أم عبدالله الجزائرية
New member
- إنضم
- 03/09/2008
- المشاركات
- 389
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
بسم الله،والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:
القواعد الكلية للإعجاز التربوي في سورة الفاتحة
يقصد بمفهوم القواعد الكلية للإعجاز التربوي في سورة الفاتحة هو أنها تضمنت: مقاصد القرآن ولذلك كان من أسمائها: أم القرآن وأم الكتاب والأساس فصارت كالعنوان وبراعة الاستهلال قال الحسن البصري: إن الله أودع علوم الكتب السابقة في القرآن ثم أودع علوم القرآن في المفصل ثم أودع علوم المفصل في الفاتحة فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة أخرجه البيهقي في شعب الإيمان ، وبيان اشتمالها على علوم القرآن قرره الزمخشري باشتمالها على الثناء على الله بما هو أهله وعلى التعبد والأمر والنهي وعلى الوعد والوعيد وآيات القرآن لا تخرج عن هذه الأمور.
قال الطيبي: وجميع القرآن تفصيل لما أجملته الفاتحة فإِنها بنيت على إجمال ما يحويه القرآن مفصلاً فإنها واقعة في مطلع التنزيل والبلاغة فيه: أن تتضمن ما سيق الكلام لأجله ولهذا لا ينبغي أن يقيد شيء من كلماتها ما أمكن الحمل على الإطلاق.
وقال الغزالي في «خواص القرآن» : مقاصد القرآن ستة ثلاثة مهمة وثلاثة تتمة الأولى: تعريف المدعو إليه كما أشير إليه بصدرها وتعريف الصراط المستقيم وقد صرح به فيها وتعريف الحال عند الرجوع إليه تعالى وهو الآخرة كما أشير إليه بقوله: ( مالكِ يومِ الدين» والأخرى: تعريف أحوال المطيعين كما أشار إليه بقوله ( الذينَ أَنعمتَ عَليهِم» وتعريف منازل الطريق كما أشير إليه بقوله: ( إِياكَ نَعبُدُ وإِياكَ نَستَعين ).[1]
ذكر ابن جزي الفائدة العشرين من فوائد تفسير سورة الفاتحة: "هذه السورة جمعت معاني القرآن العظيم كله فكأنها نسخة مختصرة منه فتأملها بعد تحصيل الباب السادس من المقدمة الأولى تعلم ذلك في الألوهية حاصلا في قوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم والدار الآخرة في قوله مالك يوم الدين والعبادات كلها من الاعتقادات والأحكام التي تقتضيها الأوامر والنواهي في قوله إياك نعبد والشريعة كلها في قوله الصراط المستقيم والأنبياء وغيرهم في قوله الذين أنعمت عليهم وذكر طوائف الكفار في قوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين."[2]
إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية ، وكليات التصور الإسلامي ، وكليات المشاعر والتوجيهات ، ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة ، وحكمة بطلان كل صلاة لا تذكر فيها . .[3]
ثانيا: القواعد الكلية للإعجاز التربوي في سورة الفاتحة:
* قاعدة الإعجاز التربوي في التعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
يعلمنا- جل جلاله- الاستعاذة به من الشطان الرجيم، وهو نوع عظيم من التربية القرآنية؛ لكي نتغلب على هذا العدو الذي لا نراه، فمن استعاذ بالله صادقا أعاذه فعليك بالصدق ألا ترى امرأة عمران لما أعاذت مريم وذريتها عصمها الله.ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من مولود إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا إلا ابن مريم وأمه.والشيطان عدو حذر الله منه ؛ إذ لا مطمع في زوال علة عداوته وهو يجري من ابن آدم مجرى الدم فيأمره أولا بالكفر ويشككه في الإيمان فإن قدر عليه وإلا أمره بالمعاصي فإن أطاعه وإلا ثبطه عن الطاعة فإن سلم من ذلك أفسدها عليه بالرياء والعجب.
القواطع عن الله أربعة: الشيطان والنفس والدنيا والخلق، فعلاج الشيطان الاستعاذة والمخالفة له، وعلاج النفس بالقهر، وعلاج الدنيا بالزهد، وعلاج الخلق بالانقباض والعزلة.[4]
وفي هذا إعجاز تربوي لم تشر إليه أي تربية بشرية من قبل، ولا يخفى ما فيه من فوائد تريح النفس من وساوس هذا الشيطان البغيض، والذي ربما تنكره التربية الحديثة أو لا تؤمن به أصلا.
* قاعدة الإعجاز التربوي في البسملة:
قال الإمام الطبري في المدلول التربوي لهذه الآية: (( إنّ الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه، أدّب نبيه محمدا r بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله , و تقدّم إليه في وصفه بها قبل جميع مهماته , وجعل ما أدّبه به من ذلك وعلمه إياه , منه لجميع خلقه سنة يستنون بها , وسبيلا يتبعونه عليها , فيه افتتاح أوائل منطقهم , وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم )).
الابتداء ببسم الله هو الأدب التربوي الذي أدّب الله به هذه الأمة , ولذلك ندب الشرع إلى البدء بذكر الله في كل فعل وفي كل قول , وبذلك تكون أفعال المسلم وأقواله عبادة , وهذا ما يتفق مع التصور الإسلامي عن الإلهية , فالله هو الموجود الحق الذي يستمد منه كل موجود وجوده , فباسمه يكون كل ابتداء , وباسمه تكون كل حركة , وباسمه يكون كل قول.
ابتدأ نزول القرآن بقوله تعالى: ) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ( (العلق:1)، واسم الله يذكره المسلم عند كل فعل , كالأكل والشرب والنحر والجماع والطهارة وركوب البحر، إلى غير ذلك من الأفعال , فقال تعالى: ) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا( (هود:41)، وقال تعالى: ) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ( (النمل:30.
وقال رسول الله r : (( أغلق بابك واذكر اسم الله , وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله , وخمر إناءك واذكر اسم الله , وأوك سقاءك واذكر اسم الله ))(البخاري
وقال لعمر بن أبي سلمة: (( يا غلام , سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك ))(البخاري.
وقال r : من لم يذبح فليذبح باسم الله ))(البخاري.
وقال r : (( ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول: بسم الله ))(ابن ماجة.
وإذا دخل المسلم الخلاء يقول: (( بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخُبَث والخبائث ))(مسلم
وتستحب التسمية في أول الوضوء، لقول رسول الله r : (( لا وضوء لمن يذكر اسم الله عليه ))(الترمذي.
وكذلك تستحب التسمية في أول الخطبة، لقول رسول الله r : (( كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله فهو أبتر ــ أو قال ــ فهو أقطع ))( لأحمد.
ومن الفوائد التربوية للبدء باسم الله أن هذا الأدب التربوي رادع عن المعصية في القول والعمل , إذ إنّ المسلم ليحس بالخجل من أن يبدأ فعله للمعصية باسم الله.[5]
* قاعدة الإعجاز التربوي في الرحمة:
تستغرق كل معاني الرحمة ومجالاتها وحالاتها , وذكرها بعد ( بسم الله ) معناه: استجلاب الرحمة الإلهية في كل حركة يقوم بها المسلم وفي كل قول يقوله المسلم , إذ لولا رحمة الله بالناس ما عرفوا طريق الطاعة من طريق المعصية , و لولا رحمة الله بالناس ما عرفوا كيف يعبدونه وما استطاعوا أن يفعلوا ذلك.
ويعلمنا الله تعالى ويربينا على الرحمة وهي واحدة من أجل الخصال التي يتميز بها أهل القرآن عمن سواهم من الناس، وهي من الخصال التي يريد أن يرسخها القرآن في أهله المؤمنين به ترسيخا عميقا، فأين هذه التربية العظيمة من التربية البشرية تربية الظلم والقهر والعدوان.[6]
* قاعدة الإعجاز التربوي في الحمد:
إنّ كلمة ) الحمد لله( هي الشعور الذي يجيش في قلب كل مؤمن على النعم التي أنعم الله بها على عباده , والتي لا يحصيها عدد. ومعنى قوله تعالى: ( الحمد لله ) أي: قولوا الحمد لله , ومن هنا يجب تربية المؤمن على أن يشكر الله في كل لحظة و في كل حركة و في كل كلمة وأمام كل نعمة من نعم الله عليه , ابتداء فيما خلق الله له من عينين وأذنين ولسان وشفتين , وانتهاء بما سخر الله له من هذا الكون الفسيح الذي يعج بالنعم , ومرورا بطعامه وشرابه ونومه واستيقاظه
, ففي صحيح مسلم أنّ رسول الله قال: (( إنّ الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها )) ( مسلم ).
والحمد لله هي كلمة كل شاكر , و إنّ آدم u قال حين عطس: الحمد لله , وقال الله لنوح u ) فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ( (المؤمنون: من الآية28), وقال إبراهيم u ) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ( (إبراهيم: من الآية39), وقال في قصة داود و سليمان ) وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ( (النمل: من الآية15), وقال لنبيه محمد r ) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً( (الإسراء:111)، وقال أهل الجنة ) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ( (فاطر: من الآية34)، ) وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ( (يونس: من الآية10).
وفي سنن ابن ماجة عن ابن عمر t أنّ رسول الله r حدّثهم: (( أنّ عبدا من عباد الله قال : يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك, فعضّلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها، فصعدا إلى السماء وقالا: يا ربنا، إنّ عبدك قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال الله عز وجل ــ وهو أعلم بما قال عبدُه ــ ماذا قال عبدي , قالا: يا رب إنه قد قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك , فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي, حتى يلقاني فأجزيه بها ))(ابن ماجة.
الحمد أعم من الشكر لأن الشكر لا يكون إلا جزاء على نعمه والحمد يكون جزاء كالشكر ويكون ثناء ابتداء كما أن الشكر قد يكون أعم من الحمد لأن الحمد باللسان والشكر باللسان والقلب والجوارح فإذا فهمت عموم الحمد علمت أن قولك الحمد لله يقتضي الثناء عليه لما هو من الجلال والعظمة والواحدانية والعزة والإفضال والعلم والمقدرة والحكمة وغير ذلك من الصفات ويتضمن معاني أسمائه الحسنى التسعة والتسعين، ويقتضي شكره والثناء عليه بكل نعمة أعطى ورحمة أولى جميع خلقه في الآخرة والأولى. فيا لها من كلمة جمعت ما تضيق عنه المجلدات واتفق دون عدة عقول الخلائق، ويكفيك أن الله جعلها أول كتابه وآخر دعوى أهل الجنة، الشكر باللسان هو الثناء على المنعم والتحدث بالنعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التحدث بالنعم شكر، والشكر بالجوارح هو العمل بطاعة الله وترك معاصيه، والشكر بالقلب هو معرفة مقدار النعمة والعلم بأنها من الله وحده، والعلم بأنها تفضل لا باستحقاق العبد واعلم أن النعم التي يجب الشكر عليها لا تحصى ولكنها تنحصر في ثلاثة أقسام نعم دنيوية كالعافية والمال ونعم دينية كالعلم والتقوى ونعم أخروية وهي جزاؤه بالثواب الكثير على العمل القليل في العمر القصير والناس في الشكر على مقامين منهم من يشكر على النعم الواصلة إليه خاصة، ومنهم من يشكر الله عن جميع خلقه على النعم الواصلة إلى جميعهم والشكر على ثلاث درجات فدرجات العوام الشكر على النعم ودرجة الخواص الشكر على النعم والنقم ،وعلى كل حال، ودرجة خواص الخواص أن يغيب عن النعمة بمشاهدة المنعم قال رجل لإبراهيم بن أدهم: الفقراء إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا. ومن فضيلة الشكر أنه من صفات الحق ومن صفات الخلق فإن من أسماء الله الشاكر والشكور.[7]
ولعل ما في الحمد من تربية هو أنه لو لم يتعود الناس على الحمد والشكر ؛ لاستدعى ذلك أن ينكروا النعم.فمن شكر اعترف، ومن جحد أنكر.
* قاعدة الإعجاز التربوي في الإيمان بربوبية الله - جل جلاله- للعالمين:
كلمة الرب تطلق على المالك , وتطلق على المعبود , وتطلق على السيد , وتطلق على المربي . ولعل أهم ما في هذا المصطلح هو كونه مشتقا من التربية , فالرب هو المصلح والمدبر والجابر والقائم , يقال لمن قام بإصلاح شيء: قد ربّه فهو له رابّ , ومنه سُمّّي الربانيون لقيامهم بالكتب, وفي صحيح مسلم ومسند أحمد:
(هل لك عليه من نعمة تربها) (مسلم وأحمد)، أي: تقوم بها وتصلحها , والرب: هو المربي , ومنه قولهم : ربّ ولده، أي : رباه.
إنّ معنى قوله تعالى (رب العالمين) هو أنّ الله متصرف لتربية وإصلاح جميع الخلائق , وأنه لم يخلق هذا الكون ثم تركه هملا، بل يتصرف فيه بالإصلاح والتربية والرعاية , وهذه التربية والرعاية قائمة في كل وقت وفي كل حين , وبذلك يطمئن الإنسان إلى رعاية الله الدائمة والتي لا تنقطع أبدا ولا تغيب.
ومن رعاية الله لهذه الأمة أنه اختار لهم محمدا r فأدبه ورباه وجعله قدوة للمسلمين , فقال تعالى: ) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ( (الضحى : 6-11)، ورُوي عن رسول الله r أنه قال: (( أدّّبني ربي فأحسن تأديبي)(القرطبي.
ومن رعاية الله لهذه الأمة إنزال القرآن الذي هو كلامه، فكان دستورا لرعاية الله للمسلمين الأوائل, ومنهجا تربويا لكل المسلمين من بعدهم.
إنّ كون كلمة الرب ــ وهي اسم من أسماء الله تعالى ــ مشتقة من التربية ذو دلالة واضحة على أهمية هذا المنهج , أي: منهج التربية , فهو الطريق الذي سلكه الأنبياء مع الأمم التي أرسلوا إليها , وهو الطريق الذي يحتاجه المسلمون في كل زمان , وخاصة في هذا الزمان , فالإسلام لا يقوم بمجرد الدعوة إليه وإقبال الناس على أساس من تلك الدعوة , لا يقوم الإسلام ما لم يتربّ الناس في مدرسة الإسلام , و ذلك بأن يعرفوا تعاليم الإسلام ويمارسوا هذه التعاليم , فالتربية تقوم على ركنين أساسيين هما: العلم والعمل , و ربط العلم بالعمل هو جوهر العملية التربوية وأساسها.[8]
* قاعدة الإعجاز التربوي في الإيمان بصفات الله - جل جلاله:
الرحمن والرحيم: صيغ مبالغة مشتقة من الرحمة,وصفة (الرحمن الرحيم) تستغرق كل معاني الرحمة
وحالاتها ومجالاتها، والله تعالى وحده المختص باجتماع هاتين الصفتين، كما إنه المختص وحده بصفة الرحمن.
وفي مجيء قوله تعالى (الرحمن الرحيم) بعد قوله تعالى (رب العالمين) نلمح أمرين تربويين:
الأول) التأكيد على أنّ الصلة بين الخالق والمخلوق هي صلة الرحمة والرعاية , وهذه هي السمة البارزة في هذه الصلة , فالله تعالى لا يطارد عباده ولا يعاديهم ولا يدبّر لهم المكائد , وإنما هو ربٌ لهم، تعهدهم بالتربية والرعاية , وهو راحم لهم في الدنيا وفي الآخرة , قال عمر t : قدم على رسول الله r بسبي، فإذا امرأة من السبي تسعى، تحلّب ثديها، حتى إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألزقته ببطنها، فأرضعته , فقال رسول الله r (( أترون هذه طارحة ولدها في النار؟))، قالوا: لا والله، قال: (( فالله أرحم بعباده من هذه بولدها ))(البخاري.
والثاني) إنّ وصف الله تعالى لنفسه بأنه ( رب العالمين)، أي: المالك المتصرف الذي بيده كل شيء، معناه: الترهيب , وإنّ وصف الله تعالى لنفسه بأنه ( الرحمن الرحيم) معناه: الترغيب , ومن هنا نجد أنّ النص القرآني قد قرن بين الترغيب والترهيب , فجمع بين صفة الرهبة من الله وصفة الرغبة في الله , ونقف هنا عند أهم الوسائل التربوية في القرآن وهي: الترغيب، والترهيب، والجمع بينهما.
هذه الوسائل التربوية الثلاثة نجدها في القرآن وفي مواضع كثيرة، كما نجدها في سنة رسول الله r وما نقل عنه من أحاديث , ومع أنّ وسائل القرآن في التربية متعددة و كثيرة، إلا أنّ هذه الوسائل الثلاثة لها مرتبة الصدارة بالنسبة لبقية الوسائل.
ومن الأمثلة على الوسيلة الأولى وهي الترغيب قوله تعالى مخاطبا المؤمنين: ) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ( (التوبة:105).
ومن الأمثلة على الوسيلة الثانية وهي الترهيب قوله تعالى مخاطبا الناس: ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ( (البقرة:161ــ162).
ومن الأمثلة على القرن بين الترغيب والترهيب قوله تعالى: ) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ( (الحجر: 49-50)، وكذلك قوله تعالى: ) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ( (غافر: من الآية3)،وقول رسول الله r : (( لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد, ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد)) ( مسلم.
* قاعدة الإعجاز التربوي في الإيمان بيوم الحساب:
يوم الدين: هو يوم الحساب والجزاء والعقاب في الآخرة , ولا يكون المؤمن بالله مؤمنا حقيقة ما لم يؤمن بيوم الدين , ولهذا الإيمان بيوم الدين آثاره التربوية في شخصية الإنسان، وهذه الآثار هي:
أولا): إنّ الإيمان باليوم الآخر وما فيه من العدالة الإلهية المطلقة، يبعث في نفس الإنسان الثقة والطمأنينة
بأنّ عمله لن يذهب سدى , وبأنّ جهده لن يكون هباء , وبأنه ما لم يكافأ على عمله في الدنيا فإنّ المكافأة قائمة يوم القيامة , وهذا ما يدفع الإنسان إلى العمل الصالح والعمل بطاعة الله واجتناب ما نهى الله عنه، بكل جهده من غير إهمال ولا تقصير.
ثانيا): تعليق أنظار الناس وقلوبهم بيوم الدين، يدفع الناس إلى التضحية بكل ما يملكون وبأعز ما يملكون لإقامة الحق والعدل , وللاستقامة على المنهاج الصحيح، لأنّ كل ذلك سيكون أمامهم يوم القيامة.
ثالثا) :لا تستقيم الحياة البشرية ولا تقوم حياة تليق بالإنسان وتحقق له السعادة ما لم يكن هناك إيمان باليوم الآخر.
وهذه الآية: تمثل الكلية الضخمة العميقة التأثير في الحياة البشرية كلها ، كلية الاعتقاد بالآخرة . . والملك أقصى درجات الاستيلاء والسيطرة . ويوم الدين هو يوم الجزاء في الآخرة . . وكثيراً ما اعتقد الناس بألوهية الله ، وخلقه للكون أول مرة؛ ولكنهم مع هذا لم يعتقدوا بيوم الجزاء . . والقرآن يقول عن بعض هؤلاء : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن : الله } ثم يحكي عنهم في موضع آخر : { بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون : هذا شيء عجيب . أإذا متنا وكنا تراباً؟ ذلك رجع بعيد } والاعتقاد بيوم الدين كلية من كليات العقيدة الإسلامية ذات قيمة في تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالم آخر بعد عالم الأرض؛ فلا تستبد بهم ضرورات الأرض . وعندئذ يملكون الاستعلاء على هذه الضرورات . ولا يستبد بهم القلق على تحقيق جزاء سعيهم في عمرهم القصير المحدود، وفي مجال الأرض المحصور.
وما تستقيم الحياة البشرية على منهج الله الرفيع ما لم تتحقق هذه الكلية في تصور البشر. وما لم تطمئن قلوبهم إلى أن جزاءهم على الأرض ليس هو نصيبهم الأخير. وما لم يثق الفرد المحدود العمر بأن له حياة أخرى تستحق أن يجاهد لها ، وأن يضحي لنصرة الحق والخير معتمداً على العوض الذي يلقاه فيها . .
وما يستوي المؤمنون بالآخرة والمنكرون لها في شعور ولا خلق ولا سلوك ولا عمل . فهما صنفان مختلفان من الخلق . وطبيعتان متميزتان لا تلتقيان في الأرض في عمل ولا تلتقيان في الآخرة في جزاء . . وهذا هو مفرق الطريق . .[9]
* قاعدة الإعجاز التربوي في عبادة الله والاستعانة به وحده:
المعنى العام للعبادة هو الطاعة والاتباع , أي: إن كل عمل يقوم به المسلم هو عبادة إذا اقترن هذا العمل بالنية ما لم يكن هذا العمل معصية , وهذا هو المفهوم الأوسع للعبادة والطاعة , أما إقامة الشعائر التعبدية من صلاة وصوم وزكاة وحج فهي معنى خاص للعبادة , حيث وردت كلمة عبادة في القرآن في مائتين وخمسة وسبعين موضعا (275) , من بين هذه المواضع مائتان وسبعة وثلاثون موضعا (237) كانت العبادة فيها بالمعنى العام وهو الطاعة والاتباع , وثمانية وثلاثون موضعا (38) كانت العبادة فيها بالمعنى الخاص وهو إقامة الشعائر التعبدية.
والسؤال: ما هي الآثار التربوية للعبادة في شخصية الإنسان؟.
والجواب:
1- العبودية لله وحده تعني التحرر المطلق من كل عبودية لغير الله , وعلى هذا لا يكون الإنسان حرا ما لم يكن عبدا لله وحده، حيث يتحرر من عبودية الأوهام والخرافات , ويتحرر من عبودية النظم والأوضاع , وفي ظل العبودية لله وحده يولد الإنسان من جديد.
2- مقام العبودية مقام عظيم يشرف به الإنسان , والانتساب إلى الله لا يليق إلا بالأحرار من الناس , وقد سمّى الله رسوله r عبده) في أشرف مقاماته , فقال تعالى: ) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ( (الكهف:1)، وقال تعالى: ) سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً( (الإسراء:1) , فسماه عبدا عندما أنزل عليه الكتاب , وسماه عبدا عندما أسرى به , وسماه عبدا عند قيامه بالدعوة، فقال تعالى: ) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدا( (الجـن:19).
وقد أرشد الله رسوله r إلى القيام بالعبادة في الوقت الذي ضاق صدره من تكذيب المخالفين له، فقال تعالى: ) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ( (الحجر: 97-99).
3- العبادة تنشئ الإنسان المستقيم بتطبيقه لتعاليم الله , والمتوازن الذي يعمل لدنياه كما يعمل لآخرته , والذي يلبي حاجاته الجسدية كما يلبي حاجاته الروحية.
4- العبادة تربط القلب البشري بالله , وهذا هو مفرق الطريق بين المنهج التربوي الإسلامي وبين غيره من المناهج التربوية البشرية , التي تربط القلب البشري ببقعة من الأرض أو بفرد معين من الناس أو بأسطورة من الأساطير , وهذا الرابط يصبغ عمل الإنسان وفكره وشعوره بصبغة معينة. ومن هنا يتبين نموذج من الإعجاز التربوي للقرآن الكريم كما تقدم وكما سيأتي إن شاء الله.
5- العبادة تربي الإنسان على القوة، وعلى مقاومة الضعف البشري المتمثل بالأهواء البشرية التي خلقها الله في الإنسان , قال تعالى: ) وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً( (النساء: من الآية28), فالعبادة تعطي الإنسان قوة الضبط والاعتدال في مواجهة ما يجول بداخله من الأهواء والشهوات , إنها قوة التسامي على هذه الأهواء.
6- العبادة تزكي النفس البشرية وتطهرها وتشذبها , وما لم يحصل ذلك فإنّ الهدف من العبادة لم يتحقق , فإذا زكت النفس وسمت وتطهرت فاضت بالخير والبذل والتضحية على من حولها،وهذا هو الأثر الاجتماعي للعبادة.
7- ومن أخطر ما ابتليت به الأمة المسلمة ذلك الفصل بين العقيدة والعبادة , وكذلك الفصل بين العبادة وآثارها التربوية والاجتماعية، حيث تحولت العبادة إلى مجرد تجارة يكون هم العابد فيها الحصول على الحسنات، دون تطبيق للمضامين التربوية والاجتماعية لهذه العبادة.[10]
* قاعدة الإعجاز التربوي في الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم:
معنى هذه الآيات: وفقنا يا الله إلى الطريق المستقيم , طريق الذي أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين , وهو غير طريق المغضوب عليهم ــ الذين عرفوا الحق وحادوا عنه , وغير طريق الضالين ــ الذين لم يعرفوا الحق فهم هائمون في الضلالة.
ولنا مع الدعاء الوقفات التربوية التالية:
1 - الدعاء يعني الحاجة إلى الله ومن ثم اللجوء إليه , والناس محتاجون إلى الله لقوله تعالى: ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ( (فاطر:15).
2- الدعاء هو العبادة كما قال رسول الله r , وهو تعبير عن العبودية وترجمة عملية للإيمان , فالمؤمن حينما يلجأ إلى الله بالدعاء فهو يعبر عن عبوديته لله , قال تعالى: ) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون ( (البقرة:186(
3- والدعاء سبيل إلى القوة الحقيقية , لأن المؤمن يدعو الله جل جلاله ليكون له سندا ومعينا وحافظا , ومن كان الله له سندا ومعينا وحافظا فهو حسبه وهو كافيه , ومن هنا نجد أنّ المؤمن لا يقف وحده , ولا يحس بالضياع والقلق والاضطراب والفراغ كما هو الحال في المجتمعات الملحدة , التي وكلها الله إلى نفسها , فكثرت فيها الأمراض النفسية والعقلية وتفشى فيها الانتحار خروجا من اليأس والقنوط والفراغ الروحي .
4- وفي الدعاء ضمان للنفس من الغفلة والنسيان والطغيان والاعتداء،ففي غفلة للنفس عن حقيقة عبوديتها لله قد تقدم على الطغيان والتجاوز.
* قاعدة الإعجاز التربوي في تكرار سورة الفاتحة في الصلاة:
يكرر المسلم هذه السورة سبع عشرة مرة في اليوم الواحد إذا هو صلى الفرائض فقط، لقول رسول الله r (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) ( البخاري ومسلم), وضعف ذلك إذا هو صلى السنن , وأضعاف ذلك إذا هو أراد أن يتنفّل في صلاته , فما هي الحكمة التربوية لظاهرة التكرار؟.
التكرار وسيلة تعليمية وتربوية في نفس الوقت , وعندما يوجب الإسلام على أتباعه تكرار نصوص معينة في كل يوم فمراده من ذلك أن تترسخ مفاهيم هذه النصوص في عقولهم وقلوبهم , وأن تنعكس هذه المفاهيم في سلوكهم وحركاتهم وأفعالهم , ومن خلال التكرار يحصل التنبه واليقظة إلى حقائق النصوص المكررة وأهدافها وغاياتها , وبالتالي تتمثل هذه الحقائق في شخصيته تمثلا دائما ومستمرا.[11]
وبعد فهذه هي السورة المختارة للتكرار في كل صلاة ، والتي لا تصح بدونها صلاة . وقد ورد في صحيح مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن مولى الحرقة عن أبيه ، عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين . فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل . . إذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين . قال الله : حمدني عبدي . وإذا قال الرحمن الرحيم . قال الله أثنى عليّ عبدي . فإذا قال : مالك يوم الدين . قال الله : مجدني عبدي . وإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين . قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل . فإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين . قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل » .
ولعل هذا الحديث الصحيح - بعدما تبين من سياق السورة ما تبين - يكشف عن سر من أسرار اختيار السورة ليرددها المؤمن سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة؛ أو ما شاء الله أن يرددها كلما قام يدعوه في الصلاة . ."[12]
***
الإعجاز التربوي للقرآن الكريم
في سورة الفاتحة
بحث طالب الدراسات العليا
عمر محمد أبوشعالة
[1] - ينظر: منتديات طلبة الكلية التقنية العليا- من أسرار ترتيب القرآن- متاح بتاريخ : 15-12-2007م على الموقع: http://hct-muscat.net/hct/index.php .
[2] - محمد بن جزي الكلبي- التسهيل لعلوم التنزيل- دار الكتاب العربي- بيروت- ط: 1983م.ص: 10-11.
[3] - سيد قطب- في ظلال القرآن- الناشر المكتبة الشاملة. ج 1 ص 1.
[4] - المرجع السابق. ص: 7.
[5] - محمد كمال المويل- التفسير التربوي للقرآن الكريم- متاح بتاريخ 25-12-2007م على الموقع: http://www.dkamalm.com .
[6] - أمير عبد العزيز- إعجاز القرآن . ص: 205. سبق ذكره.
[7] - - محمد بن جزي الكلبي- التسهيل لعلوم التنزيل ص: 8. سبق ذكره.
[8] - محمد كمال المويل- التفسير التربوي للقرآن الكريم سبق ذكره.
[9] - سيد قطب- في ظلال القرآن- الناشر المكتبة الشاملة. ج 1 ص 5.
[10] - محمد كمال المويل- التفسير التربوي للقرآن الكريم سبق ذكره.
[11] - ينظر المرجع السابق .
[12] - سيد قطب – في ظلال القرآن- ص: 7عن المكتبة الشاملة.سبق ذكره.