د.أبو بكر خليل
Member
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على المبعوث رحمة و هداية للعالمين سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين . أما بعد
فقد تقدمت مشاركات لي في بيان مخالفة القول بتوحيد رؤية الأهلة للنصّ و الإجماع ، ثم رأيت أن أفرد للمسألة بحثا أكثر بيانا و تفصيلا ، وآثرت وضعه في مشاركة مستقلة :
---------------------------------------------------------
* برزت منذ مدة دعوة لما سمي " بتوحيد رؤية الهلال " – و بخاصة هلال شهر رمضان – و ذلك لتوحيد يوم بدء صيام رمضان بين معظم الدول الإسلامية ، بدعوى العمل على وحدة المسلمين في أقطار الأرض في تلك الشعيرة .
و هو مقصد حسن شرعا ، و لكن وسيلته تلك محل نظر .
و من المثير للعجب استمرار تلك الدعوة بعد أن انقلبت إلى عكس الغرض المقصود منها ؛ إذ أدت إلى تفرق أهل الوطن الواحد و اختلافهم في يوم بدء صومهم ؛ فالبعض يصوم يوم ثبوت رؤية هلال بلده ، بينما البعض الآخر في نفس القطر يصوم في يوم آخر تبعا لرؤية هلال قطر آخر ! فكأننا نفترق في البلد الواحد لنجتمع مع البلد الآخر !
تناقض ما بعده تناقض ، حيث يفترق المتفق و يختلف المؤتلف في الوطن الواحد بزعم تجميع المختلف من البلاد . فأيهما أولى بالوحدة ؟ { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذى هو خير } ؟ - و الباء تدخل على المتروك – { ما لكم كيف تحكمون } ؟!
* * *
و يقولون إن ذلك هو الأمر الراجح ، و لن نقول إنه المرجوح عن غيره ، بل نقول إنه ( غير مشروع ) أصلا : أي أن القول بتوحيد رؤية الأهلة عند بعد البلاد مخالف لأدلة الشرع الحكيم . و هو ما سنبينه بعد إن شاء الله .
و قد نصّ على تلك المخالفة للشرع مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي ؛ فقد جاء في قراره – رقم 7 – بخصوص ( بيان توحيد الأهلة من عدمه ) ما يلي : " فما يدعيه القائلون من وجوب الاتحاد في يومي الصوم والإفطار مخالف لما لما جاء شرعًا وعقلاً " ، و ذلك في الدورة الرابعة لانعقاده بتاريخ 15/10/ 1425 هـ ( الموافق 28/11/2004 م ) ، و سيأتي ذكره بعد . [ 1 ]
و المقصود بقولهم " توحيد رؤية الهلال " : أن تكون رؤية أهل بلد ( قطر ) للهلال رؤية معتبرة شرعا لغيرهم من أهل البلاد الأخرى ، المشتركة معه في جزء من الليل ، قلّ أو كثر ؛ يبنون صيامهم و غيره عليها .
و عليه : فرؤية أهل بلد ( قطر ) للهلال هي رؤية - يدّعونها معتبرة شرعا - لكثير غيره من البلاد العربية و الإسلامية ، و هذا أمر غير مسلّم ، بل غير معتبر من جهة الشرع ؛ فلا اعتبار في الشرع لذلك الاشتراك في جزء من الليل عند رؤية الهلال حال تباعد البلاد ، و المخالف عليه الدليل ، والقول بتوحيد رؤية الهلال على هذا المعنى ( و في غير بلاد القطر الواحد ) مخالف للنص الصحيح و الإجماع الصريح:
1 – أما النص : فهو حديث صحيح الثبوت أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " ، كما أنه صريح الدلالة لمن يتأمله ، و هو حديث مذكور في ( باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم ، و أنهم إذا رؤا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم ) :
( حدثنا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وبن حجر قال يحيى بن يحيى أخبرنا وقال الآخرون حدثنا إسماعيل وهو بن جعفر عن محمد وهو بن أبي حرملة عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام ، قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها ، واستهل علي رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر ، فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ثم ذكر الهلال ، فقال : متى رأيتم الهلال ؟ فقلت : رأيناه ليلة الجمعة . فقال : أنت رأيته ؟ فقلت : نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية . فقال : لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه . فقلت : أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال : لا . هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وشك يحيى بن يحيى في نكتفي أو تكتفي . ) .
فلم تجزئ رؤية أهل الشام للهلال عند أهل المدينة لكي يصوموا عليها .
و هذا واضح من قول ابن عباس رضي الله عنهما لكريب لما سأله ( أو لا تكتفي برؤية معاوية و صيامه ؟ ) : فأجابه ( لا ) . و هذا موضع الاستشهاد و الاحتجاج .
قال الإمام أبو العباس القرطبي في كتابه " المفهم " : " ألا ترى أن معاوية أمير المؤمنين قد صام بالرؤية و صام الناس بها بالشام ، ثم لم يلتفت ابن عباس [ رضي الله عنهما ] إلى ذلك ، بل بقى على حكم رؤيته هو " .و كذا أهل المدينة المنورة .
* و الشاهد منه ثلاثة أمور :
الأول : أنه كان لأهل كل بلد ( ولاية أو قطر ) رؤيتهم لهلال رمضان . كالشام و الحجاز و نحوهما .
و كان ذلك في عصر الصحابة ( ابن عباس و معاوية رضي الله عنهم ) ، مع وجودهم جميعا في دولة الخلافة الأموية ، بإمرة معاوية ابن أبي سفيان . فتمت مراعاة تباعد البلاد .
الثاني : أن رؤية بلد للهلال غير معتبرة شرعا لغيره من البلاد الأخرى في مثل ذلك التباعد و نحوه . فلا يكتفى بها لغيره من البلاد و لا تلزمه من باب أولى ؛ إذ لو كانت معتبرة للزم منها قضاء اليوم الفائت على من أفطروه و لم يصوموه ، و هو ما لم يثبت ، و لو وقع لنقل ؛ و إذ لم ينقل قضاؤه – في مسألة كهذه متعلقة بعموم المسلمين و عبادتهم – : علم عدم اعتبارها من جهة الشرع .
و في مثل ذلك قال ابن تيمية – في " مجموع الفتاوى " – نافيا القول بوجوب قضاء اليوم الأول الفائت : ( و الحجة فيه أنّا نعلم بيقين انه ما زال فى عهد الصحابة والتابعين يرى الهلال في بعض امصار المسلمين بعد بعض ؛ فإن هذا من الامور المعتادة التى لا تبديل لها ولابد ان يبلغهم الخبر في اثناء الشهر ، فلو كانوا يجب عليهم القضاء لكانت هممهم تتوفر على البحث عن رؤيته فى سائر بلدان الاسلام كتوفرها على البحث عن رؤيته فى بلده ولكان القضاء يكثر فى اكثر الرمضانات ومثل هذا لو كان لنقل ؛ ولمّا لم ينقل دلّ على انه لا أصل له ، وحديث ابن عباس يدل على هذا ) .
و كذا قال : وما من من شىء فى الشريعة يمكن وجوبه الا والاحتياط مشروع فى أدائه فلما لم يشرع الاحتياط فى ادائه قطعنا بانه لا وجوب مع بعد الرائى .
و هو - و إن كان يرى أن العبرة ببلوغ خبر الرؤية – و إن قاله احتجاجا على أصحابه الحنابلة في قولهم بوجوب قضاء ذلك اليوم على كل من بلغهم خبر الرؤية ؛ إلا أنه يصلح و يصدق على مسألتنا أيضا .
و لا يقال : كان ذلك لتعذر بلوغ تلك الرؤية و العلم بخبرها وقتئذ للبلد الآخر ؛ فقد قيل بوجوب قضاء نظيره ؛ إذ " روى ٱبن وهب وٱبن القاسم عنه في المجموعة – فيما ذكره القرطبي - أن أهل البصرة إذا رأوا هلال رمضان ثم بلغ ذلك إلى أهل الكوفة والمدينة واليمن أنه يلزمهم الصيام أو القضاء إن فات الأداء ". و هذا لم ينقل وقوعه في زمن الصحابة ذاك ؛ فدلّ على أن المانع من اعتبار ابن عباس و أهل المدينة لرؤية معاوية و أهل الشام لم يكن لما اعتلوا به من تعذر العلم بخبر الرؤية – و قد بلغهم قبل انسلاخ الشهر – و إنما كان لأن لأهل كل بلد رؤيتهم عند تباعد البلاد ؛ و موافقة هذا لترجمة الباب في " صحيح مسلم " ظاهرة .
الأمر الثالث : أنه لا اعتبار في الشرع – في قضية توحيد رؤية الهلال - لدعوى " الاشتراك في جزء من الليل " بين الأقطار ؛ إذ لا شك في اشتراك بلاد الشام و الحجاز في جزء من الليل : معظمه و أكثره ، و لم يعتبر حيبذاك ؛ فدلّ على عدم اعتباره من جهة الشرع ؛ فلا يلتفت للقول به و لا يعّول عليه .
و يؤيد هذا ما ترجم لذلك الحديث إمام الأئمة ابن خزيمة في " صحيحه " ب
( باب الدليل على أن الواجب على أهل كل بلدة صيام رمضان لرؤيتهم لا رؤية غيرهم )
( حدثنا علي بن حجر السعدي نا إسماعيل يعني بن جعفر عن محمد يعني بن أبي حرملة عن كريب : أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام ، قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها ، واستهل علي هلال رمضان وأنا بالشام ، فرأينا الهلال ليلة الجمعة ورآه الناس وصاموا وصام معاوية ، فقدمت المدينة في آخر الشهر ، فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال فقال : متى رأيتم الهلال ؟ فقلت : رأيناه ليلة الجمعة . فقال : أنت رأيته ليلة الجمعة ؟ قلت : نعم أنا رأيته ليلة الجمعة ورآه الناس وصاموا وصام معاوية . قال : لكننا رأيناه ليلة السبت ، فلا نزال نصومه حتى نكمل ثلاثين أو نراه . فقلت : أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟ قال : لا . هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .
• * * *
و لا حجة لمن دفع الاحتجاج بمقتضى ذلك الحديث الصحيح بقول البيهقي : ( ويحتمل أن يكون ابن عباس أراد ما روي عنه في قصة أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمده لرؤيته أو تكمل العدة ، ولم يثبت عنده رؤيته ببلد آخر بشهادة رجلين حتى تكمل العدة على رؤيته ، لانفراد كريب بهذا الخبر فلم يقبله ) : فاحتمال غير وارد ؛ لاختلاف محلّي الحديث ، إذ محلّه هنا : إذا غمّ الهلال – أي حال دون رؤيته غيم و غيره - ، ففيه : ( أهللنا رمضان ونحن بذات عرق . فأرسلنا رجلا إلى ابن عباس رضي الله عنه يسأله . فقال ابن عباس رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قد أمده لرؤيته . فإن أغمى عليكم فأكملوا العدة " ) . أما احتمال ردّ ابن عباس لكلام كريب لعدم ثبوت الرؤية عنده إلا بشاهدين : فيردّه ما رواه ابن عباس نفسه من الحديث : " جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني أبصرت الهلال الليلة فقال تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فقال نعم فقال قم يا فلان فأذن في الناس فليصوموا " . ففيه قبول شهادة الأعرابي و كان وحده ، و ابن عباس هو راوي الحديث و هو القائل لكريب بالمدينة : " لا " لمّا سأله : ( أ و لا تكتفي برؤية معاوية و صيامة ) و كان بالشام . و قد رد ابن العربي ذلك الاحتمال ، فقال : " لأن كُرَيْباً لم يشهد وإنما أخبر عن حكم ثبت بالشهادة، ولا خلاف في الحكم الثابت أنه يجزى فيه خبر الواحد " .
و عليه فقول البيهقي أيضا : ( ويكون قوله – أي ابن عباس - : " لا " : فتوى من جهته ، قياساً على هذا الخبر ) فيه نظر ؛ لأن محل الخبر : إغماء الهلال عند الرؤية ، و قياسه على الخبر لا وجه له ؛ لاختلاف محل الفرع عن الأصل .
ولم يكن قول ابن عباس رأيا له وحده ، بل هو ما كان عليه عمل أهل المدينة حينداك ؛ ( قال الرافعي ويروى أن ابن عباس أمر كريبا أن يقتدي بأهل المدينة ) ؛ ذكره ا بن الملقن الأنصاري في " خلاصة البدر المنير " ، و قال : (لا يحضرني ) ، وقال ابن حجر في " التلخيص الحبير " : ( ويروى ان بن عباس أمر كريبا أن يقتدي بأهل المدينة هو ظاهر من قوله : أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟ قال : " لا " ) . و هو ظاهر أكثر في قوله في الحديث : " فلا نزال نصومه حتى نكمل ثلاثين أو نراه " ؛ بصيغة الجمع .
* * *ٍ
2 - و أما الإجماع ( والمؤيد لمقتضى النص المذكور آنفا ، والذي ذكره الإمام أبو العباس القرطبي ) : فهو ماحكاه الإمام ابن عبد البر في كتابه " الاستذكار " ، قال : (( قد أجمعوا أنه لا تراعى الرؤية فيما أخر من البلدان كالأندلس من خراسان ، وكذلك كل بلد له رؤيته ، إلا ما كان كالمصر الكبير وما تقاربت أقطاره من بلاد المسلمين والله أعلم )) .
و ما ادعاه البعض من ضعف إجماعات ابن عبد البر : فلا يدفع ذلك الإجماع ، إذ ذكره و قبله و لم يضعفه كثير من الأئمة : منهم أبو العباس القرطبي في " المفهم " ، و أبو عبد الله القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " ، و ابن حجر في " فتح الباري " ، ، و كذا ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " ، و قال في استدلال ابن حنبل بقبول النبي صلى الله عليه و سلم شهادة الأعرابي برؤية الهلال: " و هذا لا ينافي ما ذكره ابن عبد البر " . و قال ابن رشد في " بداية المجتهد " : " وأجمعوا أنه لا يراعى ذلك في البلدان النائية كالأندلس والحجاز " .
و لا يعقل اتفاق مثل هؤلاء الأئمة في الوقوع في الخطأ فيما حكوه من إجماع .
و قد قال القرطبي في تفسيره " وإذا صح الإجماع بعد الخلاف كان مسقطا للخلاف " .
و دليله ما استقر عليع العمل بوجوب الغسل بمجرد إلتقاء الختانين ، بعد الخلاف المتقدم في عصر الصحابة في الإنزال .
و " الإجماع " : هو ثالث أدلة التشريع في الإسلام المتفق عليها عند الجمهور ، بعد الكتاب و السنّة ؛ فهو حجّة ملزمة في محل المسألة .
* * *
3 - و قد بيّن الإمام أبو العباس القرطبي في كتابه " المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم " أن ذلك الإجماع لا يعارضه الخلاف المنقول بين العلماء ( في اعتبار رؤية أهل بلد للهلال رؤية لغيره من البلاد و عدم اعتباره ) ؛ قال : ( و هذا الإجماع الذي حكاه أبو عمر يدل : على أن الخلاف الواقع في هذه المسألة إنما هو فيما تقارب من البلاد ، و لم يكن في حكم القطر الواحد ) .
- أما فيما تباعد من الأقطار " كتباعد بلاد الشام من الحجاز أو ما قارب ذلك : فالواجب على أهل كل بلد أن تعمل على رؤيته ، دون رؤية غيره " ، قاله الإمام القرطبي في " المفهم " و قال في الحديث المذكور آنفا : " فهو حجة على أن البلاد إذا تباعدت كتباعد .... " .
•** و إنما وقع اللبس في مفهوم كلمة " البلد أو البلاد " الواردة في كلام الأئمة : فالخلاف : كان في اعتبار رؤية بلد من بلاد القطر الواحد و ما تقارب من بلاد المسلمين ، أما الإجماع : فكان في عدم اعتبار رؤية ما تباعد من البلاد و الأقطار .
• و قد حكى الإمام ابن عبد البر ذلك الإجماع في كتابه " الاستذكار " عقب ذكره الخلاف المنقول عن العلماء ؛ فهو لم يكن غافلا عنه ، و محله فيما تقارب من البلدان ؛ كما قال أبو العباس القرطبي في " المفهم " ، و أما فيما بعد من البلاد فالإجماع على عدم اعتبارها ، و ما ذكره بعض الفقهاء خلاف هذا فهو من تخريجاتهم هم على أقوال الأئمة أصحاب المذاهب الأربعة ، و هو من قبيل التمثيل لكلمة البلد أو البلاد التي جاءت في كلامهم ، و ليست منه بنصّها .
•و الحديث الصحيح حجة قاطعة في ذلك ؛ فهو بمفرده ملزم للجميع ما دام ثبتت صحته ، و ما دامت دلالته صريحة .
و يؤكده ما ترجم له أئمة الحديث في مصنفاتهم ، و تراجمهم للأحاديث هي فقههم ، فقد ترجم له :
أ - الإمام مسلم في صحيحه بقوله : باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم ، و أنهم إذا رؤا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم ) .
ب - و إمام الأئمة ابن خزيمة في " صحيحه " بقوله :
( باب الدليل على أن الواجب على أهل كل بلدة صيام رمضان لرؤيتهم لا رؤية غيرهم )
ج - و الإمام الترمذي في " سننه " بقوله : ( باب ما جاء لكل أهل بلد رؤيتهم )
و قال : ( و العمل على هذا الحديث عند أهل العلم أن لكل أهل بلد رؤيتهم ) .
قال ابن حجر عن قول الترمذي هذا : ( و لم يحك سواه ) . إشارة إلى عادة الترمذي في ذكر الأقوال المختلفة إن وجدت . و لما " لم يحك سواه " فدلّ على أنه القول الوحيد في المسألة ( عند تباعد البلاد تباعد بلاد الشام و الحجاز و نحوهما ) .
- و لا حجة للمخالف في احتجاجه بعموم حديث " صوموا لرؤيته ، و أفطروا لرؤيته " ؛ إذ يدلّ على وجوب الصيام على جميع من رأوا الهلال – و هذا هو محلّ الحديث - و ليس فيه دليل على وجوبه على أهل البلاد التي لم تره ، بل هو حجّة لمن لم يصوموا على رؤية البلد الآخر ؛ حيث إنهم لم يروه ؛ فلم يلزمهم الصيام حينئذ ، و يؤيد ذلك عموم قوله صلى الله عليه و سلم : " إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له " . [ صحيح مسلم ] .
و قد ترجم له في صحيح مسلم ب ( باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال و الفطر لرؤيته ، و إذا غمّ في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوما ) ، و قد ترجم له ابن خزيمة في " صحيحه " ب ( باب التسوية بين الزجر عن صيام رمضان إذا لم يغمّ الهلال و بين الزجر عن إفطار رمضان قبل رؤية هلال شوال إذا لم يغمّ الهلال ) ، و كذا ترجم له ابن حبان في " صحيحه " ب ( ذكر الزجر عن أن يصوم المرء اليوم الذي يشكّ فيه أمن شعبان هو أم من رمضان ) . و إذا كان هذا الزجر في يوم الشك فهو فيما لم ير أصلا أولى ؛ فكيف يصام ؟!
و القول بلزومه عندئذ يخالف الإجماع الذي ذكره ابن المنذر ؛ ( فقال في " الإشراف " : " صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة " ) .
** و عليه : فالقول بجواز اعتبار رؤية بلد ( قطر ) كالسعودية مثلا ، و أهل الفتوى فيها لم يقولوا به [ 2 ] - رؤية لغيره مما تباعد عنه كسوريا أو الأردن أو فلسطين و لبنان ( بلاد الشام ) و نحوها من البلاد ، و كذا غيرها الأبعد منها من باب أولى : قول غير صحيح شرعا ، لمخالفته النص الصحيح و الإجماع الصريح . و هو ما نصّ عليه قرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي بقوله " فما يدعيه القائلون من وجوب الاتحاد في يومي الصوم والإفطار مخالف لما جاء شرعًا وعقلاً " .
هذا ، و الله تعالى أعلم .
كتبه
د . أبو بكر عبد الستار خليل
غفر الله له و لآله
--------------------------------------------------------------------------------------------------------------
[ 1 ] رقم القرار: 7
رقم الدورة: 4
في بيان توحيد الأهلة من عدمه
مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي 15/10/1425
28/11/2004
[ في بيــان توحــيد الأهــلة من عــدمه:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. أما بعد: لقد درس المجمع الفقهي الإسلامي مسألة اختلاف المطالع في بناء الرؤية عليها، فرأى أن الإسلام بني على أنه دين يسر وسماحة، تقبله الفطرة السليمة، والعقول المستقيمة، لموافقته للمصالح، ففي مسألة الأهلة، ذهب إلى إثباتها بالرؤية البصرية لا على اعتمادها على الحساب، كما تشهد به الأدلة الشرعية القاطعة، كما ذهب إلى اعتبار اختلاف المطالع، لما في ذلك من التخفيف على المكلفين، مع كونه هو الذي يقتضيه النظر الصحيح، فما يدعيه القائلون من وجوب الاتحاد في يومي الصوم والإفطار مخالف لما جاء شرعًا وعقلاً، أما شرعًا فقد أورد أئمة الحديث حديثَ كريب، وهو أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام، فقضيت حاجتها، فاستهل علي شهر رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أولا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا ] .
================================================================================
قرار مجمع الفقه هذا نقلا عن موقع " الإسلام اليوم " ، و رابطه :
http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=24&catid=184&artid=4551
================================================================================
[ 2 ] قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية :
________________________________________
س2: هل يمكن أن يصوم أهل أفريقيا برؤية أهل مكة؟
ج2: قد صدر بهذه المسألة قرار من هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية هذا مضمونه :
[ أولاً: اختلاف مطالع الأهلة من الأمور التي علمت بالضرورة حساً وعقلاً، ولم يختلف فيها أحد من العلماء، وإنما وقع الاختلاف بين علماء المسلمين في: اعتبار خلاف المطالع، وعدم اعتباره.
ثانياً: مسألة اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره من المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال، والاختلاف فيها واقع ممن لهم الشأن في العلم والدين، وهو من الخلاف السائغ الذي يؤجر فيه المصيب أجرين: أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة، ويؤجر فيه المخطئ أجر الاجتهاد.
وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين: فمنهم من رأى اعتبار اختلاف المطالع، ومنهم من لم ير اعتباره. واستدل كل فريق منهما بأدلة من الكتاب والسنة، وربما استدل الفريقان بالنص الواحد كاشتراكهما في الاستدلال بقوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} وبقوله -صلى الله عليه وسلم-: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) الحديث. وذلك لاختلاف الفهم في النص وسلوك كل منهما طريقاً في الاستدلال به.
ونظرا لاعتبارات رأتها الهيئة وقدرتها، ونظراً إلى أن الاختلاف في هذه المسألة ليست له آثار تخشى عواقبها، فقد مضى على ظهور هذا الدين أربعة عشر قرناً، لانعلم فيها فترة جرى فيها توحيد الأمة الإسلامية على رؤية واحدة. فإن أعضاء مجلس هيئة كبار العلماء يرون بقاء الأمر على ماكان عليه. وعدم إثارة هذا الموضوع، وأن يكون لكل دولة إسلامية حق اختيار ماتراه بواسطة علمائها من الرأيين المشار إليهما في المسألة، إذ لكل منهما أدلته ومستنداته ]
===================================================================================.
هذا القرار لهيئة كبار العلماء بالمملكة السعودية نقلا عن منتديات " شبكة الشريعة الإسلامية " ، و رابطه :
http://www.sharee3a.net/vb/showthread.php?t=2567
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على المبعوث رحمة و هداية للعالمين سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين . أما بعد
فقد تقدمت مشاركات لي في بيان مخالفة القول بتوحيد رؤية الأهلة للنصّ و الإجماع ، ثم رأيت أن أفرد للمسألة بحثا أكثر بيانا و تفصيلا ، وآثرت وضعه في مشاركة مستقلة :
---------------------------------------------------------
توحيد رؤية الأهلة مخالف للأدلة
عند تباعد البلاد
عند تباعد البلاد
* برزت منذ مدة دعوة لما سمي " بتوحيد رؤية الهلال " – و بخاصة هلال شهر رمضان – و ذلك لتوحيد يوم بدء صيام رمضان بين معظم الدول الإسلامية ، بدعوى العمل على وحدة المسلمين في أقطار الأرض في تلك الشعيرة .
و هو مقصد حسن شرعا ، و لكن وسيلته تلك محل نظر .
و من المثير للعجب استمرار تلك الدعوة بعد أن انقلبت إلى عكس الغرض المقصود منها ؛ إذ أدت إلى تفرق أهل الوطن الواحد و اختلافهم في يوم بدء صومهم ؛ فالبعض يصوم يوم ثبوت رؤية هلال بلده ، بينما البعض الآخر في نفس القطر يصوم في يوم آخر تبعا لرؤية هلال قطر آخر ! فكأننا نفترق في البلد الواحد لنجتمع مع البلد الآخر !
تناقض ما بعده تناقض ، حيث يفترق المتفق و يختلف المؤتلف في الوطن الواحد بزعم تجميع المختلف من البلاد . فأيهما أولى بالوحدة ؟ { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذى هو خير } ؟ - و الباء تدخل على المتروك – { ما لكم كيف تحكمون } ؟!
* * *
و يقولون إن ذلك هو الأمر الراجح ، و لن نقول إنه المرجوح عن غيره ، بل نقول إنه ( غير مشروع ) أصلا : أي أن القول بتوحيد رؤية الأهلة عند بعد البلاد مخالف لأدلة الشرع الحكيم . و هو ما سنبينه بعد إن شاء الله .
و قد نصّ على تلك المخالفة للشرع مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي ؛ فقد جاء في قراره – رقم 7 – بخصوص ( بيان توحيد الأهلة من عدمه ) ما يلي : " فما يدعيه القائلون من وجوب الاتحاد في يومي الصوم والإفطار مخالف لما لما جاء شرعًا وعقلاً " ، و ذلك في الدورة الرابعة لانعقاده بتاريخ 15/10/ 1425 هـ ( الموافق 28/11/2004 م ) ، و سيأتي ذكره بعد . [ 1 ]
و المقصود بقولهم " توحيد رؤية الهلال " : أن تكون رؤية أهل بلد ( قطر ) للهلال رؤية معتبرة شرعا لغيرهم من أهل البلاد الأخرى ، المشتركة معه في جزء من الليل ، قلّ أو كثر ؛ يبنون صيامهم و غيره عليها .
و عليه : فرؤية أهل بلد ( قطر ) للهلال هي رؤية - يدّعونها معتبرة شرعا - لكثير غيره من البلاد العربية و الإسلامية ، و هذا أمر غير مسلّم ، بل غير معتبر من جهة الشرع ؛ فلا اعتبار في الشرع لذلك الاشتراك في جزء من الليل عند رؤية الهلال حال تباعد البلاد ، و المخالف عليه الدليل ، والقول بتوحيد رؤية الهلال على هذا المعنى ( و في غير بلاد القطر الواحد ) مخالف للنص الصحيح و الإجماع الصريح:
1 – أما النص : فهو حديث صحيح الثبوت أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " ، كما أنه صريح الدلالة لمن يتأمله ، و هو حديث مذكور في ( باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم ، و أنهم إذا رؤا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم ) :
( حدثنا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وبن حجر قال يحيى بن يحيى أخبرنا وقال الآخرون حدثنا إسماعيل وهو بن جعفر عن محمد وهو بن أبي حرملة عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام ، قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها ، واستهل علي رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر ، فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ثم ذكر الهلال ، فقال : متى رأيتم الهلال ؟ فقلت : رأيناه ليلة الجمعة . فقال : أنت رأيته ؟ فقلت : نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية . فقال : لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه . فقلت : أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال : لا . هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وشك يحيى بن يحيى في نكتفي أو تكتفي . ) .
فلم تجزئ رؤية أهل الشام للهلال عند أهل المدينة لكي يصوموا عليها .
و هذا واضح من قول ابن عباس رضي الله عنهما لكريب لما سأله ( أو لا تكتفي برؤية معاوية و صيامه ؟ ) : فأجابه ( لا ) . و هذا موضع الاستشهاد و الاحتجاج .
قال الإمام أبو العباس القرطبي في كتابه " المفهم " : " ألا ترى أن معاوية أمير المؤمنين قد صام بالرؤية و صام الناس بها بالشام ، ثم لم يلتفت ابن عباس [ رضي الله عنهما ] إلى ذلك ، بل بقى على حكم رؤيته هو " .و كذا أهل المدينة المنورة .
* و الشاهد منه ثلاثة أمور :
الأول : أنه كان لأهل كل بلد ( ولاية أو قطر ) رؤيتهم لهلال رمضان . كالشام و الحجاز و نحوهما .
و كان ذلك في عصر الصحابة ( ابن عباس و معاوية رضي الله عنهم ) ، مع وجودهم جميعا في دولة الخلافة الأموية ، بإمرة معاوية ابن أبي سفيان . فتمت مراعاة تباعد البلاد .
الثاني : أن رؤية بلد للهلال غير معتبرة شرعا لغيره من البلاد الأخرى في مثل ذلك التباعد و نحوه . فلا يكتفى بها لغيره من البلاد و لا تلزمه من باب أولى ؛ إذ لو كانت معتبرة للزم منها قضاء اليوم الفائت على من أفطروه و لم يصوموه ، و هو ما لم يثبت ، و لو وقع لنقل ؛ و إذ لم ينقل قضاؤه – في مسألة كهذه متعلقة بعموم المسلمين و عبادتهم – : علم عدم اعتبارها من جهة الشرع .
و في مثل ذلك قال ابن تيمية – في " مجموع الفتاوى " – نافيا القول بوجوب قضاء اليوم الأول الفائت : ( و الحجة فيه أنّا نعلم بيقين انه ما زال فى عهد الصحابة والتابعين يرى الهلال في بعض امصار المسلمين بعد بعض ؛ فإن هذا من الامور المعتادة التى لا تبديل لها ولابد ان يبلغهم الخبر في اثناء الشهر ، فلو كانوا يجب عليهم القضاء لكانت هممهم تتوفر على البحث عن رؤيته فى سائر بلدان الاسلام كتوفرها على البحث عن رؤيته فى بلده ولكان القضاء يكثر فى اكثر الرمضانات ومثل هذا لو كان لنقل ؛ ولمّا لم ينقل دلّ على انه لا أصل له ، وحديث ابن عباس يدل على هذا ) .
و كذا قال : وما من من شىء فى الشريعة يمكن وجوبه الا والاحتياط مشروع فى أدائه فلما لم يشرع الاحتياط فى ادائه قطعنا بانه لا وجوب مع بعد الرائى .
و هو - و إن كان يرى أن العبرة ببلوغ خبر الرؤية – و إن قاله احتجاجا على أصحابه الحنابلة في قولهم بوجوب قضاء ذلك اليوم على كل من بلغهم خبر الرؤية ؛ إلا أنه يصلح و يصدق على مسألتنا أيضا .
و لا يقال : كان ذلك لتعذر بلوغ تلك الرؤية و العلم بخبرها وقتئذ للبلد الآخر ؛ فقد قيل بوجوب قضاء نظيره ؛ إذ " روى ٱبن وهب وٱبن القاسم عنه في المجموعة – فيما ذكره القرطبي - أن أهل البصرة إذا رأوا هلال رمضان ثم بلغ ذلك إلى أهل الكوفة والمدينة واليمن أنه يلزمهم الصيام أو القضاء إن فات الأداء ". و هذا لم ينقل وقوعه في زمن الصحابة ذاك ؛ فدلّ على أن المانع من اعتبار ابن عباس و أهل المدينة لرؤية معاوية و أهل الشام لم يكن لما اعتلوا به من تعذر العلم بخبر الرؤية – و قد بلغهم قبل انسلاخ الشهر – و إنما كان لأن لأهل كل بلد رؤيتهم عند تباعد البلاد ؛ و موافقة هذا لترجمة الباب في " صحيح مسلم " ظاهرة .
الأمر الثالث : أنه لا اعتبار في الشرع – في قضية توحيد رؤية الهلال - لدعوى " الاشتراك في جزء من الليل " بين الأقطار ؛ إذ لا شك في اشتراك بلاد الشام و الحجاز في جزء من الليل : معظمه و أكثره ، و لم يعتبر حيبذاك ؛ فدلّ على عدم اعتباره من جهة الشرع ؛ فلا يلتفت للقول به و لا يعّول عليه .
و يؤيد هذا ما ترجم لذلك الحديث إمام الأئمة ابن خزيمة في " صحيحه " ب
( باب الدليل على أن الواجب على أهل كل بلدة صيام رمضان لرؤيتهم لا رؤية غيرهم )
( حدثنا علي بن حجر السعدي نا إسماعيل يعني بن جعفر عن محمد يعني بن أبي حرملة عن كريب : أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام ، قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها ، واستهل علي هلال رمضان وأنا بالشام ، فرأينا الهلال ليلة الجمعة ورآه الناس وصاموا وصام معاوية ، فقدمت المدينة في آخر الشهر ، فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال فقال : متى رأيتم الهلال ؟ فقلت : رأيناه ليلة الجمعة . فقال : أنت رأيته ليلة الجمعة ؟ قلت : نعم أنا رأيته ليلة الجمعة ورآه الناس وصاموا وصام معاوية . قال : لكننا رأيناه ليلة السبت ، فلا نزال نصومه حتى نكمل ثلاثين أو نراه . فقلت : أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟ قال : لا . هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .
• * * *
و لا حجة لمن دفع الاحتجاج بمقتضى ذلك الحديث الصحيح بقول البيهقي : ( ويحتمل أن يكون ابن عباس أراد ما روي عنه في قصة أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمده لرؤيته أو تكمل العدة ، ولم يثبت عنده رؤيته ببلد آخر بشهادة رجلين حتى تكمل العدة على رؤيته ، لانفراد كريب بهذا الخبر فلم يقبله ) : فاحتمال غير وارد ؛ لاختلاف محلّي الحديث ، إذ محلّه هنا : إذا غمّ الهلال – أي حال دون رؤيته غيم و غيره - ، ففيه : ( أهللنا رمضان ونحن بذات عرق . فأرسلنا رجلا إلى ابن عباس رضي الله عنه يسأله . فقال ابن عباس رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قد أمده لرؤيته . فإن أغمى عليكم فأكملوا العدة " ) . أما احتمال ردّ ابن عباس لكلام كريب لعدم ثبوت الرؤية عنده إلا بشاهدين : فيردّه ما رواه ابن عباس نفسه من الحديث : " جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني أبصرت الهلال الليلة فقال تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فقال نعم فقال قم يا فلان فأذن في الناس فليصوموا " . ففيه قبول شهادة الأعرابي و كان وحده ، و ابن عباس هو راوي الحديث و هو القائل لكريب بالمدينة : " لا " لمّا سأله : ( أ و لا تكتفي برؤية معاوية و صيامة ) و كان بالشام . و قد رد ابن العربي ذلك الاحتمال ، فقال : " لأن كُرَيْباً لم يشهد وإنما أخبر عن حكم ثبت بالشهادة، ولا خلاف في الحكم الثابت أنه يجزى فيه خبر الواحد " .
و عليه فقول البيهقي أيضا : ( ويكون قوله – أي ابن عباس - : " لا " : فتوى من جهته ، قياساً على هذا الخبر ) فيه نظر ؛ لأن محل الخبر : إغماء الهلال عند الرؤية ، و قياسه على الخبر لا وجه له ؛ لاختلاف محل الفرع عن الأصل .
ولم يكن قول ابن عباس رأيا له وحده ، بل هو ما كان عليه عمل أهل المدينة حينداك ؛ ( قال الرافعي ويروى أن ابن عباس أمر كريبا أن يقتدي بأهل المدينة ) ؛ ذكره ا بن الملقن الأنصاري في " خلاصة البدر المنير " ، و قال : (لا يحضرني ) ، وقال ابن حجر في " التلخيص الحبير " : ( ويروى ان بن عباس أمر كريبا أن يقتدي بأهل المدينة هو ظاهر من قوله : أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟ قال : " لا " ) . و هو ظاهر أكثر في قوله في الحديث : " فلا نزال نصومه حتى نكمل ثلاثين أو نراه " ؛ بصيغة الجمع .
* * *ٍ
2 - و أما الإجماع ( والمؤيد لمقتضى النص المذكور آنفا ، والذي ذكره الإمام أبو العباس القرطبي ) : فهو ماحكاه الإمام ابن عبد البر في كتابه " الاستذكار " ، قال : (( قد أجمعوا أنه لا تراعى الرؤية فيما أخر من البلدان كالأندلس من خراسان ، وكذلك كل بلد له رؤيته ، إلا ما كان كالمصر الكبير وما تقاربت أقطاره من بلاد المسلمين والله أعلم )) .
و ما ادعاه البعض من ضعف إجماعات ابن عبد البر : فلا يدفع ذلك الإجماع ، إذ ذكره و قبله و لم يضعفه كثير من الأئمة : منهم أبو العباس القرطبي في " المفهم " ، و أبو عبد الله القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " ، و ابن حجر في " فتح الباري " ، ، و كذا ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " ، و قال في استدلال ابن حنبل بقبول النبي صلى الله عليه و سلم شهادة الأعرابي برؤية الهلال: " و هذا لا ينافي ما ذكره ابن عبد البر " . و قال ابن رشد في " بداية المجتهد " : " وأجمعوا أنه لا يراعى ذلك في البلدان النائية كالأندلس والحجاز " .
و لا يعقل اتفاق مثل هؤلاء الأئمة في الوقوع في الخطأ فيما حكوه من إجماع .
و قد قال القرطبي في تفسيره " وإذا صح الإجماع بعد الخلاف كان مسقطا للخلاف " .
و دليله ما استقر عليع العمل بوجوب الغسل بمجرد إلتقاء الختانين ، بعد الخلاف المتقدم في عصر الصحابة في الإنزال .
و " الإجماع " : هو ثالث أدلة التشريع في الإسلام المتفق عليها عند الجمهور ، بعد الكتاب و السنّة ؛ فهو حجّة ملزمة في محل المسألة .
* * *
3 - و قد بيّن الإمام أبو العباس القرطبي في كتابه " المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم " أن ذلك الإجماع لا يعارضه الخلاف المنقول بين العلماء ( في اعتبار رؤية أهل بلد للهلال رؤية لغيره من البلاد و عدم اعتباره ) ؛ قال : ( و هذا الإجماع الذي حكاه أبو عمر يدل : على أن الخلاف الواقع في هذه المسألة إنما هو فيما تقارب من البلاد ، و لم يكن في حكم القطر الواحد ) .
- أما فيما تباعد من الأقطار " كتباعد بلاد الشام من الحجاز أو ما قارب ذلك : فالواجب على أهل كل بلد أن تعمل على رؤيته ، دون رؤية غيره " ، قاله الإمام القرطبي في " المفهم " و قال في الحديث المذكور آنفا : " فهو حجة على أن البلاد إذا تباعدت كتباعد .... " .
•** و إنما وقع اللبس في مفهوم كلمة " البلد أو البلاد " الواردة في كلام الأئمة : فالخلاف : كان في اعتبار رؤية بلد من بلاد القطر الواحد و ما تقارب من بلاد المسلمين ، أما الإجماع : فكان في عدم اعتبار رؤية ما تباعد من البلاد و الأقطار .
• و قد حكى الإمام ابن عبد البر ذلك الإجماع في كتابه " الاستذكار " عقب ذكره الخلاف المنقول عن العلماء ؛ فهو لم يكن غافلا عنه ، و محله فيما تقارب من البلدان ؛ كما قال أبو العباس القرطبي في " المفهم " ، و أما فيما بعد من البلاد فالإجماع على عدم اعتبارها ، و ما ذكره بعض الفقهاء خلاف هذا فهو من تخريجاتهم هم على أقوال الأئمة أصحاب المذاهب الأربعة ، و هو من قبيل التمثيل لكلمة البلد أو البلاد التي جاءت في كلامهم ، و ليست منه بنصّها .
•و الحديث الصحيح حجة قاطعة في ذلك ؛ فهو بمفرده ملزم للجميع ما دام ثبتت صحته ، و ما دامت دلالته صريحة .
و يؤكده ما ترجم له أئمة الحديث في مصنفاتهم ، و تراجمهم للأحاديث هي فقههم ، فقد ترجم له :
أ - الإمام مسلم في صحيحه بقوله : باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم ، و أنهم إذا رؤا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم ) .
ب - و إمام الأئمة ابن خزيمة في " صحيحه " بقوله :
( باب الدليل على أن الواجب على أهل كل بلدة صيام رمضان لرؤيتهم لا رؤية غيرهم )
ج - و الإمام الترمذي في " سننه " بقوله : ( باب ما جاء لكل أهل بلد رؤيتهم )
و قال : ( و العمل على هذا الحديث عند أهل العلم أن لكل أهل بلد رؤيتهم ) .
قال ابن حجر عن قول الترمذي هذا : ( و لم يحك سواه ) . إشارة إلى عادة الترمذي في ذكر الأقوال المختلفة إن وجدت . و لما " لم يحك سواه " فدلّ على أنه القول الوحيد في المسألة ( عند تباعد البلاد تباعد بلاد الشام و الحجاز و نحوهما ) .
- و لا حجة للمخالف في احتجاجه بعموم حديث " صوموا لرؤيته ، و أفطروا لرؤيته " ؛ إذ يدلّ على وجوب الصيام على جميع من رأوا الهلال – و هذا هو محلّ الحديث - و ليس فيه دليل على وجوبه على أهل البلاد التي لم تره ، بل هو حجّة لمن لم يصوموا على رؤية البلد الآخر ؛ حيث إنهم لم يروه ؛ فلم يلزمهم الصيام حينئذ ، و يؤيد ذلك عموم قوله صلى الله عليه و سلم : " إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له " . [ صحيح مسلم ] .
و قد ترجم له في صحيح مسلم ب ( باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال و الفطر لرؤيته ، و إذا غمّ في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوما ) ، و قد ترجم له ابن خزيمة في " صحيحه " ب ( باب التسوية بين الزجر عن صيام رمضان إذا لم يغمّ الهلال و بين الزجر عن إفطار رمضان قبل رؤية هلال شوال إذا لم يغمّ الهلال ) ، و كذا ترجم له ابن حبان في " صحيحه " ب ( ذكر الزجر عن أن يصوم المرء اليوم الذي يشكّ فيه أمن شعبان هو أم من رمضان ) . و إذا كان هذا الزجر في يوم الشك فهو فيما لم ير أصلا أولى ؛ فكيف يصام ؟!
و القول بلزومه عندئذ يخالف الإجماع الذي ذكره ابن المنذر ؛ ( فقال في " الإشراف " : " صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة " ) .
** و عليه : فالقول بجواز اعتبار رؤية بلد ( قطر ) كالسعودية مثلا ، و أهل الفتوى فيها لم يقولوا به [ 2 ] - رؤية لغيره مما تباعد عنه كسوريا أو الأردن أو فلسطين و لبنان ( بلاد الشام ) و نحوها من البلاد ، و كذا غيرها الأبعد منها من باب أولى : قول غير صحيح شرعا ، لمخالفته النص الصحيح و الإجماع الصريح . و هو ما نصّ عليه قرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي بقوله " فما يدعيه القائلون من وجوب الاتحاد في يومي الصوم والإفطار مخالف لما جاء شرعًا وعقلاً " .
هذا ، و الله تعالى أعلم .
كتبه
د . أبو بكر عبد الستار خليل
غفر الله له و لآله
--------------------------------------------------------------------------------------------------------------
[ 1 ] رقم القرار: 7
رقم الدورة: 4
في بيان توحيد الأهلة من عدمه
مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي 15/10/1425
28/11/2004
[ في بيــان توحــيد الأهــلة من عــدمه:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. أما بعد: لقد درس المجمع الفقهي الإسلامي مسألة اختلاف المطالع في بناء الرؤية عليها، فرأى أن الإسلام بني على أنه دين يسر وسماحة، تقبله الفطرة السليمة، والعقول المستقيمة، لموافقته للمصالح، ففي مسألة الأهلة، ذهب إلى إثباتها بالرؤية البصرية لا على اعتمادها على الحساب، كما تشهد به الأدلة الشرعية القاطعة، كما ذهب إلى اعتبار اختلاف المطالع، لما في ذلك من التخفيف على المكلفين، مع كونه هو الذي يقتضيه النظر الصحيح، فما يدعيه القائلون من وجوب الاتحاد في يومي الصوم والإفطار مخالف لما جاء شرعًا وعقلاً، أما شرعًا فقد أورد أئمة الحديث حديثَ كريب، وهو أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام، فقضيت حاجتها، فاستهل علي شهر رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أولا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا ] .
================================================================================
قرار مجمع الفقه هذا نقلا عن موقع " الإسلام اليوم " ، و رابطه :
http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=24&catid=184&artid=4551
================================================================================
[ 2 ] قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية :
________________________________________
س2: هل يمكن أن يصوم أهل أفريقيا برؤية أهل مكة؟
ج2: قد صدر بهذه المسألة قرار من هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية هذا مضمونه :
[ أولاً: اختلاف مطالع الأهلة من الأمور التي علمت بالضرورة حساً وعقلاً، ولم يختلف فيها أحد من العلماء، وإنما وقع الاختلاف بين علماء المسلمين في: اعتبار خلاف المطالع، وعدم اعتباره.
ثانياً: مسألة اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره من المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال، والاختلاف فيها واقع ممن لهم الشأن في العلم والدين، وهو من الخلاف السائغ الذي يؤجر فيه المصيب أجرين: أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة، ويؤجر فيه المخطئ أجر الاجتهاد.
وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين: فمنهم من رأى اعتبار اختلاف المطالع، ومنهم من لم ير اعتباره. واستدل كل فريق منهما بأدلة من الكتاب والسنة، وربما استدل الفريقان بالنص الواحد كاشتراكهما في الاستدلال بقوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} وبقوله -صلى الله عليه وسلم-: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) الحديث. وذلك لاختلاف الفهم في النص وسلوك كل منهما طريقاً في الاستدلال به.
ونظرا لاعتبارات رأتها الهيئة وقدرتها، ونظراً إلى أن الاختلاف في هذه المسألة ليست له آثار تخشى عواقبها، فقد مضى على ظهور هذا الدين أربعة عشر قرناً، لانعلم فيها فترة جرى فيها توحيد الأمة الإسلامية على رؤية واحدة. فإن أعضاء مجلس هيئة كبار العلماء يرون بقاء الأمر على ماكان عليه. وعدم إثارة هذا الموضوع، وأن يكون لكل دولة إسلامية حق اختيار ماتراه بواسطة علمائها من الرأيين المشار إليهما في المسألة، إذ لكل منهما أدلته ومستنداته ]
===================================================================================.
هذا القرار لهيئة كبار العلماء بالمملكة السعودية نقلا عن منتديات " شبكة الشريعة الإسلامية " ، و رابطه :
http://www.sharee3a.net/vb/showthread.php?t=2567