيان بأجمل ما يكون من الصنعة العربية ، مزين بالجنات والرياض
وينابيع الماء ، مفروش بأحسن الفرش يرى الناظر فيه أفخر الأثاث والرياش . ولم
يكن معاوية في ذلك قد خالف الدين أو حاد عن طريقه وإنما تناول مباحًا وتمتع
برخصة آتاه الله إياها ولا يخفى ما في ذلك من ترويج فنون الإبداع في الصنعة على
اختلاف ضروبها .
* * *
( اشتغالهم بالعلوم الكونية في أوائل القرن الثاني )
انقضت دولة بني أمية والناس في ظلمات من الفتن كما قلنا ودالت الدولة لبني
العباس واستقرت في نصابها من آل بيت النبي قرب نهاية الثلث الأول من القرن
الثاني للهجرة ( سنة 132 ) ، ثم نقل المنصور عاصمة الملك إلى بغداد فصارت بعد
ذلك عاصمة العلم والمدنية أيضًا . وأخذ المنصور ينشئ المدارس للطب والشريعة
وكان قد جعل من زمنه ما ينفقه في تعلم العلوم الفلكية ، وأكْمَلَ حفيدُه الرشيدُ ما شرع
فيه وأمر بأن يلحق بكل مسجد مدرسة لتعليم العلوم بأنواعها . وجاء المأمون
فوصلت به دولة العلم إلى أوج قوتها ، ونالت به أكبر ثروتها ، ويقال : إنه حمل
إلى بغداد من الكتب المكتوبة بالقلم ما يثقل مائة بعير ، وكان من شروط صلحه مع
ميشيل الثالث أن يعطيَهُ مكتبةً من مكاتب الأستانة . فوجد مما فيها من النفائس كتاب
بطليموس في الرياضة السماوية فأمر المأمون في الحال بترجمته وسمَوه بالمجسطي
ولا يسهل على كاتب إحصاء ما ترجم من كتب العلوم على اختلافها في دولة بني
العباس أبناء عم الرسول صلى الله عليه وسلم .
* * *
( إنشاؤهم دور الكتب العامة والخاصة )
وقد أخذت دول الإسلام تعتني بديار الكتب عناية لم يسبقْها مثلها من دول
سواها حتى كان في القاهرة في أوائل القرن الرابع مكتبة تحتوي على مائة ألف
مجلد منها ستة آلاف في الطب والفلك لا غير . وكان من نظامها أن تعار بعض
الكتب للطلبة المقيمين في القاهرة . وكان فيها كُرَتَان سماويتان إحداهما من الفضة
يقال : إن صانعها بطليموس نفسه وإنه أنفق فيها ثلاثة آلاف دينار . والثانية من
البرنز ، ومكتبة الخلفاء في أسبانيا بلغ ما فيها ست مائة ألف مجلد . وكان فهرستها
أربعة وأربعين مجلدًا . وقد حققوا أنه كان في أسبانيا وحدها سبعون مكتبة عمومية .
وكان في هذه المكاتب مواضع خاصة للمطالعة والنسخ والترجمة .
وبعض الخاصة كانوا يولعون بالكتب ويجعلون ديارهم معاهد دراسة لما
تحتوي عليه . يقال إن سلطان بخارى دعا طبيبًا أندلسيًّا ليزوره فأجابه أن ذلك لا
يمكنه ؛ لأن كتبه تحتاج إلى أربعمائة جَمَل لتحملها وهو لا يستغني عنها كلها .
وكان حنين بن إسحق النسطوري في بغداد ممن جعل في داره مكتبة عامة يَفِدُ إليها
طلاب العلوم العقلية والرياضية وكان يتبرع بمذاكرتهم فيما يريدون المذاكرة فيه .
* * *
( إنشاؤهم المدارس للعلوم وكيفية التدريس )
غُطي بسيط المملكة الإسلامية على سعتها بالمدارس . نقول ( على سعتها )
لأنها زادت في السعة على المملكة الرومانية بكثير . فكنت تجد المدارس في كل
الأقطار : في المغول ، في التتار من جهة المشرق ، في مراكش ، في فاس ، في
أسبانيا من جهة المغرب .
كانت طريقة الأساتذة في التدريس أن كل مدرس يُعِدُّ درسه ويكتب في
الموضوع الذي يلقي الدرس فيه ما يريد أن يكتب ثم يلقيه على التلامذة وهم يكتبون
عنه ، ثم تكون هذه الدروس كتبًا وأماليّ تنشر بين الناس في كل علم . وهنا نبادر
إلى القول بأن المؤرخين قد أجمعوا على أن جميع المقالات والكتب كانت تنشر
ويتداولها الناس بدون أدنى مراقبة ولا حجر ولا نقص شيء مما كتب صاحب
الكتاب غير أن مؤرخًا واحدًا رأيته ذكر أنه قد وُضِعَ قانونٌ في بعض الممالك
الإسلامية لنشر كتب العقائد مقتضاه أن لا ينشر منها شيء إلا بإذنٍ ، على أني لا
أعلم شيئًا من ذلك وقع في الممالك الإسلامية أيام كان الإسلام إسلامًا .
نرجع إلى الكلام في المدارس الإسلامية ، يقول جبون في كلامه على حماية
المسلمين للعلم في الشرق وفي الغرب : ( إن ولاة الأقاليم والوزراء كانوا ينافسون
الخلفاء ، في إعلاء مقام العلم والعلماء ، وبسط اليد في الإنفاق على إقامة بيوت
العلم ومساعدة الفقراء على طلبه ، وكان عن ذلك أن ذوق العلم ووجدان اللذة في
تحصيله قد انتشرا في نفوس الناس من سمرقند وبخارى إلى فاس و قرطبة . أنفق
وزير واحد لأحد السلاطين ( هو نظام الملك ) مائتي ألف دينار على بناء مدرسة في
بغداد ، وجعل لها من الريع يصرف في شئونها خمسة عشر ألف دينار في السنة .
وكان الذين يُغْذوْن بالمعارف فيها ستة آلاف تلميذ فيهم ابن أعظم العظماء في
المملكة وابن أفقر الصناع فيها ، غير أن الفقير ينفق عليه من الريع المخصص
للمدرسة وابن الغني يكتفي بمال أبيه . والمعلمون كانوا يُنقدون رواتب
وافرة ) . ا هـ
انقسمت الممالك الإسلامية في زمن من الأزمان إلى ثلاثة أقسام وتنازع
الخلافة ثلاث شيع . كان العباسيون في آسيا ( الشرق ) والأمويون في الأندلس من
أوروبا ( الغرب ) والفاطميون في مصر من أفريقيا ( الوسط ) ولم يكن تنافس هذه
الدول الثلاث قاصرًا على الملك والسلطان ولكن كان التنافس في العلم والأدب .
وكان مرصد سمرقند قائمًا في ناحية المشرق يشير إلى ما كان عليه المشرقيون من
العناية برياضة الأفلاك ، ومرصد جيرالد في الأندلس يجيبه بأن أهل المغرب ليسوا
بأحط منهم في الإدراك .
جميع المدارس في البلاد الإسلامية أخذت نظام الامتحان في المدارس الطبية
عن مدرسة الطب في القاهرة وكان من أشد النظامات وأدقها . ولم يكن لطبيب أن
يمارس صناعته إلا على شريطة أن تكون بعد شهادة بأنه فاز في الامتحان على
شدته . وأول مدرسة طبية أنشئت في قارة أوربا على هذا النظام المحكم هي التي
أنشأها العرب في ساليرن من بلاد إيطاليا ، وأول مرصد فلكي أقيم في أوروبا هو
الذي أقامه العرب في أشبيلية من بلاد أسبانيا .
وُلع المسلمون بالعلوم الكونية على اختلافها ، والفنون الأدبية بجميع أنواعها ،
حتى القصص والأساطير الخيالية ، في الأحوال الاجتماعية ، وابتدأوا بأخذ العلم
عن اليونانية والسريانية ، وأخذوا ينقلون كتب الأولين من تلك الألسن إلى اللغة
العربية بالترجمة الصحيحة ، وكان مترجموهم في أول الأمر مسيحيين وصابئين
وغيرهم ، ثم تعلم كثير من علماء المسلمين اللسان اليوناني واللاتيني وكتبوا معاجم
في اللسانين . وذلك كله ليأخذوا العلوم من أصولها ، وينقلوها إلى لسانهم على
حسب ما يصل إليه علمهم فيها ، وكان المعلمون لأبناء العظماء في أول الأمر من
المسيحيين واليهود ثم أنشئت المدارس الجامعة وكان المدرسون فيها من كل ملة
ودين . كلٌّ يعلّم العلم الذي عرف هو بالبراعة فيه .
* * *
( علوم العرب واكتشافاتهم )
كان علم العرب في أول الأمر يونانيًّا لكنه لم يلبث كذلك إلا دون قرن واحد ثم
صار عربيًّا . ولم يرض العربيّ أن يكون تلميذًا لأرسطو و أفلاطون أو إقليدس أو
بطليموس زمنًا طويلاً كما بقي الأوربي كذلك عشرة قرون كاملة من التاريخ
المسيحي .
قالوا : إن باكون هو أول من جعل التجربة والمشاهدة قاعدة للعلوم العصرية
وأقامها مقام الرواية عن الأساتذة والتمسك بآراء المصنفين وأطلق العلم من رق
التقليد . ذلك حق في أوربا . أما عند العرب فقد وضعت هذه القاعدة عندهم لبناء
العلم عليها في أواخر القرن الثاني من الهجرة . أول شيء تميز به فلاسفة العرب
عمن سواهم من فلاسفة الأمم هو بناء معارفهم على المشاهدات والتجربيات وأن لا
يكتفوا بمجرد المقدمات العقلية في العلوم ما لم تؤيدها التجربة حتى لقد نقل
جوستاف لوبون عن أحد فلاسفة الأوربيين : أن القاعدة عند العرب هي ( جرّب
وشاهد ولاحظ تكن عارفًا ) وعند الأوربي إلى ما بعد القرن العاشر من التاريخ
المسيحي ( اقرأ في الكتب وكرر ما يقول الأساتذة تكن عالمًا ) . ( فلينظر
المصريون وغيرهم من الشرقيين كيف انقلب الحال ، وماذا أعقب من سوء المآل )
قال ديلاَمبْر في تاريخ علم الهيأة : ( إذا عددت في اليونان اثنين أو ثلاثة من
الراصدين أمكنك أن تعد من العرب عددًا كبيرًا غير محصور ) . أما في الكيمياء
فلا يمكنك أن تعد مُجَرِّبًا واحدًا عند اليونانيين ولكنك تعد من المجرّبين مئين عند
العرب ، ولهذا عدت الكيمياء الحقيقية من اكتشاف العرب دون سواهم . وقد كانوا
يعدون الهندسة والفنون الرياضية من الآلات المنطقية ، يستعملونها في الاستدلال
على القضايا النظرية ، وهي من أصدق الأدلة في الإيصال إلى المجهولات كما هو
معروف .
العرب هم أول من استعمل الساعات الدَّقَّاقة للدلالة على أقسام الزمن وهم
أوّل من أتقن استعمال الساعات الزوالية لهذا الغرض . وقد اكتشفوا قوانين لثقل
الجسام جامدها ومائعها حتى وضعوا لها جداول في غاية الدقة والصحة كما وضعوا
جداول للأرصاد الفلكية وكانت تلك الجداول معروفة يطلع عليها الناظرون في
سمرقند وبغداد وقرطبة حتى لقد وصلوا بتلك القوانين إلى ما يقرب من اكتشاف
الجاذبية .
لا يمكنني في مقالي هذا أن أعدّ ما اكتشف العرب ولا ما زادوه في العلوم
على اختلاف أنواعها فذلك يحتاج إلى سِفْر كبير . وقد أحصى ذلك أهل المعرفة
والإنصاف من فلاسفة الأوربيين ومؤرخيهم . وربما يتيسر لأبناء الأمة العربية أن
ينشروا ذلك لإخوانهم حتى يعرفوا ما كان عليه أسلافهم[1] ولكني أذكر كلمة قالها
بعض حكماء الغربيين[2] : ( تأخذنا الدهشة أحيانًا عندما ننظر في كتب العرب فنجد
آراء كنا نعتقد أنها لم تولد إلا في زماننا كالرأي الجديد في ترقي الكائنات العضوية
وتدرجها في كمال أنواعها فإن هذا الرأي كان مما يعلّمه العرب في مدارسهم وكانوا
يذهبون به إلى أبعد مما ذهبنا ، فكان عندهم عامًّا يشمل الكائنات غير العضوية
والمعادن .
والأصل الذي بنيت عليه الكيمياء عندهم هو ترقي المعادن في أشكالها .
قال الخازني : إذا سمع الشعب الجاهل ما يقال بين العلماء أن الذهب قد تقلب في
الأشكال المختلفة حتى صار ذهبًا ظن من هذا أنه مرَّ في صور معادن أخرى فكان
رصاصًا ثم قصديرًا ثم صُفرًا ثم فضة ثم صار بعد ذلك ذهبًا . ولا يعلم أن الفلاسفة
إذا قالوا ذلك فإنما يقصدون منه ما أرادوه من قولهم في الإنسان أنه وصل إلى حالته
الحاضرة بالتدريج ومن طريق الترقي وهم لم يعنوا بقولهم هذا أنه تقلب في صور
الأنواع المختلفة كأنْ كان ثورًا ثم حمارًا ثم فرسًا ثم قردًا ثم صار بعد ذلك
إنسانًا ) . ا هـ ، ويقول الفيلسوف كوستاف لوبون : ( إن العرب أول من علّم العالم
كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين ) .
وهنا أنكر على بعض فلاسفتهم ما نقلوه عن ابن رشد من أنه ذهب في حرية
الرأي إلى نقض أصل الدين وقال : إن الروح لا بقاء لها بعد فناء الجسد وإنما الذي
يبقى هي أرواح الأنواع . فإن هذا خطأ عرض لهم من سوء فهم كلامه في بيان
بقاء الأنواع دون الأشخاص فإنه قال كما قال أرسطو وغيره : إن الأشخاص توجد
وتفنى ، وأما الأنواع فهي باقية لا تزول . وهذا باب آخر يغير بالمرة ما استنتجوا
منه ( وقد سبق الكلام في بيان رأيه من وجه آخر ) [3] كما أخطأوا في قولهم عنه
أنه كان يعتقد بأن الله روح العالم يظهر في صورة والكل يرجع إليه بمعنى : أنه يفنى
في ذاته ولا يبقى في العالم باقٍ آخر وهو يقرب من قولهم السابق . فإن ابن رشد
كان مسلمًا وكان يعرف أن الإسلام لا ينافي العلم وإنما ينافي هذا الضرب من الوهم
الذي لم يسقط فيه أحد إلا من عثرة في طريق العلم أو الاسترسال مع الخيال .
وكثير ممن سكروا بهذا الرأي أفاقوا منه . ولكن كتب ابن رشد التي بين أيدينا تبعد
بنا عن نسبة هذا الرأي إليه كما سبق بيانه[4] ولكني لا أنكر نسبته لو نسب إلى ابن
سبعين وهو ممن أخذ عن تلامذة ابن رشد فإن في كلامه ما يدل على ذلك .
ويقول فيلسوف آخر : ( إن العلوم التي تلقاها العرب عن اليونانيين وغيرهم
وكانت ميتة بين دفات الدفاتر مقبورة بين جدران المكاتب أو مخزونة في بعض
الرءوس ، كأنها أحجار ثمينة في بعض الخزائن لا حظَّ للإنسانية منها سوى النظر
إليها - صار عند العرب حياة الآداب ، وغذاء الأرواح ، وروح الثروة ، وقوام
الصنعة ، ومهمازًا للقوى البشرية يسوقها إلى كمالها الذي أعِدَّتْ له . وليس في
الأوربيين من درس التاريخ وحكم العقل ثم ينكر أن الفضل - في إخراج أوربا من
ظلمة الجهل إلى ضياء العلم وفي تعليمها . كيف تنظر وكيف تتفكر وفي معرفتها أن
التجربة والمشاهدة هما الأصلان اللذان يبنى عليهما العلم - إنما هو للمسلمين
وآدابهم ومعارفهم التي حملوها إليهم وأدخلوها من أسبانيا وجنوب إيطاليا وفرنسا
عليهم . وكان من حظ العلم العربي والأدب المحمدي عندما دخلا إلى إيطاليا أن
البابا كان غائبًا لأن كرسيه كان انتقل إلى فرنسا في أفنيون نحو سبعين سنة فدبّ
العلم إلى شمال إيطاليا واستقر به القرار هناك . إن شوارع باريس لم تفرش
بالحجارة إلا في القرن الثاني عشر وقد رصّت بالبلاط على نحو ما رصّت به مدن
أسبانيا ) . اهـ
ويقول آخر : ( لا أدري كيف أعطانا الإسلام في مدة قرنين عددًا من الفلكيين
يطول سرد أفراده وإن الكنيسة تسلّطت على العالم المسيحي اثني عشر قرنًا في
أوربا ولم تمنحنا فلكيًّا واحدًا ) .
هذا النماء والزكاء العلمي لم يكن خاصًّا بطائفة دون طائفة بل كان الناس في
التمكن من تناوله سواء ، وإنما كان التفاضل بالجِدِّ والعمل ، والفضل في ذلك كله
لحلم الخلفاء وعمّالهم ، وسماحة الدين ويسره وسهولته على أهله وأهل ذمته . قال
بعض فلاسفة الغربيين قولاً يعرفه الحق وتثبته المشاهدة : ( إن شعوب الأرض لم
تَرَ قط فاتحًا بلغ من الحلم هذا المبلغ ( يريد فاتحي الإسلام على اختلافهم ) ولا دينًا
بلغ في لينه ولطفه هذا الحد ) .
* * *
( أخذ الخلفاء والأمراء بيد العلم والعلماء )
إن الخلفاء الذين يقال عنهم : إنهم رؤساء دين وحكام سياسة معًا كانوا هم
بأنفسهم المتعلمين للعلوم الداعين إلى تعلمها . كانوا العالمين العاملين . كان خليفة
كالمأمون يضطهد أحيانًا أعداء الفلسفة ، وقد عرف التاريخ كثيرين من أرباب
الشهرة الذين قضوا في سجنه الشهور أو السنين ؛ لأنهم كانوا يعادون الفلسفة ظنًّا
منهم أن منها ما يعدو على الدين فيفسده . هل رأيت في غير الإسلام رئيسًا
يضطهد أعداء العلم وجفاة الفلسفة ؟ لعلك لا تجده أبدًا .
كان أهل العلم والأدب عامة يجدون من الاحترام عند الخلفاء والأمراء
والخاصة ما يليق بهم كيفما كان حالهم . وسأضرب المثل بالشيخ أبي العلاء المعري
لشهرته بين الناس بما يشبه الزندقة : يذكر عليُ بن يوسف القفطي أن صالح بن
مرداس صاحب حلب خرج إلى المعرة وقد عصى أهلها عليه فنازلها وشرع في
حصارها ورماها بالمنجنيق فلما أحسّ أهلها بالغَلب سعوا إلى أبي العلاء بن سليمان
وسألوه أن يخرج ويشفع فيهم فخرج ومعه قائد يقوده فأكرمه صالح واحترمه ثم قال :
ألك حاجة ؟ قال : الأمير أطال الله بقاءه كالسيف القاطع لان مسّه وخشن حده ،
وكالنهار البالغ قاظ وسطه وطاب برده { خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الجَاهِلِينَ } ( الأعراف : 199 ) ، فقال له صالح : قد وهبتها لك . ثم قال له :
أنشدنا شيئًا من شعرك لنرويه فأنشده على البديهة أبياتًا فيه فترحل صالح . فانظر
كيف وهب الأمير بلدًا عصى أهله لفيلسوف معروف بما هو عنه معروف ، ولو
ذكرت ما نال العلماء والفلاسفة عند الأمراء والخلفاء لطال بي المقال أكثر مما طال
وفيما سبق كفاية لمكتف .
* * *
( إزالة شبهتين وبيان حقيقة الاضطهاد )
قد يتوهم قوم أن الاضطهاد قد يظهر في مقت العامة وخلقهم ما يخلقون من
المفتريات على أهل العلم والفكر الحر وهمس بعضهم في آذان بعض وتغامزهم
على أهل الفضل ، ولمزهم إياهم بالألقاب بل واحتقارهم في بعض الأحيان وهذا
النوع منه عند المسلمين بلا نكير ، وهو خطأ ظاهر ؛ لأن هذا النوع مما يكره أهل
العلم لا تخلو منه أرض ولا تطهر منه بلاد مهما بلغ أهلها من الحرية ومهما بلغ
ذوق العلم من نفوس أهلها فإن القائمين على عقيدة الكاثوليك إلى اليوم في أرض
فرنسا نفسها يمقتون الفلاسفة الذين يظهرون بمعاداة الكنيسة ويكتبون ما يوهن
قواعدها وقد يخلق عليهم أحزاب الكاثوليك ما لم يقولوه ، ويرون أن النظر في كتبهم
لا يجوز في شريعة الدين . ونحن لا نرتاب في أن نحو هذا كان عند المسلمين أيام
كانت سوق الفلسفة رائجة عندهم ولكنه ليس من الاضطهاد في شيء وإنما هي نفرة
الإنسان مما لا يعرف مع ترك صاحبه وشأنه يمضي في سبيله إلى حيث يشاء .
يقول آخرون : إن التاريخ يروي لنا أن بعض أرباب الأفكار قد أخذه السيف
لغلوّه في فكره فلم يترك له من الحرية ما يتمتع به إلى منتهى ما يبلغ به وليس
يصح أن ينكر ما صنع الخليفة المنصور وغيره بالزنادقة .
وأقول : إن كثيرًا من الغلوّ إذا انتشر بين العامة أفسد نظامها وأضرّ بأمنها
كما كان من آراء الحلاج وأمثاله[5] فتضطر السياسة للدخول في الأمر لحفظ أمن
العامة فتأخذ صاحب الفكر لا لأنه تفكر ولكن لأنه لم يرد أن يقصر حق الحرية على
شخصه بل أراد أن يقيد غيره بما رآه من الحرية لنفسه مع أن غيره في غِنى عمّا يراه
هو حقًّا له ، وتخشى الفتنة إذا استمر مدعي الحرية في غلوائه لهذا يرى حُفاظ النظام
أن أمثال هؤلاء يجب أن يُنقَّى منهم المجتمع صونًا له عما يزعزع أركانه . ونحن
نرى الفلسفة اليوم تضطهد الدين هذا الضرب من الاضطهاد . ألم تقض الحكومة
الفرنسية على الراهبين والراهبات أن تكون جمعياتهم ومدارسهم تحت سيطرة
الحكومة وأن لا ينشأ شيء منها إلا بإذن من الحكومة ، ومن لم يخضع لذلك تنحل
جمعيته وتقفل مدارسه بقوة السلاح . وقد ينفى من البلاد كما نفي كثيرون في سنين سابقة ؟ ولكن هل يسمَّى هذا اضطهادًا ؟ كلا ولكن الاضطهاد حق الاضطهاد هو اضطهاد محكمة التفتيش واضطهاد رؤساء الإصلاح بعدها في أول نشأتهم .
ماذا يقول القائلون ؟ إن التعليم عند المسلمين كان غريبًا أمرُه ، يكاد يكون خفيًّا والمتكلم والمحدث والنحويّ والمتأدب والفيلسوف والفلكي والمهندس ! ينتقل الطالب من بين يدي الفقيه ليجلس بين يدي الفيلسوف ومن مجلس الحديث إلى مجلس الأدب . وإذا وقعت مذاكرة بينهم في مسألة من المسائل أخذت الحرية مأخذها في الإقناع والإلزام وسقطت قيمة الغلوّ في التعبير وأخذ التسامح بينهم مأخذه . كان عمرو بين عبيد رئيس المعتزلة وأشدهم صلابة في أصول مذهبه ومع ذلك هو من مشايخ الإمام البخاري صاحب الصحيح وكانت له منزلة عند المنصور تعلو كل ذي منزلة عنده حتى قال له يومًا وهو خارج من بين يديه : ( رَميتُ لكل الناس حَبًّا فلقطوا إلا أنت يا عمرو بن عبيد ) فانظر كيف كان لإمام من أئمة السنة أن يصل سنده في الحديث برئيس من رؤساء المعتزلة ولا يرى في ذلك بأسًا .
إذا عدَّ عادٌّ بعض رجال العلم الذين أخذتهم القسوة في الإسلام وقتلتهم حماقة
الملوك بإغراء الفقهاء وأهل الغلوّ في الدين فما عليه إلا أن ينظر في أحوالهم فيقف
لأول وهلة على أن الذي أثار أولئك عليهم ليس مجرد العصبية للدين ، وأن ليست
الغيرة عليه هي الباعث لهم على الوشاية بهم وطلب تنكيلهم . وإنما تجد الحسد هو
العامل الأول ذلك كله والدين آلة له . ولهذا لا ترى مثل ذلك الأذى يقع إلا على
قاضي قضاة ( كابن رشد ورجوع الحاكم إلى العفو عنه وإنزاله منزلته دليل على
ذلك ) أو وزير أو جليس خليفة أو سلطان أو ذي نفوذ عظيم بين العامة . وهذا كما
يقع من الفقهاء مثلاً لإيذاء الفلاسفة يقع من الفقهاء بعضهم مع بعض لإهلاك بعضهم
بعضًا كما يشهد به العيان ويحكي لنا التاريخ ، فليس هذا كذلك معدودًا من معنى
اضطهاد الدين للفلسفة ؛ لأن التحاسد أكثر ما يقع بين من لا دين لهم على الحقيقة
وإن لبسوا لباسه . وإنما ذلك الاضطهاد هو الذي يحمل عليه محض الاختلاف في
العقيدة أو ظن المخالفة للدين في شيء من العلم أو العمل لضيق الدين عن أن يسع
المخالف بجانبه وهذا لم يقع في الإسلام ، اللهم إلا أن يكون حادث لم يصل إلينا .
هذه طبيعة الدين الإسلامي عرضت عليك في أهمّ عناصرها ومقوّمات مزاجها.
وهذا كان أثرها في العالم الشرقيّ والغربي . وهذه سعة فضل الدين وقوته على
احتمال مخالفيه وتيسيره لأولئك المخالفين أن يحتموا به متى رضوا بأن يستظلُّوا
بظله ، هل في هذا خفاء على ناظر ، وهل يرضى لبيب لنفسه أن ينكر الضوء
الباهر ، أفلا يبسم الإسلام عجبًا وهو في أشدّ الكرب لعقوق أبنائه ، من أديب لم
يكن يعده من أعدائه إن لم يحسبه في أحبائه ، عندما يراه يسدّد سهمه إليه ، ويجور
كما يجور الجائرون في حكمه عليه ؟
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) قد نشرنا جملة صالحة من ذلك في مقالات (مدنية العرب) في المجلد الثالث .
(2) هو الفيلسوف درابر الأمريكاني .
(3 و 4) قد سبق ذلك في المقالة الأولى التي رد بها الكاتب على الجامعة .
(5) المنار: ذكر إمام الحرمين في كتابه (الشامل) في أصول الدين أنه كان بين الحلاج و الجنابي رئيس القرامطة اتفاق سري على قلب الدولة وأن ذلك هو السبب في قتل الحلاج .
(5/481)
الكاتب : محمد عبده
__________
الإسلام اليوم
أو الاحتجاج بالمسلمين على الإسلام
المقال الرابع لذلك الإمام الحكيم
ربما يسأل سائل فيقول : سلمنا أن طبيعة الإسلام تأبى اضطهاد العلم بمعناه
الحقيقي ، وأنه لم يقع من المسلمين الأولين تعذيب ولا إحراق ولا شنق لحملة العلوم
الكونية ، ومقوّمي العقول البشرية ، لكن أليس العلماء من المسلمين اليوم أعداء
العلوم العقلية ، والفنون العصرية ، أوَليس الناس تبعًا لهم ؟ أفلا يكون للأديب عذره
فيما يراه ويسمعه حوله ؟ ألم يسمع بأن رجلاً في بلاد إسلامية غير البلاد المصرية
كتب مقالاً في الاجتهاد والتقليد وذهب فيه إلى ما ذهب إليه أئمة المسلمين كافة ،
ومقالاً بَيَّنَ فيه رأيه في مذهب الصوفية وقال : إنه ليس مما انتفع به الإسلام بل قد
يكون مما رزئ به أو ما يقرب من هذا وهو قول قال به جمهور أهل السنة من قبله ،
فلما طبع مقاله في مصر تحت اسمه هاج عليه حَمَلَةُ العمائم ، وسَكَنَةُ الأثواب
العَباعِب ، وقالوا : إنه مرق من الدين ، أو جاء بالإفك المبين ، ثم رفع أمره إلى
الوالي فقبض عليه وألقاه في السجن . فرفع شكواه إلى عاصمة الملك وسأل السلطان
أن يأمر بنقله إلى العاصمة ليثبت براءته مما اختلف عليه بين يدي عادل لا يجور ،
ومهيمن على الحق لا يحيف ، إلخ ما يقال في الشكوى . فأجيب طلبه لكن لم ينفعه
ذلك كله فقد صدر الأمر هناك أيضًا بسجنه ولم يعف عنه إلا بعد أشهر مع أنه لم
يَقُل إلا ما يتفق مع أصول الدين ولا ينكره القارئ والكاتب ، ولا الآكل والشارب .
ألم يسمع السامعون أن الشيخ السنوسي ( والد السنوسي صاحب الجغبوب )
كتب كتابًا في أصول الفقه زاد فيه بعض مسائل على أصول المالكية ، وجاء في
كتاب له ما يدل على دعواه أنه ممن يفهم الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة وقد
يرى ما يخالف رأي مجتهد أو مجتهدين . فعلم بذلك أحد المشايخ المالكية ( رحمه
الله تعالى ) وكان المقدم في علماء الجامع الأزهر الشريف فحمل حربة وطلب
الشيخ السنوسي ليطعنه بها ؛ لأنه خرق حرمة الدين ، واتبع سبيلاً غير سبيل
المؤمنين ، وربما كان يجترئ الأستاذ على طعن الشيخ السنوسي بالحربة لو لاقاه
وإنما الذي خَلَّصَ السنوسي من الطعنة ، ونجّى الشيخ المرحوم من سوء المغبة ،
وارتكاب الجريمة باسم الشريعة ، هو مفارقة السنوسي للقاهرة قبل أن يلاقيه الأستاذ
المالكي .
هل غاب عن الأذهان ما كان ينشر في الجرائد من نحو ثلاث سنين بأقلام
بعض علماء الجامع الأزهر من المقالات الطويلة الأذيال الواسعة الأردان في
استهجان إدخال علم تقويم البلدان ( الجغرافيا ) بين العلوم التي يتلقاها طلبة الجامع
الأزهر ؟ وكان كتاب تلك المقالات يعرضون علوم الدين . أم لم تنشر في العام
الماضي فصول بأقلام بعضهم تشير إلى الطعن في عقيدة البعض الآخر وإرادة
التشهير به مع أنه لم يجهر بمنكر ولم يقل قولاً يبعد من الكتاب والسنة ؟
ألم تحمل إلينا الرواة ما عند علماء الأفغان و الهند والعجم من شدة التمسك
بالقديم ، والحرص على ما ورثوا عن آبائهم الأقربين ، وإقامة الحرب على كل من
حاول أن يزحزحهم أصبعًا عما كان عليه سلفهم ، وإن كان في البقاء عليه تلفهم ،
وما عليه الحال اليوم في حكومة المغرب من الغلوّ في التعصب والمعاقبة بقطع
بعض الأعضاء في شرب الدخان أو بالقتل في كلمة ينكرها السامعون ، وإن أجمع
عليها المسلمون الآخرون .
ثم ألا يتخيل المؤمل أنه يسمع من جوف المستقبل صَخَبًا ولَجَبًا وضوضاء
وجَلَبَةً ، وهَيْعاتٍ مضطربة ، إذا قيل إنه ينبغي لطلبة الأزهر أن يدرسوا طرفًا من
مبادئ الطبيعة أو يُحَصِّلُوا جملة من التاريخ الطبيعي ؟ ألا تقوم قيامة المتقين ، ألا
يصيحون أكتعين أبتعين : هذا عدوان على الدين ، هذا توهين لعقده المتين ، هذا
تغرير بأهله المساكين ، ولا يزالون يشيرون بهذا إلى أن لا يبقى شيء عرف له
اسم في اللغة إلا ألصقوه بهذه البدعة في زعمهم .
هل هذه الحال جديدة على المسلمين حتى يقال : إنها عارض عرض عليهم ،
أو مرض من الأمراض الوافدة إليهم ؟ لا يسهل على من يعرض أحوال المسلمين
تحت نظره من قرون متعددة أن يظن أن هذه الحال من العلل الطارئة على أمزجة
الأمم خصوصًا عندما يجد الوحدة في الصفات ، والشمول في جميع الاعتبارات ،
فلو أخذ مسلمًا من شاطئ الأطلانطيق وآخر من تحت جدار الصين لوجد كلمة
واحدة تخرج من أفواههما وهي : { بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } ( الزخرف : 22 ) ، وكلهم أعداء لكل مخالف لما هم عليه وإن
نطق به الكتاب واجتمعت عليه الآثار . اللهم إلا فئة قليلة زعمت أنها نفضت غبار
التقليد وأزالت الحُجُبَ التي كانت تحول بينها وبين النظر في آيات القرآن ومتون
الأحاديث لتفهم أحكام الله منها . ولكن هذه الفئة أضيق عطنًا وأحرج صدرًا من
المقلّدين وإن أنكرت كثيرًا من البدع ونحّت عن الدين كثيرًا مما أضيف إليه وليس
منه . فإنها ترى وجوب الأخذ بما يفهم من لفظ الوارد ، والتقيد به بدون التفات إلى ما
تقتضيه الأصول التي قام عليها الدين ، وإليها كانت الدعوة ، ولأجلها منحت النبوة ،
فلم يكونوا للعلم أولياء ، ولا للمدينة السليمة أحبّاء .
هل يمكن أن ينكر أحد جمود الفقهاء ووقوفهم عند عبارات المصنفين على
تباينها واختلافها واضطراب الآراء في فهمها ، وإذا عرضت حادثة من الحوادث ولم
يكن لمصنف معروف رأي فيها أحجموا عن إبداء الرأي واجتهدوا في تحويلها عن
حقيقتها إلى أن تتفق مع قول معروف في كتاب من الكتب حتى لقد جاء طالب علم
من بلد من بلاد الدولة العثمانية وأراد الالتحاق بأحد الأروقة في الجامع الأزهر فوقع
الشكل هل بلده مما لأهله استحقاق في ذلك الرواق على حسب نص الواقف ؟ فقال
قائل لشيخ الرواق : إن كتب تقويم البلدان تشهد بأن البلد داخل في شرط الواقف
فقال : إنني لا أقنع بما في تلك الكتب وإنما الذي يصح أن آخذ به هو أن يكون فقيه
( ممن مات ) قال : إن هذه البلد من قطر كذا وهو الذي وقف الواقف على أهله .
وإذا قيل لأحدهم : إن الأئمة أنفسهم لم يعينوا مواقع البلدان ولم يضعوا لنا جدولاً
لبيان ما يحويه كل قطر وبيان الحدود التي ينتهي إليها ، وإن أصول ديننا تسمح لنا
بأن نأخذ بأقوال العلماء في هذه الفنون ( وهم منا ) وبتواتر الأخبار وما أشبه ذلك
من البديهيات قال : إنما أريد نصًّا فقهيًّا ، لا دليلاً عقليًّا .
وإذا قيل لهم : اختلت الشئون ، وفسدت الملكات والظنون ، وساءت أعمال
الناس ، وضلت عقائدهم ، وخوت عباداتهم من روح الإخلاص ، فوثب بعضهم
على بعض بالشر ، وغالت أكثرهم أغوال الفقر ، فتضعضعت القوة ، واخترق
السياج ، وضاعت البيضة ، وانقلبت العزة ذلة ، والهداية ضلة ، وساكنتكم الحاجة ،
وألفتكم الضرورة ، ولا تزالون تألمون مما نزل بكم وبالناس ، فهلا نبهكم ذلك إلى
البحث في أسباب ما كان سلفكم عليه ، ثم علل ما صرتم وصار الناس إليه - قالوا :
ذلك ليس إلينا ، ولا فرضه الله علينا ، وإنما هو للحكام ينظرون فيه ، ويبحثون عن
وسائل تلافيه ، فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا ، فذلك لأنه آخر الزمان وقد ورد في
الأخبار ما يدل على أنه كائن لا محالة وأن الإسلام لا بد أن يرفع من الأرض ولا
تقوم القيامة إلى على لُكَع ابن لكع . واحتجوا على اليأس والقنوط بآيات وأحاديث
وآثار تقطع الأمل ، ولا تدع في نفس حركة إلى عمل .
رأي رنان في الإسلام : هذا الجمود - الذي لو أردنا بيان ما امتد إليه من
طبقات الأفكار وثنيات الوجدان لكتبنا فيه كتبًا - هو الذي حمل الموسيو رنان
الفيلسوف الفرنسي المشهور أن يقول في عرض كلام له في تساهل المذاهب الدينية
مع العلم نقلته عنه الجامعة : ( على أنني أخشى أن يثبت الدين الإسلاميّ وحده في
وجه هذا التسامح العام في العقائد ولكنني أعرف أن في نفوس بعض الرجال
المتمسكين بآداب الدين الإسلامي القديمة وفي بضعة من رجال الآستانة وبلاد
الفرس جراثيم جيدة تدل على فكر واسع وعقل ميال إلى المسالمة . إلا أنني أخشى
أن تختنق هذه الجراثيم بتعصب بعض الفقهاء فإذا اختنقت قُضيَ على الدين
الإسلامي . ذلك أنه من الثابت الآن أمران - الأول أن التمدن الحديث لا يريد إماتة
الأديان بالمرة ؛ لأنها تصلح أن تكون وسيلة إليه . والثاني : أنه لا يطيق أن تكون
الأديان عثرة في سبيله . فعلى هذه الأديان أن تسالم وتلين وإلا كان موتها ضربة
لازب ) . ا هـ كلام رينان بتصرف لفظي قليل .
فمن أين يكون هذا الجمود العام الذي سمح للطاعنين أن يحكموا على الإسلام
بأنه عثرة في طريق المسلمين يسقط بهم دون أن ينالوا فلاحًا في سعيهم ، أو نجاحًا
في أعمالهم ، من أين يكون هذه الجمود إن لم يكن من طبيعة الدين ؟ ومن أين يكون
ما سردناه من الحوادث إن لم يكن ناشئًا من أصول الدين ؟ فإن لم تسلم بأن هذا
اضطهاد من لوازم الدين الإسلامي فعليك أن تسلم بأنه عداوة للعلم أو اشمئزاز منه ،
أو استهجان له أو احتقار لشأنه ، وأحد هذه الأمور كافٍ إذا عم بين المسلمين في أن
ينفر بهم عن كل مجد ، وأن يحرمهم كل نفع ، وأن يحقق فيهم ما تنبأ به رنان
وغيره فما قولك في هذا ؟ ؟ ( له بقية )
( المنار ) سيأتي الجواب في الجزء الآتي وفيه بيان حقيقة هذا الجمود
وأسبابه وكونه لا بد أن يزول إن شاء الله تعالى فانتظر العجب العجاب .
(( يتبع بمقال تال ))
__________
__________
الإسلام اليوم
أو الاحتجاج بالمسلمين على الإسلام
المقال الرابع لذلك الإمام الحكيم
ربما يسأل سائل فيقول : سلمنا أن طبيعة الإسلام تأبى اضطهاد العلم بمعناه
الحقيقي ، وأنه لم يقع من المسلمين الأولين تعذيب ولا إحراق ولا شنق لحملة العلوم
الكونية ، ومقوّمي العقول البشرية ، لكن أليس العلماء من المسلمين اليوم أعداء
العلوم العقلية ، والفنون العصرية ، أوَليس الناس تبعًا لهم ؟ أفلا يكون للأديب عذره
فيما يراه ويسمعه حوله ؟ ألم يسمع بأن رجلاً في بلاد إسلامية غير البلاد المصرية
كتب مقالاً في الاجتهاد والتقليد وذهب فيه إلى ما ذهب إليه أئمة المسلمين كافة ،
ومقالاً بَيَّنَ فيه رأيه في مذهب الصوفية وقال : إنه ليس مما انتفع به الإسلام بل قد
يكون مما رزئ به أو ما يقرب من هذا وهو قول قال به جمهور أهل السنة من قبله ،
فلما طبع مقاله في مصر تحت اسمه هاج عليه حَمَلَةُ العمائم ، وسَكَنَةُ الأثواب
العَباعِب ، وقالوا : إنه مرق من الدين ، أو جاء بالإفك المبين ، ثم رفع أمره إلى
الوالي فقبض عليه وألقاه في السجن . فرفع شكواه إلى عاصمة الملك وسأل السلطان
أن يأمر بنقله إلى العاصمة ليثبت براءته مما اختلف عليه بين يدي عادل لا يجور ،
ومهيمن على الحق لا يحيف ، إلخ ما يقال في الشكوى . فأجيب طلبه لكن لم ينفعه
ذلك كله فقد صدر الأمر هناك أيضًا بسجنه ولم يعف عنه إلا بعد أشهر مع أنه لم
يَقُل إلا ما يتفق مع أصول الدين ولا ينكره القارئ والكاتب ، ولا الآكل والشارب .
ألم يسمع السامعون أن الشيخ السنوسي ( والد السنوسي صاحب الجغبوب )
كتب كتابًا في أصول الفقه زاد فيه بعض مسائل على أصول المالكية ، وجاء في
كتاب له ما يدل على دعواه أنه ممن يفهم الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة وقد
يرى ما يخالف رأي مجتهد أو مجتهدين . فعلم بذلك أحد المشايخ المالكية ( رحمه
الله تعالى ) وكان المقدم في علماء الجامع الأزهر الشريف فحمل حربة وطلب
الشيخ السنوسي ليطعنه بها ؛ لأنه خرق حرمة الدين ، واتبع سبيلاً غير سبيل
المؤمنين ، وربما كان يجترئ الأستاذ على طعن الشيخ السنوسي بالحربة لو لاقاه
وإنما الذي خَلَّصَ السنوسي من الطعنة ، ونجّى الشيخ المرحوم من سوء المغبة ،
وارتكاب الجريمة باسم الشريعة ، هو مفارقة السنوسي للقاهرة قبل أن يلاقيه الأستاذ
المالكي .
هل غاب عن الأذهان ما كان ينشر في الجرائد من نحو ثلاث سنين بأقلام
بعض علماء الجامع الأزهر من المقالات الطويلة الأذيال الواسعة الأردان في
استهجان إدخال علم تقويم البلدان ( الجغرافيا ) بين العلوم التي يتلقاها طلبة الجامع
الأزهر ؟ وكان كتاب تلك المقالات يعرضون علوم الدين . أم لم تنشر في العام
الماضي فصول بأقلام بعضهم تشير إلى الطعن في عقيدة البعض الآخر وإرادة
التشهير به مع أنه لم يجهر بمنكر ولم يقل قولاً يبعد من الكتاب والسنة ؟
ألم تحمل إلينا الرواة ما عند علماء الأفغان و الهند والعجم من شدة التمسك
بالقديم ، والحرص على ما ورثوا عن آبائهم الأقربين ، وإقامة الحرب على كل من
حاول أن يزحزحهم أصبعًا عما كان عليه سلفهم ، وإن كان في البقاء عليه تلفهم ،
وما عليه الحال اليوم في حكومة المغرب من الغلوّ في التعصب والمعاقبة بقطع
بعض الأعضاء في شرب الدخان أو بالقتل في كلمة ينكرها السامعون ، وإن أجمع
عليها المسلمون الآخرون .
ثم ألا يتخيل المؤمل أنه يسمع من جوف المستقبل صَخَبًا ولَجَبًا وضوضاء
وجَلَبَةً ، وهَيْعاتٍ مضطربة ، إذا قيل إنه ينبغي لطلبة الأزهر أن يدرسوا طرفًا من
مبادئ الطبيعة أو يُحَصِّلُوا جملة من التاريخ الطبيعي ؟ ألا تقوم قيامة المتقين ، ألا
يصيحون أكتعين أبتعين : هذا عدوان على الدين ، هذا توهين لعقده المتين ، هذا
تغرير بأهله المساكين ، ولا يزالون يشيرون بهذا إلى أن لا يبقى شيء عرف له
اسم في اللغة إلا ألصقوه بهذه البدعة في زعمهم .
هل هذه الحال جديدة على المسلمين حتى يقال : إنها عارض عرض عليهم ،
أو مرض من الأمراض الوافدة إليهم ؟ لا يسهل على من يعرض أحوال المسلمين
تحت نظره من قرون متعددة أن يظن أن هذه الحال من العلل الطارئة على أمزجة
الأمم خصوصًا عندما يجد الوحدة في الصفات ، والشمول في جميع الاعتبارات ،
فلو أخذ مسلمًا من شاطئ الأطلانطيق وآخر من تحت جدار الصين لوجد كلمة
واحدة تخرج من أفواههما وهي : { بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } ( الزخرف : 22 ) ، وكلهم أعداء لكل مخالف لما هم عليه وإن
نطق به الكتاب واجتمعت عليه الآثار . اللهم إلا فئة قليلة زعمت أنها نفضت غبار
التقليد وأزالت الحُجُبَ التي كانت تحول بينها وبين النظر في آيات القرآن ومتون
الأحاديث لتفهم أحكام الله منها . ولكن هذه الفئة أضيق عطنًا وأحرج صدرًا من
المقلّدين وإن أنكرت كثيرًا من البدع ونحّت عن الدين كثيرًا مما أضيف إليه وليس
منه . فإنها ترى وجوب الأخذ بما يفهم من لفظ الوارد ، والتقيد به بدون التفات إلى ما
تقتضيه الأصول التي قام عليها الدين ، وإليها كانت الدعوة ، ولأجلها منحت النبوة ،
فلم يكونوا للعلم أولياء ، ولا للمدينة السليمة أحبّاء .
هل يمكن أن ينكر أحد جمود الفقهاء ووقوفهم عند عبارات المصنفين على
تباينها واختلافها واضطراب الآراء في فهمها ، وإذا عرضت حادثة من الحوادث ولم
يكن لمصنف معروف رأي فيها أحجموا عن إبداء الرأي واجتهدوا في تحويلها عن
حقيقتها إلى أن تتفق مع قول معروف في كتاب من الكتب حتى لقد جاء طالب علم
من بلد من بلاد الدولة العثمانية وأراد الالتحاق بأحد الأروقة في الجامع الأزهر فوقع
الشكل هل بلده مما لأهله استحقاق في ذلك الرواق على حسب نص الواقف ؟ فقال
قائل لشيخ الرواق : إن كتب تقويم البلدان تشهد بأن البلد داخل في شرط الواقف
فقال : إنني لا أقنع بما في تلك الكتب وإنما الذي يصح أن آخذ به هو أن يكون فقيه
( ممن مات ) قال : إن هذه البلد من قطر كذا وهو الذي وقف الواقف على أهله .
وإذا قيل لأحدهم : إن الأئمة أنفسهم لم يعينوا مواقع البلدان ولم يضعوا لنا جدولاً
لبيان ما يحويه كل قطر وبيان الحدود التي ينتهي إليها ، وإن أصول ديننا تسمح لنا
بأن نأخذ بأقوال العلماء في هذه الفنون ( وهم منا ) وبتواتر الأخبار وما أشبه ذلك
من البديهيات قال : إنما أريد نصًّا فقهيًّا ، لا دليلاً عقليًّا .
وإذا قيل لهم : اختلت الشئون ، وفسدت الملكات والظنون ، وساءت أعمال
الناس ، وضلت عقائدهم ، وخوت عباداتهم من روح الإخلاص ، فوثب بعضهم
على بعض بالشر ، وغالت أكثرهم أغوال الفقر ، فتضعضعت القوة ، واخترق
السياج ، وضاعت البيضة ، وانقلبت العزة ذلة ، والهداية ضلة ، وساكنتكم الحاجة ،
وألفتكم الضرورة ، ولا تزالون تألمون مما نزل بكم وبالناس ، فهلا نبهكم ذلك إلى
البحث في أسباب ما كان سلفكم عليه ، ثم علل ما صرتم وصار الناس إليه - قالوا :
ذلك ليس إلينا ، ولا فرضه الله علينا ، وإنما هو للحكام ينظرون فيه ، ويبحثون عن
وسائل تلافيه ، فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا ، فذلك لأنه آخر الزمان وقد ورد في
الأخبار ما يدل على أنه كائن لا محالة وأن الإسلام لا بد أن يرفع من الأرض ولا
تقوم القيامة إلى على لُكَع ابن لكع . واحتجوا على اليأس والقنوط بآيات وأحاديث
وآثار تقطع الأمل ، ولا تدع في نفس حركة إلى عمل .
رأي رنان في الإسلام : هذا الجمود - الذي لو أردنا بيان ما امتد إليه من
طبقات الأفكار وثنيات الوجدان لكتبنا فيه كتبًا - هو الذي حمل الموسيو رنان
الفيلسوف الفرنسي المشهور أن يقول في عرض كلام له في تساهل المذاهب الدينية
مع العلم نقلته عنه الجامعة : ( على أنني أخشى أن يثبت الدين الإسلاميّ وحده في
وجه هذا التسامح العام في العقائد ولكنني أعرف أن في نفوس بعض الرجال
المتمسكين بآداب الدين الإسلامي القديمة وفي بضعة من رجال الآستانة وبلاد
الفرس جراثيم جيدة تدل على فكر واسع وعقل ميال إلى المسالمة . إلا أنني أخشى
أن تختنق هذه الجراثيم بتعصب بعض الفقهاء فإذا اختنقت قُضيَ على الدين
الإسلامي . ذلك أنه من الثابت الآن أمران - الأول أن التمدن الحديث لا يريد إماتة
الأديان بالمرة ؛ لأنها تصلح أن تكون وسيلة إليه . والثاني : أنه لا يطيق أن تكون
الأديان عثرة في سبيله . فعلى هذه الأديان أن تسالم وتلين وإلا كان موتها ضربة
لازب ) . ا هـ كلام رينان بتصرف لفظي قليل .
فمن أين يكون هذا الجمود العام الذي سمح للطاعنين أن يحكموا على الإسلام
بأنه عثرة في طريق المسلمين يسقط بهم دون أن ينالوا فلاحًا في سعيهم ، أو نجاحًا
في أعمالهم ، من أين يكون هذه الجمود إن لم يكن من طبيعة الدين ؟ ومن أين يكون
ما سردناه من الحوادث إن لم يكن ناشئًا من أصول الدين ؟ فإن لم تسلم بأن هذا
اضطهاد من لوازم الدين الإسلامي فعليك أن تسلم بأنه عداوة للعلم أو اشمئزاز منه ،
أو استهجان له أو احتقار لشأنه ، وأحد هذه الأمور كافٍ إذا عم بين المسلمين في أن
ينفر بهم عن كل مجد ، وأن يحرمهم كل نفع ، وأن يحقق فيهم ما تنبأ به رنان
وغيره فما قولك في هذا ؟ ؟ ( له بقية )
( المنار ) سيأتي الجواب في الجزء الآتي وفيه بيان حقيقة هذا الجمود
وأسبابه وكونه لا بد أن يزول إن شاء الله تعالى فانتظر العجب العجاب .
(( يتبع بمقال تال ))
__________
(5/496)
16 رجب - 1320هـ
18 أكتوبر - 1902م
18 أكتوبر - 1902م
(5/)
الكاتب : محمد عبده
__________
الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية
تتمة المقال الرابع لذلك الإمام الحكيم
( الجواب )
أقول هذا كلام فيه شِيَة من الحق ، ولمعة من الصدق ، أما ما نسمعة حولنا
من سَجن مَن قال بقول السلف فليس الحامل عليه التمسك بالدين فإنَّ حملة العمائم
إنما حركهم الحسد لا الغَيْرة . وأما صدور الأمر بالسجن فهو من مقتضيات السياسة
والخوف من خروج فكر واحد من حبس التقليد فتنتشر عدواه فينتبه غافل آخر
ويتبعه ثالث ، ثم ربما تسري العدوى من الدين إلى غير الدين - إلى آخر ما يكون
من حرّية الفكر يعوذون بالله منها . فإن شئت أن تقول : إن السياسة تضطهد الفكر
أو الدين أو العلم فإنا معك من الشاهدين . أعوذ بالله من السياسة ، ومن لفظ السياسة ،
ومن معنى السياسة ، ومن كل حرف يُلفظ من كلمة السياسة ، ومن كل خيال
يخطر ببالي من السياسة ، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة ، ومن كل شخص
يتكلم أو يتعلم أو يُجَنُّ أو يعقل في السياسة ، ومن ساس ويسوس ، وسائس ومسوس ،
يدلك على أن العقوبة سياسة أن الرجل كان يقول بقول السلف من أهل الدين . لا
تقل : إن هذه السياسة من الدين ، فإني أُشْهِدُ الله ورسله وملائكته وسلفنا أجمعين ،
أن هذه السياسة من أبعد الأمور عن الدين ، كأنها الشجرة التي تخرج في أصل
الجحيم ، { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ ، فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ، ثُمَّ
إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإَلَى الْجَحِيمِ ، إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ
ضَالَّينَ ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } ( الصافات : 65 - 70 ) .
* * *
( جمود المسلمين وأسبابه)
وأما ما وصفت بعد ذلك من الجمود فهو مما لا يصح أن ينسب إلى الإسلام
وقد رأيت صورة الإسلام في صفائها ونصوع بياضها ليس فيها ما يصح أن يكون
أصلاً يرجع إليه شيء مما ذكرت ولا مما تنبأ بسوء عاقبته ( رينان ) وغيره . وإنما
هي علة عرضت على المسلمين عندما دخل على قلوبهم عقائد أخرى ساكنت عقيدة
الإسلام في أفئدتهم . وكان السبب في تمكنها من نفوسهم وإطفائها لنور الإسلام من
عقولهم هو السياسة ، كذلك هو تلك الشجرة الملعونة في القرآن عبادة الهوى واتباع
خُطُوات الشيطان هو السياسة .
لم أرَ كالإسلام دينًا حفظ أصله ، وخلط فيه أهله ، ولا مثله سلطانًا تفرق عنه
جنده ، وخُفِر عهده ، وكُفِر وعيده ووعده ؛ وخَفِيَِ على الغافلين قصده ، وإن وضح
للناظرين رشده ، أكل الزمان أهله الأولين ، وأدال منهم خُشَارة من الآخرين ، لا هم
فهموه فأقاموه ، ولا هم رحموه فتركوه ، سواسية من الناس اتصلوا به ، ووصلوا
نسبهم بسببه ، وقالوا نحن أهله وعشيرته ، وحماته وعصبته ، وهم ليسوا منه في
شيء إلا كما يكون الجهل من العلم ، والطيش من الحلم ، وأفَنُ الرأي من صحة
الحكم .
انظر كيف صارت مزية من مزايا الإسلام سببًا فيما صار إليه أهله . كان
الإسلام دينًا عربيٍّا ثم لحقه العلم فصار علمًا عربيٍّا بعد أن كان يونانيًّا ، ثم أخطأ
خليفة في السياسة فاتخذ من سعة الإسلام سبيلاً إلى ما كان يظنه خيرًا له . ظن أن
الجيش العربي قد يكون عونًا لخليفة علوي ؛ لأن العلويين كانوا ألصق ببيت النبي
صلى الله عليه وآله وسلم . فأراد أن يتخذ له جيشًا أجنبيًّا من الترك والديلم
وغيرهم من الأمم التي ظن أنه يستعبدها بسلطانه ، ويصطنعها بإحسانه ، فلا تساعد
الخارج عليه ولا تعين طالب مكانه من الملك . وفي سعة أحكام الإسلام وسهولته ما
يبيح له ذلك . هنالك استعجم الإسلام وانقلب عجميًّا .
خليفة عباسي أراد أن يصنع لنفسه ولخلفه وبئس ما صنع بأمته ودينه: أكثَرَ من
ذلك الجند الأجنبي وأقام عليه الرؤساء منه ، فلم تكن إلا عشية أو ضحاها حتى
تغلب رؤساء الجند على الخلفاء واستبدوا بالسلطان دونهم وصارت الدولة في قبضتهم
ولم يكن لهم ذلك العقل الذي يرضاه الإسلام والقلب الذي هذبه الدين . بل جاءوا إلى
الإسلام بخشونة الجهل يحملون ألوية الظلم . لبسوا الإسلام على أبدانهم ، ولم ينفذ منه
شيء إلى وجدانهم ، وكثير منهم كان يحمل إلهه معه يعبده في خلوته ، ويصلي مع
الجماعات لتمكين سلطته ، ثم عدا على الإسلام آخرون كالتتار وغيرهم . ومنهم من
تولى أمره ، أيّ عدو لهؤلاء أشد من العلم الذي يعرّف الناس منزلتهم ويكشف لهم
قبح سيرهم ؟ فمالوا على العلم وصديقه الإسلام ميلتهم . أما العلم فلم يحفلوا بأهله ،
وقبضوا عنه يد المعونة وحملوا كثيرًا من أعوانهم أن يندرجوا في سلك العلماء وأن
يتسربلوا بسرابيله ليُعدُّوا من قبيلة ، ثم يضعوا للعامة في الدين ما يبغض إليهم
العلم ويبعد بنفوسهم عن طلبه . ودخُلوا عليهم وهم أَغرار من باب التقوى وحماية
الدين . زعموا الدين ناقصًا ليكملوه ، أو مريضًا ليعلِِّلوه ، أو متداعيًا ليدعموه ؛ أو يكاد
أن ينفضّ ليقيموه .
نظروا إلى ما كانوا عليه من فخفخة الوثنية ، وفي عادات من كان حولهم من
الأمم النصرانية ، فاستعاروا من ذلك للإسلام ما هو بَرَاءٌ منه لكنهم نجحوا في إقناع
العامة بأن في ذلك تعظيم شعائره ، وتفخيم أوامره ، والغوغاء عون الغاشم ، وهم يد
الظالم ، فخلقوا لنا هذه الاحتفالات وتلك الاجتماعات ، وَسَنّوا لنا من عبادة الأولياء
والعلماء والمتشبهين بهم ما فرق الجماعة وأركس الناس في الضلالة ، وقرروا أن
المتأخر ليس له أن يقول بغير ما يقول المتقدم ، وجعلوا ذلك عقيدة حتى يقف الفكر
وتجمد العقول . ثم بثوا أعوانهم في أطراف الممالك الإسلامية ينشرون من القصص
والأخبار والآراء ما يقنع العامة بأنه لا نظر لهم في الشئون العامة ، وأن كل ما هو
من أمور الجماعة والدولة فهو مما فرض فيه النظر على الحكام دون من عداهم
ومن دخل في شيء من ذلك من غيرهم فهو متعرض لما لا يعينه ، وأن ما يظهر
من فساد الأعمال واختلال الأحوال ، ليس من صنع الحكام وإنما هو تحقيق لما ورد
في الأخبار من أحوال آخر الزمان . وأنه لا حيلة في إصلاح حال ولا مآل ، وأن
الأسلم تفويض ذلك لله ، وما على المسلم إلا أن يقتصر على خاصة نفسه . ووجدوا
في ظواهر الألفاظ لبعض الأحاديث ما يعينهم على ذلك وفي الموضوعات
والضعاف ما شد أزرهم في بث هذه الأوهام . وقد انتشر بين المسلمين جيش من
هؤلاء المضلين وتعاون ولاة الشر على مساعدتهم في جميع الأطراف ، واتخذوا من
عقيدة القدر مثبطًا للعزائم وغلاًّ للأيدي عن العمل . والعامل الأقوى في حمل
النفوس على قبول هذه الخرافات إنما هو السذاجة وضعف البصيرة في الدين
وموافقة الهوى . أمور إذا اجتمعت أهلكت ؛ فاستتر الحق تحت ظلام الباطل ورسخ
في نفوس الناس من العقائد ما يضارب أصول دينهم ويباينها على خط مستقيم كما
يقال .
هذه السياسة سياسة الظلمة وأهل الأثرة هي التي روجت ما أدخل على الدين
مما لا يعرفه وسلبت من المسلم أملاً كان يخترق به أطباق السماوات ، وأخلدت به إلى
يأس يجاور به العجماوات ، فجلُّ ما تراه الآن مما تسميه إسلامًا فهو ليس بإسلام
وإنما حفظ من أعمال الإسلام صورة الصلاة والصوم والحج وقليل من الأقوال
التي حرفت عن معانيها . ووصل الناس بما عرض على دينهم من البدع والخرافات
إلى الجمود الذي ذكرته وعدوه دينا . نعوذ بالله منهم ومما يفترون على الله ودينه .
فكل ما يعاب الآن على المسلمين ليس من الإسلام وإنما هو شيء آخر سموه
إسلامًا . والقرآن شاهد صادق { لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ
مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } ( فصلت : 42 ) يشهد بأنهم كاذبون ، وأَنهم عنه لاهون ، وعما
جاء به معرضون ، وسنوفي لك الكلام في مفاسد هذا الجمود نثبت أنه علة لا بد أن
تزول .
* * *
( مفاسد هذا الجمود ونتائجه )
طال أمد هذا الجمود لاستمرار عمل العاملين في المحافظة عليه ، وولوع
شهواتهم بالدفاع عنه ، وقد حدثت عنه مفاسد يطول بيانها وإنما يحسن إجمال القول
فيها . كان الدين هو الذي ينطلق بالعقل في سعة العلم ويسيح به في الأرض ويصعد
به إلى أطباق السماء ليقف به على أثر من آثار الله أو يكشف به سرًّا من أسراره
في خليقته ، أو يستنبط حكمًا من أحكام شريعته ، فكانت جميع الفنون مسارح
للعقول تقتطف من ثمارها ما تشاء وتبلغ من التَّمَتُّع بها ما تريد ، فلما وقف الدين ،
وقعد طلاب اليقين ، وقف العلم وسكنت ريحه ، ولم يكن ذلك دفعة واحدة ولكنه سار
سير التدريج .
إفساد الجمود للغة : أول جناية لهذا الجمود كانت على اللغة العربية وأساليبها
وآدابها فإن القوم كانوا يُعنون بها لحاجة دينهم إليها - أريد حاجتهم في فهم كتابهم
إلى معرفة دقائق أساليبها - وما تشير إليه هيئة تركيبها ، وكانوا يجدون أنهم لن
يبلغوا ذلك حتى يكونوا عربًا بملكاتهم ، يساوون من كانوا عربًا بسلائقهم ، فلما لم
يبق للمتأخر إلا الأخذ بما قال المتقدم قصر المحصلون تحصيلهم على فهم كلام مَنْ
قبلهم واكتفوا بأخذ حكم الله منه بدون أن يرجعوا إلى دليله ، ولو نظروا في الدليل
فرأوه غير دالّ له بل دالاًّ لخصمه بأن كان عرض له في فهمه ما يعرض للبشر
الذين لم يقرر الدين عصمتهم لَخَطَّأُُوا نظرهم وأعموا أبصارهم وقالوا : نعوذ بالله
أن تذهب عقولنا إلى غيب ما ذهب إليه متقدمنا وأرغموا عقلهم على الوقفة فيصيبه
الشلل من تلك الناحية . فأي حاجة له بعد ذلك إلى اللغة العربية نفسها وقد يكفيه
منها ما يفهم به أسلوب كلام المتقدم وهو ليس من أولئك العرب الذين كان ينظر
الأولون في كلامهم .
وهكذا كل متأخر يقصر فهمه على النظر في كلام من يليه هو غير مبال
بسلفه الأول ، بل ولا بما كان يحفّ بالقول من أحوال الزمان فهو لا ينظر إلا اللفظ
وما يعطيه فتسقط منزلته في تحصيل اللغة بمقدار بعده عن أهلها حتى وصل حال
الناس إلى ما نراهم عليه اليوم . جعلوا دروس اللغة لفهم عبارة بعض المؤلفين في
النحو وفنون البلاغة - وإن لم يصلوا منها إلى غاية في فهم ما وراءها - فَدَرَسَتْ علوم
الأولين وبادت صناعاتهم ، بل فقدت كتب السلف الأولين رضي الله عنهم ، وأصبح
الباحث عن كتاب المدونة لمالك - رحمه الله تعالى - أو كتاب الأم للشافعي - رحمه
الله تعالى - أو بعض كتب الأمهات في فقه الحنفية كطالب المصحف في بيت
الزنديق . تجد جزءًا من الكتاب في قُطْر ، وجزءه الآخر في قُطْر آخر فإذا اجتمعت لك أجزاء الكتاب وجدت ما عرض عليها من مسخ النساخ حائلاً بينك وبين الاستفادة
منها .
هذا كله من أثر الجمود وسوء الظن بالله وتوهم أن أبواب فضل الله قد أغلقت
في وجوه المتأخرين ، ليرفع بذلك منازل المتقدمين ، وعدم الاعتبار بما ورد في
الأخبار من أن المبلَّغ ربما كان أوعى من السامع[1] وأن هذه الأمة كالمطر لا يدرى
أوله خير أم آخره[2] وقلة الالتفات إلى أن ذلك قد أضاع آثار المتقدمين أنفسهم ولا
حول ولا قوة إلا بالله .
لا ريب أن القارئ يحيط بمقدار ضرر هذه الجناية على اللغة ثم يكفيه من ذلك
أنه إذا تكلم بلغته لغة دينه وكتابه وقومه لا يجد من يفهم ما يقول ، وأي ضرر أعظم
من عجز القائل عن أن يصل بمعناه إلى العقول .
إفساد النظام والاجتماع : وأعظم من هذه الجناية جناية التفريق وتمزيق نظام
الأمة وإيقاعها فيما وقع فيه من سبقها من الاختلاف وتفرق المذاهب والشيع في
الدين . كان اختلاف السلف في الفُتْيَا يرجع إلى اختلاف أفهام الأفراد ، والكل يرجع
إلى أصل واحد لا يختلفون فيه وهو كتاب الله وما صح من السنة فلا مذهب ولا
شيعة ولا عصبية . ولو عرف بعضهم صحة ما يقول الآخر لأسرع إلى موافقته كما
صرح به جميعهم . ثم جاء أنصار الجمود فقالوا : يولد مولود في بيت رجل من
مذهب إمام فلا يجوز له أن ينتقل من مذهب أبيه إلى مذهب إمام آخر . وإذا سألتهم
قالوا : ( وكلهم من رسول الله ملتمس ) ولكنه قول باللسان ، لا أصل له في الجنان ،
ثم كانت حروب جدال بين أئمة كل مذهب لو صرفت آلاتها وقواها في تبيين
أصول الدين ونشر آدابه وعقائده الصحيحة بين العامة لَكُنَّا اليوم في شأن غير ما
نحن فيه .
يجد المطَّلع على كتب المختلفين من مطاعن بعضهم في بعض ما لا يسمح به
أصل من أصول الدين الذي ينتسبون إليه . يضلل بعضهم بعضًا ويرمي بعضهم بعضًا
بالبعد عن الدين وما المطعون فيه بأبعد عن الدين من الطاعن ولكنه الجمود ، قد يؤدي
إلى الجحود .
كان الاختلاف في العقائد على نحو الاختلاف في الفُتْيَا تخالف أشخاص في
النظر والرأي . وكان كل فريق يأخذ عن الآخر ولا يبالي بمخالفته له في رأيه .
مسجدهم واحد وإمامهم واحد وخطيبهم واحد . فلما جاء دور الجمود - دور السياسة
- أخذ المتخالفون في التنطع ، وأخذت الصلات تتقطع ، وامتازت فِرَقٌ وتألفت
شيع . كل ذلك على خلاف ما يدعو إليه الدين . وقد بذل قوم وسعهم في
تمييز الفرق تمييزًا حقيقيًّا فما استطاعوا وإنما هو تمييز وهميّ ، وخلف في أكثر
المسائل لفظي ، وإنما هي الشهوات وضرب السياسات أشعلت نيران الحرب بين
المنتسبين إلى تلك الشيع حتى آل الأمر إلى هذه الفُرقة التي يظن الناظر فيها أنها لا
دواء لها .
قال قائل من عدة سنين : إنه ينبغي أن يعين القضاة في مصر من أهل
المذاهب الأربعة ؛ لأن أصول هذه المذاهب متقاربة وعبارات كتبها مما يسهل على
الناظر فيها أن يفهمها . وقال : إن الضرورة قاضية بأن يؤخذ في الأحكام ببعض
أقوال من مذهب مالك أو مذهب الشافعي تيسيرًا على الناس ودفعًا للضرر والفساد .
فقام كثير من المتورعين يحوقلون ويندبون حظ الدين ، كأن الطالب يطلب شيئًا
ليس من الدين ، مع أنه لم يطلب إلا الدين ، ولم يأت إلا بما يوافق الدين ، وبما
كان عليه العمل في أقطار العالم إلى ما قبل عدة سنين . فأين قول هؤلاء ( وكلهم
من رسول الله ملتمس ) ؟ لكن هو جمود المتأخر على رأي من سبقه مباشرة وقصر
نظره عليه دون التطلع إلى ما وراءه ، أو هي السياسة تحلّ ما تشاء ، وتحرم ما
تشاء وتصحح ما تشاء ، وتبطل ما تشاء ، والناس منقادون إليها بأزمة الأهواء .
جناية الجمود على الشريعة : هذا الجمود في أحكام الشريعة جرّ إلى عسر
حمل الناس على إهمالها . كانت الشريعة الإسلامية أيام كان الإسلام إسلامًا سمحة
تسع العالم بأسره وهي اليوم تضيق عن أهلها حتى يضطروا إلى أن يتناولوا غيرها
وأن يلتمسوا حماية حقوقهم فيما لا يرتقي إليها . وأصبح الأتقياء من حملتها
يتخاصمون إلى سواها .
صعب تناول الشريعة على الناس حتى رضوا بجهلها عجزًا عن الوصول إلى
علمها فلا ترى العارف بها من الناس إلا قليلاً لا يعدّ شيئًا إذا نسب إلى من لا يعرفها .
وهل يتصوَّر من جاهل بشريعة أن يعمل بأحكامها ؟ فوقع أغلب العامة في مخالفة
شريعتهم بل سقط احترامها من أنفسهم ؛ لأنهم لا يستطيعون أن يطبقوا أعمالهم على
مقتضى نصوصها . وأول مانع لهم ضيق الطاقة عن فهمها لصعوبة العبارات وكثرة
الاختلاف . سألت يومًا أحد المدرسين في بعض المذاهب : هل تبيع وتشتري
وتصرف النقود على مقتضى ما تجد في كتب مذهبك ؟ فأجاب أن تلك الأحكام قلما
تخطر بباله عند المعاملة بالفعل وإنما يفعل ما يفعل الناس . هكذا فعل الجمود بأهله
ولو أرادوا أن تكون للشريعة حياة تحيي بها الناس لفعلوا ولسهل عليهم وعلى الناس أن
يكونوا بها أحياء .
تعلم ما وصل إليه الناس من فساد الأخلاق والانحراف عن الشريعة . لو
سألت عن سببه في القرى وصغار المدن لوجدته أحد أمرين : إما فقد العارف
بالشريعة والدين ، وسقوط القرية أو المدينة في جاهلية جهلاء يرجع بعض أهلها
إلى بعض في معرفة الحلال والحرام وليس المسئول بأعلم من السائل والكل
جاهلون . وإما عجز العارف عن تفهيم من يسأله لاعتقال لسانه عن حسن التعبير
بطريقة تفهمها العامة وعلى المتكلم إفهامها . وذلك للحرج الذي وضع فيه نفسه فلا
يستطيع التصرف فيما يسمع ولا فيما يعلم . فإذا قلت للعارف تعلّمْ من وسائل
التعبير ما يقدرك على مخاطبة الطبقات المختلفة من الناس حتى تنفع بعلمك واعلُ
بنفسك إلى أن تفهم الغرض من قول إمامك فتجد لأصله انطباقًا على هذه الحادثة
مثلاً وإن لم يأت ذكرها بنفسها في قوله أو قول من جاء بعده من أتباعه . قال :
سبحان الله : هل فعل ذلك أحد من المشايخ ؟ يرى أن لا يأتي شيئًا إلا ما أتى به
شيخه الذي أخذ عنه يدًا بيد ولو أبعد بنظره لوجد قدماء المشايخ قد فعلوه وبالغوا فيه
حتى خالفوا من أخذوا عنه في بعض رأيه . ثم إذا حاججته في ذلك لم يبعد من رأيه
أن يعدك زنديقًا وأنك تدعوه إلى الخروج من دينه ولا يدري المسكين أنه بذلك
يخالف نصوص دينه ، وأنه يتهيأ للخروج منه نعوذ بالله تعالى .
كان كلام بيني وبين أحد المدرسين في أخذ الطلبة بالنصيحة وتذكيرهم
بفضائل الأخلاق وصالح الأعمال خصوصًا عند إلقاء الدروس الفقهية ودروس
الحديث والتوحيد . فقال لي : إنه لا فائدة في ذلك قطعًا وهو تعب في غير طائل .
فقلت له : ذلك حق عليك أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وليس عليك أن
يأتمر المأمور ولا أن ينتهي المنهيّ . فقال : إذا تحققت استحالة المنفعة كان الأمر
والنهي لغوًا . فانظر كيف اعتقد استحالة الانتفاع بنصحه لبلوغ الفساد من النفوس
غايته كما يزعم . ولم ينظر في الوسيلة لاقتلاع هذا الفساد مع أن الدين يدعوه إلى
ذلك وهو يعمل كل يوم عمله لتعليم من لا سبيل إلى إصلاحه . هذا كله لأنه لم ير
نفسه أهلاً لأن يتخذ وسيلة لم يتخذها من أخذ عنه ، أو لم يرشده إليها من تعلم هو بين
يديه ولم يتذكر عند ذلك شيئًا من الأوامر الإلهية التي وردت في النصيحة والتآمر
بالمعروف والتناهي عن المنكر ، وأن اليأس من روح الله إنما يكون من القوم
الكافرين أو الضالين .
لا بل إذا قلت له : إن هذا الضرب من ضروب التعليم عقيم لا ينتج المطلوب
منه ، أو إن هذا الكتاب الذي تعوّد الطلاب قراءته قد يضر بقارئيه وغيرُه أفضل
منه . كاد يظن أن قولك هذا مخالفٌ للدين ورأى العدول عمّا تعوّده نوعًا من
الإخلال بالدين . وقد يقيم عليك حربًا يعتقد نفسه فيها مجاهدًا في سبيل الله إذا قلت
له : إن دروس السلف كانت تقريرًا للمسائل وإملاءً للحقائق على الطلاب ولم يكن
لأحد منهم كتاب يأخذه بيده ويقرئه تلامذته ولم يكن بأيدي الطلبة إلا الأقلام
والقراطيس يكتبون ما يسمعونه من أفواه أساتذتهم . وقد يعترف لك بصحة ما تقول
ولكنه يستمر في عمله اعتمادًا على أنه وجد الناس هكذا يعملون . فهل يخطر ببال
عاقل أن هذا الجمود من الدين ؟ وهل يرتاب من له أدنى إدراك في سوء عقباه على
الدين وأهل الدين ؟
جناية الجمود على العقيدة : ذلك جمودهم في العمل وأشد ضررًا منه الجمود
في العقيدة . نسوا ما جاء في الكتاب وأيدته السنة من أن الإيمان يعتمد اليقين ولا
يجوز الأخذ فيه بالظن ، وأن العقل هو ينبوع اليقين في الإيمان بالله وعلمه وقدرته
والتصديق بالرسالة ، وأن النقل ينبوع له فيما بعد ذلك من علم الغيب كأحوال الآخرة
وفروض العبادات وهيآتها ، وأن العقل إن لم يستقل وحده في إدراك ما لا بد فيه من
النقل فهو مستقل لا محالة في الاعتقاد بوجود الله وبأنه يجوز أن يرسل الرسل
فتأتينا عنه بالمنقول . نسوا ذلك كله وقالوا : لا بد من اتباع مذهب خاص في العقيدة
وافترقوا فِرقًا وتمزقوا شيعًا كما قلنا ، ولم يكفهم الإلزام باتباع مذهب خاص في
نفس المعتقد بل ذهب بعضهم إلى أنه لا بد من الأخذ بدلائل خاصة للوصول إلى
ذلك المعتقد فيكون التقليد في الدليل كالتقليد في المدلول .
وكأنهم لذلك جعلوا النقل عمادًا لكل اعتقاد ويا ليته النقل عن المعصوم بل النقل
ولو عن غير المعروف ، فتقررت لديهم قاعدة أن عقيدة كذا صحيحة ؛ لأن كتاب كذا
للمصنف فلان يقول ذلك . ولما كانت الكتب قد تختلف أقوالها صار من الصعب أن
يجد الواحد منهم لنفسه عقيدة قارة صافية غير كدرة ولا متزعزعة . وقد سرى ذلك
من قراء المقلدين إلى أمييهم فتراهم يعتقدون بكل ما يقال وينقل عن معروف الاسم
وإن لم يكن في حق الأمر من أهل العلم وتتناقض عقائدهم على حسب تناقض
مسموعاتهم .
انجرَّ التساهل في الاعتماد على النقل إلى الخروج عما اختطه لنا السلف
- رضي الله عنهم - فقد كانوا ينقبون عن صفات من ينقلون عنه ويمتحنون قوله
حتى يكونوا على شبه اليقين من أنه موضع الثقة . ولكن جمود المتأخر على ما يصل
إليه من المتقدم صير النقل فوضى فتجد كل شخص يأخذ عمن عرفه وظن أنه أهل
للأخذ عنه بدون بحث ولا تنقيب حتى شاع بين الناس من الأقوال وموضوعات
الأحاديث ما ترتفع الأصوات بالشكاية منه من حين إلى حين . وكل ما نراه من
البدع المتجددة فمنشأه سوء الاعتقاد الذي نشأ من رداءة التقليد والجمود عند حد ما
قال الولي بدون بحث في دليله ولا تحقيق في معرفة حاله وإهمال العقل في العقائد
على خلاف ما يدعو إليه الكتاب المبين والسنة الطاهرة . دخلت على الناس لذلك عقائد
يحتاج صاحب الغيرة على الدين في اقتلاعها من أنفسهم إلى عناء طويل وجهاد شديد ،
وسلاحه الكتاب وسلاح أعدائه أقوال بعض من تقدم ممن يعرف ومن لا يعرف . وما
أكثر عدد من ينصر أعداءه اليوم ، وما أقلهم غدًا إن شاء الله .
سأل سائل الأستاذ شيخ الجامع الأزهر عن حكم عمل من الأعمال الجارية
في المساجد يوم الجمعة - ومنزلة الشيخ من الرياسة في أهل العلم بالدين منزلته -
فأفتى بما ينطبق على السنة وما يعرفه العارفون بالدين ، وقال : إن العمل بدعة من
البدع يجب التنزه عنها . أتظن أن المستفتي أمكنه العمل بمقتضى الفتيا ؟ كلا .
حدث قيل وقال وكثرة تسآل ، ودخلت السياسة ثم قيل : إن الزمان ناصر الحقيقة
وقد وجدنا الأمر كذلك من قبلنا وسكت السائل وماذا يصنع المجيب . نعم هذا من
شؤم ذلك الجمود فقد فصل بين العامة ومن يرجى فيهم تقويم ما اعوجّ منها ووكلها
إلى أناس منها لا علم لهم بالدين ولا بالأدب وقد غرسوا في أذهان الدهماء شر
الغرس ولا تجني الأمم منه إلا أخبث الثمر . فلو قام العالم بالدين وأراد أن يبيّن
حكم الله المصرح به في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم المجمع عليه عند
السلف قاطبة انتصب له ناعر من العامة يصيح في وجهه { مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا
الأَوَّلِينَ } ( المؤمنون : 24 ) ويريد من آبائه الأولين من رآهم بعد ولادته أو ذكرت
له أسماؤهم بلسان مضلّيِه حتى صار إرشاد العامة اليوم من أصعب الأمور وأشقها
على طالبه .
ماذا يمكن أن أقول ؟ أصبح الرجل يرتكب في وسائل العبادة أقبح المنكرات
في الدين وإذا دعي إلى ترك المنكر نفر وزمجر ، وأبى واستكبر ، انظر ماذا يصنع
الموسوسون ومن يقرب منهم في الاستبراء من البول على مرأى من المارَّة وفيهم
النساء والأطفال وهم يظنون أنهم يتقربون إلى الله بما يفعلون .
هذا هو شأن العامة يرون ما ليس بدين دينًا ويصعب على حفاظ الدين
إرشادهم بفضل جمودهم على ما ورثوا من ملقنيهم بدون تعقل . فهذا معظم الأمة
تراه قد تملص من أيدي منذريه ولو شاءوا لأقبل كل منهم على صاحبه وهو أيسر
شيء على حمله الشريعة وما هو إلا أن يرجعوا إلى ما كان النبيّ صلى الله عليه
وسلم وأصحابه من سعة الدين وسماحته ، ثم العمل على حفظه وحياطته .
* * *
( الجمود ومتعلمو المدارس النظامية)
ثم إن الجمود قد أحدث لنا فريقًا آخر وهو فريق المتعلمين على الطرق
الجديدة ، إما في مدارس الحكومات الإسلامية وإما في المدارس الأجنبية داخل بلادهن
أو خارجا عنها . لا أتكلم عن هذا الفريق في بلاد القرم أو القوقاس أو سمرقند
وبخارى أو الهند فإني لا أعرف كثيرًا من أحوالهم ، ومن رأيته منهم رأيت فيه خيرًا
وأرجو أن يكون منهم لقومهم ما ينتظره الإسلام من العارفين به فقد رأيت أفرادًا
قليلين من هؤلاء تعلموا في البلاد الأوربية ودرسوا العلوم فيها درسًا دقيقًا وهم أشد
تمسكًا بلُب الدين الإسلامي وروحه من كثير ممن يدعي الورع والتقوى ولا
يسمحون لأنفسهم بترك عادة صحيحة من العادات التي أورثها دينهم لقومهم ، فنعم
المتعلمون هؤلاء ، أكثر الله منهم .
وإنما أتكلم عن هذا الفريق من المتعلمين في مصر وسوريا وسائر بلاد الدولة
العثمانية . سماحة الإسلام وسعة حلمه للعلم أباحت للمسلمين أن يرسلوا أولادهم
ليأخذوا العلم في المدارس الرسمية وغير الرسمية عن أساتذة فيهم المسلم وغير
المسلم ، أو عن أساتذة كلهم غير مسلمين بل في مدارس لم تُبنَ إلا لترويج دين غير
الدين الإسلامي . وأباحت لغير آباء هؤلاء التلامذة أن يسكتوا وأن لا ينكروا عليهم
عملهم ما دامت العقيدة سالمة من الهدم والضعضعة .
جمود تلامذة المدارس الأجنبية : هؤلاء التلامذة إن كانوا في مدارس أجنبية
لا أثر لتعليم الدين الإسلامي فيها بل ربما يتعلم فيها دين آخر فقد يسري إلى
عقائدهم شيء من الضعف ، وقد تذهب عقائدهم بالمرة وتحتلُّ مكانها عقائد أخرى
تناقضها كما شوهد ذلك مرارًا . ولو كان آباؤهم على علم بطرق الاستدلال الإقناعية
لعقائد دينهم لدعموا من عقائد أبنائهم وحفظوها من التزلزل أو الزوال . وكيف يكون
لأولئك الآباء شيء من هذا العلم مع الجمود على طرق قديمة لا يصل إلى فهمها من
ينقطع لتعلمها فضلاً عن أولئك المساكين . بل لو كان هناك مرشدون على طريقة
يسهل فهمها لتيسر لهؤلاء التلامذة أن يهتدوا بهديهم ولكن الجمود صير كل شيء
صعبًا وكل أمر غير مستطاع .
فهذه جناية من جنايات الجمود على أبناء المسلمين الذين يتعلمون في مدارس
أجنبية يخرجهم من دينهم من حيث لا يشعرون . ويا ليتهم يستبدلون بالدين رادعًا
آخر من الأدب والحكمة كما يرجو بعض المغرورين الذين لا يعلمون طبائع هذه
الأمم أو كما يروّجه بعض من لا يريد الخير بها ، ولكنه ترك أفئدتهم هواء خالية من
كل زاجر أو دافع اللهم إلا زاجرًا عن خير أو دافعًا إلى شر فاتخذوا إلههم هواهم
وإمامهم شهوتهم فهلكوا وأهلكوا . ومن هؤلاء ورثة الأغنياء الذين تصيح من شرور
أعمالهم الجرائد كل يوم . فالجهل خير مما يتعلم هؤلاء بدون ريبة وليت الإسلام لم
يرحب صدره لمثل هذا الضر من التعليم والتعلم .
* * *
(جمود تلامذة المدارس الرسمية والأهلية)
أما المتعلمون في مدارس رسمية أو غير رسمية للتعليم الديني فيها شيء من
البقية . فهؤلاء يُنَشًّأُون على شيء من المعارف في الفنون المختلفة وتقرر لهم
حقائق في الكون السماوي أو الأرضي أو في الاجتماع الإنساني ومن عرف شيئًا
انطلق لسانه بالخوض فيه وقد يسمعه متنطع ممن يلبس لباس أهل الدين وهو جامد
على ألفاظ سمعها ، فلو سمع غيرها أنكره وظنه مخالفًا للعقيدة الصحيحة فيأخذ يلوم
المتعلم ويوبخه ويرميه بالمروق من الدين . هذا والمتعلم لا يشك في قوة دليله
ولجهله بالدين يعتقد أن ما يقوله خصمه منه فينفر من دينه نفرته من الجهل . ولو
قال له قائل : ارجع إلى كتب الدين تجد فيها ما يسرك وينصرك على نفسك
وخصمك . حار لا يدري إلى أي كتاب يرجع ولم يسهل عليه فهم تلك العبارات
التي ورثها القوم على ما فيها من تشتيت وتعقيد وأبقوها ما ورثوها . فيعود إلى
النفور من الدين نفور طالب الفهم مما لا يمكنه فهمه .
لهذا يعتقد أكثر هؤلاء أن الدين شيء غير مفهوم بل قد يعده بعضهم خرافة
( نعوذ بالله ) فيأخذون عنه جانبًا ويتركون عقائده وفضائله وآدابه ويلتمسون لهم
آدابًا في غيره وقلما يجدونها فتراهم وقد فترت قلوبهم وقصرت هممهم فلا يطلبون
إلا ما تطلبه العامة من كسب معيشة أو علوّ جاه ويسلكون إلى ذلك أي طريق ولو
أضروا بالعامة أو الخاصة ( ما دام الشرف محفوظًا ) فإذا وجد بينهم من يدعي
الوطنية أو الغيرة الملية أو نحو ذلك فإنما ينثر الألفاظ نثرًا لا يرجع فيها إلى أصل
ثابت ، ولا إلى علم صحيح ولهذا يطلب المصلحة لبلاده من الوجه الذي يؤدي إلى
المفسدة وهو يشعر أو لا يشعر على حسب حاله . ومنهم من يصيح باسم الدين ولا
تتحرك نفسه لمعرفة حكم من أحكامه ، أو درس عقيدة من عقائده فشأنهم كلام في كلام
ولبئس ما يصنعون . ولولا هذا الجمود لوجدوا في كتب دينهم وفي أقوال حَمَلَتهِ ما
تبتهج به قلوبهم ؛ وتطمئن إليه نفوسهم ؛ ولذاقوا طعم العلم مأدومًا بالدين وتمكنوا
من نفع أنفسهم وقومهم ولوجدت منهم طبقة معروفة يرجع إليها في سير الأمة
وسياسة أفكارها وأعمالها الاجتماعية .
***
( الجمود علة تزول )
( المقال الخامس لذلك الإمام الحكيم وفيه بيان علاج الداء )
تفصيل مضرات هذا الجمود وسيئاته يحتاج إلى كتاب طويل فنكتفي بما
أوجزناه في الصفحات السابقة . ولكن يبقى الكلام في أنه عارض يمكن زواله إن
شاء الله تعالى .
قد عرفت من طبيعة الدين الإسلامي بعد عرضها عليك فيما سبق أنها تسمو
عن أن ينسب إليها هذا المرض الخبيث - مرض الجمود على الموجود - وكم في
الكتاب من آية تُنَفِّر من اتباع الآباء مهما عظم أمرهم بدون استعمال العقل فيما كانوا
عليه ولا حاجة إلى إعادة ذلك . ثم إننا أشرنا أيضًا إلى بعض الأسباب التي جلبت
هذا الجمود على المسلمين لا على الإسلام ، وأن محدثها إما عدوُّ للمسلمين طالب
لخفض شأنهم أو لاستعبادهم ولاستغلال أيديهم لخاصة نفسه . وإما محب جاهل
يظن خيرًا ويعمل شرًا وهذا الثاني كان أشد نكاية ، وأعون على الغواية ، وهل
تزول هذه العلة ويرجع الإسلام إلى سعته الأولى وكرمه الفياض وينهض بأهله إلى
ما ذخر لهم فيه ؟ ؟
جاء في الكتاب المبين { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ( الحجر : 9 ) ذلك الذكر هو الذكر الحكيم وهو القرآن الذي أحكمت آياته ثم
فصلت من لدن حكيم خبير . وهو كما قال : { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا
لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ( فصلت : 3 ) وعد الله بحفظ هذا الكتاب وقد أنجز وعده فلم تطل
إليه يد عدو مقاتل ولا يد محب فبقي كما نزل ، ولا يضره عمل الفريقين في تفسيره
وتأويله ، فذلك مما لا يلتصق به فهو لا يزال بين دَفَّات المصاحف طاهرًا نقيًّا
بريئًا من الاختلاف والاضطراب . وهو إمام المتقين ، ومستودع الدين ، وإليه
المرجع إذا اشتد الأمر وعظم الخطب وسلمت النفوس من التخبط في الضلالات .
ولا يزال لأشعة نوره نفوذ من تلك الحجب التي أقاموها دونه ولا بد أن تتمزق كلها
بأيدي أنصاره فيتبلج ضياؤه لأعيُن أوليائه إن شاء الله تعالى .
هذا الضياء كان ولا يزال يلوح لامعه في حنادس الظلم لأفراد اختصهم الله
بسلامة البصيرة فيهتدون به إليه ويحمدون سراهم ، بما عرفوا من نجاح مسعاهم ،
ولكن الذين أطبقت عليهم ظُلَمُ البدع ، وران على قلوبهم ما كسبوا من التحزب
للشيع ، وطَمَسَتْ بصائرهم ، وفسدت عقولهم ، بما حشوها من الأباطيل ، وبما
عطلوها عن النظر في الدليل ، هؤلاء في عمى عن نوره وقلوبهم في أكنَّة أن
يفقهوه وفي آذانهم وقر . يصيحون بأنهم عُمْيُ صمُّ فلا يرون له سناء ، ولا يسمعون
له نداء ، ويعدون ذلك من كمال الإيمان به ولبئس ما رضوا لأنفسهم من السفه
وطيش الحلم وهم يعلمون . هذا حال الجمهور الأعظم ممن يوصفون بأنهم مسلمون
ويجلبون العار على الإسلام بدخولهم تحت عنوانه ، ويقوُّون حجج أعدائه في حربه
بزعمهم الاجتماع تحت لوائه ، وما هم منه في شيء كما قدمنا .
هؤلاء لا بد أن يصيبهم ما أصاب الأمم قبلهم فقد اتبعوا سننهم شبرًا بشبر
وذراعًا بذراع وضيقوا على أنفسهم بدخولهم في جحر الضب الذي دخلوه[3] ومن
اتبع سنن قوم استحق الوقوع تحت أحكام سُنن الله فيهم فلن يخلص مما قضى الله
في عذابهم . فقد قص عليهم سير الأولين وبَيَّنَ لهم ما نزل بهم عندما انحرفوا عن
سننه وحادوا عن شرعه ونبذوا كتابه وراءهم ظِهريًّا . أَحَلَّ بهم الذلَّ ، وَضَرَبَ
عليهم المسكنةَ ، وأَوْرَثَ غَيْرَهم أَرْضَهم وديارهم . فهل ينتظر المتبعون سننهم ،
السائرون على أثرهم أن يصنع الله بهم غير الذي صنع بسابقيهم وقد قضى بأن تلك
سنته لن تجد لسنته تبديلاً .
لا تزال الشدائد تنزل بهولاء المنتسبين إلى الإسلام ، ولا تزال القوارع تحل
بديارهم حتى يفيقوا ( وقد بدأوا يفيقون من سكراتهم ) ويفزعوا إلى طلب النجاة
ويغسلوا قَذَى المُحْدَثات عن بصائرهم ، وعند ذلك يجدون هذا الكتاب الكريم في
انتظارهم يُعِدُّ لَهُمْ وسائل الخلاص ويؤيدهم في سبيله بروح القدس ويسير بهم إلى
منابع العلم ، فيغترفون منها ما يشاءون فيعرفون أنفسهم ويشهدون ما كان قد كمن فيها
من قوة فيأخذ بعضهم بيد بعض ويسيرون إلى المجد غير ناكلين ولا مخذولين .
ولهذا أقول : إن الإسلام لن يقف عثرة في سبيل المدنية أبدًا ولكنه سيهذبها وينقيها
من أوضارها ، وستكون المدنية من أقوى أنصاره متى عرفته وعرفها أهله . وهما
الجمود سيزول وأقوى دليل على زواله بقاء الكتاب شاهدًا عليه بسوء حاله ولطف
الله بتقييض أناس للكتاب ينصرونه ، ويدعون إليه ويؤيدونه ، والحوادث تساعدهم ،
وسوط عذاب الله النازل بالجامدين ينصرهم ، هذا الكتاب المجيد الذي كان يتبعه
العلم حيثما سار شرقًا وغربًا لا بد أن يعود نوره إلى الظهور ويمزق حجب هذه
الضلالات ، ويرجع إلى موطنه الأول من قلوب المسلمين ويأوي إليها . العلم يتبعه
وهو خليله الذي لا يأنس إلا إليه ولا يعتمد إلا عليه .
يقول أولئك الجامدون الخامدون كما يقول بعض أعداء القرآن : إن الزمان قد
أقبل على آخره ، وإن الساعة أوشكت أن تقوم ، وإن ما وقع فيه الناس من الفساد ،
وما مُنِيَ به الدين من الكساد ، وما عرض عليه من العلل ، وما نراه فيه من الخلل ،
إنما هو أعراض الشيخوخة والهرم ، فلا فائدة في السعي ولا ثمرة للعمل ، فلا
حركة إلا إلى العدم ، ولا يصح أن يمتد بصرنا إلى العدم ، ولا أن ننتظر من
غاية لأعمالنا سوى العدم ( نعوذ بالله ) ، هؤلاء حَفدة الجهل وأعوان اليأس يهرفون
بما لا يعرفون . ماذا عرفوا من الزمان حتى يعرفوا أنه كاد ينقطع عند نهايته ؟ إن
الذي مضى بيننا وبين مبدأ الإسلام ألف وثلاثمائة وعشرون عامًا ، وإنما هي يوم
وبعض يوم أو بعض يوم فقط من أيام الله تعالى . وأن آيات الله في الكون - وإن
كانت تدل على ما مضى على الخليقة يقدر بالدهور الدهارير ، - تشهد بأن ما بقي
لهذا النظام العظيم يقصر عن تقديره كل تقدير { فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لاَ يَكَادُونَ
يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } ( النساء : 78 ) إن ما بيننا وبين مبدأ الإسلام لا يزيد عن عمر
ستة وعشرين رجلاً كل رجل يعيش خمسين سنة . فهل يعد مثل ذلك دهرًا طويلاً
بالنسبة إلى دين عام كدين الإسلام ؟ إن زمنًا كهذا لا يكفي - وقد تبين أنه لم
يكف - لاهتداء الناس كافة بهديه . ولِمَ تقوم القيامة على الدين ولم تقم على شرهم وطمعهم ؟
قد وعد الله بأن يتم نوره وبأن يظهره على الدين كله فسار في سبيل التمام
والظهور على العقائد الباطلة أعوامًا ، ثم انحرف به أهله عن سبيله وصاروا به إلى
ما يرون ونرى . ولن ينقضي العالم حتى يتم ذلك الوعد ويأخذ الدين بيد العلم
ويتعاونا معًا على تقويم العقل والوجدان فيدرك العقل مبلغ قوته ، ويعرف حدود
سلطنته ، فيتصرَّف فيما آتاه الله تصرُّف الراشدين ، ويكشف ما مكنه فيه من أسرار
العاملين ، حتى إذا غشيته سبحات الجلال وقف خاشعًا ، وقفل راجعًا ، وأخذ أَخْذَ
الراسخين في العلم الذين قال فيهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( كرم الله
وجهه ) فيما روي عنه : ( هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون
الغيوب ، الإقرارُ بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح الله اعترافهم
بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علمًا ، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث
عن كنهه رسوخًا واعتبر بعد ذلك بقوله : ( فاقتصر على ذلك ولا تقدر عظمة الله
سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين . هو القادر الذي إذا ارتمت الوهام
لتدرك منقطع[4] قدرته ، وحاول الفكر المبرَّأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه في
عميقات غيوب ملكوته ، وتولهت[5] القلوب إليه لتجري في كيفية صفاته ،
وغمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتناول علم ذاته ، ردعها وهي
لحوب مهاوي سدف[6] الغيوب متخلصة إليه سبحانه ، فرجعت إذ جبهت[7] معترفة
بأنه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته ، ولا تخطر ببال أولي الرَّويَات خاطرة
من تقدير جلال عزته ) .
هنالك يلتقي ( أي العقل ) مع الوجدان الصادق ( القلب ) ولم يكن الوجدان
ليدابر العقل في سيره داخل حدود مملكته متى كان الوجدان سليمًا ، وكان ما
استضاء به من نبراس الدين صحيحًا ، إياك أن تعتقد ما يعتقده بعض السذج من أن
فرقًا بين العقل والوجدان ( القلب ) في الوجهة بمقتضى الفطرة والغريزة . فإنما يقع
التخالف بينهما عرضًا عند عروض العلل والأمراض الروحية على النفوس . وقد
أجمع العقلاء على أَنَّ المشاهدات بالحس الباطني ( الوجدان أو القلب ) من مبادي
البرهان العقلي كوجدانك أنك موجود ووجدانك لسرورك وحزنك وغضبك ولذتك
وألمك ونحو ذلك .
مُنحنا العقل للنظر في الغايات والأسباب المسببات ، والفرق بين البسائط
والمركبات ، والوجدانَ لإدراك ما يحدث في النفس والذات من لذائذ وآلام ، وهلع
واطمئنان ، وشماس وإذعان ، ونحو ذلك مما يذوقه الإنسان ولا يحصيه البيان ؛ فهما
عينان للنفس تنظر بهما - عين تقع على القريب وأخرى تمتد إلى البعيد ، وهى في
حاجة إلى كل منهما ولا تنتفع بإحداهما حتى يتم لها الانتفاع بالأخرى . فالعلم
الصحيح مقوم الوجدان ، والوجدان السليم من أشد أعوان العلم ، والدين الكامل علم
وذوق ، عقل وقلب ، برهان وإذعان ، فكر ووجدان ، فإذا اقتصر دين على أحد
الأمرين فقد سقطت إحدى قائمتيه وهيهات أن يقوم على الأخرى . ولن يتخالف
العقل والوجدان حتى يكون الإنسان الواحد إنسانيين ، والوجود الفرد وجودين .
قد يدرك عقلك الضرر في عمل ولكنه تعمله طوعًا لوجدانك ، وربما أيقنت
المنفعة في أمر وأعرضت عنه إجابة لدافع من سريرتك ، فتقول : إن هذا يدل على
تخالف العقل والوجدان . ولكني أقول : إن هذه حجة من لا يعرف نفسه ولا غيره .
عليك أن ترجع إلى نفسك فتتحقق من أحد الأمرين - إما أن يقينك ليس بيقين وأنه
صورة عرضت عليك من قول غيرك فأنت تظنها علمًا وما هى به . وإما أن
وجدانك وَهْم تمكن فيك ، وعادة رسخت في مكان القوة منك ، وليس بالوجدان
الصحيح وإنما هو عادة ورثتها عمن حولك وظنتها شعورًا مَنْبَعُه الغريزة وما هي
منه في شيء .
( نتيجة ) : لا بد أن ينتهي أمر العالم إلى تآخي العلم والدين ؛ على سنة
القرآن والذكر الحكيم ، ويأخذ العالمون بمعنى الحديث الذي صح معناه[8] ( تفكروا
في خلق الله ولا تَفَكَّروا في ذات الله ) وعندها يكون الله قد أتم نوره ولو كره
الكافرون[9] وتبعهم الجامدون القانطون ، وليس بينك وبين ما أَعِدكَ به إلا الزمان
الذي لا بد منه في تنبيه الغافل وتعليم الجاهل وتوضيح المنهج ، وتقويم الأعوج ،
وهو ما تقتضيه السنةِّ الإلهية في التدريج { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن
تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } ( الأحزاب : 62 ) . { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا } ( المعارج : 6-7 ) . { إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } ( محمد : 7 )
وهو خير الناصرين .
... ... ... ... ( للكلام بقية )
(( يتبع بمقال تالٍ ))
__________
(1) المنار : يشير إلى حديث ابن مسعود عند الترمذي وابن ماجه وهو : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( نضّر الله امرءًا سمع مني شيئًا فبلغه كما سمعه فرب مبلَّغ أوعى له من سامع ) ورواه غيرهما عن غيره .
(2) يشير إلى حديث أنس عند الترمذي وهو : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَثَلُ أمتي مَثَلُ المطر لا يدرى أوله خير أم آخره ) ورواه غيره .
(3) المنار : في الكلام إشارة إلى حديث : ( لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) الحديث رواه الشيخان وغيرهما .
(4) المنقطع : ما ينقطع عند الشيء وهو آخره .
(5) تولهت : اشتد عشقها .
(6) السدف : جمع سدفه كظلمة لفظًا ومعنى .
(7) جبه : ضربت جبهته ورُدَّ .
(8) المنار - قال العراقي : رواه أبو نعيم في الحلية بالمرفوع منه بإسناد ضعيف ورواه الأصبهاني في الترغيب والترهيب من وجه آخر أصح منه ، ورواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشُّعب من حديث ابن عمر وقال : هذا إسناد فيه نظر . قلت فيه الوازع بن نافع متروك وقال الزبيدي في شرح الإحياء : قلت حديث ابن عمر لفظه (تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله) هكذا رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التفكر وأبو الشيخ في العظمة والطبراني في الأوسط وابن عدي وابن مردويه والبيهقي وضعفه والأصبهاني وأبو نصر في الإبانة وقال غريب ورواه أبو الشيخ من حديث ابن عباس : (تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره) ورواه ابن النجار والرافعي من حديث أبي هريرة (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله) إلخ وتعدد هذه الروايات واجتماعها يكسبها قوة والمعنى صحيح كما قال الحافظ السخاوي في المقاصد .
(9) الكافر : من يرى الدليل فيصد عنه ولا ينظر فيه أو ينظر فيعرف الحق ثم يماري فيه وينكره عنادًا ا هـ من هامش الأصل .
(5/521__________
الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية
تتمة المقال الرابع لذلك الإمام الحكيم
( الجواب )
أقول هذا كلام فيه شِيَة من الحق ، ولمعة من الصدق ، أما ما نسمعة حولنا
من سَجن مَن قال بقول السلف فليس الحامل عليه التمسك بالدين فإنَّ حملة العمائم
إنما حركهم الحسد لا الغَيْرة . وأما صدور الأمر بالسجن فهو من مقتضيات السياسة
والخوف من خروج فكر واحد من حبس التقليد فتنتشر عدواه فينتبه غافل آخر
ويتبعه ثالث ، ثم ربما تسري العدوى من الدين إلى غير الدين - إلى آخر ما يكون
من حرّية الفكر يعوذون بالله منها . فإن شئت أن تقول : إن السياسة تضطهد الفكر
أو الدين أو العلم فإنا معك من الشاهدين . أعوذ بالله من السياسة ، ومن لفظ السياسة ،
ومن معنى السياسة ، ومن كل حرف يُلفظ من كلمة السياسة ، ومن كل خيال
يخطر ببالي من السياسة ، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة ، ومن كل شخص
يتكلم أو يتعلم أو يُجَنُّ أو يعقل في السياسة ، ومن ساس ويسوس ، وسائس ومسوس ،
يدلك على أن العقوبة سياسة أن الرجل كان يقول بقول السلف من أهل الدين . لا
تقل : إن هذه السياسة من الدين ، فإني أُشْهِدُ الله ورسله وملائكته وسلفنا أجمعين ،
أن هذه السياسة من أبعد الأمور عن الدين ، كأنها الشجرة التي تخرج في أصل
الجحيم ، { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ ، فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ، ثُمَّ
إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإَلَى الْجَحِيمِ ، إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ
ضَالَّينَ ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } ( الصافات : 65 - 70 ) .
* * *
( جمود المسلمين وأسبابه)
وأما ما وصفت بعد ذلك من الجمود فهو مما لا يصح أن ينسب إلى الإسلام
وقد رأيت صورة الإسلام في صفائها ونصوع بياضها ليس فيها ما يصح أن يكون
أصلاً يرجع إليه شيء مما ذكرت ولا مما تنبأ بسوء عاقبته ( رينان ) وغيره . وإنما
هي علة عرضت على المسلمين عندما دخل على قلوبهم عقائد أخرى ساكنت عقيدة
الإسلام في أفئدتهم . وكان السبب في تمكنها من نفوسهم وإطفائها لنور الإسلام من
عقولهم هو السياسة ، كذلك هو تلك الشجرة الملعونة في القرآن عبادة الهوى واتباع
خُطُوات الشيطان هو السياسة .
لم أرَ كالإسلام دينًا حفظ أصله ، وخلط فيه أهله ، ولا مثله سلطانًا تفرق عنه
جنده ، وخُفِر عهده ، وكُفِر وعيده ووعده ؛ وخَفِيَِ على الغافلين قصده ، وإن وضح
للناظرين رشده ، أكل الزمان أهله الأولين ، وأدال منهم خُشَارة من الآخرين ، لا هم
فهموه فأقاموه ، ولا هم رحموه فتركوه ، سواسية من الناس اتصلوا به ، ووصلوا
نسبهم بسببه ، وقالوا نحن أهله وعشيرته ، وحماته وعصبته ، وهم ليسوا منه في
شيء إلا كما يكون الجهل من العلم ، والطيش من الحلم ، وأفَنُ الرأي من صحة
الحكم .
انظر كيف صارت مزية من مزايا الإسلام سببًا فيما صار إليه أهله . كان
الإسلام دينًا عربيٍّا ثم لحقه العلم فصار علمًا عربيٍّا بعد أن كان يونانيًّا ، ثم أخطأ
خليفة في السياسة فاتخذ من سعة الإسلام سبيلاً إلى ما كان يظنه خيرًا له . ظن أن
الجيش العربي قد يكون عونًا لخليفة علوي ؛ لأن العلويين كانوا ألصق ببيت النبي
صلى الله عليه وآله وسلم . فأراد أن يتخذ له جيشًا أجنبيًّا من الترك والديلم
وغيرهم من الأمم التي ظن أنه يستعبدها بسلطانه ، ويصطنعها بإحسانه ، فلا تساعد
الخارج عليه ولا تعين طالب مكانه من الملك . وفي سعة أحكام الإسلام وسهولته ما
يبيح له ذلك . هنالك استعجم الإسلام وانقلب عجميًّا .
خليفة عباسي أراد أن يصنع لنفسه ولخلفه وبئس ما صنع بأمته ودينه: أكثَرَ من
ذلك الجند الأجنبي وأقام عليه الرؤساء منه ، فلم تكن إلا عشية أو ضحاها حتى
تغلب رؤساء الجند على الخلفاء واستبدوا بالسلطان دونهم وصارت الدولة في قبضتهم
ولم يكن لهم ذلك العقل الذي يرضاه الإسلام والقلب الذي هذبه الدين . بل جاءوا إلى
الإسلام بخشونة الجهل يحملون ألوية الظلم . لبسوا الإسلام على أبدانهم ، ولم ينفذ منه
شيء إلى وجدانهم ، وكثير منهم كان يحمل إلهه معه يعبده في خلوته ، ويصلي مع
الجماعات لتمكين سلطته ، ثم عدا على الإسلام آخرون كالتتار وغيرهم . ومنهم من
تولى أمره ، أيّ عدو لهؤلاء أشد من العلم الذي يعرّف الناس منزلتهم ويكشف لهم
قبح سيرهم ؟ فمالوا على العلم وصديقه الإسلام ميلتهم . أما العلم فلم يحفلوا بأهله ،
وقبضوا عنه يد المعونة وحملوا كثيرًا من أعوانهم أن يندرجوا في سلك العلماء وأن
يتسربلوا بسرابيله ليُعدُّوا من قبيلة ، ثم يضعوا للعامة في الدين ما يبغض إليهم
العلم ويبعد بنفوسهم عن طلبه . ودخُلوا عليهم وهم أَغرار من باب التقوى وحماية
الدين . زعموا الدين ناقصًا ليكملوه ، أو مريضًا ليعلِِّلوه ، أو متداعيًا ليدعموه ؛ أو يكاد
أن ينفضّ ليقيموه .
نظروا إلى ما كانوا عليه من فخفخة الوثنية ، وفي عادات من كان حولهم من
الأمم النصرانية ، فاستعاروا من ذلك للإسلام ما هو بَرَاءٌ منه لكنهم نجحوا في إقناع
العامة بأن في ذلك تعظيم شعائره ، وتفخيم أوامره ، والغوغاء عون الغاشم ، وهم يد
الظالم ، فخلقوا لنا هذه الاحتفالات وتلك الاجتماعات ، وَسَنّوا لنا من عبادة الأولياء
والعلماء والمتشبهين بهم ما فرق الجماعة وأركس الناس في الضلالة ، وقرروا أن
المتأخر ليس له أن يقول بغير ما يقول المتقدم ، وجعلوا ذلك عقيدة حتى يقف الفكر
وتجمد العقول . ثم بثوا أعوانهم في أطراف الممالك الإسلامية ينشرون من القصص
والأخبار والآراء ما يقنع العامة بأنه لا نظر لهم في الشئون العامة ، وأن كل ما هو
من أمور الجماعة والدولة فهو مما فرض فيه النظر على الحكام دون من عداهم
ومن دخل في شيء من ذلك من غيرهم فهو متعرض لما لا يعينه ، وأن ما يظهر
من فساد الأعمال واختلال الأحوال ، ليس من صنع الحكام وإنما هو تحقيق لما ورد
في الأخبار من أحوال آخر الزمان . وأنه لا حيلة في إصلاح حال ولا مآل ، وأن
الأسلم تفويض ذلك لله ، وما على المسلم إلا أن يقتصر على خاصة نفسه . ووجدوا
في ظواهر الألفاظ لبعض الأحاديث ما يعينهم على ذلك وفي الموضوعات
والضعاف ما شد أزرهم في بث هذه الأوهام . وقد انتشر بين المسلمين جيش من
هؤلاء المضلين وتعاون ولاة الشر على مساعدتهم في جميع الأطراف ، واتخذوا من
عقيدة القدر مثبطًا للعزائم وغلاًّ للأيدي عن العمل . والعامل الأقوى في حمل
النفوس على قبول هذه الخرافات إنما هو السذاجة وضعف البصيرة في الدين
وموافقة الهوى . أمور إذا اجتمعت أهلكت ؛ فاستتر الحق تحت ظلام الباطل ورسخ
في نفوس الناس من العقائد ما يضارب أصول دينهم ويباينها على خط مستقيم كما
يقال .
هذه السياسة سياسة الظلمة وأهل الأثرة هي التي روجت ما أدخل على الدين
مما لا يعرفه وسلبت من المسلم أملاً كان يخترق به أطباق السماوات ، وأخلدت به إلى
يأس يجاور به العجماوات ، فجلُّ ما تراه الآن مما تسميه إسلامًا فهو ليس بإسلام
وإنما حفظ من أعمال الإسلام صورة الصلاة والصوم والحج وقليل من الأقوال
التي حرفت عن معانيها . ووصل الناس بما عرض على دينهم من البدع والخرافات
إلى الجمود الذي ذكرته وعدوه دينا . نعوذ بالله منهم ومما يفترون على الله ودينه .
فكل ما يعاب الآن على المسلمين ليس من الإسلام وإنما هو شيء آخر سموه
إسلامًا . والقرآن شاهد صادق { لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ
مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } ( فصلت : 42 ) يشهد بأنهم كاذبون ، وأَنهم عنه لاهون ، وعما
جاء به معرضون ، وسنوفي لك الكلام في مفاسد هذا الجمود نثبت أنه علة لا بد أن
تزول .
* * *
( مفاسد هذا الجمود ونتائجه )
طال أمد هذا الجمود لاستمرار عمل العاملين في المحافظة عليه ، وولوع
شهواتهم بالدفاع عنه ، وقد حدثت عنه مفاسد يطول بيانها وإنما يحسن إجمال القول
فيها . كان الدين هو الذي ينطلق بالعقل في سعة العلم ويسيح به في الأرض ويصعد
به إلى أطباق السماء ليقف به على أثر من آثار الله أو يكشف به سرًّا من أسراره
في خليقته ، أو يستنبط حكمًا من أحكام شريعته ، فكانت جميع الفنون مسارح
للعقول تقتطف من ثمارها ما تشاء وتبلغ من التَّمَتُّع بها ما تريد ، فلما وقف الدين ،
وقعد طلاب اليقين ، وقف العلم وسكنت ريحه ، ولم يكن ذلك دفعة واحدة ولكنه سار
سير التدريج .
إفساد الجمود للغة : أول جناية لهذا الجمود كانت على اللغة العربية وأساليبها
وآدابها فإن القوم كانوا يُعنون بها لحاجة دينهم إليها - أريد حاجتهم في فهم كتابهم
إلى معرفة دقائق أساليبها - وما تشير إليه هيئة تركيبها ، وكانوا يجدون أنهم لن
يبلغوا ذلك حتى يكونوا عربًا بملكاتهم ، يساوون من كانوا عربًا بسلائقهم ، فلما لم
يبق للمتأخر إلا الأخذ بما قال المتقدم قصر المحصلون تحصيلهم على فهم كلام مَنْ
قبلهم واكتفوا بأخذ حكم الله منه بدون أن يرجعوا إلى دليله ، ولو نظروا في الدليل
فرأوه غير دالّ له بل دالاًّ لخصمه بأن كان عرض له في فهمه ما يعرض للبشر
الذين لم يقرر الدين عصمتهم لَخَطَّأُُوا نظرهم وأعموا أبصارهم وقالوا : نعوذ بالله
أن تذهب عقولنا إلى غيب ما ذهب إليه متقدمنا وأرغموا عقلهم على الوقفة فيصيبه
الشلل من تلك الناحية . فأي حاجة له بعد ذلك إلى اللغة العربية نفسها وقد يكفيه
منها ما يفهم به أسلوب كلام المتقدم وهو ليس من أولئك العرب الذين كان ينظر
الأولون في كلامهم .
وهكذا كل متأخر يقصر فهمه على النظر في كلام من يليه هو غير مبال
بسلفه الأول ، بل ولا بما كان يحفّ بالقول من أحوال الزمان فهو لا ينظر إلا اللفظ
وما يعطيه فتسقط منزلته في تحصيل اللغة بمقدار بعده عن أهلها حتى وصل حال
الناس إلى ما نراهم عليه اليوم . جعلوا دروس اللغة لفهم عبارة بعض المؤلفين في
النحو وفنون البلاغة - وإن لم يصلوا منها إلى غاية في فهم ما وراءها - فَدَرَسَتْ علوم
الأولين وبادت صناعاتهم ، بل فقدت كتب السلف الأولين رضي الله عنهم ، وأصبح
الباحث عن كتاب المدونة لمالك - رحمه الله تعالى - أو كتاب الأم للشافعي - رحمه
الله تعالى - أو بعض كتب الأمهات في فقه الحنفية كطالب المصحف في بيت
الزنديق . تجد جزءًا من الكتاب في قُطْر ، وجزءه الآخر في قُطْر آخر فإذا اجتمعت لك أجزاء الكتاب وجدت ما عرض عليها من مسخ النساخ حائلاً بينك وبين الاستفادة
منها .
هذا كله من أثر الجمود وسوء الظن بالله وتوهم أن أبواب فضل الله قد أغلقت
في وجوه المتأخرين ، ليرفع بذلك منازل المتقدمين ، وعدم الاعتبار بما ورد في
الأخبار من أن المبلَّغ ربما كان أوعى من السامع[1] وأن هذه الأمة كالمطر لا يدرى
أوله خير أم آخره[2] وقلة الالتفات إلى أن ذلك قد أضاع آثار المتقدمين أنفسهم ولا
حول ولا قوة إلا بالله .
لا ريب أن القارئ يحيط بمقدار ضرر هذه الجناية على اللغة ثم يكفيه من ذلك
أنه إذا تكلم بلغته لغة دينه وكتابه وقومه لا يجد من يفهم ما يقول ، وأي ضرر أعظم
من عجز القائل عن أن يصل بمعناه إلى العقول .
إفساد النظام والاجتماع : وأعظم من هذه الجناية جناية التفريق وتمزيق نظام
الأمة وإيقاعها فيما وقع فيه من سبقها من الاختلاف وتفرق المذاهب والشيع في
الدين . كان اختلاف السلف في الفُتْيَا يرجع إلى اختلاف أفهام الأفراد ، والكل يرجع
إلى أصل واحد لا يختلفون فيه وهو كتاب الله وما صح من السنة فلا مذهب ولا
شيعة ولا عصبية . ولو عرف بعضهم صحة ما يقول الآخر لأسرع إلى موافقته كما
صرح به جميعهم . ثم جاء أنصار الجمود فقالوا : يولد مولود في بيت رجل من
مذهب إمام فلا يجوز له أن ينتقل من مذهب أبيه إلى مذهب إمام آخر . وإذا سألتهم
قالوا : ( وكلهم من رسول الله ملتمس ) ولكنه قول باللسان ، لا أصل له في الجنان ،
ثم كانت حروب جدال بين أئمة كل مذهب لو صرفت آلاتها وقواها في تبيين
أصول الدين ونشر آدابه وعقائده الصحيحة بين العامة لَكُنَّا اليوم في شأن غير ما
نحن فيه .
يجد المطَّلع على كتب المختلفين من مطاعن بعضهم في بعض ما لا يسمح به
أصل من أصول الدين الذي ينتسبون إليه . يضلل بعضهم بعضًا ويرمي بعضهم بعضًا
بالبعد عن الدين وما المطعون فيه بأبعد عن الدين من الطاعن ولكنه الجمود ، قد يؤدي
إلى الجحود .
كان الاختلاف في العقائد على نحو الاختلاف في الفُتْيَا تخالف أشخاص في
النظر والرأي . وكان كل فريق يأخذ عن الآخر ولا يبالي بمخالفته له في رأيه .
مسجدهم واحد وإمامهم واحد وخطيبهم واحد . فلما جاء دور الجمود - دور السياسة
- أخذ المتخالفون في التنطع ، وأخذت الصلات تتقطع ، وامتازت فِرَقٌ وتألفت
شيع . كل ذلك على خلاف ما يدعو إليه الدين . وقد بذل قوم وسعهم في
تمييز الفرق تمييزًا حقيقيًّا فما استطاعوا وإنما هو تمييز وهميّ ، وخلف في أكثر
المسائل لفظي ، وإنما هي الشهوات وضرب السياسات أشعلت نيران الحرب بين
المنتسبين إلى تلك الشيع حتى آل الأمر إلى هذه الفُرقة التي يظن الناظر فيها أنها لا
دواء لها .
قال قائل من عدة سنين : إنه ينبغي أن يعين القضاة في مصر من أهل
المذاهب الأربعة ؛ لأن أصول هذه المذاهب متقاربة وعبارات كتبها مما يسهل على
الناظر فيها أن يفهمها . وقال : إن الضرورة قاضية بأن يؤخذ في الأحكام ببعض
أقوال من مذهب مالك أو مذهب الشافعي تيسيرًا على الناس ودفعًا للضرر والفساد .
فقام كثير من المتورعين يحوقلون ويندبون حظ الدين ، كأن الطالب يطلب شيئًا
ليس من الدين ، مع أنه لم يطلب إلا الدين ، ولم يأت إلا بما يوافق الدين ، وبما
كان عليه العمل في أقطار العالم إلى ما قبل عدة سنين . فأين قول هؤلاء ( وكلهم
من رسول الله ملتمس ) ؟ لكن هو جمود المتأخر على رأي من سبقه مباشرة وقصر
نظره عليه دون التطلع إلى ما وراءه ، أو هي السياسة تحلّ ما تشاء ، وتحرم ما
تشاء وتصحح ما تشاء ، وتبطل ما تشاء ، والناس منقادون إليها بأزمة الأهواء .
جناية الجمود على الشريعة : هذا الجمود في أحكام الشريعة جرّ إلى عسر
حمل الناس على إهمالها . كانت الشريعة الإسلامية أيام كان الإسلام إسلامًا سمحة
تسع العالم بأسره وهي اليوم تضيق عن أهلها حتى يضطروا إلى أن يتناولوا غيرها
وأن يلتمسوا حماية حقوقهم فيما لا يرتقي إليها . وأصبح الأتقياء من حملتها
يتخاصمون إلى سواها .
صعب تناول الشريعة على الناس حتى رضوا بجهلها عجزًا عن الوصول إلى
علمها فلا ترى العارف بها من الناس إلا قليلاً لا يعدّ شيئًا إذا نسب إلى من لا يعرفها .
وهل يتصوَّر من جاهل بشريعة أن يعمل بأحكامها ؟ فوقع أغلب العامة في مخالفة
شريعتهم بل سقط احترامها من أنفسهم ؛ لأنهم لا يستطيعون أن يطبقوا أعمالهم على
مقتضى نصوصها . وأول مانع لهم ضيق الطاقة عن فهمها لصعوبة العبارات وكثرة
الاختلاف . سألت يومًا أحد المدرسين في بعض المذاهب : هل تبيع وتشتري
وتصرف النقود على مقتضى ما تجد في كتب مذهبك ؟ فأجاب أن تلك الأحكام قلما
تخطر بباله عند المعاملة بالفعل وإنما يفعل ما يفعل الناس . هكذا فعل الجمود بأهله
ولو أرادوا أن تكون للشريعة حياة تحيي بها الناس لفعلوا ولسهل عليهم وعلى الناس أن
يكونوا بها أحياء .
تعلم ما وصل إليه الناس من فساد الأخلاق والانحراف عن الشريعة . لو
سألت عن سببه في القرى وصغار المدن لوجدته أحد أمرين : إما فقد العارف
بالشريعة والدين ، وسقوط القرية أو المدينة في جاهلية جهلاء يرجع بعض أهلها
إلى بعض في معرفة الحلال والحرام وليس المسئول بأعلم من السائل والكل
جاهلون . وإما عجز العارف عن تفهيم من يسأله لاعتقال لسانه عن حسن التعبير
بطريقة تفهمها العامة وعلى المتكلم إفهامها . وذلك للحرج الذي وضع فيه نفسه فلا
يستطيع التصرف فيما يسمع ولا فيما يعلم . فإذا قلت للعارف تعلّمْ من وسائل
التعبير ما يقدرك على مخاطبة الطبقات المختلفة من الناس حتى تنفع بعلمك واعلُ
بنفسك إلى أن تفهم الغرض من قول إمامك فتجد لأصله انطباقًا على هذه الحادثة
مثلاً وإن لم يأت ذكرها بنفسها في قوله أو قول من جاء بعده من أتباعه . قال :
سبحان الله : هل فعل ذلك أحد من المشايخ ؟ يرى أن لا يأتي شيئًا إلا ما أتى به
شيخه الذي أخذ عنه يدًا بيد ولو أبعد بنظره لوجد قدماء المشايخ قد فعلوه وبالغوا فيه
حتى خالفوا من أخذوا عنه في بعض رأيه . ثم إذا حاججته في ذلك لم يبعد من رأيه
أن يعدك زنديقًا وأنك تدعوه إلى الخروج من دينه ولا يدري المسكين أنه بذلك
يخالف نصوص دينه ، وأنه يتهيأ للخروج منه نعوذ بالله تعالى .
كان كلام بيني وبين أحد المدرسين في أخذ الطلبة بالنصيحة وتذكيرهم
بفضائل الأخلاق وصالح الأعمال خصوصًا عند إلقاء الدروس الفقهية ودروس
الحديث والتوحيد . فقال لي : إنه لا فائدة في ذلك قطعًا وهو تعب في غير طائل .
فقلت له : ذلك حق عليك أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وليس عليك أن
يأتمر المأمور ولا أن ينتهي المنهيّ . فقال : إذا تحققت استحالة المنفعة كان الأمر
والنهي لغوًا . فانظر كيف اعتقد استحالة الانتفاع بنصحه لبلوغ الفساد من النفوس
غايته كما يزعم . ولم ينظر في الوسيلة لاقتلاع هذا الفساد مع أن الدين يدعوه إلى
ذلك وهو يعمل كل يوم عمله لتعليم من لا سبيل إلى إصلاحه . هذا كله لأنه لم ير
نفسه أهلاً لأن يتخذ وسيلة لم يتخذها من أخذ عنه ، أو لم يرشده إليها من تعلم هو بين
يديه ولم يتذكر عند ذلك شيئًا من الأوامر الإلهية التي وردت في النصيحة والتآمر
بالمعروف والتناهي عن المنكر ، وأن اليأس من روح الله إنما يكون من القوم
الكافرين أو الضالين .
لا بل إذا قلت له : إن هذا الضرب من ضروب التعليم عقيم لا ينتج المطلوب
منه ، أو إن هذا الكتاب الذي تعوّد الطلاب قراءته قد يضر بقارئيه وغيرُه أفضل
منه . كاد يظن أن قولك هذا مخالفٌ للدين ورأى العدول عمّا تعوّده نوعًا من
الإخلال بالدين . وقد يقيم عليك حربًا يعتقد نفسه فيها مجاهدًا في سبيل الله إذا قلت
له : إن دروس السلف كانت تقريرًا للمسائل وإملاءً للحقائق على الطلاب ولم يكن
لأحد منهم كتاب يأخذه بيده ويقرئه تلامذته ولم يكن بأيدي الطلبة إلا الأقلام
والقراطيس يكتبون ما يسمعونه من أفواه أساتذتهم . وقد يعترف لك بصحة ما تقول
ولكنه يستمر في عمله اعتمادًا على أنه وجد الناس هكذا يعملون . فهل يخطر ببال
عاقل أن هذا الجمود من الدين ؟ وهل يرتاب من له أدنى إدراك في سوء عقباه على
الدين وأهل الدين ؟
جناية الجمود على العقيدة : ذلك جمودهم في العمل وأشد ضررًا منه الجمود
في العقيدة . نسوا ما جاء في الكتاب وأيدته السنة من أن الإيمان يعتمد اليقين ولا
يجوز الأخذ فيه بالظن ، وأن العقل هو ينبوع اليقين في الإيمان بالله وعلمه وقدرته
والتصديق بالرسالة ، وأن النقل ينبوع له فيما بعد ذلك من علم الغيب كأحوال الآخرة
وفروض العبادات وهيآتها ، وأن العقل إن لم يستقل وحده في إدراك ما لا بد فيه من
النقل فهو مستقل لا محالة في الاعتقاد بوجود الله وبأنه يجوز أن يرسل الرسل
فتأتينا عنه بالمنقول . نسوا ذلك كله وقالوا : لا بد من اتباع مذهب خاص في العقيدة
وافترقوا فِرقًا وتمزقوا شيعًا كما قلنا ، ولم يكفهم الإلزام باتباع مذهب خاص في
نفس المعتقد بل ذهب بعضهم إلى أنه لا بد من الأخذ بدلائل خاصة للوصول إلى
ذلك المعتقد فيكون التقليد في الدليل كالتقليد في المدلول .
وكأنهم لذلك جعلوا النقل عمادًا لكل اعتقاد ويا ليته النقل عن المعصوم بل النقل
ولو عن غير المعروف ، فتقررت لديهم قاعدة أن عقيدة كذا صحيحة ؛ لأن كتاب كذا
للمصنف فلان يقول ذلك . ولما كانت الكتب قد تختلف أقوالها صار من الصعب أن
يجد الواحد منهم لنفسه عقيدة قارة صافية غير كدرة ولا متزعزعة . وقد سرى ذلك
من قراء المقلدين إلى أمييهم فتراهم يعتقدون بكل ما يقال وينقل عن معروف الاسم
وإن لم يكن في حق الأمر من أهل العلم وتتناقض عقائدهم على حسب تناقض
مسموعاتهم .
انجرَّ التساهل في الاعتماد على النقل إلى الخروج عما اختطه لنا السلف
- رضي الله عنهم - فقد كانوا ينقبون عن صفات من ينقلون عنه ويمتحنون قوله
حتى يكونوا على شبه اليقين من أنه موضع الثقة . ولكن جمود المتأخر على ما يصل
إليه من المتقدم صير النقل فوضى فتجد كل شخص يأخذ عمن عرفه وظن أنه أهل
للأخذ عنه بدون بحث ولا تنقيب حتى شاع بين الناس من الأقوال وموضوعات
الأحاديث ما ترتفع الأصوات بالشكاية منه من حين إلى حين . وكل ما نراه من
البدع المتجددة فمنشأه سوء الاعتقاد الذي نشأ من رداءة التقليد والجمود عند حد ما
قال الولي بدون بحث في دليله ولا تحقيق في معرفة حاله وإهمال العقل في العقائد
على خلاف ما يدعو إليه الكتاب المبين والسنة الطاهرة . دخلت على الناس لذلك عقائد
يحتاج صاحب الغيرة على الدين في اقتلاعها من أنفسهم إلى عناء طويل وجهاد شديد ،
وسلاحه الكتاب وسلاح أعدائه أقوال بعض من تقدم ممن يعرف ومن لا يعرف . وما
أكثر عدد من ينصر أعداءه اليوم ، وما أقلهم غدًا إن شاء الله .
سأل سائل الأستاذ شيخ الجامع الأزهر عن حكم عمل من الأعمال الجارية
في المساجد يوم الجمعة - ومنزلة الشيخ من الرياسة في أهل العلم بالدين منزلته -
فأفتى بما ينطبق على السنة وما يعرفه العارفون بالدين ، وقال : إن العمل بدعة من
البدع يجب التنزه عنها . أتظن أن المستفتي أمكنه العمل بمقتضى الفتيا ؟ كلا .
حدث قيل وقال وكثرة تسآل ، ودخلت السياسة ثم قيل : إن الزمان ناصر الحقيقة
وقد وجدنا الأمر كذلك من قبلنا وسكت السائل وماذا يصنع المجيب . نعم هذا من
شؤم ذلك الجمود فقد فصل بين العامة ومن يرجى فيهم تقويم ما اعوجّ منها ووكلها
إلى أناس منها لا علم لهم بالدين ولا بالأدب وقد غرسوا في أذهان الدهماء شر
الغرس ولا تجني الأمم منه إلا أخبث الثمر . فلو قام العالم بالدين وأراد أن يبيّن
حكم الله المصرح به في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم المجمع عليه عند
السلف قاطبة انتصب له ناعر من العامة يصيح في وجهه { مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا
الأَوَّلِينَ } ( المؤمنون : 24 ) ويريد من آبائه الأولين من رآهم بعد ولادته أو ذكرت
له أسماؤهم بلسان مضلّيِه حتى صار إرشاد العامة اليوم من أصعب الأمور وأشقها
على طالبه .
ماذا يمكن أن أقول ؟ أصبح الرجل يرتكب في وسائل العبادة أقبح المنكرات
في الدين وإذا دعي إلى ترك المنكر نفر وزمجر ، وأبى واستكبر ، انظر ماذا يصنع
الموسوسون ومن يقرب منهم في الاستبراء من البول على مرأى من المارَّة وفيهم
النساء والأطفال وهم يظنون أنهم يتقربون إلى الله بما يفعلون .
هذا هو شأن العامة يرون ما ليس بدين دينًا ويصعب على حفاظ الدين
إرشادهم بفضل جمودهم على ما ورثوا من ملقنيهم بدون تعقل . فهذا معظم الأمة
تراه قد تملص من أيدي منذريه ولو شاءوا لأقبل كل منهم على صاحبه وهو أيسر
شيء على حمله الشريعة وما هو إلا أن يرجعوا إلى ما كان النبيّ صلى الله عليه
وسلم وأصحابه من سعة الدين وسماحته ، ثم العمل على حفظه وحياطته .
* * *
( الجمود ومتعلمو المدارس النظامية)
ثم إن الجمود قد أحدث لنا فريقًا آخر وهو فريق المتعلمين على الطرق
الجديدة ، إما في مدارس الحكومات الإسلامية وإما في المدارس الأجنبية داخل بلادهن
أو خارجا عنها . لا أتكلم عن هذا الفريق في بلاد القرم أو القوقاس أو سمرقند
وبخارى أو الهند فإني لا أعرف كثيرًا من أحوالهم ، ومن رأيته منهم رأيت فيه خيرًا
وأرجو أن يكون منهم لقومهم ما ينتظره الإسلام من العارفين به فقد رأيت أفرادًا
قليلين من هؤلاء تعلموا في البلاد الأوربية ودرسوا العلوم فيها درسًا دقيقًا وهم أشد
تمسكًا بلُب الدين الإسلامي وروحه من كثير ممن يدعي الورع والتقوى ولا
يسمحون لأنفسهم بترك عادة صحيحة من العادات التي أورثها دينهم لقومهم ، فنعم
المتعلمون هؤلاء ، أكثر الله منهم .
وإنما أتكلم عن هذا الفريق من المتعلمين في مصر وسوريا وسائر بلاد الدولة
العثمانية . سماحة الإسلام وسعة حلمه للعلم أباحت للمسلمين أن يرسلوا أولادهم
ليأخذوا العلم في المدارس الرسمية وغير الرسمية عن أساتذة فيهم المسلم وغير
المسلم ، أو عن أساتذة كلهم غير مسلمين بل في مدارس لم تُبنَ إلا لترويج دين غير
الدين الإسلامي . وأباحت لغير آباء هؤلاء التلامذة أن يسكتوا وأن لا ينكروا عليهم
عملهم ما دامت العقيدة سالمة من الهدم والضعضعة .
جمود تلامذة المدارس الأجنبية : هؤلاء التلامذة إن كانوا في مدارس أجنبية
لا أثر لتعليم الدين الإسلامي فيها بل ربما يتعلم فيها دين آخر فقد يسري إلى
عقائدهم شيء من الضعف ، وقد تذهب عقائدهم بالمرة وتحتلُّ مكانها عقائد أخرى
تناقضها كما شوهد ذلك مرارًا . ولو كان آباؤهم على علم بطرق الاستدلال الإقناعية
لعقائد دينهم لدعموا من عقائد أبنائهم وحفظوها من التزلزل أو الزوال . وكيف يكون
لأولئك الآباء شيء من هذا العلم مع الجمود على طرق قديمة لا يصل إلى فهمها من
ينقطع لتعلمها فضلاً عن أولئك المساكين . بل لو كان هناك مرشدون على طريقة
يسهل فهمها لتيسر لهؤلاء التلامذة أن يهتدوا بهديهم ولكن الجمود صير كل شيء
صعبًا وكل أمر غير مستطاع .
فهذه جناية من جنايات الجمود على أبناء المسلمين الذين يتعلمون في مدارس
أجنبية يخرجهم من دينهم من حيث لا يشعرون . ويا ليتهم يستبدلون بالدين رادعًا
آخر من الأدب والحكمة كما يرجو بعض المغرورين الذين لا يعلمون طبائع هذه
الأمم أو كما يروّجه بعض من لا يريد الخير بها ، ولكنه ترك أفئدتهم هواء خالية من
كل زاجر أو دافع اللهم إلا زاجرًا عن خير أو دافعًا إلى شر فاتخذوا إلههم هواهم
وإمامهم شهوتهم فهلكوا وأهلكوا . ومن هؤلاء ورثة الأغنياء الذين تصيح من شرور
أعمالهم الجرائد كل يوم . فالجهل خير مما يتعلم هؤلاء بدون ريبة وليت الإسلام لم
يرحب صدره لمثل هذا الضر من التعليم والتعلم .
* * *
(جمود تلامذة المدارس الرسمية والأهلية)
أما المتعلمون في مدارس رسمية أو غير رسمية للتعليم الديني فيها شيء من
البقية . فهؤلاء يُنَشًّأُون على شيء من المعارف في الفنون المختلفة وتقرر لهم
حقائق في الكون السماوي أو الأرضي أو في الاجتماع الإنساني ومن عرف شيئًا
انطلق لسانه بالخوض فيه وقد يسمعه متنطع ممن يلبس لباس أهل الدين وهو جامد
على ألفاظ سمعها ، فلو سمع غيرها أنكره وظنه مخالفًا للعقيدة الصحيحة فيأخذ يلوم
المتعلم ويوبخه ويرميه بالمروق من الدين . هذا والمتعلم لا يشك في قوة دليله
ولجهله بالدين يعتقد أن ما يقوله خصمه منه فينفر من دينه نفرته من الجهل . ولو
قال له قائل : ارجع إلى كتب الدين تجد فيها ما يسرك وينصرك على نفسك
وخصمك . حار لا يدري إلى أي كتاب يرجع ولم يسهل عليه فهم تلك العبارات
التي ورثها القوم على ما فيها من تشتيت وتعقيد وأبقوها ما ورثوها . فيعود إلى
النفور من الدين نفور طالب الفهم مما لا يمكنه فهمه .
لهذا يعتقد أكثر هؤلاء أن الدين شيء غير مفهوم بل قد يعده بعضهم خرافة
( نعوذ بالله ) فيأخذون عنه جانبًا ويتركون عقائده وفضائله وآدابه ويلتمسون لهم
آدابًا في غيره وقلما يجدونها فتراهم وقد فترت قلوبهم وقصرت هممهم فلا يطلبون
إلا ما تطلبه العامة من كسب معيشة أو علوّ جاه ويسلكون إلى ذلك أي طريق ولو
أضروا بالعامة أو الخاصة ( ما دام الشرف محفوظًا ) فإذا وجد بينهم من يدعي
الوطنية أو الغيرة الملية أو نحو ذلك فإنما ينثر الألفاظ نثرًا لا يرجع فيها إلى أصل
ثابت ، ولا إلى علم صحيح ولهذا يطلب المصلحة لبلاده من الوجه الذي يؤدي إلى
المفسدة وهو يشعر أو لا يشعر على حسب حاله . ومنهم من يصيح باسم الدين ولا
تتحرك نفسه لمعرفة حكم من أحكامه ، أو درس عقيدة من عقائده فشأنهم كلام في كلام
ولبئس ما يصنعون . ولولا هذا الجمود لوجدوا في كتب دينهم وفي أقوال حَمَلَتهِ ما
تبتهج به قلوبهم ؛ وتطمئن إليه نفوسهم ؛ ولذاقوا طعم العلم مأدومًا بالدين وتمكنوا
من نفع أنفسهم وقومهم ولوجدت منهم طبقة معروفة يرجع إليها في سير الأمة
وسياسة أفكارها وأعمالها الاجتماعية .
***
( الجمود علة تزول )
( المقال الخامس لذلك الإمام الحكيم وفيه بيان علاج الداء )
تفصيل مضرات هذا الجمود وسيئاته يحتاج إلى كتاب طويل فنكتفي بما
أوجزناه في الصفحات السابقة . ولكن يبقى الكلام في أنه عارض يمكن زواله إن
شاء الله تعالى .
قد عرفت من طبيعة الدين الإسلامي بعد عرضها عليك فيما سبق أنها تسمو
عن أن ينسب إليها هذا المرض الخبيث - مرض الجمود على الموجود - وكم في
الكتاب من آية تُنَفِّر من اتباع الآباء مهما عظم أمرهم بدون استعمال العقل فيما كانوا
عليه ولا حاجة إلى إعادة ذلك . ثم إننا أشرنا أيضًا إلى بعض الأسباب التي جلبت
هذا الجمود على المسلمين لا على الإسلام ، وأن محدثها إما عدوُّ للمسلمين طالب
لخفض شأنهم أو لاستعبادهم ولاستغلال أيديهم لخاصة نفسه . وإما محب جاهل
يظن خيرًا ويعمل شرًا وهذا الثاني كان أشد نكاية ، وأعون على الغواية ، وهل
تزول هذه العلة ويرجع الإسلام إلى سعته الأولى وكرمه الفياض وينهض بأهله إلى
ما ذخر لهم فيه ؟ ؟
جاء في الكتاب المبين { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ( الحجر : 9 ) ذلك الذكر هو الذكر الحكيم وهو القرآن الذي أحكمت آياته ثم
فصلت من لدن حكيم خبير . وهو كما قال : { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا
لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ( فصلت : 3 ) وعد الله بحفظ هذا الكتاب وقد أنجز وعده فلم تطل
إليه يد عدو مقاتل ولا يد محب فبقي كما نزل ، ولا يضره عمل الفريقين في تفسيره
وتأويله ، فذلك مما لا يلتصق به فهو لا يزال بين دَفَّات المصاحف طاهرًا نقيًّا
بريئًا من الاختلاف والاضطراب . وهو إمام المتقين ، ومستودع الدين ، وإليه
المرجع إذا اشتد الأمر وعظم الخطب وسلمت النفوس من التخبط في الضلالات .
ولا يزال لأشعة نوره نفوذ من تلك الحجب التي أقاموها دونه ولا بد أن تتمزق كلها
بأيدي أنصاره فيتبلج ضياؤه لأعيُن أوليائه إن شاء الله تعالى .
هذا الضياء كان ولا يزال يلوح لامعه في حنادس الظلم لأفراد اختصهم الله
بسلامة البصيرة فيهتدون به إليه ويحمدون سراهم ، بما عرفوا من نجاح مسعاهم ،
ولكن الذين أطبقت عليهم ظُلَمُ البدع ، وران على قلوبهم ما كسبوا من التحزب
للشيع ، وطَمَسَتْ بصائرهم ، وفسدت عقولهم ، بما حشوها من الأباطيل ، وبما
عطلوها عن النظر في الدليل ، هؤلاء في عمى عن نوره وقلوبهم في أكنَّة أن
يفقهوه وفي آذانهم وقر . يصيحون بأنهم عُمْيُ صمُّ فلا يرون له سناء ، ولا يسمعون
له نداء ، ويعدون ذلك من كمال الإيمان به ولبئس ما رضوا لأنفسهم من السفه
وطيش الحلم وهم يعلمون . هذا حال الجمهور الأعظم ممن يوصفون بأنهم مسلمون
ويجلبون العار على الإسلام بدخولهم تحت عنوانه ، ويقوُّون حجج أعدائه في حربه
بزعمهم الاجتماع تحت لوائه ، وما هم منه في شيء كما قدمنا .
هؤلاء لا بد أن يصيبهم ما أصاب الأمم قبلهم فقد اتبعوا سننهم شبرًا بشبر
وذراعًا بذراع وضيقوا على أنفسهم بدخولهم في جحر الضب الذي دخلوه[3] ومن
اتبع سنن قوم استحق الوقوع تحت أحكام سُنن الله فيهم فلن يخلص مما قضى الله
في عذابهم . فقد قص عليهم سير الأولين وبَيَّنَ لهم ما نزل بهم عندما انحرفوا عن
سننه وحادوا عن شرعه ونبذوا كتابه وراءهم ظِهريًّا . أَحَلَّ بهم الذلَّ ، وَضَرَبَ
عليهم المسكنةَ ، وأَوْرَثَ غَيْرَهم أَرْضَهم وديارهم . فهل ينتظر المتبعون سننهم ،
السائرون على أثرهم أن يصنع الله بهم غير الذي صنع بسابقيهم وقد قضى بأن تلك
سنته لن تجد لسنته تبديلاً .
لا تزال الشدائد تنزل بهولاء المنتسبين إلى الإسلام ، ولا تزال القوارع تحل
بديارهم حتى يفيقوا ( وقد بدأوا يفيقون من سكراتهم ) ويفزعوا إلى طلب النجاة
ويغسلوا قَذَى المُحْدَثات عن بصائرهم ، وعند ذلك يجدون هذا الكتاب الكريم في
انتظارهم يُعِدُّ لَهُمْ وسائل الخلاص ويؤيدهم في سبيله بروح القدس ويسير بهم إلى
منابع العلم ، فيغترفون منها ما يشاءون فيعرفون أنفسهم ويشهدون ما كان قد كمن فيها
من قوة فيأخذ بعضهم بيد بعض ويسيرون إلى المجد غير ناكلين ولا مخذولين .
ولهذا أقول : إن الإسلام لن يقف عثرة في سبيل المدنية أبدًا ولكنه سيهذبها وينقيها
من أوضارها ، وستكون المدنية من أقوى أنصاره متى عرفته وعرفها أهله . وهما
الجمود سيزول وأقوى دليل على زواله بقاء الكتاب شاهدًا عليه بسوء حاله ولطف
الله بتقييض أناس للكتاب ينصرونه ، ويدعون إليه ويؤيدونه ، والحوادث تساعدهم ،
وسوط عذاب الله النازل بالجامدين ينصرهم ، هذا الكتاب المجيد الذي كان يتبعه
العلم حيثما سار شرقًا وغربًا لا بد أن يعود نوره إلى الظهور ويمزق حجب هذه
الضلالات ، ويرجع إلى موطنه الأول من قلوب المسلمين ويأوي إليها . العلم يتبعه
وهو خليله الذي لا يأنس إلا إليه ولا يعتمد إلا عليه .
يقول أولئك الجامدون الخامدون كما يقول بعض أعداء القرآن : إن الزمان قد
أقبل على آخره ، وإن الساعة أوشكت أن تقوم ، وإن ما وقع فيه الناس من الفساد ،
وما مُنِيَ به الدين من الكساد ، وما عرض عليه من العلل ، وما نراه فيه من الخلل ،
إنما هو أعراض الشيخوخة والهرم ، فلا فائدة في السعي ولا ثمرة للعمل ، فلا
حركة إلا إلى العدم ، ولا يصح أن يمتد بصرنا إلى العدم ، ولا أن ننتظر من
غاية لأعمالنا سوى العدم ( نعوذ بالله ) ، هؤلاء حَفدة الجهل وأعوان اليأس يهرفون
بما لا يعرفون . ماذا عرفوا من الزمان حتى يعرفوا أنه كاد ينقطع عند نهايته ؟ إن
الذي مضى بيننا وبين مبدأ الإسلام ألف وثلاثمائة وعشرون عامًا ، وإنما هي يوم
وبعض يوم أو بعض يوم فقط من أيام الله تعالى . وأن آيات الله في الكون - وإن
كانت تدل على ما مضى على الخليقة يقدر بالدهور الدهارير ، - تشهد بأن ما بقي
لهذا النظام العظيم يقصر عن تقديره كل تقدير { فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لاَ يَكَادُونَ
يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } ( النساء : 78 ) إن ما بيننا وبين مبدأ الإسلام لا يزيد عن عمر
ستة وعشرين رجلاً كل رجل يعيش خمسين سنة . فهل يعد مثل ذلك دهرًا طويلاً
بالنسبة إلى دين عام كدين الإسلام ؟ إن زمنًا كهذا لا يكفي - وقد تبين أنه لم
يكف - لاهتداء الناس كافة بهديه . ولِمَ تقوم القيامة على الدين ولم تقم على شرهم وطمعهم ؟
قد وعد الله بأن يتم نوره وبأن يظهره على الدين كله فسار في سبيل التمام
والظهور على العقائد الباطلة أعوامًا ، ثم انحرف به أهله عن سبيله وصاروا به إلى
ما يرون ونرى . ولن ينقضي العالم حتى يتم ذلك الوعد ويأخذ الدين بيد العلم
ويتعاونا معًا على تقويم العقل والوجدان فيدرك العقل مبلغ قوته ، ويعرف حدود
سلطنته ، فيتصرَّف فيما آتاه الله تصرُّف الراشدين ، ويكشف ما مكنه فيه من أسرار
العاملين ، حتى إذا غشيته سبحات الجلال وقف خاشعًا ، وقفل راجعًا ، وأخذ أَخْذَ
الراسخين في العلم الذين قال فيهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( كرم الله
وجهه ) فيما روي عنه : ( هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون
الغيوب ، الإقرارُ بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح الله اعترافهم
بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علمًا ، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث
عن كنهه رسوخًا واعتبر بعد ذلك بقوله : ( فاقتصر على ذلك ولا تقدر عظمة الله
سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين . هو القادر الذي إذا ارتمت الوهام
لتدرك منقطع[4] قدرته ، وحاول الفكر المبرَّأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه في
عميقات غيوب ملكوته ، وتولهت[5] القلوب إليه لتجري في كيفية صفاته ،
وغمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتناول علم ذاته ، ردعها وهي
لحوب مهاوي سدف[6] الغيوب متخلصة إليه سبحانه ، فرجعت إذ جبهت[7] معترفة
بأنه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته ، ولا تخطر ببال أولي الرَّويَات خاطرة
من تقدير جلال عزته ) .
هنالك يلتقي ( أي العقل ) مع الوجدان الصادق ( القلب ) ولم يكن الوجدان
ليدابر العقل في سيره داخل حدود مملكته متى كان الوجدان سليمًا ، وكان ما
استضاء به من نبراس الدين صحيحًا ، إياك أن تعتقد ما يعتقده بعض السذج من أن
فرقًا بين العقل والوجدان ( القلب ) في الوجهة بمقتضى الفطرة والغريزة . فإنما يقع
التخالف بينهما عرضًا عند عروض العلل والأمراض الروحية على النفوس . وقد
أجمع العقلاء على أَنَّ المشاهدات بالحس الباطني ( الوجدان أو القلب ) من مبادي
البرهان العقلي كوجدانك أنك موجود ووجدانك لسرورك وحزنك وغضبك ولذتك
وألمك ونحو ذلك .
مُنحنا العقل للنظر في الغايات والأسباب المسببات ، والفرق بين البسائط
والمركبات ، والوجدانَ لإدراك ما يحدث في النفس والذات من لذائذ وآلام ، وهلع
واطمئنان ، وشماس وإذعان ، ونحو ذلك مما يذوقه الإنسان ولا يحصيه البيان ؛ فهما
عينان للنفس تنظر بهما - عين تقع على القريب وأخرى تمتد إلى البعيد ، وهى في
حاجة إلى كل منهما ولا تنتفع بإحداهما حتى يتم لها الانتفاع بالأخرى . فالعلم
الصحيح مقوم الوجدان ، والوجدان السليم من أشد أعوان العلم ، والدين الكامل علم
وذوق ، عقل وقلب ، برهان وإذعان ، فكر ووجدان ، فإذا اقتصر دين على أحد
الأمرين فقد سقطت إحدى قائمتيه وهيهات أن يقوم على الأخرى . ولن يتخالف
العقل والوجدان حتى يكون الإنسان الواحد إنسانيين ، والوجود الفرد وجودين .
قد يدرك عقلك الضرر في عمل ولكنه تعمله طوعًا لوجدانك ، وربما أيقنت
المنفعة في أمر وأعرضت عنه إجابة لدافع من سريرتك ، فتقول : إن هذا يدل على
تخالف العقل والوجدان . ولكني أقول : إن هذه حجة من لا يعرف نفسه ولا غيره .
عليك أن ترجع إلى نفسك فتتحقق من أحد الأمرين - إما أن يقينك ليس بيقين وأنه
صورة عرضت عليك من قول غيرك فأنت تظنها علمًا وما هى به . وإما أن
وجدانك وَهْم تمكن فيك ، وعادة رسخت في مكان القوة منك ، وليس بالوجدان
الصحيح وإنما هو عادة ورثتها عمن حولك وظنتها شعورًا مَنْبَعُه الغريزة وما هي
منه في شيء .
( نتيجة ) : لا بد أن ينتهي أمر العالم إلى تآخي العلم والدين ؛ على سنة
القرآن والذكر الحكيم ، ويأخذ العالمون بمعنى الحديث الذي صح معناه[8] ( تفكروا
في خلق الله ولا تَفَكَّروا في ذات الله ) وعندها يكون الله قد أتم نوره ولو كره
الكافرون[9] وتبعهم الجامدون القانطون ، وليس بينك وبين ما أَعِدكَ به إلا الزمان
الذي لا بد منه في تنبيه الغافل وتعليم الجاهل وتوضيح المنهج ، وتقويم الأعوج ،
وهو ما تقتضيه السنةِّ الإلهية في التدريج { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن
تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } ( الأحزاب : 62 ) . { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا } ( المعارج : 6-7 ) . { إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } ( محمد : 7 )
وهو خير الناصرين .
... ... ... ... ( للكلام بقية )
(( يتبع بمقال تالٍ ))
__________
(1) المنار : يشير إلى حديث ابن مسعود عند الترمذي وابن ماجه وهو : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( نضّر الله امرءًا سمع مني شيئًا فبلغه كما سمعه فرب مبلَّغ أوعى له من سامع ) ورواه غيرهما عن غيره .
(2) يشير إلى حديث أنس عند الترمذي وهو : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَثَلُ أمتي مَثَلُ المطر لا يدرى أوله خير أم آخره ) ورواه غيره .
(3) المنار : في الكلام إشارة إلى حديث : ( لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) الحديث رواه الشيخان وغيرهما .
(4) المنقطع : ما ينقطع عند الشيء وهو آخره .
(5) تولهت : اشتد عشقها .
(6) السدف : جمع سدفه كظلمة لفظًا ومعنى .
(7) جبه : ضربت جبهته ورُدَّ .
(8) المنار - قال العراقي : رواه أبو نعيم في الحلية بالمرفوع منه بإسناد ضعيف ورواه الأصبهاني في الترغيب والترهيب من وجه آخر أصح منه ، ورواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشُّعب من حديث ابن عمر وقال : هذا إسناد فيه نظر . قلت فيه الوازع بن نافع متروك وقال الزبيدي في شرح الإحياء : قلت حديث ابن عمر لفظه (تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله) هكذا رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التفكر وأبو الشيخ في العظمة والطبراني في الأوسط وابن عدي وابن مردويه والبيهقي وضعفه والأصبهاني وأبو نصر في الإبانة وقال غريب ورواه أبو الشيخ من حديث ابن عباس : (تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره) ورواه ابن النجار والرافعي من حديث أبي هريرة (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله) إلخ وتعدد هذه الروايات واجتماعها يكسبها قوة والمعنى صحيح كما قال الحافظ السخاوي في المقاصد .
(9) الكافر : من يرى الدليل فيصد عنه ولا ينظر فيه أو ينظر فيعرف الحق ثم يماري فيه وينكره عنادًا ا هـ من هامش الأصل .
غرة شعبان - 1320هـ
1 نوفمبر - 1902م
1 نوفمبر - 1902م
(5/)
الكاتب : محمد عبده
__________
الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية
وهو المقال السادس لذلك الإمام الحكيم
( حرية العلم في أوربا الآن ، ونسبتها إلى الماضي والحاضر في الإسلام )
لم يبق علينا من الكلام إلا ما يتعلق بالأمر الرابع مما ذكرته الجامعة [1] وهو
( أن يتمكن العلم والفلسفة من التغلب على الاضطهاد المسيحي في أوربا ، وعدم
تمكنهما من التغلب على الاضطهاد الإسلامي دليل واقعي على أن النصرانية كانت
أكثر تسامحًا مع الفلسفة ) .
ليس من السهل عليَّ أن أعتقد أن أديبًا كصاحب الجامعة يقول هذا القول وهو
ناظر إلى الحقيقة بكلتا عينيه مع معرفته بلسان الغربيين واطلاعه على ما كتبوا في
هذه المسألة وهي من أهم المسائل التاريخية . وإنما هي عين الرضا تناولت من
حاضر الحال ومما انتهى إليه سير التاريخ ما تناولت ثم أملت على قلبه ما جرى به
قلمه .
هل يصح أن تُسمَّى الاستكانة للغالب تسامحًا ؟ وهل يُسمَّى العجز مع التطلع
للنزاع عند القدرة حلمًا ، أم يُسمَّى غلّ الأيدي عن الشر بوسائل القهر كرمًا ؟ هل
تعد مساكنة جناب البابا لملك إيطاليا في مدينة واحدة واجتماع الكرسيين العظيمين
كرسي المملكة الإيطالية والمملكة البابوية في عاصمة واحدة تسامحًا من قداسة البابا
مع الملك ؟ أليس الأجدر بالمنصف أن يسمي ذلك تسامحًا من الملك مع البابا ؛ لأنه
صاحب القوة والجيش والسلطنة ، ويمكنه أن يسلب البابا تلك الثمالة التي بقيت له من
السلطة الملكية ؟ كما أن الأليق به أن يسمي تلك الحالة التي عليها أهل أوربا اليوم
من طمأنينة العلم بينهم بجانب الدين تساهلاً من العلم مع الدين لا تسامحًا من الدين
مع العلم بعد ما كان بينهما من الحوادث ما كان وبعد غلبة العلم واستيلائه على
عرش السلطان في جميع الممالك ورضاء الدين بأن يكون تابعًا له في أغلبها .
***
( اقتباس مدنية أوربا من الإسلام ، وأسباب ظهورها التام )
السبب الأول الجمعيات : كان جلاد بين العلم والدين في أوربا وتألفت لنصرة
العلم جمعيات وأحزاب منها ما اتخذ السرَّ حجابًا له حتى يقوى ومنها ما ابتدأ
بالمجاهرة . وكان الدين يظفر بالعلم كما سبق بيانه لكثرة أعوانه وضعف أعوان
العلم حتى أشرقت الآداب المحمدية على تلك البلاد من سماء الأندلس وتبع إشراق
تلك الآداب واشتعال الناس بها سطوع نور العلم العربي من الجانب الشرقي كما
ذكرنا . وقد وجد هذان النوران استعدادًا من النفوس للاستضاءة بهما في السبيل
التي تؤدي بهما إلى المدنية التي كانا يحملانها . هذا الاستعداد كسبته الأنفس بما
ضايقها من غلوّ رؤساء الدين في استعمال سلطانهم واشتدادهم في استعباد العقل
والوجدان حتى ضاق ذرع الفطرة عن الاحتمال ، فأخذ الشعور الإنساني يتلمّس
السبيل إلى الخلاص وإذ لاح له هذان النوران اتخذهما له هداية واستقبلهما بوجهه ،
وكان بعد ذلك ما كان من تأثُّر الدين لأهل العلم وإحراقهم بالنيران ، ونفيهم من
الأوطان ، ومقاومة رؤساء الدين للحكومات ولأهل الأفكار المستقلة في أدنى الأشياء
وأعلاها حتى إنه عندما شرع ملوك فرنسا في فرش شوارع باريس بالبلاط على
الأسلوب الذي وجدوه في مدينة قرطبة ، وصدر الأمر بمنع تربية الخنازير في تلك
الشوارع أغضب ذلك قسوس القديس أنطوان ونادوا بأن خنازير القديس لا بد أن
تمر في الشوارع على حريتها الأولى . وحصل لذلك شغب عظيم اضطر الحكومة
أن تسمح بذلك مع صدور الأمر بأن توضع في أعناقها أجراس . وقالوا إن الملك
فيليب السمين مات بسقطة عن فرسه عندما انزعج الفرس من منظر خنزير
وصلصلة الجرس في عنقه .
لقائل أن يقول : إن القسوس في ذلك الزمان كان يمكنهم أن يمتنعوا من وضع
الأجراس في أعناق الخنازير ، فرضاهم بذلك يعد تسامحًا عظيمًا مع العلم ( أو
الصناعة ) ويسهل عليٍّ أن أوافقه على أن مثل هذا الضرب من التسامح في أجراس
الخنازير كان يظهر من حين إلى حين إلا أنه فيما أظن لا يكفي في تشييد هذه
المدنية التي يفتخر بها الأوربيون اليوم ونحن لا ننجسها قدرها كذلك .
السبب الثاني الضغط الديني : شدة الحاجة وغلوُّ الرؤساء كانا يوقدان الغيرة
في قلوب طلاب العلوم فلم تفتر لهم همة فعظم أمرهم واكتشفوا كثيرًا من الحقائق
التي نفعت العامة ، وتنبهت العقول للأخذ بما يهدون عليه وصارت الحرب بينهم وبين
رؤساء الدين سجالاً إلى أَنْ ظهر دعاة الإصلاح الديني ( البروتستانت ) فانضم دعاة
العلم إليهم ظنًّا منهم أن سيكونون معهم من المجاهدين في سبيل العلم . وكان منهم
إيراسم الشهير فلما انتصر طلاب الإصلاح ودالت لهم دولة استمروا يعاقبون بالموت
على الأفكار التي تخالف ظاهر ما يعتقدون كما تقدم ، فانفصل إيراسم ومن معه من
حماة الحرية واستقلال الإرادة الشخصية ، وترك المصلحين يتفرقون شيعًا ويقتل
بعضهم بعضًا وقال : ما كنت أظن أن دعاة الإصلاح يكونون كذلك أعداء العلم .
هذه الطوائف التي تفرقت عقائدها في الإصلاح لم تنتظر إلا أن تأمن عدوها
العامَّ وهو الكنيسة الكاثوليكية الرومانية فلما أمنتها أخذ بعضها يصول على بعض
واشتعلت نيران الحروب بينهم . قال أحد أفاضل مؤرخيهم :
( وكلما ارتفعت طائفة منهم إلى عرش القوة لوثت يديها بالجرائم وفي العمل
لإفناء البقية حتى سئمت النفوس دوام تلك الحال ، ووجدت من توالي حوادث
الانتقام وظهور مضارّه في كل طائفة أن الفضل لكل طائفة أن تمنح الأخرى من
الحرية ما لا تستغني عنه واحدة منها . والعلم كان يعمل عمله في كشف الحقائق
وترقية الآداب وكان من أقوى المنبهات إلى مضار الحروب ومفاسد العدوان على
حرية الأشخاص من أي طائفة كانت . من هذا نشأ ذلك الأصل العظيم أصل
التسامح والرضى بمجاورة المخالف في الرأي . نشأ من القهر والقسوة التي كانت كل
طائفة تعامل بها الأخرى ) انتهى كلام المؤرخ بالمعنى .
السبب الثالث : الثورة : ولا حاجة بي إلى ذكر ما جاءت به الثورة الفرنسية
وكيف كانت قيامتها على الدين ورؤسائه مما هو معلوم . وإنما أنبه القارئ إلى
الاعتبار بما تقدم من القول ، وبما يمكنه أن يقف عليه في كتب القوم ، ليعلم أن
الدين المسيحي في أوربا لم يحتمل العلم فضلاً وكرمًا وإنما قويت عليه أحزاب العلم
فساموه استكانة وخضوعًا ، ولو شاء أن يحتمل لم يستطع إلى ذلك سبيلاً .
السبب الرابع : ترك المسيحية : رؤساء الدين المسيحي رجال ذوو عزيمة
وإقدام قلما يدانيهم فيها رؤساء دين من الأديان . وهم مع غلوهم في الدين واشتدادهم
في استعمال سلطانهم على النفوس كانوا ولا يزالون يتخذون كل وسيلة لتأييد دينهم .
وهم أشد الناس حرصًا على تقويم أركانه ودفع الشبه عنه ولم يزدهر العلم الجديد
إلا وسائل وسبلاً لترويج عقائده وآدابه ، ولم تفتر لهم همة في نشره وتزيينه للقلوب .
ومع ذلك كله نرى أن رجال العلم وحماة المدنية يتسللون منه ، والعامة من الشعوب
في تخاذل عنه ، والأمة الفرنسية التي كانت تدعى بنت الكنيسة أصبحت من أشد
الناس عليه ، ورأت فلسفتها أن تحدّد حرية أهل الدين في تعاليمهم واجتماعهم . كل
ذلك ومدارس اللاهوت لا تزال عامرة وطلاب اللاهوت يعدّون بالألوف . كل ذلك
وكثير من الدول ترى من مزاياها حماية الدين المسيحي في أقطار الأرض . قال
أحد رؤساء البروتستانت في خطبة من خطبه التي ألقاها في بعض البلاد الفرنسية
سنة 1901 بعد كلام له في أن المسيحية رومانية أو بروتستانية فقدت خاصتها
الدينية كما فقدت فائدتها الاجتماعية ما نصه مترجمًا : إذا كان الدين المسيحي ليس
شيئًا سوى الكثلكة المحتاجة إلى الإصلاح ( المذهب الروماني ) أو الكثلكة التي
دخلها الإصلاح بالفعل ( المذهب البروتستانتي ) فالقرن الموفي للعشرين ( القرن
الحاضر ) لا يكون مسيحيًّا أبدًا .
وقد جاء في كلام هذا الخطيب بأنه يريد أن يطلب للمسيحية معنًى آخر ينطبق
كل الانطباق على اعتقاد المسلمين فيها ، فإن وفّق للنجاح في سعيه زال الخلاف - إن
شاء الله - بين الدين والعلم ، بل بين المسيحية والإسلام .
عَوْدٌ إلى سماحة الإسلام : آخذ بيد القارئ الآن ، وأرجع به إلى ما مضى من
الزمان ، وأقف به وقفة بين يدي خلفاء بني أمية والأئمة من بني العباس ووزرائهم
والفقهاء والمتكلمين والمحدثين والأئمة المجتهدين من حولهم ؛ والأدباء والمؤرخين
والأطباء والفلكيين والرياضيين والجغرافيين والطبيعيين وسائر أهل النظر من كل
قبيل مطيفون بهم ؛ وكلُّ مقبل على عمله فإذا فرغ عامل من العمل أقبل على أخيه
ووضع يده في يده يصافح الفقيهُ المتكلمَ والمحدثُ الطبيبَ والمجتهدُ الرياضيَّ
والحَكيم ، وكلُّ يرى في صاحبه عونًا على ما يشتغل هو به ، وهكذا أدخل به بيتًا من
بيوت العلم فأجد جميع هؤلاء سواء في ذلك طبيب يتحادثون ويتباحثون ، والإمام
البخاريُّ حافظ السنة بين يدي عمران بن حطان الخارجي يأخذ عنه الحديث وعمرو
ابن عبيد رئيس المعتزلة بين يدي الحسن البصري شيخ السنة من التابعين يتلقى
عنه وقد سئل الحسن عنه فقال للسائل : ( لقد سألت عن رجل كأن الملائكة أدّبته
وكأن الأنبياء ربته إن قام بأمر قعد به ، وإن قعد بأمر قام به ، وإن أمر بشيء كان
ألزم الناس له وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له ، ما رأيت ظاهرًا أشبه بباطن
منه ولا باطنًا أشبه بظاهر منه بل أرفع بصري فأجد الإمام أبا حنيفة أمام الإمام
زيد بن علي ( صاحب مذهب الزيدية من الشيعة ) يتعلم منه أصول العقائد والفقه
ولا يجد أحدهم من الآخر إلا ما يجد صاحب الرأي في حادثة ممن ينازعه فيه
اجتهادًا في بيان المصلحة وهما من أهل بيت واحد - أمُرُّ به بين تلك الصفوف
التي كانت تختلف وجهتها في الطلب وغايتها واحدة وهي العلم وعقيدة كل واحد
منهم أنَّ فكر ساعة خير من عبادة ستين سنة كما ورد في بعض الأحاديث [2].
الخلفاء أئمة في الدين مجتهدون وبأيديهم القوة وتحت أمرهم الجيش .
والفقهاء والمحدثون والمتكلمون والأئمة المجتهدون الآخرون هم قادة أهل الدين ومن
جند الخلفاء . الدين في قوته ، والعقيدة في أوج سلطانها ، وسائر العلماء ممن ذكرنا
بعدهم يتمتعون في أكنافهم بالخير والسعادة ورفه العيش وحرية الفكر لا فرق في
ذلك بين من كان من دينهم ومن كان من دين آخر ، فهنالك يشير القارئ المنصف إلى
أولئك المسلمين ، وأنصار ذلك الدين ، ويقول : ههنا يطلق اسم التسامح مع العلم
في حقيقته ، ههنا يوصف الدين بالكرم والحلم ، ههنا يعرف كيف يتفق الدين مع
المدنية ، عن هؤلاء العلماء الحكماء تؤخذ فنون الحرية في النظر ، ومنهم تهبط
روح المسالمة بين العقل والوجدان ( أو بين العقل والقلب ) كما يقولون .
يرى القارئ أنه لم يكن جلاد بين العلم والدين وإنما بين أهل العلم أو بين أهل
الدين شيء من التخالف في الآراء شأن الأحرار في الأفكار الذين أطلقوا من غل
التقييد ، وعرفوا من علة التقليد ، ولم يكن يجري فيما بينهم اللمز بالألقاب فلا يقول
أحد منهم لآخر : إنه زنديق أو كافر أو مبتدع أو ما يشبه ذلك . ولا تتناول أحدًا
منهم يد بأذًى إلا إذا خرج عن نظام الجماعة وطلب الإخلال بأمن العامة فكان
كالعضو المجذَّم فيقطع ليذهب ضرره عن البدن كله .
* * *
( ملازمة العلم للدين ، وعدوى
التعصب في المسلمين )
متى ولع المسلمون بالتكفير والتفسيق ، ورُمِيَ زيد بأنه مبتدع وعمرو بأنه
زنديق ؟ أشرنا فيما سبق إلى مبدأ هذا المرض ونقول الآن : إن ذلك بدأ فيهم عندما
بدأ الضعف في الدين يظهر بينهم ، وأكلت الفتن أهل البصيرة من أهله ( تلك الفتن
التي كان يثيرها أعداء الدين في الشرق وفي الغرب لخفض سلطانه ، وتوهين
أركانه ، وتصدَّر للقول في الدين برأيه من لم تمتزج روحه بروح الدين ، وأخذ
المسلمون يظنون أن من البدع في الدين ما يحسن إحداثه لتعظيم شأنه تقليدًا لمن كان
بين أيديهم من الأمم المسيحية وغيرها . وأنشأوا ينسون ماضي الدين ومقالات
سلفهم فيه ويكتفون برأي من يرونه من المتصدرين المتعالمين ، وتولى شئون
المسلمين جُهدًا لهم ، وقام بإرشادهم في الأغلب ضُلاَّلهم ، في أثناء ذلك حدث الغلوُّ
في الدين واستعرت نيران العداوات بين النظَّار فيه ، وسهل على كل منهم لجهله
بدينه أن يرمي الآخر بالمروق منه لأدنى سبب . وكلما ازدادوا جهلاً بدينهم ازدادوا
غلوًّا فيه بالباطل ودخل العلم والفكر والنظر ( وهي لوازم الدين الإسلامي ) في
جملة ما كرهوه ، وانقلب عندهم ما كان واجبًا من الدين محظورًا فيه .
لا أكاد أخطّئ القارئ إذا زعم أن المسلم إنما استفاد اسم زندقة وتزندق
ومتزندق وزنديق من فضل ما علّمه جيرانه إذ كانوا يقولون : هرتقة وتهرتق وهو
هرتوقي أو ما يماثل ذلك . أو زعم أن قد فشت في المسلمين سرعة التكفير بطريق
العدوى من أهل الملل المتشدِّدة وأن الذي سهّل سريان العدوى بتلك السرعة الشديدة
هو ضعف المزاج الديني عند المسلمين بجهلهم بأصوله ومقوماته ومتى ضعف
المزاج استعد لقبول المرض كما هو معلوم .
إن المسلمين لما كانوا علماء في دينهم كانوا علماء الكون وأئمة العالم .
أصيبوا بمرض الجهل بدينهم فانهزموا من الوجود وأصبحوا أُكلة الآكل وطُعمة
الطاعم ، هل وقف الجهل بالمسلمين عند تكفير من يخالفهم في مسائل الدين أو
يذهب مذهب الفلاسفة أو ما يقرب من ذلك ؟ لا . بل عدا بهم الجهل على أئمة
الدين وخَدَمَةِ السنة والكتاب ، فقد حُملت كتب الإمام الغزالي إلى غرناطة وبعدما انتفع
بها المسلمون أزمانًا هاج الجهل بأهل تلك المدينة ، وانطلقت ألسنة المتعالمين من
البربر بتفسيقه وتضليله فجمعت تلك الكتب خصوصًا نسخَ ( إحياء علوم الدين )
ووضعت في الشارع العامّ في المدينة وأحرقت . قال قوم يعدون أنفسهم مسلمين في
ابن تيمية - وهو أعلم الناس بالسنة وأشدهم غيرة على الدين - : إنه ضالُّ مضل .
وجاء على إثر هؤلاء مقلدون يملأون أفواههم بهذه الشتائم ، وعليهم إثمها وإثم من
يقفوهم بها إلى يوم القيامة .
* * *
إهمال آثار السلف وحال
علوم الدين وطلابها
أهمل المسلمون علوم دينهم والنظر في أقوال سلفهم حتى إنك لا تجد اليوم في
أيديهم كتابًا من كتب أبي الحسن الأشعري ولا أبي منصور الماتريدي ، ولا تكاد ترى
مؤلفًا من مؤلفات أبي بكر الباقلاني أو أبي إسحاق الإسفرايني . وإذا بحثت عن كتب
هؤلاء الأئمة في مكاتب المسلمين أعياك البحث ولا تكاد تجد نسخة صحيحة من
كتاب .
كُتبت على القرآن تفاسير كثيرة في القرن الثالث من الهجرة وما بعده إلى
السادس منها تفسير الطبري وتفسير أبي مسلم الأصفهاني وتفسير القرطبي وتفسير
الجصاص وتفسير الغزالي وتفسير أبى بكر بن العربي وكثير غيرها ، وفيها من آراء
أولئك الأئمة ووجوه استنباط الحكم والأحكام ما لا غنى لطالب علم الدين عنه . فهل
يجد الباحث المجدّ نسخة من هذه الكتب الجليلة يمكن الوثوق بصحتها إلا بطريق
المصادفة وحسن الاتفاق ؟ وهل يليق بأمة تدعي أنها على دين وأن لها فيه سلفًا
صالحًا أن تهجر آثار سلفها وتدع ما كتبوا طعمة للعبث وفراشًا للتراب ؟ هل وقع
مثل ذلك من المشتغلين باللاهوت المسيحي في زمن من الأزمان ؟
إن حالة طلبة العلوم الدينية الإسلامية أصبحت مما يرثى له في أكثر بلاد
المسلمين فهم لا يقرأون من كتب الكلام إلا مختصرات مما كتب المتأخرون يتعلم
أذكاهم منها ما تدل عليه عباراتها ، ولا يستطيع أن يتعلم البحث في أدلتها وتصحيح
مقدماتها وتمييز صحيحها من باطلها وإنما يتلقاها كأنها كتاب الله أو كلام نبيه صلى
الله عليه وآله وسلم يأخذ ما فيها بالتسليم . فإذا ناظره مناظر في بعض قضاياها
وعجز عن تصحيحه قطع الجدال بقوله : هكذا قالوا ، وإن لم يكن القول متفقًا عليه
بل قد يكون القول مما لم يقل به سوى صاحب الكتاب الذي اشتغل به وربما كان
صاحب الكتاب ممن لو رآه أحد من السلف لم يرضه تلميذًا يعي عنه ما يقول .
كاد ينقطع طلب العلوم الدينية في سوريا و الحجاز و تونس و الجزائر وقلَّ
جدًّا في المغرب الأقصى ، ولم يبقَ الاهتمام به إلا في بعض الصحاري وذلك إما
لصعوبة طرق التعليم واقتضائها الزمن الطويل ، وحاجات الناس مانعة لهم من
إفناء أعمارهم في عمل لا يسد في حاجتهم . وإما لتفضيل الآباء تربية أبنائهم على
الطرق الحديثة في أوربا أو في المدارس الأخرى وليس فيها من الدين شيء وإن
كان فيها شيء منه فهو مما لا يُعد تعليمًا دينيًّا ينظر إليه . وإما للفتور والخمود ،
الذي نشأ عن التقليد والجمود ؛ وبذلك تجد المسلمين قد تولاهم الجهل بدينهم ؛
وأخذتهم البدع من جميع جوانبهم ؛ وانقطعت الصلة الحقيقية بينهم وبين سلفهم ؛
حتى لو عرض على الجمهور الأعظم منهم ما اتفق عليه السلف من الحكام لأنكروه
واستغربوه وعدُّوه بدعة في الدين وصح فيهم ما قال عمر الخيام في بعض أشعاره
الفارسية مخاطبًا للنبي عليه الصلاة والسلام : ( إن الذين جاءوا بعدك زيّنوا لك
دينك ووشّوه وزركشوه حتى لو رأيته أنت لأنكرته ) . فهذا الصنف من المسلمين
وهو معظمهم قد أنكر دينه الحق وعاداه ونقم على أهله القائمين بخدمته ، وإنما
اصطفى لاعتقاده بعض أفراد لم يعرف عن السلف اختصاصهم بالثقة ولم يسمح
الدين باختصاصهم بالتقليد . فإذا وقع عن هذا الصنف ما فيه أذًى للعلم وأهله فهل
يعدّ ذلك واقعًا من دين الإسلام دين محمد صلى الله عليه وسلم ، دين القرآن ، دين
السنة الثابتة ، دين الخلفاء الراشدين ومن تبعهم من السلف الأولين ؟
متابعة العلم للإسلام ومباينته لسواه : الحق أقول والحس يؤيدني : ما عادوا
العلم ولا العلم عاداهم إلا من يوم انحرافهم عن دينهم وأخذهم في الصد عن علمه
فكلما بعد عنهم علم الدين بعد عنهم علم الدنيا وحرموا ثمار العقل وكانوا كلما
توسعوا في العلوم الدينية ، توسعوا في العلوم الكونية ، وضربوا الزمان بسوط من
العزّة ، أما غيرهم فكلما اتصلوا بالدين وجدّوا في المحافظة عليه أنكرهم العلم
وتجهّمهم واكفهرّ وجهه لِلِقائهم . وكلما بعدوا من الدين سالمهم العلم وبش في وجوههم
ولذلك يصرحون بأن العلم من ثمار العقل والعقل لا يصح أن يكون له في الدين
عمل ، ولا أن يظهر منه فيه أثر ، والدين من وجدانات القلب ولا علاقة بين ما يجد
القلب وما يكسب العقل فالفصل تامُّ بين العقل والدين ، ولا سبيل إلى الجمع بينهما .
سامحهم الله فيما يسمونه تسامحًا مع العلم ، وهم يصرحون بأنه عدوه الذي يستحيل
أن يكون بينه وبينه سلم .
هل عرفت السبب في اضطهاد المسلمين للعلم ؟ أقول اضطهاد ولا أريد به ما
كان عند الأمم المسيحية من الاشتداد في إبادة أهله ، والتنكيل بهم واختراع ضروب
التعذيب والتفنن في صنع آلات الهلاك مع الأخذ بالشبهة ، والاكتفاء في الإعدام
بمجرد التهمة ، فإن ذلك لم يقع عند المسلمين لا أيام علمهم ، ولا في أزمنة جهلهم ،
ولكن أريد من الاضطهاد الإعراض عن العلم ورمي الألفاظ السخيفة في وجوه أهله
وقذفهم بشيء من الشتائم مع الابتعاد عنهم . لا ريب أنك قد أيقنت بأن السبب في
هذا الذي يسميه الأديب اضطهادًا إنما هو جهلهم بدينهم . فالدواء الذي ينجح في
شفائهم من الداء لا يكون إلا ردّهم إلى العلم بدينهم والتبصر فيه للوقوف على
أسراره والوصول إلى حقيقة ما يدعو إليه . كان الدين واسطة التعارف بينهم وبين
العلم فلما ذهبت الواسطة تناكرت النفوس وتبدل الأنس وحشة .
الدعاة إلى الإسلام : فهل قام بينهم دعاة للعلم حقيقيون ، أو دعاة لأصل الدين
عارفون ، ثم استعصت قلوب المسلمين عليهم ، وجمحت نفوسهم عن الانقياد لهم ؟
وهل كثر أولئك الدعاة في أطراف بلاد المسلمين كثرتهم في أوربا من أواسط القرن
السابع عشر من التاريخ المسيحي إلى أن ظهرت قوة العلم في أوائل القرن السابع
عشر وفيما بعد ذلك ؟ لا . إنما رأينا من الصادقين أفرادًا يظهرون متفرقين في
عصور مختلفة ربما لا يجتمع ربعه منهم فما يزيد في قرن واحد ويأخذون في العمل
ولما وجّهوا إليه ، ثم لا يكادون ينطقون ببعض الكلم فيحس الناس بهم فيأخذ المستعد
أهبته لمفارقة ما كان عليه واتباعهم حتى تشعر السياسة ( نعوذ بالله منها ) بما عسى
يكون من أمرهم فتخمد أنفاسهم ، قبل أن يبلغوا من قلب واحد ما أرادوا من غرس
أفكارهم ، فينطفئ النور ، ويَدْلَهمِ الدَّيْجُور ، فهل يعدّ الأديب هذه الضربات من أيدي
أرباب السياسة اضطّهادًا للعلم لأجل حماية الدين ؟ أنزّه كل أديب عن أن يظن ذلك
وإنما هي صدمات تقع على الدين لا تختلف عن أمثالها مما يصيبه منهم مباشرة فلا
تعدّ حجة على الدين في نظر المنصف .
المقلِّد دون المقلَّد : ربما يقول القائل : إن كان المسلمون قد أخذوا الجمود في
التقليد والنفرة من العلم والاعتقاد بالعداوة بين الدنيا والآخرة وبين العقل والدين وما
أشبه ذلك مما هم فيه وورثوه عن الأمم السابقة عليهم خصوصًا أقرب الملل إليهم ،
فما بالهم لم يقلدوا المسيحيين في الحرص على نشر دينهم والتوسع في علومه مذيلاً
بما أخذوه عنهم ، ولم يقسموا أنفسهم قسمين كما قسم المسيحيون إخوانهم قسمين :
قسمًا ينقطع إلى الآخرة في الأديار والصوامع ، وقسمًا يشتغل بالدنيا ليقيت نفسه
ويقيت أهل القسم الأول ويحمي نفسه ويحميهم من العدوان ؟ وما لك ترى المسلمين
خملوا وارتخت أعصابهم وسئموا النظر في علوم دينهم كما ذكرت ، ثم صاروا أبعد
الناس عن معرفة الطرق لتحصيل الغنى والثروة ، والقبض على ناصية القوة
وصولجان العزة ، وطرحوا أنفسهم في تيار من القدر كما يقولون ، يجري بهم إلى
حيث لا يعلمون ؟ ثم هم مع ذلك أحرص الناس على حياة ؛ وأشدهم لهفًا على
الحطام ، فلا ترى الجمهور منهم في شيء للدين ولا للدنيا فما هذا التناقض ؟ فأقول
له : إنك قد نسيت أن المقلّد إنما ينظر من عَمل المقلَّد إلى ظاهره ولا يدري سره
ولا ما بني عليه . فهو يعمل على غير نظام ، ويأخذ الأمر لا على قاعدة ، ولذلك
سقط المسلمون في شرٍّ مما كان عليه مقلّدوهم لا سيما أنهم قد خلطوا في التقليد
وأضافوا إلى دينهم ما لا يمكن أن يتفق معه ، فصاروا في مثل حال المتخبط الذي
تَنَاَزَعُه عدة قوى يذهب مع كل منها آنًا ثم ينتهي أمره بعد الخيبة بالتعب الشديد
فيستلقي إلى أن يستريح فينهض إلى العمل على هدًى أو يموت .
لما كان المسلمون علماء كانت لهم عينان : عين تنظر إلى الدنيا ، والأخرى
تنظر إلى الآخرة . فلما طفقوا يقلدون أغمضوا إحدى العينين ، وأقذوا الأخرى بما
هو أجنبي عنهم ففقدوا المطلبين ولن يجدوهما إلا بفتح ما أغمضوا وتطهير ما أقذوا.
الإصلاح والمصلحون : للقائل أن يقول : كيف تدعي أن دعاة العلم والدين
قليل بين المسلمين مع أننا نسمع أصواتهم تتلاقى في جوّ مصر وسوريا وغيرهما
من البلاد في هذه الأيام . كلُّ يقول : ديني ملتي : إسلام مسلمون : قرآن سنة :
مجد الإسلام القديم سلفه والصالحون : تعلم تعليم : كتب قديمة كتب جديدة . وما
يشاكل ذلك مما يظهر منه أن الداعين إلى العلم أو المنبهين إلى الأخذ بأصول الدين
الإسلامي كثيرون ولا ترى مع ذلك من أغلب المسلمين إلا آذانًا صُمًّا وأعينًا عُميًا
وصدًّا عما يدعو إليه هؤلاء ، ويمكنني أن أقول له : إن الصادق في هؤلاء ليس
بكثير عُدة ، والجمهور منهم قَلّما يخلص قصده ، وما تجد أكثرهم إلا متجرين بهذه
الكلمات لكسب بعض دريهمات : ويظهر لك ذلك من أنهم يلفظون هذه الأسماء وقلما
يدرسون شيئًا من مدلولاتها ليقفوا على الحقيقة منه ، وإنما يلقف بعضهم عن بعض
ظواهر كالزَّبد لا تمكث في الأرض . أما الصادقون على قلتهم فقد بدأ بعض الناس
يسمعون ما يقولون ، ويطلبون الرشاد مما يعلمون ، خصوصًا في أمر الدين والجمع
بينه وبين مصالح الدنيا لا سيما في بلاد الهند وبين مسلمي روسيا . ولكن الإصلاح
ليس ريحًا تهب فتمسح الأرض من الشرق إلى الغرب في وقت قريب فانتظر قد
يقول القائل : لِمَ لَمْ يكثر هؤلاء كثرتهم بين الأوربيين فيما مضى حتى يغلبوا
الظالمين من أهل السياسة ويستميلوا العادلين منهم إليهم . وينهضوا بالمسلمين من
هذه الرقدة التي طال أمدها عليهم ؟ ، ولمَ لا يزال أهل البصيرة منهم قليلين متفرقين
يهمسون بالقول ولا يجهرون ، وليس للعلم فيهم دعاة مليُّون ؟ أليس ذلك سبيلاً
لمؤاخذة الإسلام ، وحجة عليه ؟ ؟ وأقول له : إن حظ المسلمين لا يصح أن يكون
أسعد من حظ مقلديهم ، بل المنتظر أن يكون أتعس وقد أقامت المسيحية ما يزيد
على ألف سنة قبل أن يظهر فيها العلم أو تنشأ الحرية الشخصية ؛ أو تسري فيها
الحركة العلمية ؛ إلى ما فيه صلاح الجمعية الإنسانية ، مع توالي المنبهات ؛
وتواصل الصدمات إثر الصدمات ، ولم يمضِ على المسلمين من يوم استحكمت
فيهم البدعة وأطبقت عليهم ظلم المحدثات ودخلوا جحر الضب الذي دخله من كان
قبلهم إلا أقل من ثمانمائة سنة ، فلم يمض عليهم وهم في بدعهم الجديد ذلك الزمن
الذي قد يكون عُمرًا لمثل هذه الحالة ، ثم تقضي نحبها في آخره . وما أظن أن يمر
على المسلمين مثل تلك المدة قبل أن يبلغوا من صلاح الدين والدنيا ما هم أهل له .
الفرق بين التعصبين : وعلى كل حال لا يجوز في شريعة الإنصاف أن يذكر
المسلمون في جانب جمهور المسيحيين إذا ذكر الغلو في التعصب الديني فضلاً عن
أن يقال : إن المسلمين أشد إفراطًا فيه . والشاهد يدلنا على أنه قد يكون للمسلمين
في التعصب ألفاظ وكلمات ، ولكن الذي يكون من جمهور المسيحيين إنما هو أعمال
وضربات في المعاملات ؛ وما على طالب الحقيقة إلا أن يسيح بفكره في
المستعمرات الهولاندية في الشرق ومثل مملكة الترنسفال قبل سقوطها وبلاد الناتال
في الجنوب ، ثم يرجع إلى الجزائر وما يليها في جهة الغرب ليعلم كيف تكون الشدة
في المعاملة مع غير أهل المذاهب المسيحية وكيف يبلغ التعصب من أهله حدًّا
تنظر إليهم فيه الإنسانية شزرًا ولا تقبل لهم فيه المدنية عُذرًا .
ما على الباحث إلا أن ينظر فيما يكتبه الكتاب الفرنسيون ليعلم أنهم في حيرة
من أمرهم مع المسلمين . يريدون أن تكون لحكومتهم طمأنينة فيما ملكت من بلاد
المسلمين ولكن حكومتهم لا تجد السبيل إليها مع ما اتخذته قاعدة لعملها وهو الشدة
والإفراط في القسوة على المسلمين خاصة وحدهم دون سواهم . وأرباب الأقلام
يبحثون عن ؛ تلك الطمأنينة مع المحافظة على تلك القسوة ويأبى الله أن يعثرهم على
ما يبحثون عنه ، لأنهم يطلبون الجمع بين الضدين في موضوع واحد وهو محال كما
يقرره فلاسفتهم .
* * *
( رأي هانوتو الأخير في
معاملة المسلمين )
موسيو هانوتو أطلق لقلمه من سنوات أن يجري في البحث عن طريقة حكم
للمسلمين وقاعدة لمعاملتهم في البلاد التي يحكمها الفرنسيون وجاء في فصول مقاله
بما لا يزال يذكره القراء . ثم بعد أن قتل المسألة علمًا ثلاث سنين رجع إلى
موضوع البحث هذه السنة بلسان غير الذي كان ينطق به ورأي غير الذي كان
يصدر عنه . وإني ذاكر ملخص ما نقلته الجرائد من خطابه الذي ألقاه في المجمع
الجغرافي في شهر مارس من هذه السنة متعلقًا بأفريقيا ، واقتصر منه على ما يتعلق
بما نحن فيه وهو بالمعنى : ( إن القواعد الجديدة التي يجب أن يكون عليها العمل
في أفريقيا هي مخالفة للقواعد القديمة التي كانت تجري عليها السياسة الاستعمارية
فيما مضى من الزمان ، أي : قبل ساعة وقوف الخطيب لإلقاء خطابه ) ثم بين هذه
القواعد الجديدة التي يعامل بها المحكومون فقال : إنها الأمن والسلم ثم قال : ( إننا
مدينون لهم بالعدل والسلم كما أننا مدينون لهم بالتساهل الديني ، ولست أشير إلى
هذا الموضوع الخطير الذي له علاقة بكل ما يثير النفس البشرية إلا إشارة خفيفة
فأقول : إن التمدن الأوربي يجد في طريقه في أفريقيا لا سيما في شمالها ذلك الدين
القديم العظيم الذي هو دين الإسلام ، والذي هو في هذه الجهات ( شمال أفريقيا ) أكثر
نشاطًا منه في غيرها . وهذا الدين يدعو إلى إله واحد ويجعل الإيمان بالتوحيد
مصدرًا لكل الفضائل الذاتية والاجتماعية ويستولي على المؤمن به استيلاءً شديدًا
فلا يعود بقدر على التفلت منه ، فمن المفروض علينا التساهل في هذا الشأن بل
ليس التساهل بكافٍ وحده ، فمن الواجب أن ندرس هذا الدين ونبذل جهدنا في فهمه .
وعلينا أن نتخذ الكلمة الإسلامية { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ( البقرة : 256 ) شعارًا
لنا لا نخرج عن حدود معناها . وأن نحترم الدين الإسلامي ونحميه من كل طارئ
سوء . ولا بأس بذكر كلمة للأمير عبد القادر الجزائري في هذا المقام وهي : ( إن
أصحاب الأديان الثلاثة يشبهون ثلاثة إخوة من ثلاث أمهات ) انتهى محصل كلام
هانوتو . قبل الكلام عليه أسأل القارئ : هل سمع مثل هذه الكلمة ممن يماثل الأمير
عبد القادر في نسبه إلى صاحب الرسالة ومقامه في أهل دينه ومكانته من سلامة
العقيدة في مذهبه ؟ أو سمع ما يقرب منها ممن لا يدانيه من أهل الملل الأخرى ؟
ترى هانوتو يرشد أهله إلى اتخاذ سبيل جديد في سياسة المسلمين ، وهذا الجديد
هو السلم والأمن والتساهل مع المسلمين في أن يستمرُّوا مسلمين واحترام حقوقهم
وتركهم يعملون بدينهم . وعَدَّ هذا مبدأً جديدًا لم يسبق الجري على مثله . وهل
تجنب الحكومة الفرنسية طلبه ؟ مسألة فيها نظر . فهل يليق بمنصف أن يذكر
المسلم إذا ذكر التعصب ما دام في هذا الكون مثل هذه الدرجة منه ؟
* * *
( سياسة الإنكليز في التسامح )
نعم نحن لا ننكر أن بين الأمم الأوربية أمة تعرف كيف تحكم من ليس على
دينها ، وتعرف كيف تحترم عقائد من تسوسهم وعوائدهم ، وهي الأمة الإنكليزية فهي
وحدها الأمة المسيحية التي تقدر التسامح حق قدره . لا يصعب علينا أن نقول : إن
منشأ ذلك أن أمراءها في الحروب الصليبية وقوّاد جيشها كانوا من أشد الصليبيين
علاقة بسلطان المسلمين وأمراء جيشه . وقد امتاز الإنكليز في ذلك الزمن المظلم
بدرس عقائد المسلمين وعاداتهم فحملوا من ذلك شيئًا كثيرًا إلى بلادهم ولم تحجبهم
غشاوة التعصب عن إبصار ضوء الحق ، وظهر أثر ذلك في أقلام كثير من كتابهم
مثل ولترسكوت و شيل وغيرهما قبل أن يظهر في أقلام الكاتبين من غير الإنكليز
بأزمان طويلة . فلنا أن نقول : ولا نخشى لائمًا : إن هذه الخصلة الشريفة - خصلة
إطلاق الحرية لأهل الدين يتمتعون بأداء فرائضه مع احترام ما يحترمون - هي من
أجلّ الخصال ورثها غير المسلمين عن المسلمين . وهل أجد من يأبى عليّ القول
بأن الإسلام السليم من البدع هو أستاذ الإنكليز وعنه أخذوا هذه الخلة ؟ ألا ترى أن
نظامهم في ذلك يقرب من نظام المسلمين في يوم كانوا مسلمين : يكتفون من الناس
بالخضوع للقوانين وأداء ما يفرض عليهم من الضرائب ثم يحفظون نظام العدل
بينهم بقدر ما تسمح به السياسة لا يفرقون بين دين ودين . وهكذا كان حال
المسلمين ، وإن كان ذلك على قاعدة أبر وأرحم .
خاتمة : فإن قال قائل : أليس لهذا المقال من آخر ؟ أليس في طول الكلام
مجلبة الملل ، وترويج الكسل ، قلت : إني أوجِّه كلامي هذا إلى أهل النَّهَم إلى الفهم ،
وأرباب الشره إلى المعرفة ، ولا أظن هؤلاء إلا طالبين ما هو أوسع من هذا
المقال وأطول منه أضعافًا مضاعفة ؛ لأن الموضوع جليل ، والكلام فيه مهما كثر
قليل ، وأما القارئ الملول ، فعقله مدخول ، وعزمه مفلول ، وفكره مغلول ، وهو
قصير الهمة فيما يقصر وفيما يطول ، فلا ينظر إليه في الخطاب ، ولا يعتد به عند
الحساب ، ومع ذلك فأنا واقف عند هذا الحد . وأنتظر بتفصيل القول في مسألة
أمراض الإسلام وآثار البدع والمحدثات فيه ، والعلل التي نشبت بالمسلمين بسببها
فرصة أخرى ، وقبل أن أترك القارئ أنبهه إلى ما أجمل في هذه الفصول لم يقصد
به الطعن في حال أحد من الناس ولا طائفة من الطوائف كما يعرفه القارئ نفسه من
لباس المعاني ، وما يكسوها من الأدب والتنزه عن كل كلمة تشم منها رائحة العيب
على آخر . وقد يعلم من هذه النزاهة أن هذا رأي طبخناه لنَطْعَمَه بأنفسنا ، وننفق
منه على من تلزمنا نفقته من أهلنا ، ولم يكن يخطر ببالنا عندما أَجَدنَا طَبخه أن
نُفيض منه على غيرنا ، لكن إذا عَشَا الساري إلى ضوء نارنا ، وطلب القرى مِنَّا
قاسمناه ما لدينا ، وعرضنا عليه أَحَرَّ من نَفَسِ الحياة ، وأهنأ من خُلق الأناة إن شاء
الله . ا هـ
( المنار )
من عجيب الاتفاق أنه بعدما كتب هذا المقالات ونشر بعضها ظهرت تلك
المقالة للمستر كوربت الإنكليزي وسنلحق قوله في الإسلام بالمقالات إذا طبعت على
حدتها في كتاب ، ونبشر القراء بأن هذا الإمام وَعَدَ بأن يكتب مقالاً آخر ملحقًا بهذا
في بيان أن ما طرأ على الإسلام من البدع وما لحقها من الجمود سيكون هو السبب
في الرجوع إلى الأصل وإعادة مجد الإسلام ولعلها تنشر في الجزء الآتي .
وقد بلغ كتاب ( الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية ) نحو مائتي صفحة
وسنزيده شهادة الكاتب الإنكليزي ، ثم مقال الإمام الموعود به . وقد طُبع على ورق
جيد ، وجعلنا ثمنه مع هذا خمسة قروش صحيحة فقط رغبةً في سعة انتشاره .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) يذكر القراء أن كلام الجامعة في الطعن بالإسلام كان مبنيًّا على أربعة أمور تقدم الرد على ثلاثة منها وفي هذا المقال الرد على الرابع .
(2) المنار : رواه أبو الشيخ ابن حبان في العظمة عن أبي هريرة بسند ضعيف ورواه من طريقه ابن الجوزي في الموضوعات ولكن له روايات أخرى منها رواية الديلمي في مسند الفردوس عن أنس بلفظ (ثمانين سنة) وفي رواية موقوفة على ابن عباس (خير من قيام ليله) ولشهرة هذا المعنى قال الغزالي : وردت السنة بكذا .
__________
الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية
وهو المقال السادس لذلك الإمام الحكيم
( حرية العلم في أوربا الآن ، ونسبتها إلى الماضي والحاضر في الإسلام )
لم يبق علينا من الكلام إلا ما يتعلق بالأمر الرابع مما ذكرته الجامعة [1] وهو
( أن يتمكن العلم والفلسفة من التغلب على الاضطهاد المسيحي في أوربا ، وعدم
تمكنهما من التغلب على الاضطهاد الإسلامي دليل واقعي على أن النصرانية كانت
أكثر تسامحًا مع الفلسفة ) .
ليس من السهل عليَّ أن أعتقد أن أديبًا كصاحب الجامعة يقول هذا القول وهو
ناظر إلى الحقيقة بكلتا عينيه مع معرفته بلسان الغربيين واطلاعه على ما كتبوا في
هذه المسألة وهي من أهم المسائل التاريخية . وإنما هي عين الرضا تناولت من
حاضر الحال ومما انتهى إليه سير التاريخ ما تناولت ثم أملت على قلبه ما جرى به
قلمه .
هل يصح أن تُسمَّى الاستكانة للغالب تسامحًا ؟ وهل يُسمَّى العجز مع التطلع
للنزاع عند القدرة حلمًا ، أم يُسمَّى غلّ الأيدي عن الشر بوسائل القهر كرمًا ؟ هل
تعد مساكنة جناب البابا لملك إيطاليا في مدينة واحدة واجتماع الكرسيين العظيمين
كرسي المملكة الإيطالية والمملكة البابوية في عاصمة واحدة تسامحًا من قداسة البابا
مع الملك ؟ أليس الأجدر بالمنصف أن يسمي ذلك تسامحًا من الملك مع البابا ؛ لأنه
صاحب القوة والجيش والسلطنة ، ويمكنه أن يسلب البابا تلك الثمالة التي بقيت له من
السلطة الملكية ؟ كما أن الأليق به أن يسمي تلك الحالة التي عليها أهل أوربا اليوم
من طمأنينة العلم بينهم بجانب الدين تساهلاً من العلم مع الدين لا تسامحًا من الدين
مع العلم بعد ما كان بينهما من الحوادث ما كان وبعد غلبة العلم واستيلائه على
عرش السلطان في جميع الممالك ورضاء الدين بأن يكون تابعًا له في أغلبها .
***
( اقتباس مدنية أوربا من الإسلام ، وأسباب ظهورها التام )
السبب الأول الجمعيات : كان جلاد بين العلم والدين في أوربا وتألفت لنصرة
العلم جمعيات وأحزاب منها ما اتخذ السرَّ حجابًا له حتى يقوى ومنها ما ابتدأ
بالمجاهرة . وكان الدين يظفر بالعلم كما سبق بيانه لكثرة أعوانه وضعف أعوان
العلم حتى أشرقت الآداب المحمدية على تلك البلاد من سماء الأندلس وتبع إشراق
تلك الآداب واشتعال الناس بها سطوع نور العلم العربي من الجانب الشرقي كما
ذكرنا . وقد وجد هذان النوران استعدادًا من النفوس للاستضاءة بهما في السبيل
التي تؤدي بهما إلى المدنية التي كانا يحملانها . هذا الاستعداد كسبته الأنفس بما
ضايقها من غلوّ رؤساء الدين في استعمال سلطانهم واشتدادهم في استعباد العقل
والوجدان حتى ضاق ذرع الفطرة عن الاحتمال ، فأخذ الشعور الإنساني يتلمّس
السبيل إلى الخلاص وإذ لاح له هذان النوران اتخذهما له هداية واستقبلهما بوجهه ،
وكان بعد ذلك ما كان من تأثُّر الدين لأهل العلم وإحراقهم بالنيران ، ونفيهم من
الأوطان ، ومقاومة رؤساء الدين للحكومات ولأهل الأفكار المستقلة في أدنى الأشياء
وأعلاها حتى إنه عندما شرع ملوك فرنسا في فرش شوارع باريس بالبلاط على
الأسلوب الذي وجدوه في مدينة قرطبة ، وصدر الأمر بمنع تربية الخنازير في تلك
الشوارع أغضب ذلك قسوس القديس أنطوان ونادوا بأن خنازير القديس لا بد أن
تمر في الشوارع على حريتها الأولى . وحصل لذلك شغب عظيم اضطر الحكومة
أن تسمح بذلك مع صدور الأمر بأن توضع في أعناقها أجراس . وقالوا إن الملك
فيليب السمين مات بسقطة عن فرسه عندما انزعج الفرس من منظر خنزير
وصلصلة الجرس في عنقه .
لقائل أن يقول : إن القسوس في ذلك الزمان كان يمكنهم أن يمتنعوا من وضع
الأجراس في أعناق الخنازير ، فرضاهم بذلك يعد تسامحًا عظيمًا مع العلم ( أو
الصناعة ) ويسهل عليٍّ أن أوافقه على أن مثل هذا الضرب من التسامح في أجراس
الخنازير كان يظهر من حين إلى حين إلا أنه فيما أظن لا يكفي في تشييد هذه
المدنية التي يفتخر بها الأوربيون اليوم ونحن لا ننجسها قدرها كذلك .
السبب الثاني الضغط الديني : شدة الحاجة وغلوُّ الرؤساء كانا يوقدان الغيرة
في قلوب طلاب العلوم فلم تفتر لهم همة فعظم أمرهم واكتشفوا كثيرًا من الحقائق
التي نفعت العامة ، وتنبهت العقول للأخذ بما يهدون عليه وصارت الحرب بينهم وبين
رؤساء الدين سجالاً إلى أَنْ ظهر دعاة الإصلاح الديني ( البروتستانت ) فانضم دعاة
العلم إليهم ظنًّا منهم أن سيكونون معهم من المجاهدين في سبيل العلم . وكان منهم
إيراسم الشهير فلما انتصر طلاب الإصلاح ودالت لهم دولة استمروا يعاقبون بالموت
على الأفكار التي تخالف ظاهر ما يعتقدون كما تقدم ، فانفصل إيراسم ومن معه من
حماة الحرية واستقلال الإرادة الشخصية ، وترك المصلحين يتفرقون شيعًا ويقتل
بعضهم بعضًا وقال : ما كنت أظن أن دعاة الإصلاح يكونون كذلك أعداء العلم .
هذه الطوائف التي تفرقت عقائدها في الإصلاح لم تنتظر إلا أن تأمن عدوها
العامَّ وهو الكنيسة الكاثوليكية الرومانية فلما أمنتها أخذ بعضها يصول على بعض
واشتعلت نيران الحروب بينهم . قال أحد أفاضل مؤرخيهم :
( وكلما ارتفعت طائفة منهم إلى عرش القوة لوثت يديها بالجرائم وفي العمل
لإفناء البقية حتى سئمت النفوس دوام تلك الحال ، ووجدت من توالي حوادث
الانتقام وظهور مضارّه في كل طائفة أن الفضل لكل طائفة أن تمنح الأخرى من
الحرية ما لا تستغني عنه واحدة منها . والعلم كان يعمل عمله في كشف الحقائق
وترقية الآداب وكان من أقوى المنبهات إلى مضار الحروب ومفاسد العدوان على
حرية الأشخاص من أي طائفة كانت . من هذا نشأ ذلك الأصل العظيم أصل
التسامح والرضى بمجاورة المخالف في الرأي . نشأ من القهر والقسوة التي كانت كل
طائفة تعامل بها الأخرى ) انتهى كلام المؤرخ بالمعنى .
السبب الثالث : الثورة : ولا حاجة بي إلى ذكر ما جاءت به الثورة الفرنسية
وكيف كانت قيامتها على الدين ورؤسائه مما هو معلوم . وإنما أنبه القارئ إلى
الاعتبار بما تقدم من القول ، وبما يمكنه أن يقف عليه في كتب القوم ، ليعلم أن
الدين المسيحي في أوربا لم يحتمل العلم فضلاً وكرمًا وإنما قويت عليه أحزاب العلم
فساموه استكانة وخضوعًا ، ولو شاء أن يحتمل لم يستطع إلى ذلك سبيلاً .
السبب الرابع : ترك المسيحية : رؤساء الدين المسيحي رجال ذوو عزيمة
وإقدام قلما يدانيهم فيها رؤساء دين من الأديان . وهم مع غلوهم في الدين واشتدادهم
في استعمال سلطانهم على النفوس كانوا ولا يزالون يتخذون كل وسيلة لتأييد دينهم .
وهم أشد الناس حرصًا على تقويم أركانه ودفع الشبه عنه ولم يزدهر العلم الجديد
إلا وسائل وسبلاً لترويج عقائده وآدابه ، ولم تفتر لهم همة في نشره وتزيينه للقلوب .
ومع ذلك كله نرى أن رجال العلم وحماة المدنية يتسللون منه ، والعامة من الشعوب
في تخاذل عنه ، والأمة الفرنسية التي كانت تدعى بنت الكنيسة أصبحت من أشد
الناس عليه ، ورأت فلسفتها أن تحدّد حرية أهل الدين في تعاليمهم واجتماعهم . كل
ذلك ومدارس اللاهوت لا تزال عامرة وطلاب اللاهوت يعدّون بالألوف . كل ذلك
وكثير من الدول ترى من مزاياها حماية الدين المسيحي في أقطار الأرض . قال
أحد رؤساء البروتستانت في خطبة من خطبه التي ألقاها في بعض البلاد الفرنسية
سنة 1901 بعد كلام له في أن المسيحية رومانية أو بروتستانية فقدت خاصتها
الدينية كما فقدت فائدتها الاجتماعية ما نصه مترجمًا : إذا كان الدين المسيحي ليس
شيئًا سوى الكثلكة المحتاجة إلى الإصلاح ( المذهب الروماني ) أو الكثلكة التي
دخلها الإصلاح بالفعل ( المذهب البروتستانتي ) فالقرن الموفي للعشرين ( القرن
الحاضر ) لا يكون مسيحيًّا أبدًا .
وقد جاء في كلام هذا الخطيب بأنه يريد أن يطلب للمسيحية معنًى آخر ينطبق
كل الانطباق على اعتقاد المسلمين فيها ، فإن وفّق للنجاح في سعيه زال الخلاف - إن
شاء الله - بين الدين والعلم ، بل بين المسيحية والإسلام .
عَوْدٌ إلى سماحة الإسلام : آخذ بيد القارئ الآن ، وأرجع به إلى ما مضى من
الزمان ، وأقف به وقفة بين يدي خلفاء بني أمية والأئمة من بني العباس ووزرائهم
والفقهاء والمتكلمين والمحدثين والأئمة المجتهدين من حولهم ؛ والأدباء والمؤرخين
والأطباء والفلكيين والرياضيين والجغرافيين والطبيعيين وسائر أهل النظر من كل
قبيل مطيفون بهم ؛ وكلُّ مقبل على عمله فإذا فرغ عامل من العمل أقبل على أخيه
ووضع يده في يده يصافح الفقيهُ المتكلمَ والمحدثُ الطبيبَ والمجتهدُ الرياضيَّ
والحَكيم ، وكلُّ يرى في صاحبه عونًا على ما يشتغل هو به ، وهكذا أدخل به بيتًا من
بيوت العلم فأجد جميع هؤلاء سواء في ذلك طبيب يتحادثون ويتباحثون ، والإمام
البخاريُّ حافظ السنة بين يدي عمران بن حطان الخارجي يأخذ عنه الحديث وعمرو
ابن عبيد رئيس المعتزلة بين يدي الحسن البصري شيخ السنة من التابعين يتلقى
عنه وقد سئل الحسن عنه فقال للسائل : ( لقد سألت عن رجل كأن الملائكة أدّبته
وكأن الأنبياء ربته إن قام بأمر قعد به ، وإن قعد بأمر قام به ، وإن أمر بشيء كان
ألزم الناس له وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له ، ما رأيت ظاهرًا أشبه بباطن
منه ولا باطنًا أشبه بظاهر منه بل أرفع بصري فأجد الإمام أبا حنيفة أمام الإمام
زيد بن علي ( صاحب مذهب الزيدية من الشيعة ) يتعلم منه أصول العقائد والفقه
ولا يجد أحدهم من الآخر إلا ما يجد صاحب الرأي في حادثة ممن ينازعه فيه
اجتهادًا في بيان المصلحة وهما من أهل بيت واحد - أمُرُّ به بين تلك الصفوف
التي كانت تختلف وجهتها في الطلب وغايتها واحدة وهي العلم وعقيدة كل واحد
منهم أنَّ فكر ساعة خير من عبادة ستين سنة كما ورد في بعض الأحاديث [2].
الخلفاء أئمة في الدين مجتهدون وبأيديهم القوة وتحت أمرهم الجيش .
والفقهاء والمحدثون والمتكلمون والأئمة المجتهدون الآخرون هم قادة أهل الدين ومن
جند الخلفاء . الدين في قوته ، والعقيدة في أوج سلطانها ، وسائر العلماء ممن ذكرنا
بعدهم يتمتعون في أكنافهم بالخير والسعادة ورفه العيش وحرية الفكر لا فرق في
ذلك بين من كان من دينهم ومن كان من دين آخر ، فهنالك يشير القارئ المنصف إلى
أولئك المسلمين ، وأنصار ذلك الدين ، ويقول : ههنا يطلق اسم التسامح مع العلم
في حقيقته ، ههنا يوصف الدين بالكرم والحلم ، ههنا يعرف كيف يتفق الدين مع
المدنية ، عن هؤلاء العلماء الحكماء تؤخذ فنون الحرية في النظر ، ومنهم تهبط
روح المسالمة بين العقل والوجدان ( أو بين العقل والقلب ) كما يقولون .
يرى القارئ أنه لم يكن جلاد بين العلم والدين وإنما بين أهل العلم أو بين أهل
الدين شيء من التخالف في الآراء شأن الأحرار في الأفكار الذين أطلقوا من غل
التقييد ، وعرفوا من علة التقليد ، ولم يكن يجري فيما بينهم اللمز بالألقاب فلا يقول
أحد منهم لآخر : إنه زنديق أو كافر أو مبتدع أو ما يشبه ذلك . ولا تتناول أحدًا
منهم يد بأذًى إلا إذا خرج عن نظام الجماعة وطلب الإخلال بأمن العامة فكان
كالعضو المجذَّم فيقطع ليذهب ضرره عن البدن كله .
* * *
( ملازمة العلم للدين ، وعدوى
التعصب في المسلمين )
متى ولع المسلمون بالتكفير والتفسيق ، ورُمِيَ زيد بأنه مبتدع وعمرو بأنه
زنديق ؟ أشرنا فيما سبق إلى مبدأ هذا المرض ونقول الآن : إن ذلك بدأ فيهم عندما
بدأ الضعف في الدين يظهر بينهم ، وأكلت الفتن أهل البصيرة من أهله ( تلك الفتن
التي كان يثيرها أعداء الدين في الشرق وفي الغرب لخفض سلطانه ، وتوهين
أركانه ، وتصدَّر للقول في الدين برأيه من لم تمتزج روحه بروح الدين ، وأخذ
المسلمون يظنون أن من البدع في الدين ما يحسن إحداثه لتعظيم شأنه تقليدًا لمن كان
بين أيديهم من الأمم المسيحية وغيرها . وأنشأوا ينسون ماضي الدين ومقالات
سلفهم فيه ويكتفون برأي من يرونه من المتصدرين المتعالمين ، وتولى شئون
المسلمين جُهدًا لهم ، وقام بإرشادهم في الأغلب ضُلاَّلهم ، في أثناء ذلك حدث الغلوُّ
في الدين واستعرت نيران العداوات بين النظَّار فيه ، وسهل على كل منهم لجهله
بدينه أن يرمي الآخر بالمروق منه لأدنى سبب . وكلما ازدادوا جهلاً بدينهم ازدادوا
غلوًّا فيه بالباطل ودخل العلم والفكر والنظر ( وهي لوازم الدين الإسلامي ) في
جملة ما كرهوه ، وانقلب عندهم ما كان واجبًا من الدين محظورًا فيه .
لا أكاد أخطّئ القارئ إذا زعم أن المسلم إنما استفاد اسم زندقة وتزندق
ومتزندق وزنديق من فضل ما علّمه جيرانه إذ كانوا يقولون : هرتقة وتهرتق وهو
هرتوقي أو ما يماثل ذلك . أو زعم أن قد فشت في المسلمين سرعة التكفير بطريق
العدوى من أهل الملل المتشدِّدة وأن الذي سهّل سريان العدوى بتلك السرعة الشديدة
هو ضعف المزاج الديني عند المسلمين بجهلهم بأصوله ومقوماته ومتى ضعف
المزاج استعد لقبول المرض كما هو معلوم .
إن المسلمين لما كانوا علماء في دينهم كانوا علماء الكون وأئمة العالم .
أصيبوا بمرض الجهل بدينهم فانهزموا من الوجود وأصبحوا أُكلة الآكل وطُعمة
الطاعم ، هل وقف الجهل بالمسلمين عند تكفير من يخالفهم في مسائل الدين أو
يذهب مذهب الفلاسفة أو ما يقرب من ذلك ؟ لا . بل عدا بهم الجهل على أئمة
الدين وخَدَمَةِ السنة والكتاب ، فقد حُملت كتب الإمام الغزالي إلى غرناطة وبعدما انتفع
بها المسلمون أزمانًا هاج الجهل بأهل تلك المدينة ، وانطلقت ألسنة المتعالمين من
البربر بتفسيقه وتضليله فجمعت تلك الكتب خصوصًا نسخَ ( إحياء علوم الدين )
ووضعت في الشارع العامّ في المدينة وأحرقت . قال قوم يعدون أنفسهم مسلمين في
ابن تيمية - وهو أعلم الناس بالسنة وأشدهم غيرة على الدين - : إنه ضالُّ مضل .
وجاء على إثر هؤلاء مقلدون يملأون أفواههم بهذه الشتائم ، وعليهم إثمها وإثم من
يقفوهم بها إلى يوم القيامة .
* * *
إهمال آثار السلف وحال
علوم الدين وطلابها
أهمل المسلمون علوم دينهم والنظر في أقوال سلفهم حتى إنك لا تجد اليوم في
أيديهم كتابًا من كتب أبي الحسن الأشعري ولا أبي منصور الماتريدي ، ولا تكاد ترى
مؤلفًا من مؤلفات أبي بكر الباقلاني أو أبي إسحاق الإسفرايني . وإذا بحثت عن كتب
هؤلاء الأئمة في مكاتب المسلمين أعياك البحث ولا تكاد تجد نسخة صحيحة من
كتاب .
كُتبت على القرآن تفاسير كثيرة في القرن الثالث من الهجرة وما بعده إلى
السادس منها تفسير الطبري وتفسير أبي مسلم الأصفهاني وتفسير القرطبي وتفسير
الجصاص وتفسير الغزالي وتفسير أبى بكر بن العربي وكثير غيرها ، وفيها من آراء
أولئك الأئمة ووجوه استنباط الحكم والأحكام ما لا غنى لطالب علم الدين عنه . فهل
يجد الباحث المجدّ نسخة من هذه الكتب الجليلة يمكن الوثوق بصحتها إلا بطريق
المصادفة وحسن الاتفاق ؟ وهل يليق بأمة تدعي أنها على دين وأن لها فيه سلفًا
صالحًا أن تهجر آثار سلفها وتدع ما كتبوا طعمة للعبث وفراشًا للتراب ؟ هل وقع
مثل ذلك من المشتغلين باللاهوت المسيحي في زمن من الأزمان ؟
إن حالة طلبة العلوم الدينية الإسلامية أصبحت مما يرثى له في أكثر بلاد
المسلمين فهم لا يقرأون من كتب الكلام إلا مختصرات مما كتب المتأخرون يتعلم
أذكاهم منها ما تدل عليه عباراتها ، ولا يستطيع أن يتعلم البحث في أدلتها وتصحيح
مقدماتها وتمييز صحيحها من باطلها وإنما يتلقاها كأنها كتاب الله أو كلام نبيه صلى
الله عليه وآله وسلم يأخذ ما فيها بالتسليم . فإذا ناظره مناظر في بعض قضاياها
وعجز عن تصحيحه قطع الجدال بقوله : هكذا قالوا ، وإن لم يكن القول متفقًا عليه
بل قد يكون القول مما لم يقل به سوى صاحب الكتاب الذي اشتغل به وربما كان
صاحب الكتاب ممن لو رآه أحد من السلف لم يرضه تلميذًا يعي عنه ما يقول .
كاد ينقطع طلب العلوم الدينية في سوريا و الحجاز و تونس و الجزائر وقلَّ
جدًّا في المغرب الأقصى ، ولم يبقَ الاهتمام به إلا في بعض الصحاري وذلك إما
لصعوبة طرق التعليم واقتضائها الزمن الطويل ، وحاجات الناس مانعة لهم من
إفناء أعمارهم في عمل لا يسد في حاجتهم . وإما لتفضيل الآباء تربية أبنائهم على
الطرق الحديثة في أوربا أو في المدارس الأخرى وليس فيها من الدين شيء وإن
كان فيها شيء منه فهو مما لا يُعد تعليمًا دينيًّا ينظر إليه . وإما للفتور والخمود ،
الذي نشأ عن التقليد والجمود ؛ وبذلك تجد المسلمين قد تولاهم الجهل بدينهم ؛
وأخذتهم البدع من جميع جوانبهم ؛ وانقطعت الصلة الحقيقية بينهم وبين سلفهم ؛
حتى لو عرض على الجمهور الأعظم منهم ما اتفق عليه السلف من الحكام لأنكروه
واستغربوه وعدُّوه بدعة في الدين وصح فيهم ما قال عمر الخيام في بعض أشعاره
الفارسية مخاطبًا للنبي عليه الصلاة والسلام : ( إن الذين جاءوا بعدك زيّنوا لك
دينك ووشّوه وزركشوه حتى لو رأيته أنت لأنكرته ) . فهذا الصنف من المسلمين
وهو معظمهم قد أنكر دينه الحق وعاداه ونقم على أهله القائمين بخدمته ، وإنما
اصطفى لاعتقاده بعض أفراد لم يعرف عن السلف اختصاصهم بالثقة ولم يسمح
الدين باختصاصهم بالتقليد . فإذا وقع عن هذا الصنف ما فيه أذًى للعلم وأهله فهل
يعدّ ذلك واقعًا من دين الإسلام دين محمد صلى الله عليه وسلم ، دين القرآن ، دين
السنة الثابتة ، دين الخلفاء الراشدين ومن تبعهم من السلف الأولين ؟
متابعة العلم للإسلام ومباينته لسواه : الحق أقول والحس يؤيدني : ما عادوا
العلم ولا العلم عاداهم إلا من يوم انحرافهم عن دينهم وأخذهم في الصد عن علمه
فكلما بعد عنهم علم الدين بعد عنهم علم الدنيا وحرموا ثمار العقل وكانوا كلما
توسعوا في العلوم الدينية ، توسعوا في العلوم الكونية ، وضربوا الزمان بسوط من
العزّة ، أما غيرهم فكلما اتصلوا بالدين وجدّوا في المحافظة عليه أنكرهم العلم
وتجهّمهم واكفهرّ وجهه لِلِقائهم . وكلما بعدوا من الدين سالمهم العلم وبش في وجوههم
ولذلك يصرحون بأن العلم من ثمار العقل والعقل لا يصح أن يكون له في الدين
عمل ، ولا أن يظهر منه فيه أثر ، والدين من وجدانات القلب ولا علاقة بين ما يجد
القلب وما يكسب العقل فالفصل تامُّ بين العقل والدين ، ولا سبيل إلى الجمع بينهما .
سامحهم الله فيما يسمونه تسامحًا مع العلم ، وهم يصرحون بأنه عدوه الذي يستحيل
أن يكون بينه وبينه سلم .
هل عرفت السبب في اضطهاد المسلمين للعلم ؟ أقول اضطهاد ولا أريد به ما
كان عند الأمم المسيحية من الاشتداد في إبادة أهله ، والتنكيل بهم واختراع ضروب
التعذيب والتفنن في صنع آلات الهلاك مع الأخذ بالشبهة ، والاكتفاء في الإعدام
بمجرد التهمة ، فإن ذلك لم يقع عند المسلمين لا أيام علمهم ، ولا في أزمنة جهلهم ،
ولكن أريد من الاضطهاد الإعراض عن العلم ورمي الألفاظ السخيفة في وجوه أهله
وقذفهم بشيء من الشتائم مع الابتعاد عنهم . لا ريب أنك قد أيقنت بأن السبب في
هذا الذي يسميه الأديب اضطهادًا إنما هو جهلهم بدينهم . فالدواء الذي ينجح في
شفائهم من الداء لا يكون إلا ردّهم إلى العلم بدينهم والتبصر فيه للوقوف على
أسراره والوصول إلى حقيقة ما يدعو إليه . كان الدين واسطة التعارف بينهم وبين
العلم فلما ذهبت الواسطة تناكرت النفوس وتبدل الأنس وحشة .
الدعاة إلى الإسلام : فهل قام بينهم دعاة للعلم حقيقيون ، أو دعاة لأصل الدين
عارفون ، ثم استعصت قلوب المسلمين عليهم ، وجمحت نفوسهم عن الانقياد لهم ؟
وهل كثر أولئك الدعاة في أطراف بلاد المسلمين كثرتهم في أوربا من أواسط القرن
السابع عشر من التاريخ المسيحي إلى أن ظهرت قوة العلم في أوائل القرن السابع
عشر وفيما بعد ذلك ؟ لا . إنما رأينا من الصادقين أفرادًا يظهرون متفرقين في
عصور مختلفة ربما لا يجتمع ربعه منهم فما يزيد في قرن واحد ويأخذون في العمل
ولما وجّهوا إليه ، ثم لا يكادون ينطقون ببعض الكلم فيحس الناس بهم فيأخذ المستعد
أهبته لمفارقة ما كان عليه واتباعهم حتى تشعر السياسة ( نعوذ بالله منها ) بما عسى
يكون من أمرهم فتخمد أنفاسهم ، قبل أن يبلغوا من قلب واحد ما أرادوا من غرس
أفكارهم ، فينطفئ النور ، ويَدْلَهمِ الدَّيْجُور ، فهل يعدّ الأديب هذه الضربات من أيدي
أرباب السياسة اضطّهادًا للعلم لأجل حماية الدين ؟ أنزّه كل أديب عن أن يظن ذلك
وإنما هي صدمات تقع على الدين لا تختلف عن أمثالها مما يصيبه منهم مباشرة فلا
تعدّ حجة على الدين في نظر المنصف .
المقلِّد دون المقلَّد : ربما يقول القائل : إن كان المسلمون قد أخذوا الجمود في
التقليد والنفرة من العلم والاعتقاد بالعداوة بين الدنيا والآخرة وبين العقل والدين وما
أشبه ذلك مما هم فيه وورثوه عن الأمم السابقة عليهم خصوصًا أقرب الملل إليهم ،
فما بالهم لم يقلدوا المسيحيين في الحرص على نشر دينهم والتوسع في علومه مذيلاً
بما أخذوه عنهم ، ولم يقسموا أنفسهم قسمين كما قسم المسيحيون إخوانهم قسمين :
قسمًا ينقطع إلى الآخرة في الأديار والصوامع ، وقسمًا يشتغل بالدنيا ليقيت نفسه
ويقيت أهل القسم الأول ويحمي نفسه ويحميهم من العدوان ؟ وما لك ترى المسلمين
خملوا وارتخت أعصابهم وسئموا النظر في علوم دينهم كما ذكرت ، ثم صاروا أبعد
الناس عن معرفة الطرق لتحصيل الغنى والثروة ، والقبض على ناصية القوة
وصولجان العزة ، وطرحوا أنفسهم في تيار من القدر كما يقولون ، يجري بهم إلى
حيث لا يعلمون ؟ ثم هم مع ذلك أحرص الناس على حياة ؛ وأشدهم لهفًا على
الحطام ، فلا ترى الجمهور منهم في شيء للدين ولا للدنيا فما هذا التناقض ؟ فأقول
له : إنك قد نسيت أن المقلّد إنما ينظر من عَمل المقلَّد إلى ظاهره ولا يدري سره
ولا ما بني عليه . فهو يعمل على غير نظام ، ويأخذ الأمر لا على قاعدة ، ولذلك
سقط المسلمون في شرٍّ مما كان عليه مقلّدوهم لا سيما أنهم قد خلطوا في التقليد
وأضافوا إلى دينهم ما لا يمكن أن يتفق معه ، فصاروا في مثل حال المتخبط الذي
تَنَاَزَعُه عدة قوى يذهب مع كل منها آنًا ثم ينتهي أمره بعد الخيبة بالتعب الشديد
فيستلقي إلى أن يستريح فينهض إلى العمل على هدًى أو يموت .
لما كان المسلمون علماء كانت لهم عينان : عين تنظر إلى الدنيا ، والأخرى
تنظر إلى الآخرة . فلما طفقوا يقلدون أغمضوا إحدى العينين ، وأقذوا الأخرى بما
هو أجنبي عنهم ففقدوا المطلبين ولن يجدوهما إلا بفتح ما أغمضوا وتطهير ما أقذوا.
الإصلاح والمصلحون : للقائل أن يقول : كيف تدعي أن دعاة العلم والدين
قليل بين المسلمين مع أننا نسمع أصواتهم تتلاقى في جوّ مصر وسوريا وغيرهما
من البلاد في هذه الأيام . كلُّ يقول : ديني ملتي : إسلام مسلمون : قرآن سنة :
مجد الإسلام القديم سلفه والصالحون : تعلم تعليم : كتب قديمة كتب جديدة . وما
يشاكل ذلك مما يظهر منه أن الداعين إلى العلم أو المنبهين إلى الأخذ بأصول الدين
الإسلامي كثيرون ولا ترى مع ذلك من أغلب المسلمين إلا آذانًا صُمًّا وأعينًا عُميًا
وصدًّا عما يدعو إليه هؤلاء ، ويمكنني أن أقول له : إن الصادق في هؤلاء ليس
بكثير عُدة ، والجمهور منهم قَلّما يخلص قصده ، وما تجد أكثرهم إلا متجرين بهذه
الكلمات لكسب بعض دريهمات : ويظهر لك ذلك من أنهم يلفظون هذه الأسماء وقلما
يدرسون شيئًا من مدلولاتها ليقفوا على الحقيقة منه ، وإنما يلقف بعضهم عن بعض
ظواهر كالزَّبد لا تمكث في الأرض . أما الصادقون على قلتهم فقد بدأ بعض الناس
يسمعون ما يقولون ، ويطلبون الرشاد مما يعلمون ، خصوصًا في أمر الدين والجمع
بينه وبين مصالح الدنيا لا سيما في بلاد الهند وبين مسلمي روسيا . ولكن الإصلاح
ليس ريحًا تهب فتمسح الأرض من الشرق إلى الغرب في وقت قريب فانتظر قد
يقول القائل : لِمَ لَمْ يكثر هؤلاء كثرتهم بين الأوربيين فيما مضى حتى يغلبوا
الظالمين من أهل السياسة ويستميلوا العادلين منهم إليهم . وينهضوا بالمسلمين من
هذه الرقدة التي طال أمدها عليهم ؟ ، ولمَ لا يزال أهل البصيرة منهم قليلين متفرقين
يهمسون بالقول ولا يجهرون ، وليس للعلم فيهم دعاة مليُّون ؟ أليس ذلك سبيلاً
لمؤاخذة الإسلام ، وحجة عليه ؟ ؟ وأقول له : إن حظ المسلمين لا يصح أن يكون
أسعد من حظ مقلديهم ، بل المنتظر أن يكون أتعس وقد أقامت المسيحية ما يزيد
على ألف سنة قبل أن يظهر فيها العلم أو تنشأ الحرية الشخصية ؛ أو تسري فيها
الحركة العلمية ؛ إلى ما فيه صلاح الجمعية الإنسانية ، مع توالي المنبهات ؛
وتواصل الصدمات إثر الصدمات ، ولم يمضِ على المسلمين من يوم استحكمت
فيهم البدعة وأطبقت عليهم ظلم المحدثات ودخلوا جحر الضب الذي دخله من كان
قبلهم إلا أقل من ثمانمائة سنة ، فلم يمض عليهم وهم في بدعهم الجديد ذلك الزمن
الذي قد يكون عُمرًا لمثل هذه الحالة ، ثم تقضي نحبها في آخره . وما أظن أن يمر
على المسلمين مثل تلك المدة قبل أن يبلغوا من صلاح الدين والدنيا ما هم أهل له .
الفرق بين التعصبين : وعلى كل حال لا يجوز في شريعة الإنصاف أن يذكر
المسلمون في جانب جمهور المسيحيين إذا ذكر الغلو في التعصب الديني فضلاً عن
أن يقال : إن المسلمين أشد إفراطًا فيه . والشاهد يدلنا على أنه قد يكون للمسلمين
في التعصب ألفاظ وكلمات ، ولكن الذي يكون من جمهور المسيحيين إنما هو أعمال
وضربات في المعاملات ؛ وما على طالب الحقيقة إلا أن يسيح بفكره في
المستعمرات الهولاندية في الشرق ومثل مملكة الترنسفال قبل سقوطها وبلاد الناتال
في الجنوب ، ثم يرجع إلى الجزائر وما يليها في جهة الغرب ليعلم كيف تكون الشدة
في المعاملة مع غير أهل المذاهب المسيحية وكيف يبلغ التعصب من أهله حدًّا
تنظر إليهم فيه الإنسانية شزرًا ولا تقبل لهم فيه المدنية عُذرًا .
ما على الباحث إلا أن ينظر فيما يكتبه الكتاب الفرنسيون ليعلم أنهم في حيرة
من أمرهم مع المسلمين . يريدون أن تكون لحكومتهم طمأنينة فيما ملكت من بلاد
المسلمين ولكن حكومتهم لا تجد السبيل إليها مع ما اتخذته قاعدة لعملها وهو الشدة
والإفراط في القسوة على المسلمين خاصة وحدهم دون سواهم . وأرباب الأقلام
يبحثون عن ؛ تلك الطمأنينة مع المحافظة على تلك القسوة ويأبى الله أن يعثرهم على
ما يبحثون عنه ، لأنهم يطلبون الجمع بين الضدين في موضوع واحد وهو محال كما
يقرره فلاسفتهم .
* * *
( رأي هانوتو الأخير في
معاملة المسلمين )
موسيو هانوتو أطلق لقلمه من سنوات أن يجري في البحث عن طريقة حكم
للمسلمين وقاعدة لمعاملتهم في البلاد التي يحكمها الفرنسيون وجاء في فصول مقاله
بما لا يزال يذكره القراء . ثم بعد أن قتل المسألة علمًا ثلاث سنين رجع إلى
موضوع البحث هذه السنة بلسان غير الذي كان ينطق به ورأي غير الذي كان
يصدر عنه . وإني ذاكر ملخص ما نقلته الجرائد من خطابه الذي ألقاه في المجمع
الجغرافي في شهر مارس من هذه السنة متعلقًا بأفريقيا ، واقتصر منه على ما يتعلق
بما نحن فيه وهو بالمعنى : ( إن القواعد الجديدة التي يجب أن يكون عليها العمل
في أفريقيا هي مخالفة للقواعد القديمة التي كانت تجري عليها السياسة الاستعمارية
فيما مضى من الزمان ، أي : قبل ساعة وقوف الخطيب لإلقاء خطابه ) ثم بين هذه
القواعد الجديدة التي يعامل بها المحكومون فقال : إنها الأمن والسلم ثم قال : ( إننا
مدينون لهم بالعدل والسلم كما أننا مدينون لهم بالتساهل الديني ، ولست أشير إلى
هذا الموضوع الخطير الذي له علاقة بكل ما يثير النفس البشرية إلا إشارة خفيفة
فأقول : إن التمدن الأوربي يجد في طريقه في أفريقيا لا سيما في شمالها ذلك الدين
القديم العظيم الذي هو دين الإسلام ، والذي هو في هذه الجهات ( شمال أفريقيا ) أكثر
نشاطًا منه في غيرها . وهذا الدين يدعو إلى إله واحد ويجعل الإيمان بالتوحيد
مصدرًا لكل الفضائل الذاتية والاجتماعية ويستولي على المؤمن به استيلاءً شديدًا
فلا يعود بقدر على التفلت منه ، فمن المفروض علينا التساهل في هذا الشأن بل
ليس التساهل بكافٍ وحده ، فمن الواجب أن ندرس هذا الدين ونبذل جهدنا في فهمه .
وعلينا أن نتخذ الكلمة الإسلامية { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ( البقرة : 256 ) شعارًا
لنا لا نخرج عن حدود معناها . وأن نحترم الدين الإسلامي ونحميه من كل طارئ
سوء . ولا بأس بذكر كلمة للأمير عبد القادر الجزائري في هذا المقام وهي : ( إن
أصحاب الأديان الثلاثة يشبهون ثلاثة إخوة من ثلاث أمهات ) انتهى محصل كلام
هانوتو . قبل الكلام عليه أسأل القارئ : هل سمع مثل هذه الكلمة ممن يماثل الأمير
عبد القادر في نسبه إلى صاحب الرسالة ومقامه في أهل دينه ومكانته من سلامة
العقيدة في مذهبه ؟ أو سمع ما يقرب منها ممن لا يدانيه من أهل الملل الأخرى ؟
ترى هانوتو يرشد أهله إلى اتخاذ سبيل جديد في سياسة المسلمين ، وهذا الجديد
هو السلم والأمن والتساهل مع المسلمين في أن يستمرُّوا مسلمين واحترام حقوقهم
وتركهم يعملون بدينهم . وعَدَّ هذا مبدأً جديدًا لم يسبق الجري على مثله . وهل
تجنب الحكومة الفرنسية طلبه ؟ مسألة فيها نظر . فهل يليق بمنصف أن يذكر
المسلم إذا ذكر التعصب ما دام في هذا الكون مثل هذه الدرجة منه ؟
* * *
( سياسة الإنكليز في التسامح )
نعم نحن لا ننكر أن بين الأمم الأوربية أمة تعرف كيف تحكم من ليس على
دينها ، وتعرف كيف تحترم عقائد من تسوسهم وعوائدهم ، وهي الأمة الإنكليزية فهي
وحدها الأمة المسيحية التي تقدر التسامح حق قدره . لا يصعب علينا أن نقول : إن
منشأ ذلك أن أمراءها في الحروب الصليبية وقوّاد جيشها كانوا من أشد الصليبيين
علاقة بسلطان المسلمين وأمراء جيشه . وقد امتاز الإنكليز في ذلك الزمن المظلم
بدرس عقائد المسلمين وعاداتهم فحملوا من ذلك شيئًا كثيرًا إلى بلادهم ولم تحجبهم
غشاوة التعصب عن إبصار ضوء الحق ، وظهر أثر ذلك في أقلام كثير من كتابهم
مثل ولترسكوت و شيل وغيرهما قبل أن يظهر في أقلام الكاتبين من غير الإنكليز
بأزمان طويلة . فلنا أن نقول : ولا نخشى لائمًا : إن هذه الخصلة الشريفة - خصلة
إطلاق الحرية لأهل الدين يتمتعون بأداء فرائضه مع احترام ما يحترمون - هي من
أجلّ الخصال ورثها غير المسلمين عن المسلمين . وهل أجد من يأبى عليّ القول
بأن الإسلام السليم من البدع هو أستاذ الإنكليز وعنه أخذوا هذه الخلة ؟ ألا ترى أن
نظامهم في ذلك يقرب من نظام المسلمين في يوم كانوا مسلمين : يكتفون من الناس
بالخضوع للقوانين وأداء ما يفرض عليهم من الضرائب ثم يحفظون نظام العدل
بينهم بقدر ما تسمح به السياسة لا يفرقون بين دين ودين . وهكذا كان حال
المسلمين ، وإن كان ذلك على قاعدة أبر وأرحم .
خاتمة : فإن قال قائل : أليس لهذا المقال من آخر ؟ أليس في طول الكلام
مجلبة الملل ، وترويج الكسل ، قلت : إني أوجِّه كلامي هذا إلى أهل النَّهَم إلى الفهم ،
وأرباب الشره إلى المعرفة ، ولا أظن هؤلاء إلا طالبين ما هو أوسع من هذا
المقال وأطول منه أضعافًا مضاعفة ؛ لأن الموضوع جليل ، والكلام فيه مهما كثر
قليل ، وأما القارئ الملول ، فعقله مدخول ، وعزمه مفلول ، وفكره مغلول ، وهو
قصير الهمة فيما يقصر وفيما يطول ، فلا ينظر إليه في الخطاب ، ولا يعتد به عند
الحساب ، ومع ذلك فأنا واقف عند هذا الحد . وأنتظر بتفصيل القول في مسألة
أمراض الإسلام وآثار البدع والمحدثات فيه ، والعلل التي نشبت بالمسلمين بسببها
فرصة أخرى ، وقبل أن أترك القارئ أنبهه إلى ما أجمل في هذه الفصول لم يقصد
به الطعن في حال أحد من الناس ولا طائفة من الطوائف كما يعرفه القارئ نفسه من
لباس المعاني ، وما يكسوها من الأدب والتنزه عن كل كلمة تشم منها رائحة العيب
على آخر . وقد يعلم من هذه النزاهة أن هذا رأي طبخناه لنَطْعَمَه بأنفسنا ، وننفق
منه على من تلزمنا نفقته من أهلنا ، ولم يكن يخطر ببالنا عندما أَجَدنَا طَبخه أن
نُفيض منه على غيرنا ، لكن إذا عَشَا الساري إلى ضوء نارنا ، وطلب القرى مِنَّا
قاسمناه ما لدينا ، وعرضنا عليه أَحَرَّ من نَفَسِ الحياة ، وأهنأ من خُلق الأناة إن شاء
الله . ا هـ
( المنار )
من عجيب الاتفاق أنه بعدما كتب هذا المقالات ونشر بعضها ظهرت تلك
المقالة للمستر كوربت الإنكليزي وسنلحق قوله في الإسلام بالمقالات إذا طبعت على
حدتها في كتاب ، ونبشر القراء بأن هذا الإمام وَعَدَ بأن يكتب مقالاً آخر ملحقًا بهذا
في بيان أن ما طرأ على الإسلام من البدع وما لحقها من الجمود سيكون هو السبب
في الرجوع إلى الأصل وإعادة مجد الإسلام ولعلها تنشر في الجزء الآتي .
وقد بلغ كتاب ( الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية ) نحو مائتي صفحة
وسنزيده شهادة الكاتب الإنكليزي ، ثم مقال الإمام الموعود به . وقد طُبع على ورق
جيد ، وجعلنا ثمنه مع هذا خمسة قروش صحيحة فقط رغبةً في سعة انتشاره .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) يذكر القراء أن كلام الجامعة في الطعن بالإسلام كان مبنيًّا على أربعة أمور تقدم الرد على ثلاثة منها وفي هذا المقال الرد على الرابع .
(2) المنار : رواه أبو الشيخ ابن حبان في العظمة عن أبي هريرة بسند ضعيف ورواه من طريقه ابن الجوزي في الموضوعات ولكن له روايات أخرى منها رواية الديلمي في مسند الفردوس عن أنس بلفظ (ثمانين سنة) وفي رواية موقوفة على ابن عباس (خير من قيام ليله) ولشهرة هذا المعنى قال الغزالي : وردت السنة بكذا .
(5/561)