القلق الفكري ، مقالة قيمة لأحمد الصويان

عبدالرحمن الشهري

المشرف العام
إنضم
29/03/2003
المشاركات
19,340
مستوى التفاعل
143
النقاط
63
الإقامة
الرياض
الموقع الالكتروني
www.amshehri.com
من الظواهر التي لا تكاد تخطئها العين في ساحتنا الدعوية: بروز أفراد يحملون فكراً (إسلامياً)، لكنه فكر قلق غير متوازن يزداد جنوحاً وتفلُّتاً؛ كلما زادت الموضوعات التي يعالجونها. والطريف أن بعضهم يفتعل حولها أحياناً معارك جانبية، ويغرق في منازلات عنترية، ويُشعِرون أنفسهم ومَنْ حولهم بأنهم يحملون لواء التجديد الفكري والإصلاح المنهجي، ثم تراهم يجتهدون في تكبير الصغار، واصطناع الرموز!
أهم ما يميز هؤلاء: أنهم يطرحون خطوطاً عريضة بعناوين كبيرة، تشوبها الضبابية وعدم الوضوح، لا تخلو غالباً من تباين وتناقض. وحقيقة الحال أن كثيراً من هؤلاء لا يدرون ما يريدون، ولا إلى أين يسيرون؟ بل إن غاية ما عندهم: الانقلاب على الذات، ومحاولة التفلت من تبعات البيئة الدعوية التي نشؤوا وترعرعوا فيها.
من أهم أسباب هذا القلق والاضطراب:
أولاً: ضعف البناء الشرعي والفكري: وهو ما يؤدي إلى خللٍ وقصور في فهم النصوص والأحكام الشرعية، واضطرابٍ في أخذها والاستدلال بها، بل أبعد من ذلك؛ حيث نرى في أرائهم أحياناً أن بعض الأفكار المعاصرة وقيم الفكر الغربي ومصطلحاته هي الأصل الذي يُحتَكَم إليه، والمعيار الذي توزن به الاجتهادات. وقد لا يتجرؤون على رد النصوص الشرعية التي تخالفها، لكنهم قد يتكلفون الحيدة عنها، أو التأويل والتعسف في فهمها والاستدلال بها.
وصنيع هؤلاء مما حذرنا منه المولى - جل وعلا - في قوله: {كِتَابٌ أُنزِلَ إلَيْكَ فَلا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ #!٢!#) اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: ٢ - ٣]، وهو مخالف لأمر الله ـ عز وجل ـ بالتسليم التام للنصوص الشرعية، كما قال - سبحانه وتعالى -: {وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْـخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا} [الأحزاب: ٦٣].
وضعف العلم الشرعي أحد الأسباب الرئيسة لتطاول بعض هؤلاء المتفيهقين، ثم انحرافهم عن جادة الصواب؛ وهذا أحد مقتضيات قول النبي #: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقَ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا»[1].
وأحسب أن بعض هؤلاء ممن يتطلع إلى الوصول إلى الحق ويحرص عليه، لكن الأمر كما قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: (كم من مريد للخير لن يصيبه)[2]؛ ولهذا فإن الواجب أن يستوفي الباحث الشروط العلمية للوصول إلى الحق؛ ليسلم بإذن الله - تعالى - من الشطط والانحراف.
ثانياً: الانفتاح غير الواعي على مصادر فكرية ومعرفية جديدة عليهم (مثل كتابات الجابري وحسن حنفي والعروي... ونحوهم): وجعل كتابات هؤلاء ندّاً لكتابات أئمة الإسلام الأثبات المجمَع على إمامتهم. فتنشأ عندهم حيرة مردُّها إلى الشبهات المثارة، ثم تتوالد لديهم بعض الأسئلة والمشكلات الفكرية والمنهجية التي لم يحسنوا الإجابة عنها أو التعامل معها.
ومع كثرة الحديث عن ذم الانغلاق، والدعوة إلى الانفتاح، سقط بعض هؤلاء في معتركات صعبة، وراحوا يتقحمون فيها، ويكثرون التنقل بين الأهواء[3]، ويخوضون في قضايا فكرية معقدة بآليات هشة هزيلة، وهذا في تقديري سبَّب لبعضهم صدمة معرفية حادة أدت إلى التذبذب والانهزام، وإلى تبنِّي آراء نبتت من خليط غير متجانس من الأفكار والاجتهادات العلمية والعملية. وصدق العلاَّمة محمد الخضر حسين؛ إذ قال: (الآراء الفاسدة والشُّبه المغوية، تربي في النفوس الضعيفة أذواقاً سقيمة)[4].
ثالثاً: من أعظم ما يعصم الإنسان من فتنة الشهوات، وسطوة الشبهات: سلامة التدين، وعمق الصلة بالله، عز وجل. وكثير من أدواء النفوس إنما تنمو وتترعرع عند ضعف الإيمان، وقصور التربية.
ومن أكثر أدواء النفس خفاءً وخطورة: العُجب والاعتداد بالرأي؛ فهو باب عريض من أبواب الفساد والسقوط؛ ولهذا قال النبي #: «ثلاثٌ مهلكات: شحٌّ مُطاع، وهوى متَّبع، وإعجاب المرء بنفسه»[5]. فإذا اجتمع الهوى والعُجب في النفس ازداد هلاكُ الإنسان، ومن دقائق الملاحظة التي تدل على النباهة وعمق البصيرة قول عبد الله بن المبارك - رحمه الله تعالى -: (لا أعلم في المصلين شراً من العُجْب)[6].
وبعض الناس إذا قرأ كتاباً أو كتابين، وكتب مقالة أو مقالتين، استعلى بنفسه، وطار بها عجباً، وظن أنَّه أصبح مفكراً من كبار المجددين المبدعين، ولا يزال التيه يسيطر على عقله وفكره حتى يؤدي به إلى ازدراء مَنْ حوله، والتقليلِ من شأنهم، والاستخفاف بهم، بل التطاول عليهم إذا خالفوه!
ومما يحسن التنبيه عليه في هذا السياق: أن المستعلي برأيه إذا أخطأ في مسألة استنكف استنكافاً شديداً عن الاعتراف بالخطأ، والرجوع إلى جادة الصواب، وقد يدفعه استعلاؤه إلى مزيد من التعصب والاستمساك بالخطأ، ظناً منه أنَّ سبيل الرفعة إنما يكون بالتعالي والتعاظم!
رابعاً: ومن أدواء النفوس أيضاً: التطلع إلى الصدارة، والبروز نحو الأضواء، والمسارعة إلى التزيُّن أمام الناس: وقد بيَّن النبي # خطورة ذلك بذكر مَثَل واضح جَلِي، فقال #: «ما ذئبان جائعان أُرسِلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال، والشرف لدينه»[7]. وهذه هي الشهوة الخفية التي كان يخافها شداد بن أوس - رضي الله عنه - على أصحابه[8].
وكثير ممن يقع في هذا الداء لا يسلم من أحد أمرين:
أحدهما: القدح في سلامة القصد، وحُسْن النية، وكفى بهذا إثماً وفساداً.
الثاني: التشبع بما لم يعطَ.
لكن ما علاقة هذا بالقلق الفكري؟
الحقيقة أن وهج الأضواء، وبريق الإعلام، يدفع بعض الناس أحياناً إلى التعالم، وإلى الرغبة في التميز، وقد لا يتحقق ذلك - عند ضعف البضاعة - إلا بالإغراب، والحرص على تتبع الأغلوطات، ومخالفة العلماء والتيار السائد ليس بسبب الاجتهاد العلمي، ولكن المخالفة لمجرد المخالفة.
خامساً: قصور العلماء والدعاة في الحوار مع هؤلاء الشباب، والتهاون في استيعابهم: وهو ما أوجد قطيعة فكرية وفجوة تربوية معهم، وزاد من حدَّتها أن بعض العلماء والدعاة ربما احتدَّ أحياناً في تسفيه أفكارهم أو التقليل من شأنهم، فأدى ذلك إلى استفزازهم، وتعصبهم، ومقابلتهم لغيرهم بالعزة في الرأي والمعاندة، والإعراض عن نقد الآخرين، والاستفادة من آرائهم.
[1] أخرجه: البخاري في كتاب العلم، رقم (34)، ومسلم في كتاب العلم، رقم (2673).

[2] أخرجه الدارمي في سننه: (1/68-69)، ولهذا الأثر طرق كثيرة، صحح بعضها الهيثمي في مجمع الزوائد: (1/181).

[3] قال عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ: (من جعل دينه عرضاً للخصومات أكثر التنقل)، رواه: اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة (1/128)، والآجري في الشريعة (ص56). وعبد الله ابن الإمام أحمد في السنة (1/138).

[4] رسائل الإصلاح: (1/99).

[5] أخرجه: البزار، كما في كشف الأستار عن زوائد البزار، رقم (80)، وحسنه الألباني لشواهده في السلسلة الصحيحة، رقم (1802).

[6] سير أعلام النبلاء: (8/407).

[7] أخرجه: الترمذي، رقم (2376)، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترمذي.

[8] قال شداد بن أوس ـ رضي الله عنه ـ: (يا بقايا العرب، يا بقايا العرب، إنما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية) وفسر أبو داود الشهوة الخفية بحب الرياسة، انظر: شرح حديث أبي ذر لابن تيمية (ص25).


المصدر : مجلة البيان العدد 277 رمضان 1431هـ
 
...

...

خامساً: قصور العلماء والدعاة في الحوار مع هؤلاء الشباب، والتهاون في استيعابهم:
وهو ما أوجد قطيعة فكرية وفجوة تربوية معهم، وزاد من حدَّتها أن بعض العلماء والدعاة ربما احتدَّ أحياناً في تسفيه أفكارهم أو التقليل من شأنهم
فأدى ذلك إلى استفزازهم، وتعصبهم، ومقابلتهم لغيرهم بالعزة في الرأي والمعاندة، والإعراض عن نقد الآخرين، والاستفادة من آرائهم.

...

هذه الأخيرة .. التي تثنى عليها الخناصر !

بوركت مشرفنا لحمل لواء مجابهتها ..
 
جزاكم الله خيرا.

عنوان المقالة يثير الاهتمام. ولكن للأسف وجدت المقال قد ذهب مذهبا جزئيا في تعريف هذا المصطلح.

1- "القلق الفكري" ليس مفهوما سلبيا أو مرضيا في كل الحالات. وإنما قد يكون دليل صحة أو دليل صحوة، حين يدفع بصاحبه إلى إعادة التفكير في المسلّمات الخاطئة التي تعود عليها ذهنه، إما بسبب نقص المعرفة، أو بسبب تأثير البيئة التعليمية. ولولا "القلق الفكري" لما اخترع المخترعون ملايين الاختراعات، ولما كتب الكتاب النظريات الجديدة، ولما تراكمت المعرفة لتصل إلى هذه الدرجات العالية التي تراها البشرية الآن.
القلق الفكري ظاهرة إيجابية تؤدي إلى الإبداع، لأنه تعبير إما عن الانزعاج مما موجود، أو عدم الرضى به، أو عدم الاكتفاء به، أو سعي لتطوير ما هو قائم، أو إيجاد لحلول مبتكرة.
والسلبية ليست في ظاهرة "القلق الفكري" ذاتها، وإنما فيما يصاحبها أحيانا من نقص أو غياب للأدوات المعرفية، أو تقصير في توظيفها، أو قلة صبر أمام المعاناة التي تنتج عنها.. وهذا ما يؤدي إلى نتائج سلبية للقلق الفكري.


2- اقترح الكاتب 5 أسباب للقلق الفكري (السلبي):
- ضعف البناء الشرعي والفكري
- الانفتاح غير الواعي على مصادر فكرية ومعرفية جديدة
- فتنة الشهوات، وسطوة الشبهات والعُجب والاعتداد بالرأي
- التطلع إلى الصدارة، والبروز نحو الأضواء، والمسارعة إلى التزيُّن أمام الناس
- قصور العلماء والدعاة في الحوار مع هؤلاء الشباب، والتهاون في استيعابهم

وأتساءل:
- لو كان لهذا القلِق متانةٌ في البناء الشرعي والفكري، هل يحجزه هذا عن القلق الفكري، إن كان مفكّرا؟
- لو كان منفتحا بشكل واع على مصادر فكرية ومعرفية جديدة، هل يحجزه هذا عن القلق الفكري إن كان مفكرا؟
- ما مبرر أن يتهم صاحب "القلق الفكري" بأنه سقط في فتنة الشهوات، وسطوة الشبهات والعُجب والاعتداد بالرأي التطلع إلى الصدارة، والبروز نحو الأضواء، والمسارعة إلى التزيُّن أمام الناس، في حين أنه قد يكون قلقا فكريا غير مصحوب بحب الظهور، بل تجده يعيش معاناته الفكرية لوحده بمعزل عن الناس، حتى عن أقرب الناس إليه؟

في اعتقادي أن هذا غير كاف لفهم حقيقة "القلق الفكري":
- "القلق الفكري" في حد ذاته ظاهرةٌ صحية وإيجابية، وهي دليل نشاط العقل وحيويته، والتوق للمعرفة، والرغبة في استكشاف آفاق جديدة. و"القلق الفكري" خاصية أساسية لنمط من أنماط الشخصية، تسمى "الشخصية المفكّرة".

- هذا "القلق الفكري" قد يكون له أسباب ذاتية أو موضوعية. ولمعرفتها، يمكن مطالعة الدراسات المتعلقة بظاهرة الإبداع، ففيها كثير من المسائل التي تفسر وتصف محتلف أبعاد "القلق الفكري".

- إذا أردنا الحديث فقط عن الجانب السلبي في "القلق الفكري"، فلعل من الأفضل اعتماد عبارة "المرض الفكري"، أو "الاضطراب الفكري". ولعل هذا ما قصده الكاتب. وكما قلت سبب هذا المرض الفكري يعود غالبا إما لنقص أو غياب للأدوات المعرفية، أو تقصير في توظيفها، أو قلة صبر أمام المعاناة التي تنتج عنها..
 
أرغب في إضافة الملاحظة التالية:

تعليقي على هذا المقال سببه "قلقي الفكري" :).

ولكن أرجوكم: لا تطبقوا على أخيكم مقولة الكاتب من أن سبب قلقي الفكري هو "فتنة الشهوات، وسطوة الشبهات والعُجب والاعتداد بالرأي التطلع إلى الصدارة، والبروز نحو الأضواء، والمسارعة إلى التزيُّن أمام الناس" (ابتسامة)

والحديث ذو شجون..
 
حقاً الكاتب أراد معالجة بعض الأمثلة التي بدأت تظهر في أوساط بعض الشباب ، وقد يكون هذا هو الذي جعله يغفل الإيجابية في مفهوم (القلق الفكري) التي أشرتم إليها .
سأحيل التعقيبات للكاتب لعله يفيد منها وشكراً لكم .
 
القلق الفكري

القلق الفكري

أحب أن أوجه هذه الكلمات لأخينا الكاتب بارك الله به
أنا أظن أن الذي يريد أن يعالج المرض الفكري. ويحدد أطره التشخيصية فإن عليه أن يعيش ضمن الهمّ الدعوي الجماعي وهذه النقطة قد غفل عنها الكاتب أيضاً. أي يجب أن يكون المشخص للمرض الفكري شخصاً مؤهلاً ذا خبرة عميقة بالعمل الجماعي والتنظيم الإسلامي وإرهاصاته الكثيرة المتشعبة . لأن المراقب وحسب لا يمكن أن يضع يده على الجرح الموجع للهمّ الدعوي واستوقافاته ومحطاته المتعبة.
لقد أثبت الواقع أن النائحة الثكلى ليست كالنائحة المستعارة في ذلك الهمّ ومؤرقاته الموجعة التي لا يصبر على عنائها أحياناً إلا كمثل أصحاب الأخدود أو أشد .
وأيضاً فإن الذي يبحث في مثل هذه الموضوعات لا بد أن يُنظر الى سيرته الدعويّة التنظيميّة بغض النظر عن مسربه السياسي فإنه لا بد له أن يكون ضمن دائرة الإغتراب ليُسمع له ويُنصت له . وبغير ذلك فإنه لا يفلح أبداً في مثل هذا الموضوع ولا يمكن أيضاً أن يُقنع أحداً ممن غرقوا في متاهات الحيرة السياسية العربية والتي لا تخفى على أحد.
ان من أساسات العمل الدعوي هو : العمل بالقدوة واحتمال الأذى والنزول الى أرض الواقع بعيداً عن الظل الظليل الوارف العليل. يقول ربنا سبحانه وتعالى(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(( الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ
))
هذه الآية هي شعار دعاة الحق وسيرتهم الذاتية لاجتياز النجاح وطريق الحق . فمن المنتقد ومن العامل ؟؟
 
وهذه مقالة حديثة بعنوان: دعوة للقلق الفكري.
نشرت في مجلة العصر لعبد الله العودة:
http://alasr.ws/index.cfm?method=home.con&contentid=11602


القلق (="التساؤل)،" والبحث المعرفي الجاد، هو أحد شروط العافية الفكرية والوجود.

هذا القلق الذي أقصده ليس القلق النفسي العصابي أو ما يسمى عند النفسانيين بـ(القلق المانع)، بل هو (القلق الدافع)؛ الدافع إلى التفكير السليم، والتجدد الدائم المستمر.

القلق المانع السلبي هو طور من القلق والأرق، يحمل معه الأذى النفسي ويحمل المصاب على عدم التركيز وعلى الاضطراب.. والأهم من كل هذا قد يحمله على عدم العمل بل وربما عدم التفكير الإيجابي .. فتجده يطور أفكاره بطريقة تمنعه من العمل بل ومن التفكير الجيد.. فهو يخاف من كل شيء حتى من أفكاره .. ويقلق من كل شيء حتى من عمل يده .. وهذا هو بالضبط ما أسميته "القلق النفسي"، الذي يؤذي الإنسان نفسياً ولا يطوره فكرياً.

بالمقابل، القلق الفكري الإيجابي .. قلقٌ يدفع للتساؤل وتطوير الأفكار بطريقة إيجابية .. ويدفع لمزيد المعرفة والعمل المعرفي والعلمي .. ويحث المصاب ـ إذا صحت تسميته مصاباً ـ على التعلم والثقافة والقراءة والإطلاع.. فهذا القلق المعرفي والفكري .. صفة تلازم العباقرة والكبار والأذكياء على مر التاريخ..

إن الدراسة الفكرية لأي تراث مصلح أو مفكر أو عالم أو فيلسوف أو عبقري، تقود لنتيجة متقاربة في الإحساس الثري بمستوى القلق الفكري الذي يدفع هؤلاء العظماء للقلق الفكري المستديم الذي يخلف الأسئلة ويصنع الإشكاليات ويطرح التساؤل خلف كل جواب مضمر .. ويزلزل كل صواب موروث .. ويقود الأذكياء إلى خانة "الشك" العلمي التي تدفعهم للكلمة المفضلة: "لماذا؟؟".

القلق يتطلب (لسانا سؤولا، وقلبا عقولا)، وكان ابن عباس فتى الكهول صاحب لسان سؤول وقلب عقول رضي الله عنه.

صاحب القلق الفكري والأمن النفسي هو في مجال اليقين والإيمان والأمن النفسي والطمأنينة القلبية، مؤمن هادئ القلب مستقر النفس رابط الجأش، ولكنه ثائر العقل، مستحث لمستكنات الحقائق النسبية، وباعث لها من رقدتها ليخلقها خلقا آخر، وليصوغها شيئا مختلفا، فيجعلها مزيجا مشعشعا من طمأنينة النفس(الأمن النفسي) وقلق التفكير (القلق الفكري).

إن صاحب الفكر القلق يحرث الأسئلة الملغومة دون كل جواب جاهز.. ويلد الأسئلة في رحم كل تقليد أعمى.. فقيمة السؤال والقلق الفكري العميق واجب شرعي وعقلي، وقد عقد القاضيابن خلاد الرامهرمزي في كتابه (المحدث الفاصل) بابًا: (القول في السؤال)، وذكر آثارا، ومن أحسنها قول الزهري: للعلم خزائن تفتحها المسألة، وقول ابن سيرين: للعلم أقفلة ومفاتيحها المسألة.

والتساؤل في العرف الفكري مرادف للقلق؛ وتراثنا القديم وتاريخنا الحديث يعرف رموزا ممتلئة بالقلق، ومسكونة بالحيوية، مع طمأنينة النفس؛ فتراه هادئ القلب والضمير مشتعل الفكر نابضا بروح الفاعلية؛ تجده يحمل أعنف ثورة في إهاب أهدأ إنسان، ومن هذا الخليط البشري يولد المصلحون ولادة شرعية طبيعية، فتبارك الله أحسن الخالقين.
 
هذه الأخيرة .. التي تثنى عليها الخناصر !
صحيح، لكن ليس القصور في الحوار فقط، بل كذلك في أسباب فكرية ثقافية وإجتماعية ونفسية أدت إلى غياب الحوار، والتفاهم والتواصل. وهذا بدوره بسبب غياب الشورى بين المتخصصين في الشرعيات والإجتماعيات والإنسانيات، ولتحسين الوضع البداية تكون قبل الحوار.
 
عودة
أعلى