فريد البيدق
New member
القصر .. من "البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها" للأستاذ عبد الرحمن الميداني
1- تعريف القصر
القصر: يأتي في اللّغة بمعنى التّخصيص، يقال لغة: قَصَرَ الشَّيْءَ على كذا، إذا خصّصه به، ولم يجاوز به إلى غيره. ويُقالُ: قَصَر غلَّةَ بستانه على عياله، إذا جعلها خاصّةً لهم. وقَصَر الشيءَ على نفسه، إذا خصَّ نفسَه به، فلم يجعل لغيره منه شيئاً.
ويأتي الْقَصْر أيضاً بمعنى الحبْسِ، يُقال لغة: قَصَر نفسه على عبادة رَبّه، إذا حَبَسها على القيام بعبادة ربّه، وقَصَر جُنْدَهُ على ممارسة التدريب العسكريّ في القلعة، إذا حَبَسَهُمْ وألزَمَهُمْ بذلك فيها.
والقصر في اصطلاح علماء البلاغة: تخصيص شيءٍ بشيءٍ بعبارة كلاميّةٍ تدلُّ عليه، ويقال في تعريفه أيضاً: جعْلُ شيءٍ مقصوراً على شيءٍ آخر بواحدٍ من طُرُقٍ مخصوصة من طُرُق القول المفيد للقصر.
والمقصور عنه على وجهين:
الوجه الأول: أن يكون جميع ما سوى المقصور عليه، ويسمَّى عند البلاغيين "قصراً حقيقيّاً" مثل "لا إلَه إلاَّ الله" أي: لا يُوجَدُ في الوجود كُلّه معبودٌ بحق سوى الله عزَّ وجلَّ.
وهذا "القَصْر الحقيقيّ" إذا كان مضمونه مطابقاً للواقع سمّوه "حقيقيّاً تَحْقيقيّاً" أي صادقاً مطابقاً للواقع. وإذا كان غير مطابق للواقع، وإنما ذُكر عَلَى سبيل المبالغة والادّعاء المجازي سمَّوْهُ "حقيقيّاً ادّعائيّاً أو مجازيّاً" مثل قولهم: لا سيف إلاَّ ذو الفقار.
الوجه الثاني: أن يكون المقصور عنه شيئاً خاصّاً يُرادُ بالْقَصْر بيانُ عَدَم صحَّة ما تصوَّرَهُ بشأنه أو ادَّعاهُ المقصودُ بالكلام، أو إزالة شكّه وتردّده. إذا، الكلام كلُّه مُنْحَصِرٌ في دائرة خاصّة، ويسمَّى "قصراً إضافياً" أي: ليس قصراً حقيقيّاً عامّاً، وإنّما هو قَصْرٌ بالإِضافة إلى موضوع خاصٍّ يدور حول احتمالين أو أكثر من احتمالاتٍ محصورة بعَدَدٍ خاصّ، ويُسْتَدلُّ عليها بالقرائن، مثل: [وَمَا مَحمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل] لقد جاء هذا البيان لتصحيح تصوُّر الَّذِين يتوهَّمُونَ أنّ محمداً رسولٌ لاَ يموتُ كما يموت سائر الناس.
فالموضوع الخاصّ الذي يدور الكلام حوله هو كون محمّدٍ رسولاً مبرَّءاً من أن يكون عرضةً للموت، فجاء النصّ مبيّناً قَصْرَهُ علَى كونه رسولاً فقط، والمقصورُ عنه أمْرٌ خاصٌّ هو كونه لا يموت، لا سائر الصفات غير صفة كونه رسولاً؛ إذْ له صفات كثيرة لا حصر لها، وهي لا تدخل في المقصور عنه.
إذن: فالقصر في هذا المثال هو من قبيل"القصر الإِضافي".
(2) أقسام القصر بحسب أحوال المقصور والمقصور عليه
كُلٌّ من القصر الحقيقيّ والقصر الإِضافي ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: قصر موصوف على صفةٍ دون غيرها، ويكون قصراً حقيقاً وقصراً إضافياً.
القسم الثاني: قصر صفةٍ على موصوفٍ دون غيره، ويكون قصراً حقيقا وقصراً إضافياً.
وليس المقصود بالوصف في باب القصر النعتَ النحويَّ الذي يَتْبَعُ منعوتَه، بل هو كلُّ معنىً من المعاني يتّصف به موصوف ما، كالفعل يتصف به الفاعل باعتبار كونه فاعلاً، ويتصف به المفعول به باعتبار كونه مفعولاً به، كَالخبر يتَّصفُ به المبتدأ، وكالحال يتّصفُ به صاحبُ الحال، وكَفِعْلٍ مَا يتَّصفُ بكونه قد وقع في مكانٍ ما أو زمانٍ ما، وهكذا.
فقد يريد المتكلّم أن يَقْصُرَ مثلاً الفعلَ على الفاعل أو على المفعول به، أو يقصر الخبر مثلاً على المبتدأ، أو الحال مثلاً على صاحب الحال، وهكذا. وقد يريد المتكلّم أَنْ يقصر مثلاً الفاعل أو المفعول به على الفعل، أو المبتدأ مثلاً على الخبر، أو صاحب الحال على الحال، وهكذا.
الأمثلة:
* حينما نقول: "لا إلَه إلاَّ الله" فإنّنا نقصر وصف الإِلَهيّة الحق على موصوف هو الله وحده، هذا من قصر الصفة على الموصوف وهو قصر حقيقي.
* وحينما نقول: "ما لإِبليس من عمل في الناس إلاَّ الوسوسة والإِغواء" فإنَّنا نقصر عمل إبليس في الناس على صفتي الوسوسة والإِغواء. عمل إبليس في النّاس موصوف، والوسوسة والإِغواء صفة، "هذا من قصر الموصوف على الصفة". فإذا كان لا صفة لعمله في الناس بحسب الواقع إلاَّ الوسوسة والإِغواء كان قصراً حقيقيّاً، وإذا كان لعمله صفات أخرى غير الوسوسة والإِغواء كان قصراً إضافيّاً.
* وحينما نقول: "ليس في كلام الله باطلٌ بل كُلًُّه حقٌّ"- فإننا نقصر كلام الله في موضوع الحق والباطل على صفة كونه حقاً "هذا من قصر الموصوف على الصفة، وهو قصر إضافي".
* وحينما نقول: "علم قيام الساعة عند الله لا عند غيره"- فإننا نقصر علم قيام الساعة على الله وننفيه عن غيره. "هذا من قصر الصفة على الموصوف - وهو قصر حقيقيّ".
* وحينما نقول: "طاف الرسول حول الكعبة راكباً ناقته لا ماشياً"- فإننا نقصر طواف الرسول على حالة الركوب، دون المشي، "هذا من قصر الموصوف وهو الطواف على الصفة وهي كونه ركوباً. "وهو من القصر الإِضافي".
* وحينما نقول: "إنّما تُشْرِق الشَّمْسُ في النهار"- فإننا نَقْصُر شروق الشمس على كونه في النهار دون اللّيل. "هذا من قصر الموصوف وهو شروق الشمس على الصفة، وهي كونه في زمن النهار. وهو من القصر الإِضافي لأن الشروق له صفات أخرى كثيرة غير كونه في النهار، لكنّ الموضوع المتحدَّث عنه خاص بزمن الشروق".
(3) أركان الْقَصْر
ممّا سبق يتضح لدينا أنّ للقصر أربعة أركان:
الركن الأول: المقصور، صفةً كان أو موصوفاً.
الركن الثاني: المقصورُ عليه، صفةً كان أو موصوفاً.
الركن الثالث: المقصورُ عنه، وهو المنفيُّ المستَبْعَدُ بالْقَصر.
الركن الرابع: القولُ الْمَقصُورُ به.
(1) ففي كلمة التوحيد: "لا إلَه إلاَّ الله" وهي من القصر الحقيقي بصر صفةٍ على موصوف:
* المقصور: صفة الإِلَهيَّة للمعبود بحقّ.
* المقصور عليه قصراً حقيقاً: الله عزَّ وجلَّ الموصوف بأنَّه الإِلَه بحقّ.
* المقصورُ عنه: كلُّ ما سوى الله عزَّ وجلَّ.
* القول المقصور به: النفي والاستثناء في العبارة: "لا... إلاَّ...".
(2) وفي عبارة: [وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ] وهي من القصر الإِضافي بقصر موصوف على صفة:
* المقصور: "محمّد" الموصوف بأنه رسول.
* المقصور عليه قصراً إضافياً: صفة رسالته، المفهومة من "رسول".
* المقصور عنه قصراً إضافياً: صفة تبرُّئِه من أن يكون عرضةً للموت؛ لتصحيح تصوُّر متوهمي ذلك فيه، ظانين ظنّاً توهميّاً أنه لا يموت.
* القول المقصور به: النفي والاستثناء في العبارة: "مَا... إلاَّ...".
(4) أقسام الْقَصْر بحسب أحوال من يوجّه له الكلام
من المعلوم أنّ الكلام يوجّه لمن يراد إعلامه بمضمونه وهو خالي الذّهن، أو يراد تصحيح تصوّره الذي هو مخطىء فيه بحسب اعتقاد مُوَجَّه القول، أو يُرادُ رَفْعُ شَكَّه وتردّده. ويستخلص من هذا أربعة أقسام في القصر:
القسم الأول: أن يكون الكلام المشتمل على القصر موجّهاً لخالي الذّهن، أو إعلاناً عن اعتقاد المتكلم، أو اعترافه بمضمون ما يقول، أو تعبيره عما في نفسه لمجرّد الاعلام به، وأُسمِّيهِ "قصراً إعلامياً ابتدائياً".
وأشير إلى أنَّ البلاغيين لم يذكروا هذا القسم اكتفاءً بالمفاهيم العامّة المعروفة من توجيه الكلام.
القسم الثاني: أن يكون الكلام المشتمل على القصر موجّهاً لمن يُرادُ إعلامُه بخطأِ تصوُّرِهِ مُشَارَكةَ غيرِ المقصور عليه في المقصور، ويُسمِّي البلاغيُّون هذا "قَصْرَ إفراد".
مثالُه: يعتقد المشرك أنّ الأربابَ التي يُؤْمِنُ بها تَخْلُق، كما أنَّ اللهَ يخلُق، فنقول لَهُ: "لاَ خَالِقَ إلاَّ الله". هذا قصر حقيقيٌّ، من قصر الصفة على الموصوف، ويُرادُ منه إفراد الله عزَّ وجلَّ بالخلْقِ، ونَفْيُ صفةِ الخلْقِ عن كلّ ما سواه ومن سواه من الشركاء؛ لتعريف المخالفِ بأنه مخطىء في تصوّره مشاركةَ غَيْرِ اللهِ للهِ في الخلْق، فهو "قَصْرُ إفراد".
القسم الثالث: أن يكون الكلام المشتمل على القصر موجّهاً لمن يُرادُ إعلامه بخطأ تصوُّره نسْبَةَ المقصور إلى غَيْر المقصور عليه، ويُسَمِّي البلاغيون هذا "قَصْرَ قَلْب".
مثاله: يعتقد الملحد الذي يَجْحَدُ وجُود اللهِ عزَّ وجلَّ، وينْسُبُ أحداثَ الكون المتقنة العجيبة إلى التطوّر الذاتيّ، وإلى المصادفات، فنقول له: "لا مُحْدِثَ لأحداث الكون إلاَّ الله".
هذا قصرٌ حقيقيٌّ، من قصر الصفة التي هي إِحْداثُ أَحْداثٍ الكون، على موصوف واحدٍ هو الله عزَّ وجلَّ، ويُرادُ منه قلْبُ تصوُّر من يُوَجَّهُ له الخطاب، وتعريفُهُ بأنَّ ما يَنْسُبُه إلى التطوُّر الذّاتي وإلى المصادفات هو الله وحده، فهو "قَصْر قلْب".
القسم الرابع: أن يكون الكلام المشتملُ على القصر موجَّهاً لمن يُرادُ إزالَةُ تردُّدِه وشكِّهِ، هل المقصورُ منسوبٌ إلى المقصور عليه أوْ إلى غَيْره، ويُسمِّي البلاغيّون هذا "قَصْرَ تعْيين".
مثاله: يسأل متردّد شاكٌ: هل لفظ الكسوف يُسْتَعْمَل لاختفاء ونقصان ضوء الشمس أو نور القمر؟ فنقول له: "لا يُسْتَعْمَل لفظ الكسوف إلاَّ للشمس، أمّا ما يحدث للقمر فيُسَمَّى الْخُسُوف". هذا قصرٌ إضافي، لأنّ كلمة "الكسوف" تُسْتَعْمَلُ لمعانٍ أخرى غير ما يحدث للشمس، ومنها تنكيس الطَّرْف، وهو من قصر الصفة على الموصوف. وُيرَادُ منه إزالة شكِّ وتردّد من يوجّه له القول بتعيين المقصور عليه، فهو "قصْرُ تعيين".
ملاحظة:
يرى البلاغيّون أنّ "قَصْرَ الإِفراد، وقَصْرَ الْقَلْبِ، وقَصْر التَّعْيِين" أقسامُ للقصر الإِضافِيّ فقط، إلاَّ أنّي لست أرَى هذا، ففي الأمثلة الّتي أَوْرَدْتُها للأقسام، منها ما هو قصْرٌ حقيقيٌ، ومنها ما هُوا قَصْرٌ إضافي.
فالأقسام الأربعة السابقة نستطيعُ أن نعتبرها أقساماً للقَصْر بوجْهٍ عَامّ، وحَالُ المقصود بتوجيه الكلام له هي التي تحدّد كون الْقَصْر قَصْرَ إعلامٍ ابتدائي، أو قَصْرَ إفراد، أو قصر قلب، أو قصر تعيين.
1- تعريف القصر
القصر: يأتي في اللّغة بمعنى التّخصيص، يقال لغة: قَصَرَ الشَّيْءَ على كذا، إذا خصّصه به، ولم يجاوز به إلى غيره. ويُقالُ: قَصَر غلَّةَ بستانه على عياله، إذا جعلها خاصّةً لهم. وقَصَر الشيءَ على نفسه، إذا خصَّ نفسَه به، فلم يجعل لغيره منه شيئاً.
ويأتي الْقَصْر أيضاً بمعنى الحبْسِ، يُقال لغة: قَصَر نفسه على عبادة رَبّه، إذا حَبَسها على القيام بعبادة ربّه، وقَصَر جُنْدَهُ على ممارسة التدريب العسكريّ في القلعة، إذا حَبَسَهُمْ وألزَمَهُمْ بذلك فيها.
والقصر في اصطلاح علماء البلاغة: تخصيص شيءٍ بشيءٍ بعبارة كلاميّةٍ تدلُّ عليه، ويقال في تعريفه أيضاً: جعْلُ شيءٍ مقصوراً على شيءٍ آخر بواحدٍ من طُرُقٍ مخصوصة من طُرُق القول المفيد للقصر.
والمقصور عنه على وجهين:
الوجه الأول: أن يكون جميع ما سوى المقصور عليه، ويسمَّى عند البلاغيين "قصراً حقيقيّاً" مثل "لا إلَه إلاَّ الله" أي: لا يُوجَدُ في الوجود كُلّه معبودٌ بحق سوى الله عزَّ وجلَّ.
وهذا "القَصْر الحقيقيّ" إذا كان مضمونه مطابقاً للواقع سمّوه "حقيقيّاً تَحْقيقيّاً" أي صادقاً مطابقاً للواقع. وإذا كان غير مطابق للواقع، وإنما ذُكر عَلَى سبيل المبالغة والادّعاء المجازي سمَّوْهُ "حقيقيّاً ادّعائيّاً أو مجازيّاً" مثل قولهم: لا سيف إلاَّ ذو الفقار.
الوجه الثاني: أن يكون المقصور عنه شيئاً خاصّاً يُرادُ بالْقَصْر بيانُ عَدَم صحَّة ما تصوَّرَهُ بشأنه أو ادَّعاهُ المقصودُ بالكلام، أو إزالة شكّه وتردّده. إذا، الكلام كلُّه مُنْحَصِرٌ في دائرة خاصّة، ويسمَّى "قصراً إضافياً" أي: ليس قصراً حقيقيّاً عامّاً، وإنّما هو قَصْرٌ بالإِضافة إلى موضوع خاصٍّ يدور حول احتمالين أو أكثر من احتمالاتٍ محصورة بعَدَدٍ خاصّ، ويُسْتَدلُّ عليها بالقرائن، مثل: [وَمَا مَحمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل] لقد جاء هذا البيان لتصحيح تصوُّر الَّذِين يتوهَّمُونَ أنّ محمداً رسولٌ لاَ يموتُ كما يموت سائر الناس.
فالموضوع الخاصّ الذي يدور الكلام حوله هو كون محمّدٍ رسولاً مبرَّءاً من أن يكون عرضةً للموت، فجاء النصّ مبيّناً قَصْرَهُ علَى كونه رسولاً فقط، والمقصورُ عنه أمْرٌ خاصٌّ هو كونه لا يموت، لا سائر الصفات غير صفة كونه رسولاً؛ إذْ له صفات كثيرة لا حصر لها، وهي لا تدخل في المقصور عنه.
إذن: فالقصر في هذا المثال هو من قبيل"القصر الإِضافي".
(2) أقسام القصر بحسب أحوال المقصور والمقصور عليه
كُلٌّ من القصر الحقيقيّ والقصر الإِضافي ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: قصر موصوف على صفةٍ دون غيرها، ويكون قصراً حقيقاً وقصراً إضافياً.
القسم الثاني: قصر صفةٍ على موصوفٍ دون غيره، ويكون قصراً حقيقا وقصراً إضافياً.
وليس المقصود بالوصف في باب القصر النعتَ النحويَّ الذي يَتْبَعُ منعوتَه، بل هو كلُّ معنىً من المعاني يتّصف به موصوف ما، كالفعل يتصف به الفاعل باعتبار كونه فاعلاً، ويتصف به المفعول به باعتبار كونه مفعولاً به، كَالخبر يتَّصفُ به المبتدأ، وكالحال يتّصفُ به صاحبُ الحال، وكَفِعْلٍ مَا يتَّصفُ بكونه قد وقع في مكانٍ ما أو زمانٍ ما، وهكذا.
فقد يريد المتكلّم أن يَقْصُرَ مثلاً الفعلَ على الفاعل أو على المفعول به، أو يقصر الخبر مثلاً على المبتدأ، أو الحال مثلاً على صاحب الحال، وهكذا. وقد يريد المتكلّم أَنْ يقصر مثلاً الفاعل أو المفعول به على الفعل، أو المبتدأ مثلاً على الخبر، أو صاحب الحال على الحال، وهكذا.
الأمثلة:
* حينما نقول: "لا إلَه إلاَّ الله" فإنّنا نقصر وصف الإِلَهيّة الحق على موصوف هو الله وحده، هذا من قصر الصفة على الموصوف وهو قصر حقيقي.
* وحينما نقول: "ما لإِبليس من عمل في الناس إلاَّ الوسوسة والإِغواء" فإنَّنا نقصر عمل إبليس في الناس على صفتي الوسوسة والإِغواء. عمل إبليس في النّاس موصوف، والوسوسة والإِغواء صفة، "هذا من قصر الموصوف على الصفة". فإذا كان لا صفة لعمله في الناس بحسب الواقع إلاَّ الوسوسة والإِغواء كان قصراً حقيقيّاً، وإذا كان لعمله صفات أخرى غير الوسوسة والإِغواء كان قصراً إضافيّاً.
* وحينما نقول: "ليس في كلام الله باطلٌ بل كُلًُّه حقٌّ"- فإننا نقصر كلام الله في موضوع الحق والباطل على صفة كونه حقاً "هذا من قصر الموصوف على الصفة، وهو قصر إضافي".
* وحينما نقول: "علم قيام الساعة عند الله لا عند غيره"- فإننا نقصر علم قيام الساعة على الله وننفيه عن غيره. "هذا من قصر الصفة على الموصوف - وهو قصر حقيقيّ".
* وحينما نقول: "طاف الرسول حول الكعبة راكباً ناقته لا ماشياً"- فإننا نقصر طواف الرسول على حالة الركوب، دون المشي، "هذا من قصر الموصوف وهو الطواف على الصفة وهي كونه ركوباً. "وهو من القصر الإِضافي".
* وحينما نقول: "إنّما تُشْرِق الشَّمْسُ في النهار"- فإننا نَقْصُر شروق الشمس على كونه في النهار دون اللّيل. "هذا من قصر الموصوف وهو شروق الشمس على الصفة، وهي كونه في زمن النهار. وهو من القصر الإِضافي لأن الشروق له صفات أخرى كثيرة غير كونه في النهار، لكنّ الموضوع المتحدَّث عنه خاص بزمن الشروق".
(3) أركان الْقَصْر
ممّا سبق يتضح لدينا أنّ للقصر أربعة أركان:
الركن الأول: المقصور، صفةً كان أو موصوفاً.
الركن الثاني: المقصورُ عليه، صفةً كان أو موصوفاً.
الركن الثالث: المقصورُ عنه، وهو المنفيُّ المستَبْعَدُ بالْقَصر.
الركن الرابع: القولُ الْمَقصُورُ به.
(1) ففي كلمة التوحيد: "لا إلَه إلاَّ الله" وهي من القصر الحقيقي بصر صفةٍ على موصوف:
* المقصور: صفة الإِلَهيَّة للمعبود بحقّ.
* المقصور عليه قصراً حقيقاً: الله عزَّ وجلَّ الموصوف بأنَّه الإِلَه بحقّ.
* المقصورُ عنه: كلُّ ما سوى الله عزَّ وجلَّ.
* القول المقصور به: النفي والاستثناء في العبارة: "لا... إلاَّ...".
(2) وفي عبارة: [وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ] وهي من القصر الإِضافي بقصر موصوف على صفة:
* المقصور: "محمّد" الموصوف بأنه رسول.
* المقصور عليه قصراً إضافياً: صفة رسالته، المفهومة من "رسول".
* المقصور عنه قصراً إضافياً: صفة تبرُّئِه من أن يكون عرضةً للموت؛ لتصحيح تصوُّر متوهمي ذلك فيه، ظانين ظنّاً توهميّاً أنه لا يموت.
* القول المقصور به: النفي والاستثناء في العبارة: "مَا... إلاَّ...".
(4) أقسام الْقَصْر بحسب أحوال من يوجّه له الكلام
من المعلوم أنّ الكلام يوجّه لمن يراد إعلامه بمضمونه وهو خالي الذّهن، أو يراد تصحيح تصوّره الذي هو مخطىء فيه بحسب اعتقاد مُوَجَّه القول، أو يُرادُ رَفْعُ شَكَّه وتردّده. ويستخلص من هذا أربعة أقسام في القصر:
القسم الأول: أن يكون الكلام المشتمل على القصر موجّهاً لخالي الذّهن، أو إعلاناً عن اعتقاد المتكلم، أو اعترافه بمضمون ما يقول، أو تعبيره عما في نفسه لمجرّد الاعلام به، وأُسمِّيهِ "قصراً إعلامياً ابتدائياً".
وأشير إلى أنَّ البلاغيين لم يذكروا هذا القسم اكتفاءً بالمفاهيم العامّة المعروفة من توجيه الكلام.
القسم الثاني: أن يكون الكلام المشتمل على القصر موجّهاً لمن يُرادُ إعلامُه بخطأِ تصوُّرِهِ مُشَارَكةَ غيرِ المقصور عليه في المقصور، ويُسمِّي البلاغيُّون هذا "قَصْرَ إفراد".
مثالُه: يعتقد المشرك أنّ الأربابَ التي يُؤْمِنُ بها تَخْلُق، كما أنَّ اللهَ يخلُق، فنقول لَهُ: "لاَ خَالِقَ إلاَّ الله". هذا قصر حقيقيٌّ، من قصر الصفة على الموصوف، ويُرادُ منه إفراد الله عزَّ وجلَّ بالخلْقِ، ونَفْيُ صفةِ الخلْقِ عن كلّ ما سواه ومن سواه من الشركاء؛ لتعريف المخالفِ بأنه مخطىء في تصوّره مشاركةَ غَيْرِ اللهِ للهِ في الخلْق، فهو "قَصْرُ إفراد".
القسم الثالث: أن يكون الكلام المشتمل على القصر موجّهاً لمن يُرادُ إعلامه بخطأ تصوُّره نسْبَةَ المقصور إلى غَيْر المقصور عليه، ويُسَمِّي البلاغيون هذا "قَصْرَ قَلْب".
مثاله: يعتقد الملحد الذي يَجْحَدُ وجُود اللهِ عزَّ وجلَّ، وينْسُبُ أحداثَ الكون المتقنة العجيبة إلى التطوّر الذاتيّ، وإلى المصادفات، فنقول له: "لا مُحْدِثَ لأحداث الكون إلاَّ الله".
هذا قصرٌ حقيقيٌّ، من قصر الصفة التي هي إِحْداثُ أَحْداثٍ الكون، على موصوف واحدٍ هو الله عزَّ وجلَّ، ويُرادُ منه قلْبُ تصوُّر من يُوَجَّهُ له الخطاب، وتعريفُهُ بأنَّ ما يَنْسُبُه إلى التطوُّر الذّاتي وإلى المصادفات هو الله وحده، فهو "قَصْر قلْب".
القسم الرابع: أن يكون الكلام المشتملُ على القصر موجَّهاً لمن يُرادُ إزالَةُ تردُّدِه وشكِّهِ، هل المقصورُ منسوبٌ إلى المقصور عليه أوْ إلى غَيْره، ويُسمِّي البلاغيّون هذا "قَصْرَ تعْيين".
مثاله: يسأل متردّد شاكٌ: هل لفظ الكسوف يُسْتَعْمَل لاختفاء ونقصان ضوء الشمس أو نور القمر؟ فنقول له: "لا يُسْتَعْمَل لفظ الكسوف إلاَّ للشمس، أمّا ما يحدث للقمر فيُسَمَّى الْخُسُوف". هذا قصرٌ إضافي، لأنّ كلمة "الكسوف" تُسْتَعْمَلُ لمعانٍ أخرى غير ما يحدث للشمس، ومنها تنكيس الطَّرْف، وهو من قصر الصفة على الموصوف. وُيرَادُ منه إزالة شكِّ وتردّد من يوجّه له القول بتعيين المقصور عليه، فهو "قصْرُ تعيين".
ملاحظة:
يرى البلاغيّون أنّ "قَصْرَ الإِفراد، وقَصْرَ الْقَلْبِ، وقَصْر التَّعْيِين" أقسامُ للقصر الإِضافِيّ فقط، إلاَّ أنّي لست أرَى هذا، ففي الأمثلة الّتي أَوْرَدْتُها للأقسام، منها ما هو قصْرٌ حقيقيٌ، ومنها ما هُوا قَصْرٌ إضافي.
فالأقسام الأربعة السابقة نستطيعُ أن نعتبرها أقساماً للقَصْر بوجْهٍ عَامّ، وحَالُ المقصود بتوجيه الكلام له هي التي تحدّد كون الْقَصْر قَصْرَ إعلامٍ ابتدائي، أو قَصْرَ إفراد، أو قصر قلب، أو قصر تعيين.