القــــــــــــــــــــرآ ن بقلم د. إبراهيم عوض

إنضم
18/03/2005
المشاركات
203
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
القــــــــــــــــــــرآن
بقلم د. إبراهيم عوض
(فصل من كتابى: "إسلام د. جيفرى لانج- التداعيات والدلالات" الصادر حديثا)


خصص د. جيفرى لانج فصلا طويلا فى كتابه للقرآن المجيد بدأه بما ذكره المستشرق البريطانى هاملتون جب فى كتابه: "Whither Islam" ، إذ يقول: "من التهور الزعم بأن دراسة القرآن قد صارت أضعف من ذى قبل أو أن إيقاعاته الغلابة قد فقدت سيطرتها على العقول"، وهو القول الذى يتبناه لانج بقوة مضيفا إليه ما كتبه محمد أسد (الصحفى النمساوى اليهودى الذى اعتنق الإسلام فى عشرينات القرن الماضى) من أن القرآن هو، بالنسبة للمسلمين جميعا، أعظم تجلٍّ للنعمة الإلهية، وأعظم حكمة، وأعظم جمال تعبيرى، ومؤكدا أنه القوة الدافعة وراء الصحوة الإسلامية الحاليّة فى كل أرجاء الدنيا، ومشيدا بانتصاره على تحديات الغرب.
كذلك يشير لانج إلى لقاءات الحوار الدينى بين الطلاب المسلمين ونظرائهم النصارى فى الجامعة وما كان يردده الطلبة النصارى أثناء تلك المناقشات من أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم ينزل عليه وحى من السماء، بل أخذ الإسلام من الأديان السابقة التى كانت موجودة فى جزيرة العرب فى عصره. لكنه يضيف قائلا إن المستشرقين المعاصرين لم يعودوا يقبلون هذا الاتهام، بل يرون أنه كان مؤمنا بأنه يتلقى الوحى من السماء . ثم يمضى فيذكر أن الانطباع الإيجابى الذى تمخضت عنه هذه المناقشات هو أن القرآن المجيد خالٍ تماما من التناقضات الموجودة فى الكتاب المقدس ، تلك التى كانت سببا فى أن يعيد علماء اللاهوت صياغة الوحى عندهم، على حين يقر المسلمون بعصمة القرآن .
ومما جاء أيضا عن القرآن ما ذكره لانج من أن زميلا له بالجامعة متخصصا فى مقارنة الأديان أقر بأن القرآن الكريم أدق من الكتب الأخرى فعلا، لكنه عَزَا ذلك إلى عبقرية محمد لا إلى كونه نبيا اختاره الله ليبلغ رسالته. أما وجه عبقريته صلى الله عليه وسلم، حسبما قال الزميل المذكور، فتتلخص فى أنه كان صاحب بصيرة نافذة جعلته، عند اقتباسه من الكتب السماوية السابقة، يتلافى الأسباب التى أدت إلى ما فيها من تناقضات، فكان حريصا على أن ينقّى القرآن من التفاصيل والمقادير والتواريخ والأماكن والأرقام وما إلى ذلك تجنبا للتناقضات التى وقعت فيها تلك الكتب. ويرد لانج على ذلك قائلا إن القرآن ليس مجرد إعادة لما قاله الكتاب المقدس عن الأنبياء السابقين، بل هناك اختلافات بين الروايتين فى كثير من الحالات، فضلا عن أنه يصحح بعض الأشياء فيما يحكيه الكتاب المقدس فى هذا الصدد. مثال ذلك ما قاله العهد القديم عن رحلة يوسف وإخوته إلى مصر عبر سيناء وأنها تمت على ظهور الحمير، تلك الدواب التى لا تصلح للصحراء، بينما يقول القرآن إنهم استخدموا الإبل، والجمل هو سفينة الصحراء كما هو معروف. ومن ذلك أيضا ما اتهم به الكتابُ المقدس سليمانَ عليه السلام من أنه عبد الأوثان وأغضب ربه عليه فى حين ينفى عنه القرآن ذلك تماما. وبالمثل نرى العهد الجديد يؤكد صلب المسيح عليه السلام فى الوقت الذى ينكر فيه القرآن ذلك إنكارا قاطعا... إلخ . فكيف يقال إن النبى محمدا قد اعتمد على ما يقوله الكتاب المقدس بعد أن حذف ما فيه من تفاصيل وأرقام وما إلى ذلك تجنبا للوقوع فى الخطإ؟
كما يورد لانج بعض ما كان المحاورون النصارى يتهمون به القرآن من أخطاء كقولهم إن القرآن ينادى مريم عليها السلام على لسان قومها بـ"يا أخت هارون" رغم الزمن المتطاول الذى يفصل بينها وبينه . وانبرى لانج إلى الرد على ذلك الاتهام الساذج بأن استعمال كلمة "ابن وأخ وعم وأب" على التوسع والمجاز عند الساميين والعرب أمر شائع، ولا يشكل أية غرابة. ثم انتقل إلى نقطة هامة جدا هى أن مريم ذاتها تصف إليصابات أم يحيى، بنت خالتها، بأنها "ابنة هارون" مع ما يفصل بينها وبينه من نفس المسافة الزمنية، وما دام النصارى يقبلون هذا فكيف يقيمون الدنيا ويقعدونها بسبب ما جاء فى القرآن رغم أن الأمرين واحد؟ الحق أن هذا رد مفحم كما يرى القارئ.
ونضيف إليه عدة أمور فى منتهى الأهمية: فالقرآن ليس هو الذى نادى مريم بذلك بل قومها. فإذا كان هناك خطأ فهو خطأ القوم، وما القرآن إلا ناقل للحوار كما نطق به أصحابه. ولو كان فى الأمر أدنى خطإ فكيف سكت اليهود فى عهده صلى الله عليه وسلم، وكانت بين الفريقين خصومات، فلم يهتبلوا هذه السانحة لضرب القرآن فى مقتل؟ ألا إن سكوتهم لأكبر دليل على أنهم لم يجدوا فى الأمر شيئا. صحيح أن أعضاء وفد نجران قد أبدَوْا أمام المغيرة بن شعبة وبعض الصحابة استغرابهم من أن تكون مريم أخت هارون رغم المدة الزمنية الطويلة التى تفصل بينهما. لكن لا بد أن نتنبه إلى أنهم، لو كانوا صادقين، لاعترضوا على هذا فى وجه النبى لا أمام بعض الصحابة، إذ حين قابلوه صلى الله عليه وسلم ودارت بين الطرفين المناقشات لم تكن تلك المسألة منها بتاتا. كما أنهم قد اكتفَوْا بهذا الاستغراب ثم أكفأوا على الخبر ماجورا، فلم يفتحوا بابه بعد ذلك قط. فلو كانوا صادقين فى استغرابهم لانطلقوا يطنطنون بهذا الاستغراب ولحولوه إلى اعتراض وفضيحة. إلا أننا لم نسمع لهم فى هذا الموضوع بعد ذلك حسا. فعلام يدل هذا؟
أتصور أنهم إنما أرادوا إثارة الشبهات فى عقول من قابلوهم من الصحابة على عادة أمثالهم ممن نعرفهم فى عصرنا، إذ يحاولون إثارة الشبهات مع من يظنونهم عاجزين عن الرد، ويغلقون أفواههم تماما فى حضور من هم متيقنون أنه قادر على نسف شبهاتهم. وعلى كل حال لقد قدَّم النبى صلى الله عليه وسلم الجواب فوضع حدا لذلك اللغط السخيف. عن المغيرة بن شعبة رضى الله عنه: "لما قدمتُ نجرانُ سألوني فقالوا: إنكم تقرأونَ: "يَا أُخْتَ هَارُونَ"، وموسى قَبْلَ عيسى بكذا وكذا. فلما قدمتُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ سألتُه عن ذلك، فقال: إنهم كانوا يُسَمُّونَ بأنبيائِهم والصالحينَ قبلهم". أى أنهم كانوا يسمون أولادهم وبناتهم بأسماء الصالحين السابقين أو يضيفون أسماء أولادهم وبناتهم إليهم تيمنا وتبركا بهم. فكأنهم يقولون على سبيل التبكيت والتقريع: "كيف تجترحين إثم الزنا يا من تنتسبين إلى هذا النبى الصالح بالخدمة والعبادة والانقطاع للهيكل؟" باعتبار أن هارون وذريته (اللاويين) كانوا هم كهنة الهيكل كما هو معروف. وواضح أنه صلى الله عليه وسلم يعزو الأمر إلى بنى إسرائيل لا إلى القرآن، الذى لم يصنع أكثر من إيراد عبارتهم بنصها دون أن ينشئها. كذلك لا ينبغى أن نمر مرور الكرام على تفسيره هذا من حيث دلالته على أن الأمر ليس أمر خطإ تاريخى كما يريد المشككون أن يزرعوا فى رُوعنا، وإلا لوجدناه صلى الله عليه وسلم يقول مثلا: "نعم، إنها كانت أخته، ولا حق لهؤلاء القوم فى الاعتراض، فهم لا يفهمون شيئا". بل قال إن بنى إسرائيل كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم وصلحائهم بما يعنى على أنه واعٍ بالفرق التاريخى الذى يفصل بين مريم وهارون، وهو ما يدل دلالة باترة على أنه لا يوجد أى خطإ تاريخى هنا.
ولا ينبغى أن ننسى أن عبارة "يا أخت هارون" نزلت ضمن سورة "مريم" فى مكة سنة أربع للهجرة، وزار وفد نجران المدينة سنة تسع أو عشر للهجرة. فكيف سكت النجرانيون وغيرهم من النصارى طوال تلك المدة فلم يتخذوا من تلك العبارة مادة للتشنيع على الإسلام؟ ليس ذلك فقط، بل لقد تلا المسلمون صدر صورة "مريم"، وفيه تلك العبارة، على نجاشى الحبشة، الذى كانوا أيامذاك لاجئين فى بلاده احتماء من أذى القرشيين، ولم نسمع لا من النجاشى ولا من كبار رجال دينه الذين كانوا حاضرين ذلك اللقاء وسمعوا كما سمع هو ما تلاه المسلمون أى اعتراض على قول القرآن بلسان بنى إسرائيل: "يا أخت هارون". ولقد كان اليهود، وهم المعنيون قبل غيرهم بهذه المسألة، يساكنون النبى بالمدينة أو على مقربة منها طوال الوقت منذ الهجرة، ولكن لم يحدث أن اعترض أحدهم على تلك الكلمة أو جعلها موضع سؤال، مجرد سؤال.
ولسوف نرى بعد قليل، ومن خلال الكتاب المقدس ذاته لا من مصدر آخر، أن اليهود والنصارى كانوا يتوسعون فى استعمال كلمة "أخ" و"أخت" توسعا شديدا بحيث يدخل فيها هذا الاعتبار بمنتهى السهولة والسلاسة. ومن المضحك أن يُظَنّ بالقرآن ارتكاب هذا الخطإ التاريخى الأبلق رغم ما كرره من أن المسيح (ابن مريم، التى لُقِّبَتْ بأنها "أخت هارون") قد أتى بعد موسى وهارون ومن تبعهما من الأنبياء بزمن طويل، بما يدل على أنه لا يقصد أبدا أن تكون مريم أخت هارون أخوّة جسديّة. ومرة أخرى حتى لو كان هذا التلقيب رغم ذلك كله خطأ لكان الخطأ خطأ بنى إسرائيل لا خطأه هو كما سبق القول.
كما أننا نجد فى أول سطر من إنجيل متى هذا العنوان: "كِتَابُ مِيلاَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ دَاوُدَ ابْنِ إِبْراهِيمَ" مع ما يفصل بينه وبين كل منهما، وبخاصة ثانيهما، من الأزمان الطويلة، وكذلك رغم أن المسيح لا ينتمى إلى داود، لأنه من جهة الأب لم يكن له أب، ومن جهة الأم لم تكن أمه من سلالة ذلك النبى الكريم، بل الذى ينتسب إلى داود هو يوسف النجار، ويوسف النجار ليست له أية علاقة نَسَبِيّة بالسيد المسيح عليه السلام، وإن ذُكِر فى الأناجيل أحيانا على أنه أبوه. بل إن المسيح عليه السلام قد دعا زكا رئيس العشارين: "ابن إبراهيم" . وبالمثل قال عن امرأة ممسوسة شفاها من مرضها إنها "ابنة إبراهيم" . كذلك نسمع أحد الأغنياء يستغيث من الجحيم بإبراهيم عليه السلام أن يخف لنجدته مما يقاسيه من أهوال العطش قائلا: "يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ"، فيؤمِّن إبراهيم على ذلك بقوله: "يَا ابْنِي" . كما رأينا جيفرى لانج يشير إلى وصف العهد الجديد لأليصابات قريبة مريم ومعاصرتها بأنها "ابنة هارون". ولماذا نذهب بعيدا، وعندنا الكتاب المقدس نفسه يستخدم كلمة "أخ" و"أخت" بتوسع شديد لا تُعَدّ عبارة "يا أخت هارون" بالقياس إليه شيئا مذكورا؟
تعالَوْا نطالع معا "قاموس الكتاب المقدس" ونقرأ ما يقوله فى مادة "أخ": "جَمْعُه "إخوة": 1- لفظ أطلق على الابن في علاقته بأبناء أو بنات نفس الوالدين (تك27: 6) أو نفس الأب فقط (تك28: 2) أو نفس الأم فقط (قض8: 19).
2- كذلك أطلق على قريب من الأسرة الواحدة، ابن الأخ مثلا (تك14: 16)، أو من نفس الجنس (نح5: 7) أو من أمة قريبة (تث23: 7) أو من أمة حليفة (عا1: 9).
3- وأطلق أيضا على إنسان من نفس الدين الواحد (أع9: 17). وكثيرا ما دُعِيَ المسيحيون: إخوة (مت23: 8).
4- كما أطلق أيضا على الصديق المحبوب. فقد دعا داود يوناثان: أخا (2 صم 1: 26). وكذلك أطلق على إنسان غريب كنوع من حسن الخطاب، فقد دعا آخاب بنهدد: أخا (1 مل 20: 32).
5- وكذلك أطلق على أي إنسان من الجنس البشري مراعاة لإخوة البشر (تك9: 5).
إِخْوَةَ الْرَّبَ: ذكر العهد الجديد أسماء أربعة، وهم يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا. وقد ذكر أنهم إخوة الرب (مت13: 55). وقد ذكر أيضا انتقالهم إلى كفر ناحوم مع مريم ويسوع في بدء كرازته (يو2: 12). ومرة فيما كان يسوع يكلم الجمع جاءت أمه وأخوته طالبين أن يكلموه (مت12: 47). وحتى نهاية خدمته لم يكونوا قد آمنوا به بعد (يو7: 3 و5). ولكن بعد القيامة نقرأ أنهم كانوا يجتمعون مع التلاميذ (أع1: 14). ويذكرهم الرسول بولس كقادة في الكنيسة المسيحية (1 كو 9: 5). وقد أصبح أحدهم، وهو يعقوب، قائدا ممتازا في كنيسة أورشليم (أع15: 13 وغلا1: 19)، وهو كاتب الرسالة التي تحمل اسمه (يع1: 1). وقد تشعبت الآراء في نسبهم إلى المسيح ودرجة قرابتهم له:
1- فقال قوم إنهم إخوته بالجسد من مريم. أي أن مريم، بعد أن ولدت المسيح الذي حُبِل به فيها من الروح القدس وولدته وهي عذراء، ولدت هؤلاء الأخوة من يوسف. ويقولون إن هذا هو التفسير البسيط الطبيعي للأقوال الواردة في (مت1: 25، 13: 55). قد قال بهذا الرأي ترتليانوس في القرن الثاني، وهلفديوس في القرن الرابع، ومعظم رجال الطوائف الإنجيلية. ولكن هناك من يعارضون هذا الرأي ويقولون: لو أنه كان لمريم أولاد لما عهد المسيح بها إلى يوحنا تلميذه كما نجد هذا في يو19: 26 و27. ويرد عليهم أصحاب الرأي بالقول إن إخوة المسيح لم يكونوا بعد قد آمنوا به. ولذلك فضل المسيح أن يضعها في عهدة يوحنا تلميذه. ويرجح أنه كان أيضا قريبها.
2- أما الرأي الثاني فيقول إنهم كانوا أيضا أولاد يوسف من زوجة سابقة. ومن بعدها اتخذ مريم العذراء زوجة ثانية. ويستدلون على ذلك من أن الكتاب المقدس لا يذكر شيئا عن حياة يوسف بعد أن بلغ يسوع السنة الثانية عشرة من العمر، ويقولون: لا بد أن يوسف مات بعد ذلك، ويرجحون أنه تزوج العذراء وهو متقدم في السن. وقد ورد هذا الرأي في بعض الأسفار غير القانونية، وقال به أوريجانوس في القرن الثالث، وإبيفانيوس في القرن الرابع الميلادي. وكذلك تعتنق كنيسة الروم الأرثوذكس هذا الرأي.
3- وهناك رأي ثالث يقول إن هؤلاء الإخوة هم أولاد كلوبا، وكانت أمهم أخت أم المسيح، فهم أولاد خالته (انظر يو19: 25). ويقول أصحاب هذا الرأي إن (مت27: 56 ومر15: 40) يذكر وجود مريم أم يعقوب ويوسي عند الصليب، ويقول إن مريم هذه كانت أخت مريم أم يسوع وإن يعقوب ويوسي هما اللذان ذكر عنهما أنهما أخوان. وأول من قال بهذا الرأي هو أيرونيموس في القرن الرابع، واتبعته كنيسة رومية ولوثر وبعض أتباعه. أما معارضو هذا الرأي فيقولون إنه من المستبعد أن يكون لأختين اسم واحد. كما يقولون إن الكتاب المقدس يفرق بين التلاميذ وإخوة الرب ويجعلهما فريقين يختلف أحدهما عن الآخر قارن أع1: 13 و14" .
وفى "معجم اللاهوت الكتابى" أن "لفظ "أخ" يدل، في أقوى معانيه، على الأشخاص المنحدرين من أم واحدة (تكوين 4: 2). ولكن في العبرانية وفي العديد من اللغات الأخرى ينطبق هذا اللفظ على أعضاء الأسرة نفسها (تكوين 13: 8، أحبار 10: 4، راجع مرقس 6: 3)، أو على أعضاء القبيلة نفسها (2 ملوك 19: 13)، أو حتى على أعضاء الشعب نفسه (تثنية 25: 3، قضاة 1: 3) تمييزا لهم عن الغرباء (تثنية 1: 16، 15: 2- 3). وهو يشير أخيرا إلى الشعوب المنحدرة من الجدّ الأصلي نفسه، مثل آدوم وإسرائيل (تثنية 2: 4، عاموس 1: 11). وبجانب هذه الأخوّة القائمة على الجسد يشير الكتاب إلى أخوّة أخرى ذات طابع روحي هي أخوّة الإيمان (2: 29)، في التعاطف (2 صموئيل 1: 26)، في الوظيفة المتماثلة (2 أيام 31: 15، 2 ملوك 9: 2)، في العهد المعقود (عاموس 1: 9، 1 ملوك 20: 32، 1 مكابيين 12: 10). وهذا الاستعمال المجازي للكلمة يدل على أن الأخوّة الإنسانية هي، كاختيار حياتي، لا تقتصر فقط على القرابة الدموية رغم أن هذه الأخيرة تشكّل دعامتها الطبيعية".
ويقول القس بولس فغالى فى قاموس "المحيط الجامع فى الكتاب المقدس والشرق القديم": "أخ- أخت: أولاد أب وأم (تك 4 : 2)، أولاد أب وأمّهات عديدات (تك 20 :12)، أولاد أم وآباء عديدين (تك 43 :7؛ لا 18 :9؛ 20 :17). في معنى واسع، الإخوة هم أيضًا العم وابن الأخ (تك 13 :8؛ 14 :14)، وأناس من العشيرة الواحدة (لا 21 :10)، أو من العشيرة المجاورة (تث 2 :4، 8؛ 23 :8). في الرسائل يُخاطب الملكُ ملكًا مثله باسم أخ (1 مل 9 :13؛ 20 :32-33). وقد يُسمّي الرجل زوجته: "يا أختي"، وتسمّي المرأة زوجها: "يا أخي" (نش 4 :9-12؛ 5 :1-16). في العهد الجديد، يُسَمَّى المسيحيّون: "الإخوة" قرابة 160 مرّة، ويسمّي يسوع تلاميذه: "الإخوة" (يو 20 :17؛ رج عب 2 :11-12). ويقول بولس الرسول إنّ ابن الله هو بكر إخوة كثيرين (رو 8 :29)".
أما ما كتبته "دائرة المعارف الكتابية" تحت عنوان "أخ" و"أخت" على الترتيب فهو، كما يقول المثل: "قَطَعَتْ جَهِيزَةُ قولَ كل خطيب"، إذ يمثل ضربة ماحقة لكل الضجيج المثار حول عبارة "يا أخت هارون" بحيث يتبين لنا بأجلى بيان أنه ضجيج مفتعل ومخجل ولا معنى له:
- "أخ، وجمعه "إخوة". ويطلق لفظ الأخ على:
1- الابن في علاقته بأبناء أو بنات نفس الوالدين (تك 4: 8، 42: 4، مت 10: 2).
2- الابن لنفس الأب فقط دون الأم (تك 20: 12، 42: 3) أو لنفس الأم فقــط دون الأب (قض 8: 19).
3- على قريب من الأسرة الواحدة، كابن الأخ مثلاً، فقد قال أبرام عن لوط ابن أخيه إنه "أخوه" (تك 14: 12 و16).
4- على أفراد السبط الواحد (2 صم 19: 12).
5- أطلق اسم "إخوة" على الأفراد من الشعب الواحد (خر 2: 11، أع 3: 22، عب 7: 5).
6- على حليف أو أحد أفراد شعـــب حليف (عدد 20: 14، تث 23: 7، عاموس 1: 9).
7- على شخص يشابه شخصا آخر في صفة من الصفات (أم 18: 9).
8- على الأصدقاء (أيوب 6: 15).
9- على شخص يماثل شخصا آخر في المرتبة أو المكانة (1 مل 9: 13).
10- على شخص من نفس العقيدة الواحدة (أع 11: 29، 1 كو 5: 11).
11- تستخدم مجازيا للدلالة على المشابهة كما يقول أيوب: "صرت أخا للذئاب" (أيوب 30: 29).
12- على زميل في العمل أو في الخدمة (عزرا 3: 2).
13- أيّ إنسان من الجنس البشري للدلالة على الأخوة البشرية ( مت 7: 3 - 5، أع 17: 26، عب 8: 11، 1 يو 2: 9، 4: 20).
14- للدلالة على القرابة الروحية (مت 12: 50).
15- قال الرب للتلاميذ: "أنتم جميعا إخوة" (مت 23: 8). كما استخدم الرسل والتلاميذ لفظ "إخوة" للتعبير عن بنوتهم المشتركة لله، وأن كلا منهم أخ للآخر في المسيح (أع 9: 17، 15: 1 … الخ)، فالمؤمنون جميعا إخوة لأنهم صاروا "رعية مع القديسين وأهل بيت الله" (أف 2: 9). وقد كان الربيون اليهود يفرقـــون بين "أخ" و "قريب" فيستخدمون لفظة "أخ" لمن يجري في عروقهم الدم الإسرائيلي، أما لفــظ "قريب" فيطلقونه على الدخلاء، ولكنهم لم يكونوا يطلقون أي لفظ من اللفظين على الأمم. أما الرب يسوع والرسل فقد أطلقوا لفظة "أخ" على كل المؤمنين، ولفظة "قريب" على كل البشر (1 كو 5: 11، لو 10: 29). وكل المجهودات الكرازية وأعمال الخير إنما هي من منطلق هذا المفهوم المسيحي لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان.
16- للدلالة على المحبة القوية المتبادلة (2 صم 1: 26، كو 4: 7 و9 و15 و2 بط 3: 15)" .
- "أخت: تستخدم هذه الكلمة كثيرا في العهد القديم، وهي في العبرية "أبوت" للإشارة إلى:
1- أخت شقيقة من نفس الأبوين.
2- أخت من أحد الأبوين (تك 20: 12، لا 18: 9).
3- امرأة من نفس العائلة أو العشيرة (تك 24: 60، أي 42: 11).
4- امرأة من نفس البلد أو الناحية (عدد 25: 28).
5- يقال مجازيا عن مملكتي إسرائيل ويهوذا إنهما أختان (حز 23: 4).
6- تعتبر المدن المتحالفة أخوات (حز 16: 45).
7- تستخدم نفس الكلمة العبرية لوصف أشياء ذات شقين أو أشياء مزدوجة، مثل الستائر أو الشقق التي يقال عنها: "بعضها موصــول ببعض" (وفي العبرية "موصول بأخته"- خر 26: 3 و6)، كما تطلق أيضا على أزواج الأجنحة (حز 1: 9، 3: 13).
8- لوصف بعض الفضائل المرتبطة بالشخص مثل: "قل للحكمة: أنت أختي" (أم 7: 4، أي 17: 14) .
9- لوصف العلاقة بين محب وعروسه كتعبير عن الإعزاز (نش 4: 9، 5: 1، 8: 8).
وفي العهد الجديد تستخدم الكلمة اليونانية "أيلف" (أخت) في المعاني الآتية:
1- لوصف القرابة بالجسد أو بالدم (مت 12: 5، 13: 56، 19: 29، لو 10: 39، لو 14: 26، يو 11: 1، 19: 25، أع 23: 16).
2- أخت في المسيح:" أختنا فيبي" (رو 16: 1، انظر أيضا 1 كو 7: 15، 1 تي 5: 1، يع 2: 15).
3- قد تشير إلى كنيسة: "أختك المختارة" (2 يو 13)" .
والآن أتركك، يا قارئى العزيز، تقوم بنفسك بتسكين أُخُوّة مريم لهارون تحت ما تراه مناسبا من هذه البنود، وكثير جدا منها ملائم تماما لهذا الاستعمال . وبالمناسبة فواضعو هذه الموسوعة ليسوا مجرد كتاب نصارى، بل من كبار رجال الدين والمتخصصين فى الدراسات الدينية الكتابية منهم.
وردا على مقولة "عبقرية محمد"، التى زعم زميل جيفرى لانج أنها هى التى عصمته صلى الله عليه وسلم من الوقوع فى الأخطاء لدن تأليفه القرآن، نقول: أليس من الغريب العجيب أن يقع فى كل تلك الأخطاء والتناقضات المزعجة مؤلفو الكتاب المقدس، الذين يؤمن أهله بأن روح القدس كان يوحى إليهم ويوجههم ويرشدهم، ثم يستطيع رجل غير نبى كمحمد الأمى، الذى ينتمى إلى أمة أمية ولم يذهب إلى مدرسة أو جامعة، ولا يفهم شيئا فى مقارنة الأديان ولا خبرة لديه فى عالم التأليف ولا فى الدعوة الدينية ولا كان حوله من يساعده ويأخذ بناصره، أن يتجنب ما وقع فيه هؤلاء المؤلفون الذين يعضدهم الوحى ويساندهم فى كل حرف يكتبونه من أخطاء وتناقضات؟ فعلام بالله يدل هذا؟ وما هى النتيجة التى ينبغى أن نصل إليها من خلال هذه المقارنة بين الرسول وبين أولئك الكتاب؟
أما بالنسبة للتفاصيل فلا ريب أن القرآن بوجه عام لا يميل إلى ذكر الأسماء والتواريخ بالطريقة التى ألفناها فى الكتب الأخرى، بل يكتفى بإشارة فيها الغَنَاء فى كثير من الأحوال، وإن لم يمنع هذا من لجوئه إلى التفاصيل فى بعض المواضع الأخرى. ومن اللافت للنظر هنا أنه، فى الوقت الذى ذُكِرَتْ فيه أسماء بعض الأنبياء مرارا تبلغ فى حالة بعضهم العشرات (مثلا: موسى 136 مرة، إبراهيم 69، يوسف 27، عيسى 25، إسحاق 17، سليمان 17، يعقوب 16، داود 16، إسماعيل 12، المسيح 11)، لم يُذْكَر اسمه هو إلا مرات أربعا ليس إلا، ولم يذكر اسم أبيه أو أمه أو جده أو أعمامه الذين كانوا يودونه أو أى من زوجاته بما فيهن خديجة وعائشة أقربهن إلى قلبه، كما لم يذكر اسم أحد من أبنائه أو بناته أو أزواج بناته أو اسم أى من أصحابه ولو من الكبار المقربين ذوى التأثير والنفوذ، اللهم إلا زيدا، وهو ليس من الكبار المؤثرين، وفى أمر كان يستلزم، من زاوية المصلحة الاجتماعية، ألا يُْذَكر اسمه أصلا ويُكْتَفَى بإشارة خاطفة إلى الواقعة والحكم المتعلق بها إن كان لا بد من ذلك أصلا. فهل كان الرسول، بهذا النهج، يحرص هنا على ألا يقع فى خطإ تأخذه عليه الأجيال اللاحقة؟ من المستبعد تماما أن يكون الأمر كذلك، لأن أحدا لا يمكن أن يخطئ فى اسم أفراد أسرته أو أصدقائه، فضلا عن أن ذكر أصحابه فى القرآن يضفى عليهم هالة من التبجيل والاحترام بما يجعلهم أشد ولاء له وإقبالا على دينه. فانظر كيف لم يذكر القرآن أيا منهم فى الوقت الذى ذكر فيه مريم أم عيسى وعمران أباها وعمران أبا موسى، وآزر أبا إبراهيم، وتحدث عن أم موسى وأخته بشىء من التفصيل، وعن أبى إبراهيم والصراع الذى نشب بينه وبين ابنه بسبب كفره وعناده، وعن ابن نوح وتمرده على أبيه وعلى دعوة التوحيد التى أتى بها، وعن زوجة فرعون المؤمنة ومخالفتها لزوجها المتمرد المتأله... إلخ.
وهناك حالات تعرض فيها القرآن لبعض الأمور بالتفصيل، وكان كلامه فيها حاسما، ومع ذلك صدَّقت الأحداث ما قاله بشأنها: من ذلك مثلا قوله تعالى عن الحرب التى وقعت فى أوائل الدعوة بين الروم والفرس وهُزِم فيها الروم، فعلق القرآن بأن الروم سوف تكون لهم الغلبة "فى بضع سنين" على من أذاقوهم لتوهم سوء الهزيمة. وسرعان ما وقع رهان بين أبى بكر، الصحابى المخلص الذى لم يعرف التلجلج يوما فى التصديق بأى شىء يذكره القرآن أو يقوله الرسول، وبين المشركين الذين كذَّبوا بإمكان انتصار الروم، وبالذات خلال تلك الفترة، وكانت المدة التى تم الرهان عليها ثلاث سنوات، إلا أن النبى طلب من الصِّدِّيق أن يطوّل فى المدة ويزيد فى قيمة الرهن، لأن كلمة "بضع" تعنى "من ثلاثة إلى تسعة". وسرعان ما انفجرت الحرب بين البلدين، وكانت الغلبة للروم كما تنبأ القرآن. ومع ذلك لم يتخذ القرآن من تلك الواقعة مناسبة يطنطن فيها ويفتخر ويشمت بالخصوم، بل أهملها تماما وكأنها لم تحدث.
كذلك نسمع القرآن منذ البداية يتحدث فى لهجة يقينية لا تردُّد فيها ولا تمحُّل، وبصوت عال حاسم، مؤكدا أن الإسلام منتصر لا محالة على الأديان جميعا وأن كل ما يفعله الكفار وأهل الكتاب لتعويق زحفه لن يوقف مده الكاسح. وقد انتصر الإسلام فعلا فى عهد رسول الله على المشركين فى أرجاء الجزيرة العربية كلها حتى أتته القبائل فى العام التاسع للهجرة من أطراف البلاد تعلن إسلامها وولاءها، كما بدأت الحروب بين جيوش المسلمين وجيوش فارس والروم غِبّ وفاته صلى الله عليه وسلم، وكان فوز المسلمين باهرا رغم تخلفهم تخلفا هائلا مرعبا عن تَيْنِك القوتين العالميتين فى كل المجالات: سواء فى ذلك المجالات العسكرية أو الاقتصادية أو العلمية أو التنظيمية، وانتهى الفرس والروم واختفَوْا من خريطة العالم إلى غير رجعة، وانساح الإسلام حتى وصل أطراف الأرض المعروفة آنذاك شرقا وغربا فى زمن قياسى، ورحبت به الشعوب وأقبلت على اعتناقه والذود عنه والانخراط بكل كيانها فيه.
وهناك أيضا تلك السورة الصغيرة التى نزلت فى أوائل الدعوة حين كان الرسول والمسلمون مستضعفين فى مكة، ووقف عمه أبو لهب وزوجته ضده وضد دعوته بكل ما يملكان من سفاهة وقلة أدب وشكاسة وإيذاء، فنزل قوله تعالى فى سورة "المسد" معلنا أن أبا لهب سيَصْلَى هو وزوجته نارا لاهبة. وكان يمكن، طَوَال حياة أبى لهب وزوجته، أن يدخلا الإسلام، ولو تظاهُرًا ورياءً كى يثبتا للناس أن ما قاله القرآن عنهما غير صحيح. بَيْدَ أنهما لم يفعلا ولا فكرا فى أن يفعلا، وماتا على الشرك والعصيان، واستحقا النار ذات اللهب التى توعدهما بها القرآن. فما رأى من يقولون بأنه صلى الله عليه وسلم كان حريصا فى كلامه بحيث لا يؤخَذ عليه شىء؟
وهناك أحاديث أكثر تفصيلا وإيضاحا، ومع هذا وقع الأمر على النحو الذى حدده رسول الله. ومنها ذلك الحديث الذى يروى كيف كان رسول الله ذات مرة عند أم حرام، وهى صحابية من محارمه، فأخذته غفوة، ثم استيقظ يضحَكُ، فسألته عن سبب ضحكه، فقال: ناسٌ من أمتي عُرِضوا عليَّ غُزاةً في سبيلِ اللهِ يركَبونَ ثَبَجَ هذا البحرِ مُلوكًا على الأسِرَّةِ. فطلبت منه الدعاء بأن تكون منهم، فدعا، ثم وضَع رأسَه فنام، ثم استيقَظ ثانية يَضحَكُ، فسألته عن سبب ضحكه، فكان جوابه هو ذات الجواب الأول، فأعادت رجاءها السابق، فأجابها بأنها من الجماعة الأولى التى ستركب البحر لأول مرة. فرَكِبَتِ البحرَ في زمانِ مُعاوِيَةَ، فصُرِعَتْ عن دابَّتِها حين خرجَتْ من البحرِ، فماتت بعدما تحققت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفى نفس المضمار أنبأ النبىُّ ابنتَه فاطمةَ أنها أول أهله لحوقا به فى العالم الآخر، فكان الأمر كما قال فى نبوءته.
ولدينا أحاديث فتح القسطنينية، الذى لم يتحقق إلا بعد أكثر من ثمانية قرون لم يشكّ المسلمون أثناءها فى نبوءة الرسول على تطاول الزمن، إذ تم فتح المدينة عام 857هـ على يد العثمانيين، الذين طالما دافعوا عن الإسلام والمسلمين لمئات الأعوام. يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "لَتَفْتَحُنَّ القسطنطينيةَ، فنِعْمَ الأميرُ أميرها! ونعم الجيش ذلك الجيش!". ويقول راوٍ آخر: "كنا عند عبدِ اللهِ بنِ عمرو بنِ العاصِ، وسُئِلَ: أيُّ المدينتيْنِ تُفتحُ أولا: القسطنطينيةُ أو روميَّةُ؟ فدعا عبدُ اللهِ بصندوقٍ له حِلَقٌ، فأخرج منه كتابًا، فقال: بينما نحنُ حولَ رسولِ اللهِ نكتبُ إذ سُئِلَ رسولُ اللهِ: أىُّ المدينتيْنِ تُفتحُ أولا: القسطنطينيةُ أو روميَّةُ؟ فقال رسولُ اللهِ: مدينةُ هرقلَ تُفتحُ أولا. يعني قسطنطينيةَ".
ومن هنا نفهم معزى الحديثين التاليين: فقد سمع أحد الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها! ولنعم الجيش ذلك الجيش!"، فدعاه مسلمة بن عبد الملك، فحدثه بما قاله رسول الله، فغزا القسطنطينية، إلا أنه لم يستطع أن يأخذها للمسلمين. وفى الحديث الآخر يقول أبو أيوب الأنصارى رضوان الله عليه: "غَزَوْنا من المدينةِ نريدُ القسطنطينيةَ، وعلى الجماعةِ عبدُ الرحمنِ بنُ خالدِ بنِ الوليد، والرومُ مُلْصِقو ظهورهم بحائطِ المدينةِ، فحمل رجلٌ على العدوِّ، فقال الناسُ: مَهْ، مَهْ. لا إله إلا الله. يلقِي بيدَيه إلى التَّهلُكةِ؟ فقال أبو أيوبٍ: إنما نزلت هذه الآيةُ فينا معشر الأنصارِ لما نصر اللهُ نبيَّه وأظهر الإسلامَ. قلنا: هَلُمَّ نقيمُ في أموالِنا ونصلُحها. فأنزل اللهُ تعالى: "وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلا تُلْقُوا بِأَيدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ". فالإلقاءُ بالأيدي إلى التَّهلكةِ أن نقيمَ في أموالِنا ونصلحَها وندعَ الجهادَ. قال أبو عمرانَ: فلم يزلْ أبو أيوبَ يجاهدُ في سبيلِ اللهِ حتى دُفِنَ بالقسطنطينيةِ".
وهذا ما تقوله "الموسوعة العربية العالمية" عن فتح تلك المدينة: "تم فتح القسطنطينية في عام 857هـ/ 1453م. وكان من أسبابه أن السلطان العثماني محمد الفاتح أراد، منذ الأيام الأولى لحكمه، حَسْم مشكلة القسطنطينية، وذلك بفتحها، لخطورتها على أمن الدولة العثمانية. وكان يدين بالرأي القائل: إنه لا مناص للعثمانيين من فتح القسطنطينية إذا أرادوا تدعيم قوتهم في أوروبا. وتجمّعت أسباب أخرى ألهبت مشاعر السلطان، فقد تطلع المسلمون منذ عصورهم الأولى إلى القسطنطينية، وحاولوا انتزاعها من البيزنطيين مرتين في عهد الدولة الأموية: في عهد معاوية وفي عهد الوليد بن عبد الملك، ومرتين في عهد الدولة العباسية على عهدي المهدي والرشيد، وباءت جميعها بالفشل. وحاول أسلافه من السلاطين العثمانيين تحقيق هذا الحلم، ولكنهم فشلوا.
استعدّ السلطان محمد الثاني سياسيا وعسكريا لفتح القسطنطينية، وكان من إجراءاته السياسية التي اتخذها تجديد المعاهدات واتفاقيات الهدنة مع جميع جيرانه الذين تربطهم به علاقات، والجنيويين المقيمين داخل القسطنطينية. وهدفه من هذا عزل الدولة البيزنطية سياسيا وعسكريا عن جيرانها. ومن الناحية العسكرية أكمل إقامة المنشآت التي بدأها السلطان با يزيد الأول على مقربة من القسطنطينية. كان هذا السلطان قد شيّد قلعة على الجانب الآسيوي من البوسفور تسمَّى: "أناضولي حصار" أو حصن آسيا، فشيّد محمد الثاني، على الجانب الأوروبي للبوسفور، قلعة تسمى: "روم إيلي حصار"، أي حصن أوروبا. وبذلك سيطر العثمانيون على ضفتي البوسفور.
احتج الإمبراطور البيزنطي على هذه الإجراءات، ورفض السلطان هذا الاحتجاج، وما كان من الإمبراطور إلا أن أغلق بوابات عاصمته واعتقل الرعايا العثمانيين، وردّ عليه السلطان بإعلان الحرب. وحشد قوَّاتٍ قِوَامُها ربع مليون جندي، فحاصر بهم القسطنطينية ثلاثة وخمسين يومًا وسط جو غامر بالمشاعر الدينية لدى الفريقين. وبدأ الهجوم العثماني على المدينة في 20 جمادى الأولى عام 857هـ الموافق 29 مايو 1453م، وتمكنوا بعد مقاومة عنيفة من اقتحام أسوارها، وقتلوا الإمبراطور. ودخل السلطان المدينة في 20 جمادى الأولى عام 857هـ الموافق 29 مايو 1453م، وحوَّل كاتدرائية القديس صوفي إلى مسجد، وأطلق اسم "إسلامبول"، أي مدينة الإسلام، على القسطنطينية، وتحقق بذلك حلم المسلمين. وكان فتحها نهاية الدولة الرومانية الشرقية، ودخولها لأول مرة حظيرة الإسلام، وبداية لسلسلة طويلة من الفتوحات والانتصارات العثمانية في البر والبحر انتهت إلى أسوار فيينا في أوروبا".
وعلى نفس الشاكلة أقول: مادام هناك حديث صحيح بأن المسلمين سوف يفتحون أيضا رومية فلسوف يفتحونها. وهأنذا أعيد الحديثين السابقين اللذين يذكران فتح تلك المدينة: فعن عبد الله بن عمر رضى الله عنه: "بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب، إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تُفْتَح أوّلاً: قسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل تفتح أولا. يعني قسطنطينية". وعن حيي بن هانئ المعافري: "كنا عند عبدِ اللهِ بنِ عمرو بنِ العاصِ، وسُئِلَ: أيُّ المدينتيْنِ تُفتحُ أولاً: القسطنطينيةُ أو روميَّةُ؟ فدعا عبدُ اللهِ بصندوقٍ له حِلَقٌ، فأخرج منه كتابًا فقال: بينما نحنُ حولَ رسولِ اللهِ نكتبُ إذ سُئِلَ رسولُ اللهِ: أىُّ المدينتيْنِ تُفتحُ أولاً: القسطنطينيةُ أو روميَّةُ؟ فقال رسولُ اللهِ: مدينةُ هرقلَ تُفتحُ أولا. يعني قسطنطينيةَ".
وقد فُتِحَتِ القسطنطينية طبقا لنبوءته صلى الله عليه وسلم، وهى نبوءة محددة تحديدا واضحا ساطعا. ولا يمكن القول بأن هذا الحديث قد وُضِع بعد فتح المدينة خدمةً لسمعة النبى عليه السلام ورغبة فى إضافة نبوءة أخرى إليه، إذ هو موجود قبل الفتح بقرون. وحتى لو جاء من يقول إن الحديث ليس نبوءة، أى إخبارا عن أمر سيقع فى المستقبل، بل كان تصريح الرسول به هو السبب فى فتح المدينة بإشعال نار الحماسة فى قلوب قادة المسلمين وجندهم والرغبة فى إحراز ذلك المجد المؤثل، فإن ذلك لا يقدم فى الأمر شيئا ولا يؤخر، إذ المهم أن النبى قد قال، فجاء قوله كفلق الصبح. وإنى لأنظر إلى فتح رومية بنفس العين، ولسوف يفتح الإسلام رومية حتما: طال الزمان أو قصر. وقد يفتحها الإسلام من الخارج حربا أو يفتحها من الداخل بغزوه قلوب أهلها واعتناقهم عقيدته وشريعته. وما شىء على الله بعزيز.
صحيح أن المسلمين الذين فتحوا القسطنطينية لم يكونوا مثلنا الآن، بل كانوا أعزة ماجدين طموحين غلابين، فدان النصر لهم، وكان لهم ما أرادوا. وليس بخاف أننا الآن لا نصلح تقريبا لشىء، ولسنا سوى جهاز للكلام لا غير دون أى فعل ذى قيمة، بيد أن الدنيا لا تستمر على حال، والمرجو أن نتغير حتى لا نضيع أكثر مما نحن ضائعون. ومن الممكن أن يغزو الإسلام قلوب أهل رومية فيعتنقوه من تلقاء أنفسهم كما قلت ولا يحتاج الأمر منا نحن الكسالى أى جهد. ومع ذلك فكلنا أمل فى أن يعود المسلمون أعزة متحضرين مستنيرين تتعلم الشعوب الأخرى منهم وتنظر إليهم بعين الإكبار والإجلال كما كان الأمر فى الماضى.
ومما يدل أيضا على أن القرآن، وكذلك النبى، لا ينتهج سنة الإيجاز دائما، فضلا عن أن يكون السبب فى ذلك الإيجاز فى مواضعه هو ما ذكره زميل لانج المتخصص فى مقارنة الأديان، مما يدل على هذا بعض قصص الأنبياء السابقين، ومنهم طائفة من أنبياء بنى إسرائيل، فضلا عن أن القرآن فى هذه الحالات كثيرا ما يذكر أشياء تخالف ما يقوله الكتاب المقدس مخالفة بلقاء كما سبق القول. فلو كان يجرى على السنة المزعومة التى ادعاها عليه ذلك الأمريكى لما فكر فى مخالفة الكتاب المقدس قط. والعجيب أنه لم يخالف الكتاب المقدس إلا فى الحالات التى لا يمكن أن يرفض قولَه فيها عاقل.
فمثلا يقول العهد القديم إن ابن إبراهيم الذييح هو إسحاق، على عكس ما ورد من أحاديث يقول فيها الرسول مثلا: "أنا ابن الذبيحين"، مما يدل على أن إسماعيل لا إسحاق هو الذبيح، لأن إسماعيل هو جد النبى. وفى العهد القديم الدليل القاطع على أن الذبيح هو إسماعيل، إذ يقول كاتب سفر "التكوين" إن الله قد أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده، ولم يكن لإبراهيم ابن وحيد إلا إسماعيل، الذى سبق أخاه إلى الوجود ببضع عشرة سنة ، فلما جاء إسحاق بعد ذلك لم يكن ابنا وحيدا لأنه كان هناك ابنان لإبراهيم فى ذلك الوقت: إسماعيل وإسحاق. ويقول الكتاب المقدس عن لوط إن ابنتيه اتفقتا ذات ليلة على أن تسقياه خمرا إلى أن يغيب عن وعيه ثم تناما معه كل واحدة ليلة حتى تحبلا منه، وإن ذلك قد تم على ما رسمتا وخططتا بالضبط، فحبلتا من أبيهما. أما القرآن فيصف لوطا وصفا طاهرا نبيلا يناسب أنبياء الله ورسله. وحين يحكى الكتاب المقدس أن هارون هو الذى صنع العجل لقومه، أثناء غياب موسى فى لقاء ربه فوق الجبل، نزولا على رغبتهم، وحضر رقصهم ومجونهم ودورانهم حول العجل وعبادتهم له، نجد القرآن لا يذكر شيئا من هذا الذى لو صح لكان بمثابة ضربة للنبوة فى مقتل.
ومثله ما ورد فى الكتاب المقدس عن داود، الذى اتهمه مؤلف قصته فى العهد القديم بالزنا ببَتْشَبَع امرأة قائد جبشه أوريا الحِثِّىّ وباغتيال ذلك القائد المخلص. وبتشبع هذه بالمناسبة هى أم سليمان، الذى يُنْسَب له فى العهد القديم سفر كله غزل مفحش تقوله لحبيبها فتاة قد خلعت برقع الحياء وأفلت عيارها تماما. كما يظهر لنا سليمان فى العهد القديم أيضا زوجا ضعيفا تتحكم فيه زوجاته "الوثنيات" ويضطررنه إلى توفير الأوثان لهن فى بيته كى يعبدنها براحتهن وعلى هواهن وينساق هو أيضا وراء عبادتها. أما فى القرآن فلا نجد شيئا من ذلك البتة، بل نجد صورا وضاءة لأولئك النبيين والمرسلين تليق بمن اختارهم الله على عينه وجعل منهم قادة وهداة للبشرية إلى العقيدة الصحيحة والخلق القويم والسلوك الراقى الكريم بخلاف ما يقوله عنهم الكتاب المقدس. فماذا يمكن أن يقول الأستاذ الجامعى مقارن الأديان، الذى ادَّعَى على الرسول ما ادَّعَى؟
هذا بالنسبة للحذر المزعوم الذى كان النبى يأخذ به عند صياغته للقرآن حسب نظرية من ينكرون نبوته ويفسرون عظمة القرآن بما كان يتمتع به صلى الله عليه وسلم من عبقرية فذة. أما أنه عليه السلام قد أخذ القرآن من الكتاب المقدس فهذه أضحوكة. ذلك أن الموضوعات المتشابهة فى الكتابين محدودة، إذ إن موضوع القرآن الأساسى هو مواكبة الأحداث والوقائع التى تحدث للمسلمين. وهذا، كما يرى القارئ، موضوع مختلف تماما عما فى الكتاب المقدس، الذى هو فى الواقع كتاب فى تاريخ بنى إسرائيل قبل كل شىء، وإن كان القرآن أحيانا ما يتناول قصص الأنبياء السابقين، ومنهم بعض أنبياء بنى إسرائيل. ومع ذلك فهناك فروق حادة بين الكتابين فى كل شىء حتى فى قصص الأنبياء كما رأينا، فما بالنا بفروق العقائد والتشريعات وآداب السلوك والذوق وأمور الحضارة؟
إن ما فى الإسلام عن فضل العلم والعلماء والعمل والعاملين والإتقان والمتقنين ودعوته المِلْحَاح إلى توخِّى النظافة والنظام والسعى على المعاش والاهتمام بجمال المظهر، إلى جانب المخبر، لا وجود له فى الكتاب المقدس. ترى أين يجد الشخص شيئا كالآيات أو الأحاديث التالية فى الكتاب المقدس بعهديه الاثنين: القديم والجديد؟ يقول المولى سبحانه: "وعلَّم آدم الأسماء كلها"، "وقل: رب، زدنى علما"، "قل: هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟"، "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أُوتُوا العِلْمَ درجات"، "إن الظن لا يُغْنِى من الحق شيئا"، "اجتنبوا كثيرا من الظن. إن بعض الظن إثم"، "وإنا أو إياكم لَعَلَى هُدًى أو فى ضلالٍ مبينٍ"، "اِيتُونِى بكتابٍ مِنْ قَبْل هذا أوأَثارةٍ من عِلْم إن كنتم صادقين"، "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نُزُلا"، "اعملوا، فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"، "خذوا زينتكم عند كل مسجد"، "مَنْ حرَّم زينةَ الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟"، "إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون"، "إن تكفروا فإن الله غنى عنكم، ولا يرضى لعباده الكفر. وإن تشكروا يَرْضَه لكم"، "لا يسألون الناس إلحافا"، "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، "ياعبادىَ الذين أسرفوا على أنفسهم، لا تقنطوا من رحمة الله. إن الله يغفر النوب جميعا"، "إن الحسنات يُذْهِبْن السيئات".
ويقول الرسول الكريم: "العلماء ورثة الأنبياء"، "طلبُ العلم فريضةٌ على كل مسلم ومسلمة"، "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد"، "اطلبوا العلم ولو فى الصين"، "فضل العالم على العابد كفضل البدر على سائر الكواكب"، "أنا والساعى على الأرملة والمسكين فى الجنة كهاتين (وأشار عليه السلام إلى إصبعيه)"، "إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة"، "إن من الذنوب ذنوبا لا يكفّرها إلا العمل"، "لو توكلتم على الله حق توكُّله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خِمَاصا، وتروح بِطِانا"، "من لا يشكر الناس لا يشكر الله"، "ما لكم تدخلون علىَّ قُلْحًا (أى مُصْفَرِّى الأسنان)؟ استاكوا"، "لا يدخل الواحد منكم علىَّ ورأسه ثائر كأنه شيطان (حَثٌّ على الامتشاط)"، "إنما تُرْزَقُون بضعفائكم"، "من اجتهد فأخطأ فله أجر، ومن اجتهد فأصاب فله أجران"، "لا فضل لعربى على عجمى ولا لعجمى على عربى، ولا لأبيض على أحمر ولا لأحمر على أبيض إلا بالتقوى والعمل الصالح"، "أَتْبِعِ السيئةَ الحسنةَ َتَمْحُها".
وفى ذات الوقت نرى فى الكتاب المقدس مثلا كلاما عن العلم لا يمكن أن يقابلنا لا فى القرآن ولا فى أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم. ففي سفر "الجامعة" (1/ 17- 18، و12/ 12) أن معرفة الحكمة، مثلها مثل معرفة الحماقة والجهل، هي قبض الريح، وأن "في كثرة الحكمة كثرة الغم. والذي يزيد علما يزيد حزنا"، ومن هنا فإن "الدرس الكثير تعب للجسد"، بمعنى أنه تعب لا يجدي على صاحبه شيئا. كذلك يؤكد بولس (فى رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس/ ١/ ٢٠، ٢٧) أن الله "مُرْجِع الحكماء إلى الوراء ومجهِّل معرفتهم"، وأنه قد جَهَّل "حكمة هذا العالم"، وأنه قد "اختار... جُهَّال العالم ليخزي الحكماء"، وأن "حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله"، "وأيضا الرب يعلم أفكار الحكماء باطلة". وعلى هذا فـ"إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر فليصر جاهلا لكي يصير حكيما" كما جاء فى العبارتين 20، 27 فى الإصحاح الثانى من رسالة يوحنا الأولى.
وعلى هذا فلست أوافق الدكتور موريس بوكاى على قوله إن "الأمر الذى لا جدال فيه هو أنه ليست هناك أية إدانة للعلم في أى كتاب مقدس من كتب أديان التوحيد" ، فها هى ذى نصوص من الكتاب المقدس لدى اليهود والنصارى تفند هذا الادعاء. وتفسير وجود هذه النصوص فى هذا الكتاب هو أنه قد خضع، كما قرأنا، لكثير من الحذف والإضافة وإعادة الصياغة والنحل مما باعد بينه وبين أصله الذى كان عليه.
وفى مجال الاعتقاد نجد فى العهد القديم أن الله هو رب بنى إسرائيل يحابيهم على سائر الناس لا لشىء سوى أنهم بنو إسرائيل، وكأن الله سبحانه شيخ قبلى يتعصب لأبناء قبيلته ولا يضع فى اعتباره أحدا سواهم. كما أنه سبحانه يندم على أنه قد خلق البشر كما نندم نحن عباده، إذ اتضح له أنه قد أخطأ حساباته حين ظن أنهم سيكونون مطيعين، فإذا بهم عصاة متمردون، مما جعله يأسى على ما صنع ويندم عليه ويتمنى لو لم يفعله، وكأن أحدا كان يَغُلّ يده عن سحقهم ومحقهم بدلا من مقاساة كل هذا الندم والغيظ. كذلك نراه يشتبك فى مصارعة مع نبى من أنبيائه طوال الليل فى موضع خال من الطريق فلا يستطيع أن يتخلص من قبضة خصمه إلا بضربه ضربة مؤلمة على حُقّ فخذه.
وفى موضع آخر من العهد القديم نراه يتمشى فى الجنة فى الوقت الذى تهب فيه ريح النهار، فيحس به آدم، الذى صار عاريا بسبب أكله من الشجرة المحرمة، ويجرى مختبئا منه حتى لا يراه على هذه الحال، ونسمع صوته سبحانه وهو ينادى باحثا عنه ليعرف أين يختبئ منه. كما يُنْسَب الرجال فيه إليه بوصفهم "أبناء الله"، فى حين تنسب النساء إلى البشر فيقال عنهن: "بنات الناس". وفى هذا أيضا من التفرقة بين الرجال والنساء ما فيه، على عكس الإسلام، الذى سوى بينهما تسوية كاملة فى أصل الخلقة. وفى الكتاب المقدس كذلك تُحَمَّل حواء المسؤولية وحدها عن خروجها هى وزوجها من الفردوس حين غرَّرت بها الحية فغرَّرت هى بدورها بآدم، بخلاف القرآن، الذى ينسب العصيان إلى الزوجين معا، ويعاقبهما معا، على عكس ما فى قصة الخلق الكتابية، إذ تتحدث عن عقاب الله لحواء وبناتها متمثلا فى تحميلهن مشقة الحمل ومتاعبه وآلامه، وكأنه لو كان آدم هو الذى أخطأ لكان الرجال الآن هم الذين يحملون ويلدون! ومعروف أن الحمل، رغم آلامه ومتاعبه، باب واسع من أبواب السعادة لحواء وبناتها لا يضاهيه باب آخر. ومعروف أن القرآن يمتنّ على الأبوين بالذرية باعتبارها نعمة لا نقمة. كذلك ينكر القرآن إنكارا باتا صَلْب سيدنا عيسى أو قتله، كما ينكر الثالوثَ بكل قوة ويعده انحرافا عقيديا خطيرا، ويؤكد أن بالكتاب المقدس نبوءات بمجىء محمد عليه الصلاة والسلام، وهو ما ينكره اليهود والنصارى.
وفى الإصحاح الأول من سفر "التكوين" نجد الأيام التى خلق فيها الله عناصر الكون هى كأيامنا هذه التى نعرفها من سبت وأحد واثنين… إلخ، مع أن هذه الأيام لم تظهر إلى الوجود إلا بعد خلق الشمس والليل والأرض بطبيعة الحال. فكيف يقاس الزمن بشىء لم يكن له وجود بعد؟ كيف يقال إن الله خلق الشمس والليل والنهار فى اليوم الفلانى أو العلانى من أيامنا الأسبوعية، ولم يكن هناك أيام ولا أرض أصلا؟ ثم هل يسكن الله سبحانه وتعالى الأرض حتى يستعمل أيامها مقياسا زمنيا لما يعمله؟ إن الأيام لتختلف من كوكب إلى آخر من هذه الكواكب القريبة منا، فما بالنا بما هو خارج هذه الكواكب؟ وما بالنا بما وراء المجموعة الشمسية كلها؟ ومابالنا بالزمن فى الكون الفسيح، الذى يستحيل علينا أن نحيط به ولو ذهنيا؟ أما القرآن فيكتفى بالقول بأن الله قد خلق الكون فى ستة أيام (أيام فقط دون تحديد)، مضيفا قوله عز وجل: "وما مَسَّنا مِنْ لُغُوب" ردًّا على ما قاله الإصحاح الثانى من سفر "التكوين" من أن الله بعدما انتهى من خلق الكون فى الأيام الستة استراح فى اليوم السابع من الأسبوع، وكأنه بشر يجوز عليه التعب، ويحتاج من ثم قسطا من الراحة يجدد به نشاطه وحيويته. نعم يكتفى القرآن بقوله إن الله خلق السماوات والأرض فى ستة أيام دون أن يحددها بأنها أيامنا الأرضية، وفى نفس الوقت نقرأ فى آيات أخرى كلاما عن "أيام الله"، وأن اليوم عنده سبحانه وتعالى قد يكون مثل ألف سنة مما نعرفها، وقد يكون كخمسين ألف سنة، بما يعنى أن الأيام متغيرة تغير المكان الذى تجرى فيه الأحداث أو تتم فيه الأعمال. كما كرر القرآن فى عدة مواضع منه أنه، فى يوم القيامة حين يحشر الله البشر للحساب، سوف يبدو الزمن الذى عاشته البشرية وكأنه مجرد ساعة من ساعات النهار. ومن هذا كله نفهم أن كل يوم من أيام الخلق يمثل حقبة زمنية طويلة وليس يومنا الأرضى المؤلف من أربع وعشرين ساعة كما فى الكتاب المقدس.
وفى العبادات نجد كل شىء مختلفا عما عند اليهود والنصارى. وهذا أمر معروف للجميع، فلا داعى للتريث عنده. ولكن تعالَوْا إلى الحيض والنفاس مثلا. فعندنا فى الإسلام لا يتغير وضع المرأة الحائص أو النُّفَسَاء إلا فى أنها لا تصلى ولا تصوم ولا يعاشرها الرجل جنسيا، وما عدا هذا فلا حرج البتة فى ممارسته، فالرجل يؤاكلها ويحادثها ويداعبها ويلامسها دون أية قيود أو عَنَت. أما فى العهد القديم فالأمر جِدُّ مختلفٍ ويحيل حياتها وحياة من حولها فى البيت إلى جحيم. وفى العهد الجديد لا يوجد أى كلام فى هذا الموضوع، وإن كانت قوانين اللاهوت عندهم تمنع المعاشرة الجنسية فى فترة الطمث والصوم.
يقول الإصحاح الثانى عشر من سفر "اللاويين" من العهد القديم: "إِذَا حَبِلَتِ امْرَأَةٌ وَوَلَدَتْ ذَكَرًا، تَكُونُ نَجِسَةً سَبْعَةَ أَيَّامٍ. كَمَا فِي أَيَّامِ طَمْثِ عِلَّتِهَا تَكُونُ نَجِسَةً. 3وَفِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ يُخْتَنُ لَحْمُ غُرْلَتِهِ. 4ثُمَّ تُقِيمُ ثَلاَثَةً وَثَلاَثِينَ يَوْمًا فِي دَمِ تَطْهِيرِهَا. كُلَّ شَيْءٍ مُقَدَّسٍ لاَ تَمَسَّ، وَإِلَى الْمَقْدِسِ لاَ تَجِئْ حَتَّى تَكْمُلَ أَيَّامُ تَطْهِيرِهَا. 5وَإِنْ وَلَدَتْ أُنْثَى، تَكُونُ نَجِسَةً أُسْبُوعَيْنِ كَمَا فِي طَمْثِهَا. ثُمَّ تُقِيمُ سِتَّةً وَسِتِّينَ يَوْمًا فِي دَمِ تَطْهِيرِهَا. 6وَمَتَى كَمُلَتْ أَيَّامُ تَطْهِيرِهَا لأَجْلِ ابْنٍ أَوِ ابْنَةٍ، تَأْتِي بِخَرُوفٍ حَوْلِيٍّ مُحْرَقَةً، وَفَرْخِ حَمَامَةٍ أَوْ يَمَامَةٍ ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ إِلَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ، إِلَى الْكَاهِنِ، 7فَيُقَدِّمُهُمَا أَمَامَ الرَّبِّ وَيُكَفِّرُ عَنْهَا، فَتَطْهُرُ مِنْ يَنْبُوعِ دَمِهَا. هذِهِ شَرِيعَةُ الَّتِي تَلِدُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى. 8وَإِنْ لَمْ تَنَلْ يَدُهَا كِفَايَةً لِشَاةٍ تَأْخُذُ يَمَامَتَيْنِ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ، الْوَاحِدَ مُحْرَقَةً، وَالآخَرَ ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ، فَيُكَفِّرُ عَنْهَا الْكَاهِنُ فَتَطْهُرُ".
وفى الإصحاح الخامس عشر من ذات السفر: "19وَإِذَا كَانَتِ امْرَأَةٌ لَهَا سَيْلٌ، وَكَانَ سَيْلُهَا دَمًا فِي لَحْمِهَا، فَسَبْعَةَ أَيَّامٍ تَكُونُ فِي طَمْثِهَا. وَكُلُّ مَنْ مَسَّهَا يَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ. 20وَكُلُّ مَا تَضْطَجِعُ عَلَيْهِ فِي طَمْثِهَا يَكُونُ نَجِسًا، وَكُلُّ مَا تَجْلِسُ عَلَيْهِ يَكُونُ نَجِسًا. 21وَكُلُّ مَنْ مَسَّ فِرَاشَهَا يَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَسْتَحِمُّ بِمَاءٍ، وَيَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ. 22وَكُلُّ مَنْ مَسَّ مَتَاعًا تَجْلِسُ عَلَيْهِ، يَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَسْتَحِمُّ بِمَاءٍ، وَيَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ. 23وَإِنْ كَانَ عَلَى الْفِرَاشِ أَوْ عَلَى الْمَتَاعِ الَّذِي هِيَ جَالِسَةٌ عَلَيْهِ عِنْدَمَا يَمَسُّهُ، يَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ. 24وَإِنِ اضْطَجَعَ مَعَهَا رَجُلٌ فَكَانَ طَمْثُهَا عَلَيْهِ يَكُونُ نَجِسًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ. وَكُلُّ فِرَاشٍ يَضْطَجِعُ عَلَيْهِ يَكُونُ نَجِسًا. 25وَإِذَا كَانَتِ امْرَأَةٌ يَسِيلُ سَيْلُ دَمِهَا أَيَّامًا كَثِيرَةً فِي غَيْرِ وَقْتِ طَمْثِهَا، أَوْ إِذَا سَالَ بَعْدَ طَمْثِهَا، فَتَكُونُ كُلَّ أَيَّامِ سَيَلاَنِ نَجَاسَتِهَا كَمَا فِي أَيَّامِ طَمْثِهَا. إِنَّهَا نَجِسَةٌ. 26كُلُّ فِرَاشٍ تَضْطَجِعُ عَلَيْهِ كُلَّ أَيَّامِ سَيْلِهَا يَكُونُ لَهَا كَفِرَاشِ طَمْثِهَا. وَكُلُّ الأَمْتِعَةِ الَّتِي تَجْلِسُ عَلَيْهَا تَكُونُ نَجِسَةً كَنَجَاسَةِ طَمْثِهَا. 27وَكُلُّ مَنْ مَسَّهُنَّ يَكُونُ نَجِسًا، فَيَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَسْتَحِمُّ بِمَاءٍ، وَيَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ. 28وَإِذَا طَهُرَتْ مِنْ سَيْلِهَا تَحْسُبُ، لِنَفْسِهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ تَطْهُرُ. 29وَفِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ تَأْخُذُ لِنَفْسِهَا يَمَامَتَيْنِ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ، وَتَأْتِي بِهِمَا إِلَى الْكَاهِنِ إِلَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ. 30فَيَعْمَلُ الْكَاهِنُ: الْوَاحِدَ ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ، وَالآخَرَ مُحْرَقَةً. وَيُكَفِّرُ عَنْهَا الْكَاهِنُ أَمَامَ الرَّبِّ مِنْ سَيْلِ نَجَاسَتِهَا. 31فَتَعْزِلاَنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ نَجَاسَتِهِمْ لِئَلاَّ يَمُوتُوا فِي نَجَاسَتِهِمْ بِتَنْجِيسِهِمْ مَسْكَنِيَ الَّذِي فِي وَسَطِهِمْ".
ويجد القارئ خلاصة هذا الكلام فى الحديث التالى الذى يخبرنا راويه "أنَّ اليَهودَ كانت إذا حاضت منهمُ المرأةُ أخرجوها منَ البيتِ ولم يُؤاكلوها ولم يُشاربوها ولم يُجامعوها (أى لم يخالطوها) في البيتِ، فسُئِلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عن ذلِك، فأنزلَ اللَّهُ سبحانَه: "ويَسألونَكَ عنِ المَحِيضِ. قٌلْ: هوَ أذًى. فاعْتَزلُوا النِّساءَ في المَحِيضِ... إلى آخرِ الآيةِ"ـ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: جامعوهنَّ (أى خالطوهن ولا تعزلوهن وحدهن) في البيوتِ واصنعوا كلَّ شيءٍ غيرَ النِّكاحِ. فقالتِ اليَهودُ: ما يريدُ هذا الرَّجلُ أن يدعَ شيئًا من أمرنا إلا خالفَنا فيهِ. فجاءَ أُسَيدُ بنُ حُضَيرٍ وعبَّادُ بنُ بِشْرٍ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقالا: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ اليَهودَ تقولُ كذا وَكذا. أفلا نَنْكِحُهُنَّ في المحيضِ؟ فتمعَّرَ وجهُ رسولِ اللَّهِ صلّى الله عليهِ وسلم حتَّى ظَنَنَّا أنْ قد وجدَ عليهما، فخرجا فاستقبلتهما هديَّةٌ من لبنٍ إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم،َ فبعثَ في آثارِهما فسقاهما، فَظَنَنَّا أنَّهُ لم يجد عليهما".
ولنأخذ مثالا آخر هو تشريعات الطعام: ففى القرآن أربعة ألوان فقط من الطعام محرمة هى الـمَيْتَة والدم ولحم الخنزير وما أُهِلَّ لغير الله به، بالإضافة إلى طيور وحيوانات أخرى يختلف الفقهاء بشأنها، لكن لا يوجد إجماع بينهم إلا على هذه الأربعة فحسب. أما عند النصارى فأكل الخنزير مثلا مباح. وتنسب الأناجيل للسيد السميح عليه السلام أن ما يدخل فم الإنسان من خارج لا يقدر أن ينجسه، بل ما يخرج من فمه هو الذى ينجسه ، مما يشير إلى أن كل طعام مباح. لكنْ فى مادة "طعام" من "دائرة المعارف الكتابية" أنه حدث اتفاق بعد المسيح بفترة على تحريم الدم والمخنوق وما يُذْبَح للأصنام، وأن الأسماك إذا لم تكن لها زعانف وحراشف فلا تؤكَل.
وأما فى العهد القديم فنقرأ فى الإصحاح الحادى عشر من سفر "اللاويين": "1وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى وَهَارُونَ قَائِلاً لَهُمَا: 2«كَلِّمَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَائِلَيْنِ: هذِهِ هِيَ الْحَيَوَانَاتُ الَّتِي تَأْكُلُونَهَا مِنْ جَمِيعِ الْبَهَائِمِ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ: 3كُلُّ مَا شَقَّ ظِلْفًا وَقَسَمَهُ ظِلْفَيْنِ، وَيَجْتَرُّ مِنَ الْبَهَائِمِ، فَإِيَّاهُ تَأْكُلُونَ. 4إِلاَّ هذِهِ فَلاَ تَأْكُلُوهَا مِمَّا يَجْتَرُّ وَمِمَّا يَشُقُّ الظِّلْفَ: الْجَمَلَ، لأَنَّهُ يَجْتَرُّ لكِنَّهُ لاَ يَشُقُّ ظِلْفًا، فَهُوَ نَجِسٌ لَكُمْ. 5وَالْوَبْرَ، لأَنَّهُ يَجْتَرُّ لكِنَّهُ لاَ يَشُقُّ ظِلْفًا، فَهُوَ نَجِسٌ لَكُمْ. 6وَالأَرْنَبَ، لأَنَّهُ يَجْتَرُّ لكِنَّهُ لاَ يَشُقُّ ظِلْفًا، فَهُوَ نَجِسٌ لَكُمْ. 7وَالْخِنْزِيرَ، لأَنَّهُ يَشُقُّ ظِلْفًا وَيَقْسِمُهُ ظِلْفَيْنِ، لكِنَّهُ لاَ يَجْتَرُّ، فَهُوَ نَجِسٌ لَكُمْ. 8مِنْ لَحْمِهَا لاَ تَأْكُلُوا وَجُثَثَهَا لاَ تَلْمِسُوا. إِنَّهَا نَجِسَةٌ لَكُمْ.
9«وَهذَا تَأْكُلُونَهُ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي الْمِيَاهِ: كُلُّ مَا لَهُ زَعَانِفُ وَحَرْشَفٌ فِي الْمِيَاهِ، فِي الْبِحَارِ وَفِي الأَنْهَارِ، فَإِيَّاهُ تَأْكُلُونَ. 10لكِنْ كُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ زَعَانِفُ وَحَرْشَفٌ فِي الْبِحَارِ وَفِي الأَنْهَارِ، مِنْ كُلِّ دَبِيبٍ فِي الْمِيَاهِ وَمِنْ كُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ فِي الْمِيَاهِ، فَهُوَ مَكْرُوهٌ لَكُمْ، 11وَمَكْرُوهًا يَكُونُ لَكُمْ. مِنْ لَحْمِهِ لاَ تَأْكُلُوا، وَجُثَّتَهُ تَكْرَهُونَ. 12كُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ زَعَانِفُ وَحَرْشَفٌ فِي الْمِيَاهِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ لَكُمْ.
13«وَهذِهِ تَكْرَهُونَهَا مِنَ الطُّيُورِ. لاَ تُؤْكَلْ. إِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ: اَلنَّسْرُ وَالأَنُوقُ وَالْعُقَابُ 14وَالْحِدَأَةُ وَالْبَاشِقُ عَلَى أَجْنَاسِهِ، 15وَكُلُّ غُرَابٍ عَلَى أَجْنَاسِهِ، 16وَالنَّعَامَةُ وَالظَّلِيمُ وَالسَّأَفُ وَالْبَازُ عَلَى أَجْنَاسِهِ، 17وَالْبُومُ وَالْغَوَّاصُ وَالْكُرْكِيُّ 18وَالْبَجَعُ وَالْقُوقُ وَالرَّخَمُ 19وَاللَّقْلَقُ وَالْبَبْغَا عَلَى أَجْنَاسِهِ، وَالْهُدْهُدُ وَالْخُفَّاشُ. 20وَكُلُّ دَبِيبِ الطَّيْرِ الْمَاشِي عَلَى أَرْبَعٍ. فَهُوَ مَكْرُوهٌ لَكُمْ. 21إِلاَّ هذَا تَأْكُلُونَهُ مِنْ جَمِيعِ دَبِيبِ الطَّيْرِ الْمَاشِي عَلَى أَرْبَعٍ: مَا لَهُ كُرَاعَانِ فَوْقَ رِجْلَيْهِ يَثِبُ بِهِمَا عَلَى الأَرْضِ. 22هذَا مِنْهُ تَأْكُلُونَ: الْجَرَادُ عَلَى أَجْنَاسِهِ، وَالدَّبَا عَلَى أَجْنَاسِهِ، وَالْحَرْجُوانُ عَلَى أَجْنَاسِهِ، وَالْجُنْدُبُ عَلَى أَجْنَاسِهِ. 23لكِنْ سَائِرُ دَبِيبِ الطَّيْرِ الَّذِي لَهُ أَرْبَعُ أَرْجُل فَهُوَ مَكْرُوهٌ لَكُمْ. 24مِنْ هذِهِ تَتَنَجَّسُونَ. كُلُّ مَنْ مَسَّ جُثَثَهَا يَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ، 25وَكُلُّ مَنْ حَمَلَ مِنْ جُثَثِهَا يَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ. 26وَجَمِيعُ الْبَهَائِمِ الَّتِي لَهَا ظِلْفٌ وَلكِنْ لاَ تَشُقُّهُ شَقًّا أَوْ لاَ تَجْتَرُّ، فَهِيَ نَجِسَةٌ لَكُمْ. كُلُّ مَنْ مَسَّهَا يَكُونُ نَجِسًا. 27وَكُلُّ مَا يَمْشِي عَلَى كُفُوفِهِ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَاشِيَةِ عَلَى أَرْبَعٍ، فَهُوَ نَجِسٌ لَكُمْ. كُلُّ مَنْ مَسَّ جُثَثَهَا يَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ. 28وَمَنْ حَمَلَ جُثَثَهَا يَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ. إِنَّهَا نَجِسَةٌ لَكُمْ.
29«وَهذَا هُوَ النَّجِسُ لَكُمْ مِنَ الدَّبِيبِ الَّذِي يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ: اِبْنُ عِرْسٍ وَالْفَأْرُ وَالضَّبُّ عَلَى أَجْنَاسِهِ، 30وَالْحِرْذَوْنُ وَالْوَرَلُ وَالْوَزَغَةُ وَالْعِظَايَةُ وَالْحِرْبَاءُ. 31هذِهِ هِيَ النَّجِسَةُ لَكُمْ مِنْ كُلِّ الدَّبِيبِ. كُلُّ مَنْ مَسَّهَا بَعْدَ مَوْتِهَا يَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ، 32وَكُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْهَا بَعْدَ مَوْتِهَا يَكُونُ نَجِسًا. مِنْ كُلِّ مَتَاعِ خَشَبٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ جِلْدٍ أَوْ بَلاَسٍ. كُلُّ مَتَاعٍ يُعْمَلُ بِهِ عَمَلٌ يُلْقَى فِي الْمَاءِ وَيَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ ثُمَّ يَطْهُرُ. 33وَكُلُّ مَتَاعِ خَزَفٍ وَقَعَ فِيهِ مِنْهَا، فَكُلُّ مَا فِيهِ يَتَنَجَّسُ، وَأَمَّا هُوَ فَتَكْسِرُونَهُ. 34مَا يَأْتِي عَلَيْهِ مَاءٌ مِنْ كُلِّ طَعَامٍ يُؤْكَلُ يَكُونُ نَجِسًا. وَكُلُّ شَرَابٍ يُشْرَبُ فِي كُلِّ مَتَاعٍ يَكُونُ نَجِسًا. 35وَكُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ وَاحِدَةٌ مِنْ جُثَثِهَا يَكُونُ نَجِسًا. اَلتَّنُّورُ وَالْمَوْقِدَةُ يُهْدَمَانِ. إِنَّهَا نَجِسَةٌ وَتَكُونُ نَجِسَةً لَكُمْ. 36إِلاَّ الْعَيْنَ وَالْبِئْرَ، مُجْتَمَعَيِ الْمَاءِ، تَكُونَانِ طَاهِرَتَيْنِ. لكِنْ مَا مَسَّ جُثَثَهَا يَكُونُ نَجِسًا. 37وَإِذَا وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ مِنْ جُثَثِهَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ بِزْرِ زَرْعٍ يُزْرَعُ فَهُوَ طَاهِرٌ. 38لكِنْ إِذَا جُعِلَ مَاءٌ عَلَى بِزْرٍ فَوَقَعَ عَلَيْهِ وَاحِدَةٌ مِنْ جُثَثِهَا، فَإِنَّهُ نَجِسٌ لَكُمْ. 39وَإِذَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنَ الْبَهَائِمِ الَّتِي هِيَ طَعَامٌ لَكُمْ، فَمَنْ مَسَّ جُثَّتَهُ يَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ. 40وَمَنْ أَكَلَ مِنْ جُثَّتِهِ يَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ. وَمَنْ حَمَلَ جُثَّتَهُ يَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ.
41«وَكُلُّ دَبِيبٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ لاَ يُؤْكَلُ. 42كُلُّ مَا يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ، وَكُلُّ مَا يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ مَعَ كُلِّ مَا كَثُرَتْ أَرْجُلُهُ مِنْ كُلِّ دَبِيبٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ، لاَ تَأْكُلُوهُ لأَنَّهُ مَكْرُوهٌ. 43لاَ تُدَنِّسُوا أَنْفُسَكُمْ بِدَبِيبٍ يَدِبُّ، وَلاَ تَتَنَجَّسُوا بِهِ، وَلاَ تَكُونُوا بِهِ نَجِسِينَ. 44إِنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُكُمْ فَتَتَقَدَّسُونَ وَتَكُونُونَ قِدِّيسِينَ، لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ. وَلاَ تُنَجِّسُوا أَنْفُسَكُمْ بِدَبِيبٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ. 45إِنِّي أَنَا الرَّبُّ الَّذِي أَصْعَدَكُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ لِيَكُونَ لَكُمْ إِلهًا. فَتَكُونُونَ قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ. 46هذِهِ شَرِيعَةُ الْبَهَائِمِ وَالطُّيُورِ وَكُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ تَسْعَى فِي الْمَاءِ وَكُلِّ نَفْسٍ تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ، 47لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ النَّجِسِ وَالطَّاهِرِ، وَبَيْنَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تُؤْكَلُ، وَالْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لاَ تُؤْكَلُ»".
وقد رأينا قبلا أن موضوعات القرآن والحوادث التى يتناولها والزمان الذى تقع فيه تلك الحوادث والأشخاص الذين يتحركون على لوحته والأماكن التى ينتقلون بينها، كل ذلك يختلف عن نظيره فى كتاب اليهود والنصارى، وإن كان الغالب على القرآن ألا يذكر الأسماء فى حين لا يتم شىء فى الكتاب المقدس ولا يظهر على مسرحه شخص أو يقع حادث إلا حُدِّد فى الزمان والمكان تحديدا. كما ان البيئتين تختلفان اختلاف بيئة الجزيرة العربية عن بيئة فلسطين وغيرها من البلاد التى مر بها بنو إسرائيل أو أقاموا بها، فضلا عن اختلاف الأقوام هنا عنهم هناك. وتظهر هذه الاختلافات بالتفصيل ظهورا بارزا إذا ما قارنا بين السيرة النبوية والأحاديث الشريفة من جهة والعهدين: القديم والجديد من جهة أخرى.
فأين وجه الشبه بين الكتابين كى يزعم مقارن الأديان الأمريكى أن محمدا قد أخذ قرآنه من الكتاب المقدس؟ إن حياته صلى الله عليه وسلم معروفة، ولم يعبرها قسيس ولا راهب، اللهم إلا الراهب بحيرا، الذى تقول كتب السيرة إنه قد قابله وهو غلام فى الثانية عشرة من عمره، وبحضور عمه وأفراد القافلة القرشية المتجهة إلى الشام، ولم تستغرق المقابلة وقتا يذكر، وسجلت كتب السيرة أن الكلام انحصر فى العلامات الجسدية التى تميز الغلام الصغير وتدل على أنه هو النبى المنتظر، وأن بحيرا قد حذر عمه يهودَ وغَدْرَهم بابن أخيه لو عرفوا أنه هو ذلك النبى الذى يتوقع مجيئه الناس وأنه طلب منه لهذا السبب أن يقطع الرحلة ويبادر بالعودة به فورا إلى مكة. ولو كان هناك أى شىء آخر له علاقة بالدين لكان أفراد القافلة هم أول من يصيحون فى وجهه غداة مجيئه بدعوته ولذكَّروه ببحيرا وما لقنه إياه بحيرا. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث.
ثم ما الذى يمكن يا ترى أن يلقنه راهب لصبى فى الثانية عشرة لا يمكن أن يهتم بتلك الأمور؟ كذلك لم يحدث أن اتهمه بحيرا أو غيره بأنه قد تعلم منه محتويات الكتاب المقدس. وهو أمر طبيعى لأنه لم يكن هناك شىء مما يتقوله المتقولون السخفاء. فَلْيُظْهِر الـمُتَّهِمُون إذن أدلتهم، وإلا فالأمر مجرد كلام لا معنى له. وليس فى العلم أن إنسانا يزعم المزاعم دون أن يقدم براهينه، ثم إذا قيل له: أين أدلتك؟ قال: هو كذلك، والسلام! مثل هذا الكلام مكانه المساطب لا منتديات العلم! لقد قال مشركو مكة عن النبى عليه السلام: لقد تعلم على يد فلان أو علان من الحرفيين الأجانب الذين كانوا فى مكة. وهو كلام ينقصه العقل والحكمة، إذ كان الشخص المشار إليه أعجميا لا يستطيع الكلام بالعربية، فكيف يمكن أن يقوم بين الطرفين تعلم وتعليم فى غياب لغة مشتركة بينهما؟ يقول ربنا عز شأنه: "وقالوا: إنما بعلِّمه بشر. لسان الذى يُلْحِدون إليه أعجمىٌّ، وهذا لسان عربىٌّ مبين"، فأُفْحِم المتخرصون الكذابون، ولم يردوا بكلمة واحدة. وعلى كل حال لم يحدث أن قال أى شخص من هؤلاء الحرفيين الأجانب إن النبى قد تعلم منه شيئا. فكيف نكون ملكيين أشد من الملك نفسه؟ ولو كان هذا قد حدث لاستعان المشركون بذلك الرجل ليكشف الحقيقة ويفضحه فى العالمين فيسقط للتو من عيون قومه سقطة لا يقوم منها أبدا. ثم لقد غاب عن بال من يرددون هذا الادعاء حقيقةٌ غايةٌ فى البساطة والخطورة فى ذات الوقت، وهى أن هؤلاء النفر الذين اتهم أهل مكة الرسول بأنه تعلم من أحدهم قد أسلموا جميعا، فصاروا بذلك من حواريى محمد وأتباعه. فلو كان قد تعلم من أيهم ثم أعلن نبوته المزيفة لكانوا أول كافر به. أليس ذلك مما يقوله المنطق والعقل المستقيم؟
ومن المستشرقين والمبشرين كذلك من يتحدثون عن ورقة بن نوفل بوصفه أحد من أَثَّرُوا فى النبى وأمدوه بالمعلومات الخاصة بالنصرانية والكتاب المقدس، إذ كان يعرف ذلك الدين ويقرأ كتابه قبل بعثة النبى. والحقيقة أن ورقة لم يظهر في كتب السيرة والتاريخ إلا بعد أن نزل الوحى على محمد صلى الله عليه وسلم، أما قبل ذلك فلا، وعلى ذلك فليس هناك موضع للتقول بأنه كان يمده بأى شىء. أما عندما أتته خديجة ليبدى رأيه فيما شاهده النبى وسمعه عند غار حراء فكان رد فعله أن قال: "قُدُّوسٌ قُدُّوس! والذي نَفْسُ ورقة بيده لئن كنتِ صَدَقْتِني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذى يأتى موسى، وإنه لنبى هذه الأمة. فقولى له: فَلْيَثْبُتْ" ، وهو ما يدل على أن ورقة لم يكن يعرف من أمر محمد فى هذا الموضوع شيئا، وإلا لذهب محمد إليه بنفسه امتدادا للقاءاتهما السابقة المفترضة، كما يدل على أنه قد صدَّق بنبوة محمد ودخل في الإسلام. وكان يمر بعد ذلك ببلال، وهو يقاسى وطأة التعذيب الفاجر ويصيح: "أحدٌ أحد"، فيؤمّن على صياح بلال قائلا: "أحدٌ أحدٌ والله يا بلال!"، ثم يُقْبِل على أمية بن خلف ومن يصنع ذلك به من بنى جُمَح فيقول "أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانًا"، أى لأتبركن بقبره . فإذا لاحظنا أنه كان فى ذلك الوقت شيخا طاعنا في السن أدركنا قيمة شهادته للدين الطارئ، إذ كان من الصعب على شيخٍ مكيٍّ في ذلك الحين أن يتقبل عقيدة جديدة. كذلك ينبغى ألا يغيب عن بالنا أن محمدًا كان أصغر كثيرا من ورقة ولا يملك فى يده أى سلطان. ومعنى هذا أن إيمان ورقة به كان إيمانًا صادقًا خاليًا من الغرض. وإذن فمن المضحك أن نظن بعد ذلك كله أن محمدًا كان يتعلم منه، وأنه هو قد سكت فلم يتحدث عن هذا الموضوع، بَلْهَ أن يكون قد آمن به واتبعه ووقف من معذِّبى أتباعه موقف المنكر لما يفعلون.
ثم ها هم أولاء أوربيون وأمريكان من فلاسفة وصحفيين وعلماء وسياسيين ووزراء ورياضيين ورجال دين وناس عاديين من كل لون يتخَلَّوْن عن دينهم القديم ويقبلون على دين محمد رغم ما اتهم به قرآنُه كتبَهم المقدسة بوقوع العبث والتحريف بها ورغم اختلاف دينه وما فيه من عقائد وعبادات وأخلاق وأذواق عما فى دينهم. فكيف يعلل مٌتَّهِموه ذلك؟ ومن بين هؤلاء د. جيفرى لانج، الذى ندرس كتابه هنا والذى يؤكد أنه لم يكن هناك أحد فى الجاهلية يمكن محمدا الاستعانة به فى معرفة كتب اليهود والنصارى. كما أن الشعر الجاهلى ذاته يخلو من أى شىء يدل على أن العرب كانوا على اطلاع على المصادر الكتابية. بل إن المسلمين أنفسهم، حين أرادوا الاطلاع على تلك المصادر، وهى المسماة فى تراثنا بـ"الاسرائيليات"، لم يجدوها إلا خارج الجزيرة العربية. وفى هذا إحباط تام لتقوُّلات المستشرقين الشكاكين بطبيعتهم تجاه الإسلام والرسول .
بقى شىء لا ينبغى أن أختم هذا الفصل دون التطرق إليه، وهو إشارة لانج إلى ما يبدو أنه عدم اتساق فى موقف القرآن من أهل الكتاب، إذ يذمهم تارة، ويمدحهم تارة. ولن أتحدث عن آيات القرآن التى يقول لانج إنها تذم اليهود والنصارى، فهذه لا مشكلة فيها، بل عن الآيات الأخرى التى يرى أنها تُثْنِى على أهل الكتاب، فهى محل الكلام. وقد أشار الرجل فى هذا الصدد إلى الآيات 75، 113- 114 من سورة "آل عمران"، التى تقول، حسب كلامه، إن منهم ناسا سيئين، أما بقيتهم فمخلصون وجديرون تماما بالثقة، وكذلك الآية رقم 7 من سورة "البينة"، التى تقول إن بعضهم من خير البشر .
فأما الآية رقم 75 من "آل عمران" فها هو ذا نصها: "وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ". وكما يرى القارئ ليس فى الآية أى شىء يدل على عدم التجانس فى موقف القرآن من أهل الكتاب. إن موقفه منهم هو ذكر الحقيقة فيما يخصهم. والحقيقة تقتضى أن يقول إن بعضهم غير أمين، وبعضهم لا يخون الأمانة، وهو ما صنعه القرآن لأنه هو الواقع. وهذا الحكم القرآنى يتعلق بالسلوك والعلاقات الإنسانية لا بالدين والعقيدة والعبادات مما لا يختلف فيه رأى القرآن أبدا. أم ترى لانج كان يريد من القرآن أن يَكْذِب فينفى أن يكون بين القوم أى رجل أمين؟
ألا يقول القرآن للمؤمنين: "ولا يَجْرِمَنَّكم شَنَآنُ قومٍ على ألاَّ تَعْدِلوا. اعدلوا هو أقربُ للتقوى"؟ ألا يقول القرآن: "يا أيها الذين آمنوا، كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين. إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما. فلا تبَّبِعوا الهوى أن تَعْدِلوا"؟ ألم يعتب القرآن على النبى أنه صَدَّق أحد المسلمين المخادعين حين سرق شيئا واحتال كى تنصرف التهمة إلى أحد اليهود، فدافع الرسول عنه حسبانا منه أنه برىء، وأن اليهودى هو اللص؟ إذن فماذا كان يريد لانج من القرآن أن يقوله فى حق هذا الفريق الأمين من اليهود كى ينجو من التهمة بعدم الاتساق؟ أم تراه كان يريده أن يخبط اليهود كلهم عاطلا مع باطل حكما باتا لا نقض فيه ولا إبرام بأنهم كلهم خَوَنَةٌ للأمانة منذ كان هناك يهود على وجه الأرض إلى يوم القيامة فلا يمكن أن يردّوا شيئا اسْتُودِعُوه؟ إن فى أصحاب كل دين الأمين وغير الأمين بغض النظر عن استقامة عقائدهم أو انحرافها، سواء فى ذلك اليهود والنصارى وعبدة البقر والنار. وفى المسلمين أيضا الأمناء والخائنون.
ففى أسباب النزول للآيات التالية مثلا: "إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا * وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَىٰ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * هَٰأَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ جَٰدَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا فَمَن يُجَٰدِلُ ٱللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً * وَمَن يَعْمَلْ سُوۤءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَن يَكْسِبْ خَطِيۤئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا * وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا * لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيرًا * إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا" نقرأ أن درعا سُرِقَتْ لأحد المسلمين، فاتَّهَم بها رجلاً من الأنصار هو طُعْمَة بن أُبَيْرِق، وأتى صاحبُ الدرع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن طُعْمَة بن أُبَيْرِق سرق درعي. فلما رأى السارق ذلك عمد إلى الدرع فألقاها في بيت رجل يهودي بريء حتى تثبت عليه التهمة بدلا منه، وقال لنفر من عشيرته: إني ألقيت الدرع في بيت فلان، وستوجد عنده. فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلاً فقالوا: يا نبي الله، إن صاحبنا بريء، وإن اليهودي هو الذى سرقها، وقد أَحَطْنا بذلك علمًا. فأعذِرْ صاحبنا على رؤوس الناس، وجادل عنه، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك. فصدَّقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ظنا منه أنهم لا يمكن أن يفكروا فى خداعه، وقام فبرَّأه وعَذَره على رؤوس الناس إيمانا منه بأنه فعلا برىء، فأنزل الله الآيات السابقة يبرئ اليهودي المظلوم ويلفت نظر نبيه إلى أنه ينبغى أن يكون أكثر تحرزا ولا ينخدع بكلام المبطلين، فتكون النتيجة أن يدافع عن المجرم ويظلم البرىء.
إن القرآن، بهذه الطريقة، إنما يزن الأمور بالميزان الحساس، الذى يرصد الشعرة وما هو أخف من الشعرة! كان يكون لكلام لانج معنى لو أن القرآن قال عن الشخص الواحد إنه أمين بإطلاق وفى كل الحالات، وغير أمين أيضا بإطلاق وفى كل الحالات. وهذا لا ينطبق على الآية الكريمة. بل إن القرآن لو قال عن نفس الشخص إنه فى بعض الحالات يرد إليك قنطارا من الذهب استودعته إياه، وفى حالات أخرى يسرقك فلا يرد لك دينارا واحدا ائتمنته عليه، لو أن القرآن قال هذا ما كنا نستطيع رميه بعدم الاتساق، إذ إن هذه التهمة إنما تصح لو أنه وصف نفس الشخص فى وضع واحد فى زمن واحد من زاوية واحدة بوصفين متناقضين. وبالمثل لو وصف عقيدة اليهود فى بعض آياته بأنها عقيدة سليمة يرضاها الله وسوف تنجيهم يوم القيامة، ثم عاد فقال فى نصوص أخرى منه إن تلك العقيدة ذاتها منحرفة باطلة وسوف ترديهم فى النار يوم الدين لكان يصح رميه بعدم الاتساق. الحق أن جيفرى لانج قد فاته الصواب فى هذه النقطة.
ثم ننتقل إلى النص الثانى، وهو الآيتان الأخيرتان من الآيات الثلاث التالية: "ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ".
ومقطع اليقين أنه لا يوجد شىء مما يتوهمه لانج فى هاتين الآيتين. ذلك أن المقصود فيهما هم الذين أسلموا من أهل الكتاب فشَذُّوا عن القاعدة العامة وآمنوا بالله وبمحمد وباليوم الآخر، وكانوا يقومون الليل فيقرأون آيات الله ويصلون، مثلما أسلم لانج نفسه وصار يقوم من أحلى نومة ليصلى ويبتهل إلى الله، ثم هم فوق ذلك يأمرون بالمعروف وينهَوْن عن المنكر، فهم إذن من الصالحين الناجين يوم القيامة لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا. وهذا يشبه أن نقول فى سياقنا هذا إن الأمريكان ليسوا سواء، فمنهم أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، ويؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فهم من الصالحين الذين لن يذهب شىء من أعمالهم هباء منثورا، ومنهم جيفرى لانج مؤلف هذا الكتاب، الذى لا نزكيه على الله بل نشهد فيه بما نحسبه صحيحا. فما وجه عدم الاتساق هنا؟
هل كان ينبغى أن يساوى القرآن بين عبد الله بن سلام، الرجل اليهودى الصادق النبيل الذى آمن بالرسول ودافع عنه سفالة قومه، وبين ابن أبى الحقيق مثلا؟ ومع ذلك فإنى قد أعذر لانج فى هذا المثال، الذى فهمه فهما متعجلا غافلا عن أن القرآن كثيرا ما ينتهج أسلوب الإيجاز وأن سبب النزول كفيل بتوضيح مثل هذا اللبس، وهو ما يسمى الآن بـ"السياق"، والسياق عنصر من عناصر الفهم لا يمكن الاستغناء عنه، وإلا اضطربت الفهوم وفسدت المعانى. ولا ننس أن لانج يعتمد على الترجمات القرآنية، التى قد تكون مضللة، وليس على النص العربى نفسه.
وبالمناسبة فقد تكرر فى القرآن وصف من أسلم من أهل اليهود والنصارى بـ"أهل الكتاب"، أو "الذين أوتوا الكتاب" متبوعا بما يدل على أنهم لم يعودوا يهودا أو نصارى بل مسلمين، كقوله تعالى مثلا فى الآيات 52- 54 من سورة "القَصَص": "الذين أُوتُوا الكتاب هم به يؤمنون * وإذا يُتْلَى عليهم قالوا: آمنّا به. إنه الحق من ربنا. إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يُؤْتَوْن أجرَهم مرتين بما صبروا، ويدرأون بالحسنة السيئةَ، ومما رزقناهم ينفقون". وهذا ما يسمى فى البلاغة العربية بـ"المجاز المرسل"، وعلاقته الماضوية، بمعنى أنهم كانوا أهل كتاب فى الماضى قبل أن يسلموا.
وهذا يشبه ما نقوله اليوم عن المطربة نجاة محمد حسنى، فقد كانت تسمى فى أول حياتها الفنية: "نجاة الصغيرة" تمييزا لها عن نجاة على، التى كانت قد سبقتها إلى عالم الغناء بفترة، إذ كانت "نجاتنا" صغيرة بالنسبة إلى نجاة الأخرى، ثم ظللنا نسميها حتى الآن بـ"نجاة الصغيرة" رغم أنها قد كبرت ولم يعد هناك داع للتمييز القديم، فقد اختفت نجاة على، ولم يعد أحد يتذكرها، ورسخت قدما الصغيرة فى عالم الطرب، وصارت كبيرة مقاما وسنا وتخطت السبعين، ولا يزال كثير منا "يصغِّرها" رغم ذلك كله اعتمادا على أنها "هكذا" كانت تسمى فى الماضى. ولدينا فى مصر مرتضى منصور، الذى كان مستشارا ثم صار محاميا، ومع ذلك لا تذكره الصحافة ولا التلفاز ولا يتحدث عنه أحد حتى ممن يعادونه إلا بـ"المستشار مرتضى منصور" مع أنه لم يعد مستشارا. ولماذا نذهب بعيدا، ولانج نفسه يخبرنا أن طليقته اليهودية ظلت، بعدما انفصلا بالطلاق، تستعمل لقبه لنفسها رغم أنها لم تعد على ذمته، ومن ثم ينبغى أن تعود إلى لقبها الأصلى الذى كان لها قبل أن تتزوجه؟
وقد رجعت، بعد كتابتى ما كتبته هنا، إلى ابن كثير، وهأنذا أنقل لكم ما قاله ذلك المفسر الكبير: "المشهور عند كثير من المفسرين كما ذكره محمد بن إسحاق وغيره، ورواه العوفي عن ابن عباس، أن هذه الآيات نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة بن سَعْيَة وأسيد بن سَعْيَة وغيرهم. أي لا يستوي من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب وهؤلاء الذين أسلموا. ولهذا قال تعالى: "لَيْسُواْ سَوَآءً". أي ليسوا كلهم على حد سواء، بل منهم المؤمن، ومنهم المجرم. ولهذا قال تعالى: "مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ"، أي قائمة بأمر الله، مطيعة لشرعه، متبعة نبي الله، فهي قائمة. يعني: مستقيمة. "يَتْلُونَ ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ": أي يقومون الليل، ويكثرون التهجد، ويتلون القرآن في صلواتهم. "يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُسَـٰرِعُونَ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ وَأُوْلَـٰئِكَ مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ"، وهؤلاء هم المذكورون في آخر السورة: "وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَـٰشِعِينَ للَّهِ"... الآية (آل عمران/ 199). ولهذا قال تعالى ههنا: "وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ"، أي لا يضيع عند الله، بل يجزيهم به أوفر الجزاء. "وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلْمُتَّقِينَ": أي لا يخفى عليه عمل عامل، ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملاً".
ثم نأتى إلى المثال الأخير، وهو الآية الثانية من الآيات الثلاث التالية من سورة "البينة": "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ". وواضح أن لانج يظن معنى الكلام فى النص القرآنى الكريم أن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مصيرهم النار، أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم فمصيرهم الجنة رغم بقائهم على دينهم. لكنْ ليس هذا هو المعنى المراد، بل المقصود هو أن أهل الكتاب والمشركين سوف يدخلون جهنم لكفرهم، بخلاف المؤمنين الذين يعملون الصالحات، أى المسلمين، فهؤلاء سوف يكون مصيرهم الجنة. ولو كان فهم لانج صحيحا لكان معنى ذلك أن من المشركين من آمن وعمل صالحا، وسوف يُجْزَوْن هم أيضا جناتِ عَدْنٍ تجرى من تحتها الأنهار، ولا أدرى كيف يكون ذلك. وهل هناك من يمكن أن يقول بهذا؟
وإلى القارئ ما قاله فى هذه الآية ابن عاشور فى "تفسير التحرير والتنوير" رغبة منى فى أن أزيد القارئ اطمئنانا: "قُوبِلَ حالُ الكفرة من أهل الكتاب وحالُ المشركين بحال الذين آمنوا بعد أن أشِير إليهم بقوله: "وذلك دِين القَيِّمَة" (البينة/ 5) استيعابا لأحوال الفِرَق في الدنيا والآخرة، وجريا على عادة القرآن في تعقيب نِذَارة المنذَرين ببِشَارة الـمُطَمْأَنِين وما ترتب على ذلك من الثناء عليهم. وقَدَّم الثناء عليهم على بشارتهم على عكس نَظْم الكلام المتقدم في ضدهم ليكون ذِكْر وَعْدهم كالشكر لهم على إيمانهم وأعمالهم، فإن الله شَكُور. والجملة استئنافٌ بيانيٌّ ناشئٌ عن تكرّر ذِكْر الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، فإن ذلك يثير في نفوس الذين آمنوا من أهل الكتاب والمشركين تساؤلاً عن حالهم، لعل تأخر إيمانهم إلى ما بعد نزول الآيات في التنديد عليهم يجعلهم في انحطاط درجةٍ، فجاءت هذه الآية مبيّنةً أن من آمن منهم هو معدودٌ في خير البريئة".
 
والآن أتركك، يا قارئى العزيز، تقوم بنفسك بتسكين أُخُوّة مريم لهارون تحت ما تراه مناسبا من هذه البنود،
كم إنغلق المستشرقون والعلمانيون على أحقادهم يادكتور إبراهيم فعاشوا في ظلمات ضيق أفقهم الذي يوسعونه إذا بدا لهم الهوى مائلا متمايلا ، على رأس هيجانه اسنمة بُخت صنعتها رجال مؤنثنة كأنه نسوة مزيفات مكرهات لموضة عصرية وهوى يفتح الشهية لرغبة استشراقية وقتية لحظية كأي شهوة ضعيفة رغم شدتها اللحظية!،
تطيش أحلام الرجال بهوى عاصف وخيال متهالك في المسالك الواسعة فتعمى عن الطريق وإن وجدته لاتجد إلا سراب التميل الخيالي ليس شيء غير ذلك، بينما يضيق ذلك الأفق عندما يرون حقيقة قرآنية ، جمالية، واسعة المجال والدلالة فتضيق أرواحهم من رؤية (جاذبية الإسلام) فيها، غلا وحسدا،وانغلاقا في ظلمة المادة(لمكسيم رودنسون كتاب بعنوان جاذبية الإسلام) فهم لم يكونوا يريدون أن يروا (العلم) هناك في كتاب كرهوه بداية!
ثم نسوا أنهم كرهوه وجعل لهم الشيطان نفسية تنكر ذلك شعوريا أو ظهوريا أو ظاهريا، وتعيشه لاشعوريا..
إنهم قوم منكرون!
تضيق تلك الأرواح ..ثم تنزع إلى قلب المشهد الواضح بخلفياته اللغوية والاجتماعية والدينية إلى إشكالية غامضة ملبسة ، تعمية وتضليلا.. فتضيع نفوس ، وراء ذلك القلب والتقليب، اللبس والتلبيس، في البيداء الواسعة..بيداء الميل والتميل..لسراب براق..
ميل عنيف تُسكره لحظة إستعلاء وقتية سرعان ماتزول عند رؤية الحقيقة عند موت فجاءة... وكل موت بالنسبة للحي فجاءة.
جزاكم الله يادكتور ابراهيم فكم نسعد بسعة أفق هذا الطريق الذي تفتحه للقارئ فتنكشف له الآفاق ويرى المائلات عن الحقيقة في المشهد النبوي -متعدد الصور والمشاهد، ومجازيا في عالم الإستشراق وتأثير السكرة-كما يرى مشهد انجذاب المائل عن الحقيقة لهوى فارغ الا من ظلال مآلات الهوى ومميلات التهلكة الذاتية..فإذا أفاق لم يجد إلا سراب الأهواء وتراكمات الأيام على أكاذيب لاتستقر إلا لحظات التميل المتلاشي دوما.
 
عودة
أعلى