القراءة والإعجاز في آية من القرآن الكريم

ايت عمران

New member
إنضم
17/03/2008
المشاركات
1,470
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الإقامة
المغرب
القراءات والإعجاز في قوله تعالى:
{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ} الرحمن: 35
[FONT=MCS Tholoth 1 S_U Normal 2000]بسم الله الرحمن الرحيم[/FONT]​
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد؛ فهذه وريقات كتبتها عن علاقة القراءة بالإعجاز في قول الباري جل وعز: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ} الرحمن: 35، وذلك بتكليف من أستاذي وشيخي الفاضل الدكتور أحمد بن علي السديس، جزاه الله عني خير الجزاء.
وما إن خضت هذا البحر حتى اصطدمت بأمواج من أقوال اللغويين والمفسرين، ووجدتُّني بينها أغرق مرة وأطفو أخرى، وما فتئت أقاوم وأقاوم حتى شرح الله صدري، فخرجت بهذه العصارة، والذي أرجوه أن يكون ربي جل في علاه قد عصمني من الزلل والقول عليه بغير علم، وإن يكن شيء من ذلك فأسأله سبحانه أن يغفر لي، فهو الغفور الرحيم.
قال تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ}
تأتي هذه الآية الكريمة في سياق التعجيز للثقلين يوم القيامة، وأنهم لا يستطيعون الهروب من سلطانه، وأنهم إن حاولوا ذلك ردهم بإرسال الشواظ والنحاس عليهم.
وفي الآية موضعان فرشيان:
الأول: قوله تعالى: {شُوَاظٌ}وفيه قراءتان متواترتان؛ فقد قرأ ابن كثير وحده بكسر الشين، وقرأ باقي العشرة بضمها([1])، وهما لغتان بمعنى واحد([2]).
الثاني: قوله تعالى: {وَنُحَاسٌ}وفيه أيضا قراءتان متواترتان؛ فقد قرأه ابن كثير وأبو عمرو وروح بالخفض، وقرأه باقي العشرة بالرفع([3]).
وإذا كان الموضع الأول قد اتفقت فيه القراءتان معنىً، فإن الموضع الثاني ليس كذلك على ما يبدو للناظر في كتب التفسير والتوجيه، لذا كان لا بد من دراسة هذا الموضع دراسة متأنية تعرب عن معنى كل من القراءتين، وتحاول ملامسة الوجه الإعجازي الناتج عن اختلاف المعنيين، وتحقيقا لهذا الغرض أعقد المباحث التالية:
المبحث الأول: معنى {شُوَاظٌ} و{وَنُحَاسٌ}
المطلب الأول: معنى {شُوَاظٌ}
يبدو أن هذه الكلمة لم يكن لها حظ في الاشتقاق؛ فلم يذكر أحد من اللغويين والمفسرين ـ على حد علمي ـ أنها مشتقة من غيرها، أو أن لها أصلا ترجع إليه، وابن فارس رحمه الله ـ وهو ممن يعتني بهذا الجانب ـ لم يزد على أن قال: "الشين والواو والظاء: كلمة واحدة صحيحة، فالشوَاظ: شُواظُ اللّهب من النار لا دُخانَ معه. قال تعالى: ﴿ شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ ﴾"([4]) ولعل هذا هو السبب الذي جعل العلماء يختلفون في تحديد المراد منها على أقوال:
1ـ لهب النار، وهذا قول جماعة؛ منهم ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ومجاهد وقتادة وابن زيد([5])، وزاد بعض هؤلاء القولَ توضيحا، وذلك كالآتي:
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ والخليل وأبو عبيدة والزجاج: "هو اللهب الخالص الذي لا دُخان له"([6])، قال البغوي: "هذا قول أكثر المفسرين"([7]).
وقال مجاهد: "اللَّهب الأخضر المتقطع من النَّار"([8])، وفي رواية عنه: "اللهب الأحمر المنقطع منها"([9]).
وقال أبو صالح: "اللهيب الذي فوق النار ودون الدخان"([10]).
وقال بعضهم: "اللهب معه دخان"([11]).
2ـ الدخان، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس([12]). وقال الضحاك وسعيد بن جبير: هو الدخان الذي يخرج من دخان اللَّهب ليس بدخان الحطب([13]).
3ـ النَّار والدخان جميعاً، وهو قول أبي عمرو بن العلاء، وحكاه الأخفش عن بعض العرب([14]).
4ـ النار المحضة، وهو قول الفراء([15])، أو القطعة من النار، وذكره ابن سيده([16]).
5ـ حر الشمس، يقال: أصابني شواظ من الشمس([17]).
والأقوال الثلاثة الأُوَّل محتملاَن في الآية، وأما الرابع والخامس فهما صحيحان في اللغة، إلا أن سياق الآية يأباهما، لأن فيها قوله : [FONT=QCF_BSML]([/FONT][FONT=QCF_P532] ﯦ ﯧ [/FONT][FONT=QCF_BSML])[/FONT]، كما هو واضح.
المطلب الثاني: معنى: {وَنُحَاسٌ}
ذكر العلماء لهذه الكلمة عدة معان أُوجزها فيما يلي:
1ـ الدخان، وهذا قول ابن جرير([18]) والكلبي([19])،وأبي عبيدة([20])، والفراء([21])،وبعد أن حكاه عن الفراء أبو منصور الأزهري قال: "هو قول جميع المفسرين"([22]).
ويزيد بعضهم هذا القول تخصيصا فيقول: "هو الدخان الذي لا لهب له" وهو مروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وسعيد بن جبير، كما أنه قول الخليل وابن فارس وغيرهما([23]).
وقال أبو حنيفة: "النحاس: الدخان الذي يعلو وتضعف حرارته ويخلص من اللهب"([24]).
2ـ اللَّهِيبُ بلا دُخانٍ، قال الراغب الأصفهاني: "فَالنُّحَاس: اللَّهِيبُ بلا دُخانٍ، وذلك تشبيه في اللَّون بالنُّحاس"([25])، ولم أجد هذا القول لغيره، ولعله يقصد أنه استعارة شبه فيها اللهب بالنحاس.
3ـ الصُّفْر المذاب، وهو مروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـومجاهد وقتادة([26]). وروي عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـأنه المُهْل([27])، وهو بمعنى الصُّفر المتقدم. وعبر عنه الرازي بالقِطْر([28])، وهو بمعناه أيضا.
4ـ دُرْدِيُّ الزيت المغلي، وهذا مروي عن الضحاك([29]). والمراد بدردي الزيت: ما يبقى أسفلَه([30]).
5ـ النار التي لها ريح شديدة، وهذا القول نسبه القرطبي إلى الكسائي([31]).
6ـ لباس أهل النار، وهذا القول حكاه بصيغة التمريض أبو الليث السمرقندي في بحره([32]).
وهذه الأقوال كلها واردة على الآية والله أعلم.
المبحث الثاني: توجيه قراءتي {وَنُحَاسٌ}
نظرا لتعدد معنى الكلمتين السابقتين، فقد اختلف العلماء في توجيه القراءتين المتواترتين في قوله تعالى: {وَنُحَاسٌ}؛ ولقد ظهر لي أن أُوجِّه كل قراءة على حدة، جاعلا ذلك في مطلبين:
المطلب الأول: توجيه قراءة الرفع:
لا ريب أن قول الله جل وعز: {وَنُحَاسٌ} على قراءة الرفع معطوف على قوله: {شُوَاظٌ}، ولم أجد من قال بغير هذا([33]).
يبقى تنزيل هذا الإعراب على المعاني السابقة، قال مكي: "فالمعنى: يرسل عليكما لهب من نار، ويرسل عليكما دخان؛ فهو المعنى الصحيح وهو الاختيار"([34]).
وقس على ذلك المعاني الأخرى؛ كأن تقول مثلا: يرسل عليكما لهب من نار وصُفر مذاب، أو تقول: يرسل عليكما دخان من نار ولهب لا دخان فيه، وهكذا.
المطلب الثاني: توجيه قراءة الخفض:
يتلخص من أقوال أهل العلم في قراءة الجر من قوله تعالى: {وَنُحَاسٌ} ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه معطوف على: [FONT=QCF_BSML]([/FONT][FONT=QCF_P532] ﯧ[/FONT][FONT=QCF_BSML])[/FONT] لفظا ومعنى، وقد استشكل بعضهم هذا الإعراب([35])، ولكن لا إشكال فيه؛ لأنه يمكن حمله على بعض المعاني المتقدمة، ويجعل التقدير: يرسل عليكما لهب من نارٍ وصفرٍ. أو يحمل على قول أبي عمرو بن العلاء المتقدم: إن الشواظ النارُ والدخانُ معا، وتكون ﴿مِن﴾ بيانية، والتقدير: يرسل عليكما شواظ؛ وهو النار والنحاس([36]).
القول الثاني: أنه معطوف على: [FONT=QCF_BSML]([/FONT][FONT=QCF_P532] ﯧ[/FONT][FONT=QCF_BSML])[/FONT] لفظا، وعلى: {شُوَاظٌ} معنى([37])، وهذا ما يسمى عند اللغويين بالخفض على المجاورة، وأحسن ما وقفت عليه في هذا التوجيه قول ابن عبد البر، في التمهيد: "وقد وجدنا العرب تخفض بالجوار...كما قال زهير:
لعب الزمانُ بها وغيرها ـــ ـ ـ ـــ بعدي سوافي الْمُورِ والقطرِ
قال أبو حاتم كان الوجه: القطرُ بالرفع، ولكن جره على جوار: الْمُورِ؛ كما قالت العرب: (هذا جحرُ ضبٍّ خربٍ) فجرته وإنما هو رفع، وخفضه بالمجاورة، ومن هذا قراءة أبي عمرو: ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٍ﴾ بالجر لأن النحاس الدخان"([38]).
وعلى هذا التوجيه يرجع المعنى إلى قراءة الرفع.
القول الثالث: أن يكون في الكلام موصوف محذوف، ويكونَ قول ربنا جلَّ وعزَّ: {وَنُحَاسٌ} مجرورا بـ (مِن) المحذوفة لدلالة ﴿مِن﴾ السابقة عليها، وهذا المحذوف قدروه بأنكرِ النكرات، وهو (شيء)، والتقدير: يرسل عليكما شواظ من نار وشيءٌ من نحاس، فـ(من نحاس) جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ (شيءٌ)، أي: وشيء كائن من نحاس. قال أبو إسحاق الزجاج: "ومِن حذفِ الموصوف... قراءة من قرأ ﴿يرسل عليكما شواظ من نارٍ ونحاسٍ﴾ بالجر، تقديره: وشيءٌ من نحاس، فحذف الموصوف؛ إذ لا يجوز جر ﴿نحاسٍ﴾ على النار، لأن النحاس لا يكون منه شواظ"([39]).
وعلى هذا التوجيه يرجع المعنى إلى قراءة الرفع أيضا.
المبحث الثالث: بيان وجه الإعجاز في الآية
إن كلام الله عز وجل شأنه عجاب، تحار في محاسنه الألباب، ولا تكاد تنقضي لسحره الأسباب، أخذ من الفصاحة والبلاغة كل لُباب، وطرق من المعاني والبيان كل باب، فانظر إلى هذه الآية ـ على قلة كلماتها ـ كم حوت من معان، وكم احتملت من تأويلات حسان، ولقد ساهم في تعدد تلك المعاني أمران، وهما الاشتراك الذي في الشواظ والنحاس، فقد تقدم أنهما يدلان على معان كثيرة، والقراءتان اللتان في قوله تعالى: {وَنُحَاسٌ}.
هذا، ويمكن ذكر بعض المعاني التي تدل عليها الآية تخريجا على ما تقدم، فيقال:
· يرسل عليكما لهب من نار ودخان.
· يرسل عليكما لهب من نار ودرديُّ زيت مغلي.
· يرسل عليكما لهب من نار وصُفر مذاب.
· يرسل عليكما دخان من نار ودردي زيت مغلي.
· يرسل عليكما دخان من نار وصُفر مذاب.
· يرسل عليكما دخان من نار ولهب لا دخان فيه.
وهذه المعاني وغيرها يمكن إرجاعها إلى قول من أقوال المفسرين حسب ما تقدم.
ولقد أفادت قراءة الجر معنى جديدا، وهو أن الشواظ قد يراد به النار والدخان معا، فيكون قول الله تعالى: ﴿من نار ونحاسٍ﴾ بيانا للشواظ، قال الدكتور أحمد الخراط: "فقد أجملت هذه القراءة نوع العذاب، فهو شواظ مركب مؤلف من نار ودخان، فالنار تحرق، والدخان يخنق، وهذا العذاب يهيمن عليهم دفعة واحدة"([40]).
وقراءة الرفع أفادت أنهم يصابون بأصناف من العذاب، إما في مكان واحد وزمان متحد، وإما في مكان وزمان مختلفين([41])، ذلك لأن العطف بالواو لا يقتضي ترتيبا ولا تعقيبا، بل هو لمطلق الجمع كما هو معلوم.
هذا ما تيسر جمعه في هذه العجالة، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلينا معهم بمنك وكرمك وجودك يا أرحم الراحمين يا رب العالمين.
([1]) انظر النشر في القراءات العشر: 2/381.
([2]) انظر الحجة للقراء السبعة: 6/249، والكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها: 2/303.
([3]) انظر النشر في القراءات العشر: 2/381.
([4]) مقايي اللغة: (شوظ)
([5]) انظر جامع البيان في تأويل القرآن: 23/45، و الدر المنثور: 14/124.
([6]) الدر المنثور: 14/125، وكتاب العين: (شوظ)، وتهذيب اللغة: (شوظ)، والحجة للقراء السبعة: 6/250.
([7]) معالم التنزيل: 7/448.
([8]) جامع البيان في تأويل القرآن: 23/46، ومعالم التنزيل: 7/448.
([9]) البحر المحيط: 10/66، والدر المنثور: 14/125، وروح المعاني: 14/112.
([10]) تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 7/497.
([11]) الدر المصون: 10/171.
([12]) تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 7/497.
([13]) المحرر الوجيز: 6/270، وفتح القدير: 5/182.
([14]) الجامع لأحكام القرآن: 20/141، وفتح القدير: 5/182.
([15]) معاني القرآن: 3/117.
([16]) المحكم والمحيط الأعظم: (شوظ).
([17]) القاموس المحيط: (شوظ) وتاج العروس: (شوظ)
([18]) جامع البيان: 22/47.
([19]) معالم التنزيل: 7/448.
([20]) مجاز القرآن: 2/244.
([21]) معاني القرآن: 3/117.
([22]) تهذيب اللغة: 4/186.
([23]) انظر كتاب العين: (نحس)، ومقاييس اللغة: (نحس)، وتفسير القرآن العظيم: 7/497، وفتح القدير: 5/182.
([24]) المحكم والمحيط العظم: (نحس)، وتاج العروس: (نحس)
([25]) المفردات في غريب القرآن: 794.
([26]) جامع البيان في تأويل القرآن: 23/47، ومعالم التنزيل: 7/448.
([27]) معالم التنزيل: 7/448، وفتح القدير: 5/182.
([28]) مفاتيح الغيب: 29/363.
([29]) الجامع لأحكام القرآن: 20/143، وفتح القدير: 5/182.
([30]) تاج العروس: (درد).
([31]) الجامع لأحكام القرآن: 20/143. وانظر: اللباب لابن عادل: 18/324، وفتح القدير: 5/182.
([32]) بحر العلوم: 4/231.
([33]) انظر الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها: 2/302، والمحرر الوجيز: 6/270، والكشاف: 4/449.
([34]) الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها: 2/302.
([35]) انظر: المرجع السابق: 2/302، والجامع لأحكام القرآن: 20/142، وإعراب القرآن للنحاس: 4/311.
([36]) انظر مفاتيح الغيب: 29/101.
([37]) انظر روح المعاني: 14/112.
([38]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: 24/254 بتصرف يسير، وانظر مزيدا من الأمثلة في الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار: 1/139.
([39]) معاني القرآن وإعرابه: 1/64 بتصرف يسير، وانظر الحجة للقراء السبعة: 6/251، والكشف: 2/302.
([40]) الإعجاز البياني في ضوء القراءات القرآنية المتواترة: 221.
([41]) انظر المرجع السابق: 222.
 
جزاك الله خيراً يا شيخ محمد وبارك الله في علمكم ونفع بكم
 
عودة
أعلى