ناصر عبد الغفور
Member
بسم1
المبحث الثاني: دعوى المسشترقين في الميزان:
إن مجرد عرض دعوى بعض المستشرقين في أن سبب ظهور القراءات و تعددها هو خلو المصاحف أو الكتابة عموما من الإعجام و الشكل، مجرد عرض هذه الدعوى يكفي في ردها، فهذه لا شك مغالطة كبيرة و افتراء من هؤلاء الأعداء الذين ما تركوا وسيلة للنيل من مقدساتنا و على رأسها كتاب ربنا إلا اعتمدوها لتشكيك المسلمين في هذه المقدسات، و الذي لا أشك فيه أن هذا يدخل في غزوهم الفكري الذي رأى الغرب أنه أكثر فعالية من الغزو العسكري.
و هذه بعض الوجوه تبين تهافت هذه الدعوى في ميزان الحق و العدل:
المطلب الأول: تكذيب التاريخ لهذه الفرية:
فالتاريخ خير شاهد و أصدق مخبر يدل على أن القرآن الكريم جميع قراءاته كان محفوظا في صدور أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل أن تكتب المصاحف، في عهد عثمان بل قبل أن يجمع القرآن في عهد الصديق رضي الله عنهما، كما أنه لما كتبت المصاحف العثمانية، لم يكتف عثمان رضي الله عنه بإرسالها إلى الأمصار وحدها، بل أرسل مع كل مصحف عالما من علماء القراءة يعلم المسلمين القرآن وفق هذا المصحف: فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدينة و بعث عبد الله بن السائب إلى مكة و المغيرة ابن شهاب إلى الشام و عامر بن عبد قيس إلى البصرة و أبا عبد الرحمن السلمي إلى الكوفة، فكان كل واحد من هؤلاء العلماء يقرئ أهل مصره بما تعلمه من القراءات الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بطريق التواتر التي يحتملها المصحف، دون الثابتة بطريق الآحاد و المنسوخة و إن كان يحتملها رسم المصحف.
فالمقصود من إرسال هؤلاء القراء مع المصاحف تقييد ما يحتمله الرسم من القراءات بالمنقول و الثابت منها عن طريق التواتر، فلو كانت القراءات مأخوذة من رسم المصحف و ساغ لكل إنسان أن يقرأ بكل قراءة يحتملها رسم المصحف سواء كانت ثابتة بالتواتر أم بطريق الآحاد أم كانت منسوخة أم لم يكن لها سند أصلا، لم تكن هناك حاجة إلى إرسال عالم مع المصحف .
فإذا كان القرآن يقرأ بهذه الوجوه من القراءة قبل الجمع البكري و الجمع العثماني بشهادة التاريخ، فكيف يجرأ هؤلاء المستشرقون على الجهر بهذه المغالطة و افتراء هذه الفرية التي ينسفها التاريخ نسفا و يجعلها متهافتة ظاهر زيفها و زورها؟
المطلب الثاني: تكذيب الأدلة النقلية لهذه الفرية:
نصوص كثيرة سواء من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم تدل دلالة قاطعة على أن مصدر القراءات إنما هو الوحي، و أنه لا دخل للنبي صلى الله عليه و سلم في هذه القراءات لا من قريب و لا من بعيد، و قد سبق ذكر بعضا من هذه النصوص، و قد أضيف قول الله تعالى :" و ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى"، يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسيرها:" أي: ما يقول قولا عن هوى وغرض، { إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } أي: إنما يقول ما أمر به، يبلغه إلى الناس كاملا موفَّرًا من غير زيادة ولا نقصان". فهذه الآية و غيرها تدل على أن النبي صلى الله عليه و سلم لا يمكن أن يغير من القرآن شيء، و إذ كان الأمر كذلك فمن باب أولا ألا يستطيع من هو دونه من الصحابة و التابعين و من بعدهم أن يبدلوا و لو حرفا من هذا القرآن بما فيه من وجوه القراءات.
و قد تلقى النبي صلى الله عليه و سلم القرآن من جبريل عليه السلام مشافهة و سماعا، بل إنه صلى الله عليه و سلم كان في بداية الأمر يعجل بما يتلى عليه من القرآن خشية أن يفلت منه، حتى طمأنه ربه عز و جل بقوله:" لا تحرك به لسانك لتعجل به إنا علينا جمعه و قرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إنا علينا بيانه"- القيامة:16-18-.
فإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم أمر أن يتبع قرآنه أي قراءته فهذا يعني أنه لا دخل له في هذا القرآن بتغيير أو تبديل، بل يتلقاه كما نزل من عند الله تعالى بألفاظه و وجوه قراءاته.
كذلك الأحاديث التي وردت في نزول القرآن على سبعة أحرف،- و في بعضها استشهاد الصحابة بعضهم على بعض بقول الواحد منهم:" هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه و سلم"- تدل على أن هؤلاء الصحابة الكرام لم يكن لهم دخل في تلك القراءات،و أن مستندهم كان هو السماع من رسول الله صلى الله عليه و سلم لا غير، و لذلك استغرب عمر رضي الله عنه من قراءة هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنه لما سمع قراءته فقال:" فإذا هو يقرأ على حروف لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه و سلم"، فهذا يدل دلالة قاطعة على أنه لم يكن لهم يد في تلك القراءات بل كان مرجعهم الوحيد هو التلقي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم.
و إذا كان الأمر كذلك فكيف يدعي هؤلاء المستشرقون أن نشأة القراءات و تعددها كان بسبب خلو المصاحف من النقط و الشكل؟
المطلب الثالث: تكذيب العقل لهذه الفرية:
و تكذيب العقل لدعوى المستشرقين في أن نشأة القراءات و تعددها هو خلو المصاحف من النقط و الشكل، يظهر من أنه " لو لم تكن القراءات عن طريق الوحي لكان بعض القرآن من كلام البشر، و لم يكن كله وحيا منزلا من عند الله تعالى، و لو كان الأمر كذلك لذهبت أعظم خاصية من خصائص القرآن الكريم و هي الإعجاز، و لو ذهبت عنه صفة الإعجاز لم يكن للتحدي به وجه، و لم يكن لعجز العرب عن معارضته سر، حيث أن بعضه من وضع البشر، لكن الثابت أن فصحاء العرب عجزوا عن معارضته و الإتيان بمثله بل بأقصر سورة من سوره، و هذا دليل على أن جميع القراءات منزلة من عند الله تعالى نزل بها الأمين جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه و سلم" .
فمنطق العقل السليم من كل شبهة أو هوى يشهد أن القراءات إنما مصدرها التلقي، و ليس تجرد الكتابة أو خلو المصاحف من النقط و الإعجام هو السبب في نشأتها و تعددها كما يدعي المغرضون من المستشرقين و من تأثر بسموماتهم و أشرب أفكارهم فصار ينعق بما ينعقون و يطعن كما يطعنون.
المطلب الرابع: اضطراب المستشرقين المدعين لهذه الدعوى، جولد تسيهر نموذجا:
إن المتتبع لكلام بعض المستشرقين الذين ادعوا هذه الدعوى العارية عن الصواب، يلاحظ كثيرا من الاضطراب في عرض الموضوع، فتجد الواحد منهم يدافع عن أمر ثم يصرح بما يضاده، كما يلاحظ استدلالهم بالروايات الضعيفة و اعتمادهم على القراءات الشاذة الغير الثابتة،و افتراءهم للأكاذيب الواضحة.. و لنضرب مثالا ببعض ما جاء في كتاب " مذاهب التفسير الإسلامي" للمستشرق الحقود جولد تسيهر:
- مما جاء في كلام تسيهر:" هذا النص يعرض منذ أقدم عهود الإسلام في مواضع كثيرة قراءات معتمدة على الروايات الموثوق بها.."، يقول الدكتور عبد الحليم النجار معلقا:" انظر كيف يعترف جولد سيهر بوثوق الروايات، و إذا فهل يسع منصفا إلا الإذعان و الاقتناع بتعدد قراءات القرآن".
- قال تسيهر:" فبدلا من:" فتبينوا" قرأ جماعة من ثقات القراء:" فتثبتوا".
يقول الدكتور عبد الحليم النجار متعقبا:" يعترف جولد سيهر بأن من قرأ بذلك من ثقات القراء، و ثقات القراء هم أصحاب القراءات المتواترة، فهل بعد ذلك مجال لتوهم أن الخط يعتد به في ذلك؟"
- ومما ينتقد على المستشرقين و منهم تسيهر اعتمادهم على القراءات الشاذة، يقول الدكتور الذهبي منتقدا لجولد تسيهر:" وقد ساق الكاتب أمثلة كثيرة في كتابه، كلها من هذا القبيل ولهذا الغرض بدون أن يُفرِّق بين قراءة متواترة وقراءة شاذة، ولو أنه علم ما اشترطه المسلمون لصحة القراءة وقبولها من تواترها عن صاحب الرسالة. أو صحة السند وموافقة العربية وموافقة الرسم العثماني، لما صار إلى هذا الرأي الباطل".
- و من الآيات التي استدل بها تسيهر على مذهبه الباطل: قول الله تعالى:" و نادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم و ما كنتم تستكبرون"- الأعراف:48-، قال:" قرأ بعضهم بدلا من تستكبرون بالباء الموحدة تستكثرون بالثاء المثلثة.".
و قد علق الدكتور عبد الحليم النجار على هذا بقوله:" لم تعتمد هذه القراءة-أي تستكثرون- في القراءات السبع و لا الأربع عشرة، بل هي منكرة و لا يعرف على وجه التحديد من قرأ بذلك، و حسبك هذا دليلا على أن الخط لم يكن هو المعتمد في صحة القراءة".
- و من الآيات التي استدل بها تسيهر كذلك قوله تعالى:" و ما كان استغفار ابر هيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه" بالياء المثناة التحتية، قال سيهر: و في قراءة..:" أباه" بالباء الموحدة.
و هذه القراءة-أباه- كما يقول الدكتور عبد الحليم النجار قراءة منكرة بالاتفاق، فليست من السبعة و لا الأربع عشرة، و لو كان مجرد الخط كافيا لاعتمدت.
- مما جاء في كلام الحقود تسيهر:" و هذا ينطبق في الواقع على ما جاء في سفر الخروج فصل 32 فصلة 27، الذي هو مصدر الكلمات القرآنية...".
و هذا تقول بالباطل على القرآن، بل إن مصدر القرآن هو اللوح المحفوظ ، كما قال جل و علا:" و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم" - الزخرف:4-، و كما قال جل جلاله:" وإنه لقرآن كريم في كتاب مكنون"- الواقعة:77-78-.
و يقول الدكتور عبد الحليم النجار في رده على دعوى هذا المستشرق التي يقول فيها:" و ترجع نشأة قسم كبير من هذه الاختلافات إلى خصوصية الخط العربي..":" " لم يكن الخط العربي سببا في اختلاف القراءات، بل كان مساعدا على استيعاب القراءات الصحيحة بحالته التي كان عليها عند كتابة المصاحف العثمانية من إهمال النقط و الشكل..فليست العبرة بالخط و إلا لاعتمدت قراءات يسمح الخط بها كقراءة حماد و كقراءة ابن شنبوذة و غيره..".
يتبع إن شاء الله تعالى.
القول الفصل في دعوى المستشرقين بأن تعدد القراءات يرجع إلى خلو المصاحف من الإعجام و الشكل-6/7
المبحث الثاني: دعوى المسشترقين في الميزان:
إن مجرد عرض دعوى بعض المستشرقين في أن سبب ظهور القراءات و تعددها هو خلو المصاحف أو الكتابة عموما من الإعجام و الشكل، مجرد عرض هذه الدعوى يكفي في ردها، فهذه لا شك مغالطة كبيرة و افتراء من هؤلاء الأعداء الذين ما تركوا وسيلة للنيل من مقدساتنا و على رأسها كتاب ربنا إلا اعتمدوها لتشكيك المسلمين في هذه المقدسات، و الذي لا أشك فيه أن هذا يدخل في غزوهم الفكري الذي رأى الغرب أنه أكثر فعالية من الغزو العسكري.
و هذه بعض الوجوه تبين تهافت هذه الدعوى في ميزان الحق و العدل:
المطلب الأول: تكذيب التاريخ لهذه الفرية:
فالتاريخ خير شاهد و أصدق مخبر يدل على أن القرآن الكريم جميع قراءاته كان محفوظا في صدور أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل أن تكتب المصاحف، في عهد عثمان بل قبل أن يجمع القرآن في عهد الصديق رضي الله عنهما، كما أنه لما كتبت المصاحف العثمانية، لم يكتف عثمان رضي الله عنه بإرسالها إلى الأمصار وحدها، بل أرسل مع كل مصحف عالما من علماء القراءة يعلم المسلمين القرآن وفق هذا المصحف: فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدينة و بعث عبد الله بن السائب إلى مكة و المغيرة ابن شهاب إلى الشام و عامر بن عبد قيس إلى البصرة و أبا عبد الرحمن السلمي إلى الكوفة، فكان كل واحد من هؤلاء العلماء يقرئ أهل مصره بما تعلمه من القراءات الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بطريق التواتر التي يحتملها المصحف، دون الثابتة بطريق الآحاد و المنسوخة و إن كان يحتملها رسم المصحف.
فالمقصود من إرسال هؤلاء القراء مع المصاحف تقييد ما يحتمله الرسم من القراءات بالمنقول و الثابت منها عن طريق التواتر، فلو كانت القراءات مأخوذة من رسم المصحف و ساغ لكل إنسان أن يقرأ بكل قراءة يحتملها رسم المصحف سواء كانت ثابتة بالتواتر أم بطريق الآحاد أم كانت منسوخة أم لم يكن لها سند أصلا، لم تكن هناك حاجة إلى إرسال عالم مع المصحف .
فإذا كان القرآن يقرأ بهذه الوجوه من القراءة قبل الجمع البكري و الجمع العثماني بشهادة التاريخ، فكيف يجرأ هؤلاء المستشرقون على الجهر بهذه المغالطة و افتراء هذه الفرية التي ينسفها التاريخ نسفا و يجعلها متهافتة ظاهر زيفها و زورها؟
المطلب الثاني: تكذيب الأدلة النقلية لهذه الفرية:
نصوص كثيرة سواء من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم تدل دلالة قاطعة على أن مصدر القراءات إنما هو الوحي، و أنه لا دخل للنبي صلى الله عليه و سلم في هذه القراءات لا من قريب و لا من بعيد، و قد سبق ذكر بعضا من هذه النصوص، و قد أضيف قول الله تعالى :" و ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى"، يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسيرها:" أي: ما يقول قولا عن هوى وغرض، { إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } أي: إنما يقول ما أمر به، يبلغه إلى الناس كاملا موفَّرًا من غير زيادة ولا نقصان". فهذه الآية و غيرها تدل على أن النبي صلى الله عليه و سلم لا يمكن أن يغير من القرآن شيء، و إذ كان الأمر كذلك فمن باب أولا ألا يستطيع من هو دونه من الصحابة و التابعين و من بعدهم أن يبدلوا و لو حرفا من هذا القرآن بما فيه من وجوه القراءات.
و قد تلقى النبي صلى الله عليه و سلم القرآن من جبريل عليه السلام مشافهة و سماعا، بل إنه صلى الله عليه و سلم كان في بداية الأمر يعجل بما يتلى عليه من القرآن خشية أن يفلت منه، حتى طمأنه ربه عز و جل بقوله:" لا تحرك به لسانك لتعجل به إنا علينا جمعه و قرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إنا علينا بيانه"- القيامة:16-18-.
فإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم أمر أن يتبع قرآنه أي قراءته فهذا يعني أنه لا دخل له في هذا القرآن بتغيير أو تبديل، بل يتلقاه كما نزل من عند الله تعالى بألفاظه و وجوه قراءاته.
كذلك الأحاديث التي وردت في نزول القرآن على سبعة أحرف،- و في بعضها استشهاد الصحابة بعضهم على بعض بقول الواحد منهم:" هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه و سلم"- تدل على أن هؤلاء الصحابة الكرام لم يكن لهم دخل في تلك القراءات،و أن مستندهم كان هو السماع من رسول الله صلى الله عليه و سلم لا غير، و لذلك استغرب عمر رضي الله عنه من قراءة هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنه لما سمع قراءته فقال:" فإذا هو يقرأ على حروف لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه و سلم"، فهذا يدل دلالة قاطعة على أنه لم يكن لهم يد في تلك القراءات بل كان مرجعهم الوحيد هو التلقي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم.
و إذا كان الأمر كذلك فكيف يدعي هؤلاء المستشرقون أن نشأة القراءات و تعددها كان بسبب خلو المصاحف من النقط و الشكل؟
المطلب الثالث: تكذيب العقل لهذه الفرية:
و تكذيب العقل لدعوى المستشرقين في أن نشأة القراءات و تعددها هو خلو المصاحف من النقط و الشكل، يظهر من أنه " لو لم تكن القراءات عن طريق الوحي لكان بعض القرآن من كلام البشر، و لم يكن كله وحيا منزلا من عند الله تعالى، و لو كان الأمر كذلك لذهبت أعظم خاصية من خصائص القرآن الكريم و هي الإعجاز، و لو ذهبت عنه صفة الإعجاز لم يكن للتحدي به وجه، و لم يكن لعجز العرب عن معارضته سر، حيث أن بعضه من وضع البشر، لكن الثابت أن فصحاء العرب عجزوا عن معارضته و الإتيان بمثله بل بأقصر سورة من سوره، و هذا دليل على أن جميع القراءات منزلة من عند الله تعالى نزل بها الأمين جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه و سلم" .
فمنطق العقل السليم من كل شبهة أو هوى يشهد أن القراءات إنما مصدرها التلقي، و ليس تجرد الكتابة أو خلو المصاحف من النقط و الإعجام هو السبب في نشأتها و تعددها كما يدعي المغرضون من المستشرقين و من تأثر بسموماتهم و أشرب أفكارهم فصار ينعق بما ينعقون و يطعن كما يطعنون.
المطلب الرابع: اضطراب المستشرقين المدعين لهذه الدعوى، جولد تسيهر نموذجا:
إن المتتبع لكلام بعض المستشرقين الذين ادعوا هذه الدعوى العارية عن الصواب، يلاحظ كثيرا من الاضطراب في عرض الموضوع، فتجد الواحد منهم يدافع عن أمر ثم يصرح بما يضاده، كما يلاحظ استدلالهم بالروايات الضعيفة و اعتمادهم على القراءات الشاذة الغير الثابتة،و افتراءهم للأكاذيب الواضحة.. و لنضرب مثالا ببعض ما جاء في كتاب " مذاهب التفسير الإسلامي" للمستشرق الحقود جولد تسيهر:
- مما جاء في كلام تسيهر:" هذا النص يعرض منذ أقدم عهود الإسلام في مواضع كثيرة قراءات معتمدة على الروايات الموثوق بها.."، يقول الدكتور عبد الحليم النجار معلقا:" انظر كيف يعترف جولد سيهر بوثوق الروايات، و إذا فهل يسع منصفا إلا الإذعان و الاقتناع بتعدد قراءات القرآن".
- قال تسيهر:" فبدلا من:" فتبينوا" قرأ جماعة من ثقات القراء:" فتثبتوا".
يقول الدكتور عبد الحليم النجار متعقبا:" يعترف جولد سيهر بأن من قرأ بذلك من ثقات القراء، و ثقات القراء هم أصحاب القراءات المتواترة، فهل بعد ذلك مجال لتوهم أن الخط يعتد به في ذلك؟"
- ومما ينتقد على المستشرقين و منهم تسيهر اعتمادهم على القراءات الشاذة، يقول الدكتور الذهبي منتقدا لجولد تسيهر:" وقد ساق الكاتب أمثلة كثيرة في كتابه، كلها من هذا القبيل ولهذا الغرض بدون أن يُفرِّق بين قراءة متواترة وقراءة شاذة، ولو أنه علم ما اشترطه المسلمون لصحة القراءة وقبولها من تواترها عن صاحب الرسالة. أو صحة السند وموافقة العربية وموافقة الرسم العثماني، لما صار إلى هذا الرأي الباطل".
- و من الآيات التي استدل بها تسيهر على مذهبه الباطل: قول الله تعالى:" و نادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم و ما كنتم تستكبرون"- الأعراف:48-، قال:" قرأ بعضهم بدلا من تستكبرون بالباء الموحدة تستكثرون بالثاء المثلثة.".
و قد علق الدكتور عبد الحليم النجار على هذا بقوله:" لم تعتمد هذه القراءة-أي تستكثرون- في القراءات السبع و لا الأربع عشرة، بل هي منكرة و لا يعرف على وجه التحديد من قرأ بذلك، و حسبك هذا دليلا على أن الخط لم يكن هو المعتمد في صحة القراءة".
- و من الآيات التي استدل بها تسيهر كذلك قوله تعالى:" و ما كان استغفار ابر هيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه" بالياء المثناة التحتية، قال سيهر: و في قراءة..:" أباه" بالباء الموحدة.
و هذه القراءة-أباه- كما يقول الدكتور عبد الحليم النجار قراءة منكرة بالاتفاق، فليست من السبعة و لا الأربع عشرة، و لو كان مجرد الخط كافيا لاعتمدت.
- مما جاء في كلام الحقود تسيهر:" و هذا ينطبق في الواقع على ما جاء في سفر الخروج فصل 32 فصلة 27، الذي هو مصدر الكلمات القرآنية...".
و هذا تقول بالباطل على القرآن، بل إن مصدر القرآن هو اللوح المحفوظ ، كما قال جل و علا:" و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم" - الزخرف:4-، و كما قال جل جلاله:" وإنه لقرآن كريم في كتاب مكنون"- الواقعة:77-78-.
و يقول الدكتور عبد الحليم النجار في رده على دعوى هذا المستشرق التي يقول فيها:" و ترجع نشأة قسم كبير من هذه الاختلافات إلى خصوصية الخط العربي..":" " لم يكن الخط العربي سببا في اختلاف القراءات، بل كان مساعدا على استيعاب القراءات الصحيحة بحالته التي كان عليها عند كتابة المصاحف العثمانية من إهمال النقط و الشكل..فليست العبرة بالخط و إلا لاعتمدت قراءات يسمح الخط بها كقراءة حماد و كقراءة ابن شنبوذة و غيره..".
يتبع إن شاء الله تعالى.