القراءة الجندرية للقرآن ومآلات التسول الثقافي

محمد العبادي

مشارك فعال
إنضم
30/09/2003
المشاركات
2,157
مستوى التفاعل
2
النقاط
38
الإقامة
الخُبر
الموقع الالكتروني
www.tafsir.net
ملاك الجهني
2/11/2015​

وقفتُ في العام الماضي على قصيدة للدكتور عبد الله السفياني قال فيها:
أما الرفاق فباعوني لأسئلتي / أما الحبيبة باعتني لأحزاني!
وبدا لي وقتها أن هذا البيت من أنسب الأمثلة للقراءة النسوية الجندرية، والمنتهية بإدانة الشاعر ووصمه بالذكورية وفقًا لثنائية (العقل/ العاطفة) حيث جعل السفياني الرجلَ عقلاً، والمرأة عاطفة. فللرفاق يَبُث الشاعرُ قلقَ أسئلته، وللحبيبة مراكب الأحزان ترسو في مرافئها!
ومن المعروف في هذه الثنائيات الضدِّية أن طرفيها غير متكافئين وأن أحدهما يعلو الآخر ويفضله في القيمة والمكانة ولا بد. وقد استعارت القراءة النسوية الجندرية أداتها التفكيكية من جاك دريدا حيث طبق هذه القراءة على الفكر الغربي، باعتباره فكرًا يقوم على ثنائيات ضدية عدائية، كــ(العقل والعاطفة، والذات والآخر، والرجل والمرأة)، يصبح معها الطرف الأول متميزًا وفوقيًا، والثاني دونيًا وهامشيًا.

وبمثل هذه القراءة الإسقاطية التبسيطية والاختزالية لبيت السفياني السابق تمت إدانة التراث العربي من قبل النسويات اللاتي أسقطن الثنائيات الغربية على التراث بطريقة غاية في السطحية والانتقائية، انتهت لتصفيته تمامًا من أية عناصر ترفع من شأن الجوانب المعنوية من المرأة ولا تختصرها في حدود جسدها.
ونُثرت الشواهد لهذه التهمة في المؤلفات النسوية من مثل ثنائية (المحسوس والمعقول) في مقولة محمد بن سيرين في العقد الفريد: (ما رأيت على امرأة أجمل من شحم، وما رأيت على رجل أجمل من فصاحة).

ورغم وجود شواهد في التراث تؤكد الإعلاء من شأن الأبعاد المعنوية للمرأة كالشواهد الشعرية التي تصف خُلق المرأة وتمتدحه، أو الأمثال التي تجعل من المرأة ذاتًا إيجابية وصاحبة أفضلية، فقد غُيبت هذه الأبعاد تمامًا أو تم توظيفها عكسيًا لصالح النقد النسوي ليُتَّهم التراث بوصفه بنيانًا من الفحولة، مع ملاحظة أن الفحولة في الاستعمال النسوي لا تعد من أوصاف التفخيم والمديح كما في العرف الأدبي العربي بل منقصة وعيبًا.

ولا أهدف بهذا إلى الدفاع عن التراث وموقفه من المرأة فلست ممن يخلع على التراث أثواب العصمة والقداسة وأدرك أننا نقف في النهاية أمام منتج بشري غير مقدس ولا معصوم، لكنه منتج بلغ من الضخامة والتنوع والثراء ما يجعل تهمة اختزالية مثل هذه تتهاوى أمامه بضآلة وهشاشة ورقة خريفية هوت من غُصن شجرة جاوز عمرها مئات السنين!
وقبل أن نتتبع الفكرة التي تمت بواسطتها حياكة هذه التهمة التي تقدم وكأنها تعبر عن حقيقة فعلية وكليَّة، فلنقف أولاً مع المراد بمصطلح الجندر والذي يوصف بأنه من أعقد المفاهيم وأكثرها تقلقلاً وتغيُّرًا لكونه ينتج باستمرار ظِلالاً جديدة.

بزوغ المصطلح وتحولات المفهوم
تعود مفردة الجندر بحسب المعاجم المختصة إلى أصل لاتيني يعني: النوع، أو الأصل (genus)، ثم تحدرت سلاليًا عبر اللغة الفرنسية في مفردة (gendre) التي تعني: النوع أو الجنس. والجنوسة هي الترجمة العربية للجندر، الذي شاعت ترجمته بالنوع الاجتماعي أيضًا، وهو مفهومٌ تمحورت حوله الدراسات النسوية في مختلف المجالات: الطبية، والقانونية والأدبية، والتعليمية، والدينية، والفنية، والاقتصادية، والسياسية...، مفهومٌ يبرز في كل مكان –على حد وصف أحد الباحثين-مما جعله بؤرة للدراسات (عبر التخصصية) في الجامعات الغربية؛ إذ استخدم المفهوم بوصفه أداة تحليلية تكشف التحيزات المسبقة ضد الأنثى في الثقافات بعامة، والثقافة الغربية بوجه خاص.
ويشير المصطلح إلى أن الاختلافات بين الجنسين، والتمييز الجندري يرجعان للتركيبة الاجتماعية الثقافية، لا إلى الطبيعة البيولوجية القائمة على الجنس (ذكر، أنثى)، فمفاهيم الذكورة والأنوثة نفسها صناعة اجتماعية ثقافية، وهي الفكرة التي تتعارض مع المعتقدات الشائعة سابقًا، والتي تحيل الفروق بين الجنسين إلى أساس بيولوجي بالضرورة.

وقد ولدت مقولة الجندر من رحم الدراسات النسوية، وتعد سيمون دي بوفوار أول من لفت النظر للاختلاف بين الجنسين بمقولتها الشهيرة: (لا تولد المرأة امرأة بل تصبح كذلك).
ولا تنفصل رؤية سيمون دي بوفوار عن الفلسفة الوجودية التي طبعت كتاباتها، فقد نفت الوجودية نفياً حاسماً وجود طبيعة أو (ماهية) سابقة على وجود الإنسان، وذهبت الوجودية إلى أن الإنسان هو الذي يصنع ماهيته، فالإنسان كائن حُر، وهذه إضافة وجودية يترتب عليها إلغاء (الطبيعة-الماهية) المحددة سلفًا.
أما مصطلح (الجندر) فقد سكَّه عالم النفس روبرت ستولر حيث ميَّز بواسطته المعاني الاجتماعية والنفسية للذكورة والأنوثة عن الأسس البيولوجية.
وعند النسويات الغربيات لم تكن الجنوسة-الجندر أمرًا خاصًا ببعض المجتمعات، فجميع المجتمعات تُفاضل وتميز بين الجنسين في التقييم والتعامل لتكوِّن منظومة جندرية.
ومن الأبحاث النسوية المنشورة في هذا الشأن بحث ثقافي مقارن ترجم إلى عدة لغات، منها العربية. يتمحور البحث حول النساء في أمثال الشعوب، وقد حاولت الباحثة التي صرحت بانطلاقها من منظور جندري وقضت في جمع مادة بحثها سنوات عديدة حاولت أن تستقصي في كتابها الأمثال المتعلقة بالمرأة من الثقافة الشفويَّة. كما صنفت الأمثال المتعلقة بالموضوع الواحد وأدرجت تحتها أمثال من ثقافات متعددة تكاد تكرر ذات الأفكار والوصايا حول المرأة، (طبيعتها، وحدود حركتها، ومجال وجودها، ومهامها، وأخلاقها، وطريقة التعامل معها...) إلى الحد الذي يجعلك تُنهي القراءة مقتنعًا بأن دونية المرأة فكرة كونية، أو مُشتركًا ثقافيًا بين شعوب العالم.
لكن السؤال النسوي في مرحلة ما بعد الحداثة لا يتجه لإثبات وجود النظرة الدونية للمرأة ولا البرهنة عليه، كما حاولت الباحثة أن تصنع، ومثلما كانت النسوية الحداثية تضع هذه المسألة على قائمة اهتماماتها، كما لا يربط السؤال النسوي ما بعد الحداثي بين نشأة النظام الأبوي والجندر باعتبار الأول محضنًا تشكلت فيه الأدوار المنسوبة للمرأة تاريخيًا كالأمومة والمهام المترتبة عليها.
ولم يعد الجندر يمثل للنسويات أداة للتحليل فقط، بل أداة لتفكيك البُنى المنتجة للتمييز، وقد مكنتهن بالفعل من خلخلة مفاهيم الأنوثة والذكورة، وموقع المرأة داخل النظام الاجتماعي.
وأسهمت المنظرات النسويات الغربيات في تطوير مصطلح الجندر من خلال النظريات اللغوية التي أثَّرت في النسويات المهتمات بفلسفة اللغة، كنظرية المنطوقات الأدائية ونظرية أفعال الكلام والتي دفعت بجوديث بتلر لنقل هذه النظريات إلى حقل الدراسات النسوية ودراسة الجنس، وتحديدًا: ثنائية اللغة الإخبارية، واللغة الأدائية أو لغة الفعل، فقدمت جوديث بتلر ثلاث دراسات متتالية جسَّدت الثورة النسوية الجديدة وعبرت عنها، وهي تقترح أن يتم النظر إلى الجنس بوصفه أداء، بمعنى أنه لا يقوم على ماهية الإنسان بل فعله، فالرجل ليس ماهيته بل فعله، حالة يقوم بها، والجملة المتضمنة كلمة بنت أو ولد هي جملة إخبارية أكثر منها أدائية لأنها تحتمل الصدق أو الكذب، وما يُحدد جنس المولود هو الوعد بأن يتصرف بناء على الدور الذي حددته له التقاليد، ولذا فإن ما يحدد جنس المولود هو سلوكه المتكرر، فإن أتى بأفعال امرأة كان كذلك والعكس صحيح، ومن هنا تقترح جوديث بتلر تأخير تسمية المولود حتى يكبر ويتحدد جنسه.
ووضعت جوديث بتلر بدراساتها السابقة النص التأسيسي لنظرية المثليين (الشواذ جنسيًا)، وأصبحت أعمالها من الكلاسيكيات في الدراسات الجندرية.
ولهذا يوصف الفرق بين الموجات النسوية الثانية والثالثة أو النسوية الحداثية وما بعد الحداثية بأنه فارق منهجي وليس مسألة تطور زمني، وهو متساوق مع النقد الموجه لنظرية المعرفة في مرحلة ما بعد الحداثة، وبخاصة النقد المعرفي المستمد من التحليل الذي طوره ميشيل فوكو للخطاب، واستُثمر في ميدان الأبحاث النسوية ليؤكد أن أسلوب تكوين المعرفة والصيرورات المترتبة على إنتاجها هو ذاته مجندر، ويتضح هذا في الفرق الجوهري بين مفهوم الجندر في نسوية الحداثة وما بعد الحداثة حيث عُدّ الجندر في نسوية الحداثة هوية ثقافية تغطي الجنس البيولوجي، بينما ترى منظرات ما بعد الحداثة أو ما بعد النسوية أنه لا يوجد أصلاً جنس بيولوجي سابق لوجود أو منفصل عن تركيبته الاجتماعية، وأن الجندر في حالة صيرورة تتكرر ضمن الحياة اليومية، وأن الذكورة والأنوثة طقوس تنكرية.

تسييس الجندر وعولمة الرؤية الغربية
لم يبق الجندر سجين الدراسات الأكاديمية النظرية بل تم ترحيله وتوظيفه سياسياً وأصبح أداة فاعلة لتنفيذ سياسيات الهيمنة الغربية في دول العالم الثالث، فارتبط الجندر بالسياسة الغربية في العالم الإسلامي، وتصف دينيز كنديوتي الباحثة بمعهد الدراسات الشرقية والإفريقية هذا الأمر بوصفه ظاهرة فتقول:" أُطلق على هذه الظاهرة اسم نشاطية جندرية بتحفيز من الجهات المانحة"، وتشير إلى"رفع معدل تسييس الجندر إثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر (2001م)، وما تلاها من حرب على الإرهاب".
وتصدرت قضايا المرأة المسلمة على إثر هذا التسييس قائمة الاهتمامات الغربية في العالم الإسلامي، ونشطت النسويات العربيات في نشر وتفعيل المفهوم نظريًا وعمليًا في إطار العمل النسوي المنسق مع المنظمات الغربية.
وأفادت نسويات العالم الإسلامي باتجاهيهما العلماني والإسلامي (التوفيقي) من المفهوم على المستوى النظري واستعملنه في تحليلاتهن لوضع المرأة، وأشرن لأهميته للبحث النسوي، وفي هذا تقول نسوية علمانية:"البحث في الجندر يمكننا من تعويض الماهوية البيولوجية بالبنائية الثقافية، بحيث يتبين لنا أن الاختلاف بين الرجل والمرأة مبني ثقافيًا وإيديولوجيًا وليس حتمية بيولوجية".
وتذكر الباحثة مستندها المعرفي المشكّك في حقيقة الاختلاف بين الجنسين نفسه فتقول:"إن الدراسات الغربية الحديثة تُبين أن الجنس نفسه نتيجة بناء ثقافي وتصورات متحولة، بحيث لا يوجد الجنس باعتباره معطى بيولوجيًا محضًا". وعلى هذا الأساس ترى الباحثة أن مقولة الاختلاف الجنسي مقولة خاوية لا يمكن التفكير بها دون ملئها باعتبارات جنسية تكرس هيمنة جنس على الآخر: "ولذا فمن الأفضل أن لا نقول لأطفالنا هناك جنسان: ذكر وأنثى، بل أن نقول لهم: الإنسان في أي مكان يولد فيكون أنثى أو ذكر أو غير ذلك".
وتقول نسوية أخرى:" أن نتبنى المقاربة الجندرية يعني أن ننظر إلى الواقع الاجتماعي من منظور جندري، أو بعدسة جندرية، هذا يعني أن ننتبه إلى كون العالم خاضعًا لأحكام الجندر(مجندرًا)، وأن نتعرف تاليًا على الدور الذي يلعبه الجندر في مجمل مناحي الحياة الاجتماعية".
وتشرح باحثة نسوية ثالثة مكاسب التحليل الجنوسي فيما يتصل بقضايا المرأة بقولها:"إن المنهج الجديد الذي أطلقته حزمة المفاهيم والأدوات النظرية والمقاربات التطبيقية المرتبطة بالنوع الاجتماعي (الجندر) قد رتَّب إعادة نظر كلية بقضايا النساء... وتكمن أهمية هذا المفهوم في كونه أنجز فصلاً عامًا ما بين الثابت والمتغير في العلاقة بين الرجل والمرأة، فإذا كانت البيولوجيا موضوعاً ثابتًا لا يتأثر بالإرادة الإنسانية، فإن الأدوار الاجتماعية التي تنتجها العناصر المادية والمعنوية بالمجتمع، أي علاقات القوة هي ليست تلقائية، وإنما هي منظمة حسب الثقافات المختلفة، وهي بهذا المعنى قابلة للتغيير بحسب هذه الثقافات السائدة في زمن معين، وفي مكان معين".

جندرة الإسلام والبحث عن العفريت
وصف المفكر العلماني نصر حامد أبو زيد خصومه الفكريين في قراءتهم لكتبه تنقيبًا عن سقطاته، بالباحثين عن العفريت.
ووصف أبي زيد يصدق هنا على الطرح النسوي في دراساته الجندرية الإسلام، أو بالأصح الإسقاط المفاهيمي المسبق عليه، فقد ذكرت مثلاً مؤلفة كتاب (المرأة والجنوسة في الإسلام) هدفها من الدراسة في ثنايا كتابها، بقولها: "إن الهدف الذي أسعى إليه هنا هو التعرف على إيديولوجيا الجنوسة في ذلك العصر، وكذلك الفرضيات حول النساء والعلاقات بين الجنسين، والتي تؤثر بدورها وبصورة غير مباشرة على النصوص، وعلى تفسيرات الإسلام كما تم التعبير عنها حينذاك"، وكان من نتائج قراءتها الجندرية أن وصفت النبي عليه الصلاة والسلام بما يأنف منه العربي ذو المروءة فضلاً عن سيد البشر وإمامهم.
كما انعكست التحليلات الجندرية على الرؤية النسوية للأديان قاطبة بوصفها تُشرِّع للتمييز بين الجنسين استنادًا للاختلافات البيولوجية، باعتبار أن أي تمييز بين الجنسين وأيًا كانت مرجعيته ودلائله أو مسوغاته مرفوضٌ مسبقًا، فتقول نسوية علمانية:"رغم أن لفظ الإنسان أكثر الألفاظ تكرُرًا في القرآن الكريم، إلا أن وضع المرأة ومكانتها وحقوقها في النص المؤسسي جاءت متناقضة، وتراوحت بين المساواة بين الرجل والمرأة من حيث كونهما خُلقا من نفس واحدة، وبين وضع المرأة في مكانة أدنى.وكان السبب الرئيسي لتدني هذه المكانة هو جسدها ووظائفها البيولوجية، أي اختلافها الفسيولوجي عن الرجل، وهو الاختلاف الذي قنَّن له الفقه وعلوم التفسير التقليديين، على أساس أن الاختلاف لا يمكن أن يولد المساواة، وأن الإنسان هو الرجل في خاتمة المطاف، ومن المعروف أن كل الديانات السماوية التي تضمنت هذه الفكرة بطريقة أو بأخرى ولنفس الحيثيات تقريباً؛ فقد تعاملت مع المسألة الأساسية في الفلسفة ونظرية المعرفة حول الوجود، أو الوعي، أو المادة والروح، من موقع أولوية الروح والوعي، وفي نظرها جميعاً أن الله هو روح العالم، وهو الموجود الأول الذي نشأت الخليقة بأمر منه، أي أن الإحساس والمدركات والوعي هي الوقائع الأولية وهي جميعًا رجولية ضمنًا بما أن الله مذكر".

وانطلاقًا من الجندر كذلك تحدثت مؤلفة كتاب (الاختلاف في الثقافة العربية الإسلامية: دراسة جندرية) عما سمته (مأسسة الجندر) في مجتمع الدعوة، وذلك عبر تناولها للأحاديث النبوية المؤسسة للاختلاف الثقافي، كالأحاديث المتعلقة بالاختلاط بين الجنسين، كما تحدثت عن جندرة العبادات، إذ إن كثيرًا من أحكام الصلاة -في تصورها- صناعة اجتماعية ليست في القرآن، وأن مثل هذه الأحكام المؤسسة للجندرة كاختصاص الرجال بالتسبيح، والنساء بالتصفيق، تؤكد على أن المرأة "كائن دنيوي نادرًا ما يرتقي إلى عالم المقدس".
كما قرأت بعض منظرات النسوية الإسلامية القرآن من منظور جندري، يقوم على تأويل التمييز الجندري الواقع في لغة القرآن وأحكامه، اتفاقًا مع المبادئ العامة للقرآن، والقائمة على المساواة المطلقة بين البشر، وصنفت أخريات عملهن هذا تحت مسمى (جهاد الجندر)، وعلى رأسهن آمنة ودود التي لم تزد في جهادها الجندري على أن جعلت القرآن حقلاً تطبيقيًا لمقولات الجندر، وفيه تقول:" الأنوثة والذكورة ليست خصائص خلقية مطبوعة في الفطرة الأساسية للذكور والإناث، كما أنها ليست مفاهيم تناولها القرآن أو أشار إليها. إنها خصائص محددة تنطبق على الإناث والذكور على التوالي على أساس الأدوار المحددة ثقافيًا فيما يتعلق بكيف ينبغي أن يعمل كل نوع، وقد تم تصويرها تصويرًا قويًا للغاية في تفاسير القرآن دون إثبات صريح للقرآن لمضامينها".

وينبغي أن نقرن هنا بين هذه الرؤية النسوية والنصوص النبوية التي قسَّمت الأدوار التي ترفضها النسويات الإسلاميات، كحديث: (والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها)، والأحاديث التي أشارت للطبيعة الفطرية للمرأة كحديث: (خلقت المرأة من ضلع)، ويستدل به جمهور العلماء على خلق المرأة من الرجل، وهو حديث تتلافاه بعض النسويات في رفضهن للخلق من ضلع وينسبن استدلالات العلماء للميثولوجيا (الأسطورة) لا للسُنة، وتتجاهل بعضهن النص النبوي تمامًا حتى على فرض إعادة التأويل واختلافه، كقول إحداهن:"نرى أن الأسطورة في نصوصها المختلفة تحتفظ بالريادة التاريخية في هذا الإطار لاسيما في مسألة خلق المرأة من ضلع الرجل، فهي تكاد تتشابه في أساطير كثير من الثقافات".

وقد شغلت قصة خلق المرأة منظرات النسوية الإسلامية فأعرضن عن السُنَّة وأعدن قراءة القرآن انطلاقًا من مفهوم الجندر وجهدن لإثبات فكرة المساواة ونفي الجندرة في عملية الخلق إلى حد أوصلهن للانحياز إلى الأنثى وفي هذا تقول باحثة نسوية توفيقية تصف نفسها بالنسوية الإسلامية:"وإذا كانت بعض القراءات الذكورية قد أشارت إلى خلق جسد حواء من آدم كإشارة إلى أصلية وجود الذات الذكرية وفرعية وجود الذات الأنثوية، فإن القراءة النسوية المقابلة يمكن أن تُحدث تعديلاً بالغًا في هذه القراءة المنحازة ودلالاتها". وتقدم الباحثة قراءة نسوية بديلة تكشف المسكوت عنه في التفسيرات الذكورية لقصة الخلق فتقول:"وهنا نكتشف أن النص القرآني يلمح-والله أعلم- إلى أن النفس الأولى هي نفس أنثى، يقول سبحانه في الآية 188 من سورة الأعراف:(هو الذي خلقكم من نفس واحدة-وجعل منها زوجها ليسكن إليها)".
وتتواصل الباحثة في طرحها السابق مع طرح المنظرة الأولى للنسوية الإسلامية آمنة ودود التي تناولت قصة الخلق من نفس المنظور الجندري المقرر للمساواة فتقول:" في وصف القرآن لخلق الإنسان لم يبدأ الله خلق الإنسان بالذكر، كما أنه لم يشر إلى أصول الجنس البشري بآدم، حتى أن القرآن لم يذكر أيضًا أن الله بدأ خلق الإنسان بنفس آدم وهو الرجل، وهذا الإغفال جدير بالملاحظة نظرًا لأن حكاية القرآن لخلق الإنسان لم يتم التعبير عنها بألفاظ النوع".

ثم إن قراءات النسوية الجندرية الإسلامية شاملة ولا تتمحور حول الأحكام الموصوفة من قبل النسويات بالأحكام الممايزة بين الجنسين فقط، كالقوامة والشهادة والميراث والطلاق...بل تشمل قراءة النماذج النسائية الواردة في القرآن والسنة، والتي تؤثر في تشكيل التصورات الاجتماعية عن المرأة، ومن القراءات الجديدة المقدمة من قبل منظراتهن قراءة صاحبة كتاب (القرآن والنساء: قراءة للتحرر) لقصة امرأة العزيز لا بوصفها نموذجًا للمراودة، بل بوصفها (بطلة)، وفي هذا تقول:"يقدم لنا القرآن أيضًا من خلال قصة زليخة المرأة التي كانت رغماً عنها (بطلة في الحب المحظور)، درسًا في الإنسانية والتسامح. وإذا كانت القراءة الحرفية لهذه الآيات تُدينها دون رحمة، وتجعلها عنوانًا للمراودة الأبدية، وتحملها المسؤولية النسائية في الغواية والحث على فعل المنكرات".
والدرس الذي يعلمه لنا القرآن وتتضمنه قصة زليخة مع النسوة اللاتي قطعن أيديهن-برأيها -:"أن نتفهم الآخرين، ونحترم خصوصياتهم، ونحافظ على الأخلاقيات العامة، إن القرآن يربي المؤمن على التشدد مع النفس، والتساهل والتسامح إلى أبعد الحدود مع الآخرين".
كما قرأت الباحثة وغيرها قصة مريم عليها السلام في القرآن، وناقشن مسألة ما إذا كانت نبية أم لا؟ والسبب برأي إحداهن أنه:"من المهم بمكان أن نعرف ما إذا جعل الإسلام بعض النساء بمرتبة الأنبياء، لأن هذه المعرفة كفيلة بالتأكيد على مبدأ العدالة والمساواة اللذان يعتبران أساس هذه الرسالة الروحية".
وتؤكد الباحثة على فكرتها بإصرار يسعى إلى التسوية بين الرجل والمرأة بشتى السبل، فتقول:" يجب أن نكون اليوم قادرين على القول صراحة أن القرآن يعرض بشكل جلي نماذج لنساء نبيَّات كما هو الحال بالنسبة إلى الأنبياء من الرجال. فهذه هي الرسالة الكونية التي يجب أن نسمعها اليوم".

ولم تقف القراءة الجندرية من قبل من يصنفن أنفسهن بالنسويات الإسلاميات للشخصيات النسائية في القرآن عند هذا الحد الذي يحاول تعزيز فكرة المساواة (التسوية المطلقة)، بل تجاوزته إلى قراءات تزعم ترسيخ القرآن لصورة (سلبية) عن المرأة تدعم النظرة الدونية لها.

وهم الحياد وتغييب الحقائق القرآنية
(استخدام المفاهيم التحليلية الغربية بطريقة انتقائية، بحيث ننتقي منها ما يناسبنا من الدلالات وننفي أخرى لا يفصم المفهوم عن جذوره ولا يفرغه من حمولته الثقافية بحال).

هذا ما ذكرته في حوار دار بيني وبين مبتعثة إلى بريطانيا متخصصة في الهرمنيوطيقا في محاضرة كنتُ قد قدمتها في مركز التمكين للمستقبل بمدينة جدة تحت عنوان (الخطاب النسوي وتأنيث التأويل) وعقَّبت عليه محاورتي بأن انتقاء تعريف معين للجندر يجنبنا السقوط في التأويلات غير المناسبة لثقافتنا. فضربتُ لها مثلاً لعدم إمكانية التحكم في المنتج التأويلي والتوافق على تعريف بريء أو محايد لعدم وجود رؤية إنسانية محايدة أو بريئة أصلاً بحسب ما تقرره الدراسات الهرمنيوطيقية نفسها، ومثال ذلك مصطلح الجندر الذي تقول فيه نسوية إسلامية (توفيقية):"حين أتحدث عن الجندر فأنا أدرك أن الجندر له تعريفات كثيرة، ومنها تعريف تحييد الجنس أو إلغاء الذكورة والأنوثة، وفي الحقيقة لم يتبنَّ أحد في مصر أو في العالم العربي هذه المدرسة إطلاقًا، ولكننا دائمًا نتعامل مع فكرة الأدوار الاجتماعية بالتركيز على نشأتها وتطورها والنشأة الاجتماعية والحقوق والواجبات...".

والواقع أن عدم تبني التعريفات المذكورة لم يفصم الجندر عن أساسه الإنسانوي الغربي ولم يمنع المنظرات النسويات العربيات ومن أبرزهن أسماء المرابط من التسوية بين الجنسين في كافة الأحكام بقراءة القرآن قراءة جندرية تتخذ من مدونة حقوق الإنسان الغربية إطارًا مرجعيًا وترى التمييز بين الجنسين في القوامة والطلاق والميراث ظلمًا، وسبق وأن أشرنا لذلك في مقالة (أسلمة السيداو وطيور العقعق الفكرية).
والقراءة الجندرية نفسها من حملت إحدى الباحثات النسويات العربيات (المحجّبات) على القول بأن أحاديث خلق المرأة من ضلع مثلت انقلابًا على تاريخ الآلهة الأنثى، أي انقلابًا على المرأة، وأن هذه الأحاديث إضافة لحديث نقص عقل المرأة ودينها تسببت في النظرة الدونية للمرأة وأن ما رسخ هذه النظرة الدونية هو بعض نصوص القرآن، والتي ظهرت فيها المرأة بشكل سلبي، فقد خفض القرآن من قيمة النماذج النسائية الواردة فيه كبلقيس التي سميت بملكة سبأ والتي قطعت المسافات للقاء سليمان -عليه السلام- فدحر سليمان سلطتها، وهاجَر الأميرة التي حكمت الباحثة التي قرأت القرآن بمسبقاتها النسوية ومخزونها المعرفي الأسطوري أن القرآن جعلها خادمة!.

وهكذا فلم يفلح الأسلوب الانتقائي الذي ظنَّت تلك الباحثة أنه كافٍ في تعريف مصطلح الجندر في تفريغ المصطلح من حمولته الثقافية ولم يستأصله من أرضيته الإنسانوية التي نبت فيها، والتي جعلت من النص القرآن ممتهنًا للمرأة في نهاية المطاف.

والواقع أن القراءة الجندرية للتراث والقرآن بخاصة وقعت في عدة مزالق منهجية تفضح أساسها الإيديولوجي، وتؤكد عدم حيادها وبراءتها من رؤى قبلية، ومن أهمها:

  • إرادة التسوية بين جميع النماذج النسائية الواردة في القرآن وجعلها نماذج مثالية، وهذا غير متأتٍ في الواقع أصلاً، ولا في النماذج الرجالية المذكورة في القرآن كنموذج قارون بوصفه مستكبرًا، ونموذج العالمِ الذي أخلد إلى الأرض واتبع هواه وشُبِّه بالكلب، وهي تسوية لا تتأتى في الخليقة بصفة عامة، إذ فيهم الخيَّر والشرير والصالح والطالح وبين ذلك.
  • والملاحظ أن إرادة التسوية بين النماذج النسائية في القرآن (كامنة) في مختلف القراءات النسوية حتى السلبية منها.
  • الانطلاق من مقدمة (حتمية) مفادها: أن كل شكل من أشكال التفرقة بين الجنسين، موشومٌ بالسلبية، تستوي في هذا التفرقة الاجتماعية البشرية قصورًا أو جهلاً أو ظلمًا وعدوانًا، والتفرقة الإلهية الواردة في آيات القرآن (المحكمة) والصادرة عن إله عليم حكيم في أمره، عدلٍ في حكمه، خبير بخلقه، والمفارقة أن المنتمين فكريًا إلى الحداثة ويشيدون بعقلانيتها وإرثها العلمي التجريبي ويطالبون مجتمعاتهم بالأخذ بالحداثة دون تمييز بين المادي والفكري لأجل مكتسباتها العلمية التجريبية هم ذاتهم من يتجاهلون الفروق التي أثبتتها الدراسات البيولوجية بين الجنسين ويرمون خصومهم بالاستقواء بالبيولوجيا حين يستندون إلى الفروقات البيولوجية بين الجنسين والتي تؤكد عدم إمكانية التسوية المطلقة بينهما، وأن هذه التسوية تنعكس سلبًا على المرأة قبل الرجل!
  • تحكيم الجندر على النص القرآني باعتبار الجندر مصطلحًا صحيحًا وصالحًا للتطبيق على أي نص بغض النظر عن قداسته (أنسنة النص)، وتطبيقه على أية ثقافة باعتبار الجندر مفهومًا عابرًا للثقافات، أي أن مصطلح الجندر نفسه وبغض النظر عن تحولات المفهوم يُنظر إليه بوصفه فكرة كونية مطلقة، وهي فكرة تتعارض مع أصول الثقافة الغربية القائلة بالنسبية والتاريخية.
  • الانطلاق من سَبْق الميثولوجيا (الأسطورة) على الحقيقة الدينية تأسيسًا على تصور غربي للتاريخ، تُعد فيه الثقافات الوثنية بأساطير آلهتها المتعددة سابقة على الأديان السماوية الموصوفة بالأديان التوحيدية، مما أدى إلى جعل الميثولوجيا حاكمة على القرآن ليصبح القرآن النص الممثل للانقلاب ضد الأنثى المقدسة، لا مصدر الحقيقة الدينية والحاكم على الأساطير الوثنية، وهكذا يتم تعطيل النص القرآني وتغييب حقائقه القطعية وعدم توظيفها في التفسير، واستنطاقه بمشتهيات النسويات المعرفية لا غير، وتعود هذه التهمة إلى الرؤية الناظمة للخطابات النسوية وهي الرؤية الحداثوية التي تفترض مسيرة خطِّية معينة للتاريخ لا تعترف بديانات (سماوية) سابقة على ما يسمى بالديانات التوحيدية الثلاث والتي توصف بكونها متطورة عن الديانات الوثنية القائلة بتعدد الآلهة، ومتأخرة عن الحداثة العقلانية. والرؤية الحداثوية للتاريخ والتي تقدم الثقافة الغربية ذات النزعة الإنسانوية نفسها من خلالها بوصفها ذاتًا سائدة تحتفظ بحق تأليف التاريخ وبسط السُلطة والشرعية عليه، نقشت تاريخ المختلِفين عنها بوصفهم متخلِّفين وتقليديين، ووضعت الثقافات الأخرى في ترتيب غائي وتسلسل زمني، كما تقول إحدى ناقدات ما بعد الكولونيالية كما مكَّنت الغرب:" لا من ابتداع نفسه بوصفه الذات العالمية للتاريخ فحسب، بل مكنته من فرض هيمنته وتفوقه الثقافيين عن طريق افتراض قصة واحدة صحيحة للتاريخ البشري".

مآلات القراءة المأزومة: إدانة الإسلام بجُرم الثقافة
النظرة الدونية للمرأة والنظر إليها بوصفها كائنًا فاسد الأخلاق بطبيعته، والحث على عدم الثقة بها...هذه النظرة موجودة بالفعل في ثقافات عديدة لا في جميع الثقافات وفقًا لما أثبتته الدراسات الأنثروبولوجية، كما أنها موجودة في التراث بوصفها منتجًا اجتماعيًا لا دينيًا، وهي نظرة وجدت عبر التاريخ الإنساني، وجاء أنبياء الله ورسله لتصحيحها ضمن ما بعثوا لتصحيحه وإقامة القسط فيه، والشواهد في رفع نير الثقافة والظلم الاجتماعي المترتب عليها عن المرأة في نصوص القرآن والسنة والسيرة كثيرة متوافرة، والخلاف في استبدال المعيار الإسلامي بالإنسانوي في الإصلاح الاجتماعي لا في براءة الثقافة أو تحيزاتها تجاه المرأة، وحين نتحدث عن الثقافة فنشير للمعنى الأنثروبولوجي الذي عبر عنه تايلور ويعني ذلك الكل المعقد الذي يشمل فيما يشمل العادات والتقاليد.
وإذا كانت الثقافات تمايز بين الجنسين في الأخلاق والجرائم والعقوبات الأخلاقية مثلاً فتبرئ الرجل وتجعل خطيئة المرأة تلطخها إلى آخر الدهر، فالتوبة في ديننا تطهر المرأة كما تطهر الرجل، كما لم يمايز القرآن بين المرأة والرجل في الأخلاق بل ألزمهما كليهما بالخلق القويم فأُمرا كلاهما بغض البصر والاستحياء والتعفف، كما لم يمايز القرآن بينهما في العقوبات الأخلاقية فلم يجعل مثلاً حد الزاني المحصن جلدًا والزانية المحصنة رجمًا بل ساوى بين الجنسين حتى في الحدود.
وإذا كانت النصوص الشرعية كتابًا وسنة ألزمت المرأة بواجبات فقد أحقت لها حقوقًا، ومثلها الرجل، فلم يوهب حقوقًا دون واجبات، ولم تتح الشريعة له التعسف باستخدام الحق قوامة كانت أم ولاية.
لكن العين الناظرة من منظار جندري لا ترى إلا جانبًا واحدًا وتفتش في النصوص الشرعية والتراث عما تشتهي وتجيره لصالحها إن استدعى الأمر،كما ذكرت رجاء بن سلامة في سياق نقدها للموقف من المثليين والحرية الجنسية أن البيئة العربية لم تستفد من تقاليد الماضي الذي انتشرت فيه العلاقات المثلية كحب الغلمان في توفير بيئة تستوعب المثليين العرب.
مثلما تتجاهل العين الناظرة من منظار جندري النصوص التي تتجلى فيها عظمة الفقه الإسلامي في الأحكام المتعلقة بالمرأة لتفتش هذه العين في تراث الفقهاء عما تجده مثالاً صالحًا لأن تصفه بالذكورية والتحيز ضد المرأة دون أن تذكر استدراكات فقهاء آخرين عليهم في تلك المسائل بل دون أن تتعرض لوجود خلاف فقهي في تلك المسائل التي تعرضها النسويات وكأنها قولاً واحدًا.
والعين الناظرة من منظار جندري هي من تؤلب المرأة ضد نصوص الشريعة المتعلقة بالرجل ولا تلتفت لمثيلتها المتعلقة بالمرأة، فالنصوص الواردة في السنة النبوية في بيان عِظم حق الزوج على زوجته كالنص الوارد في السجود له، هي ذاتها التي جعلت الجنَّة (سلعة الله الغالية) ثمة قدم الأم، وإذا كان الرجل الزوج أحق الناس بالمرأة كما في الحديث، فالمرأة الأم أحق الناس بالرجل في الحديث نفسه.
لكننا نستجيب للقراءة الجندرية وكما تشبعنا بقيم حقوق الإنسان وتكرست لدينا معياريتها المطلقة، تشبعنا بالرؤى النسوية المستندة لمرجعية حقوقية غربية وإن لم نتعمق في تفاصيلها.
وتجد الخيرة من قارئاتنا هي من تقرأ لتنفي ما ثبت في ذهنها أنه (إدانة) دون أن تتخلص من سطوة المعيار الحقوقي الإنسانوي، لا من تقرأ لتتعرف وتُقابل وتنقد من ثمَّ.
ويفاقم من تعقيد هذا المشكل أن غاية ما يقدمه النقد الإسلامي الموجه للجندر في الغالب هو الوقوف عند حد استنكار تكريس الجندر للشذوذ الذي تأنفه الفطر السوية، على أن القراءات الجندرية لا تصل جميعها إلى هذا المدى وبخاصة قراءات النسوية التوفيقية، والتي تكتفي غالبًا بما يزعزع كيان الأسرة دون التعرض لموضوعات الشذوذ أو المثلية الجنسية.
وجملة (الأمومة وظيفة اجتماعية) في إحدى مواد اتفاقية السيداو التي تنافح عنها النسويات التوفيقيات هي منتج جندري بامتياز رغم عدم مماسة هذه الجملة لمسألة الشذوذ بصفة مباشرة.
لكن الدراسات النقدية المقدمة لنقد الجندر لم تفلح غالبًا في كشف امتداداته السلبية بعيدًا عن مسألة الشذوذ، وما زالت معظم تلك الدراسات تتزلج على السطح ملوِّحة بهذه الورقة الوحيدة في اعتراضاتها على الجندر، في حين كان ينبغي أن توغل هذه الدراسات الناقدة في تحليل المفهوم وتتبع تحولاته ومساءلة الأصول الفلسفية للنقد الجندري المُسلَّط على التراث والقرآن، فعدم إغفال نظرية المعرفة التي انبثق عنها مفهوم الجندر وارتباطها بالحداثة وما بعد الحداثة والتغيرات التي لحقت بهذه النظرية على يد فلاسفة ما بعد الحداثة واستثمرتها نسويات ما بعد الحداثة وعلى رأسهن جوديث بتلر يكشف زيف الانتقائية التي تمارسها نسوياتنا واستحالة الاستعارة البريئة، كما يكشف سوءات التسول الثقافي ومخاطر الإسقاط المفاهيمي وارتباط الجندر بالمركزية الغربية وإيديولوجية الهيمنة ممثلة في تسييس الجندر وعولمته قسرًا عبر الاتفاقيات الأممية وبمعونة الأبواق الدعائية لها وكتاب وكاتبات تقارير الظل في عالمنا الإسلامي.

المصدر
 
ولا أهدف بهذا إلى الدفاع عن التراث وموقفه من المرأة فلست ممن يخلع على التراث أثواب العصمة والقداسة وأدرك أننا نقف في النهاية أمام منتج بشري غير مقدس ولا معصوم، لكنه منتج بلغ من الضخامة والتنوع والثراء ما يجعل تهمة اختزالية مثل هذه تتهاوى أمامه بضآلة وهشاشة ورقة خريفية هوت من غُصن شجرة جاوز عمرها مئات السنين!
الحداثيون يُدخلون القرآن وما أخبر به النبي من الأحاديث الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم في التراث
ولذلك يجب ان نفرق ونحن نقرأ النقد الحداثي او العلماني لما يسمى بالتراث عندهم بين موقفهم من القرآن وموقفهم من كتب العلماء وتراث الامة الاسلامية المنتج
وعلى كل هم لايفرقون!
فالتراث الاسلامي بإدخال القرآن والسنة فيه يعني ان فيه ماهو مقدس ومعصوم وأصل.
وفيه ماليس مقدس ولامعصوم من اقوال البشر مما هو من اجتهاداتهم او مواقفهم العلمية او السياسية التي يمكن ردها بغيرها من المواقف والاجتهادات
وهذا لاشك معلوم للجميع الا ان التنبيه عليه من الأهمية بمكان
ذلك انهم قد يفرحون بأننا مثلهم نعتبر التراث بشري وغير معصوم وهذا ان كان على المعنى الذي نقصده صحيح اما على المعنى الذي يقصدونه فباطل ويجب ان لا نسايرهم عليه
وهز المسلمة العلمانية عن بشرية التراث يعني ان هناك ثباتا ووعيا بموضوعنا كما وعيا بموضوعاتهم المتسللة واغراضها المعلنة والخفية او مصطلحاتهم الكثيفة والمكتوبة
فهم لايكتبون للصحافة كلمات يمكن ان تمرر ولايلتفت لها احد وانما يكتبون وهم يعوون أهدافهم ويطبقون مذاهبهم التي تجعل القرآن(كمثال) شيء تاريخي بشري او منتج ثقافي معرفي وتراث ديني قابل للنقد والنقض!
 
أذكر أني قرأت حواراً قريباً منه في مجموعة على الفيسبوك مخصصة لطلبة الدراسات العليا في الجامعة الأردنية، ناقش فيها الطلبة ما يسمى: (القراءة الذكورية لتفسير القرآن) أو (الفقه الذكوري) وكله يدور حول ما يراه الطلبة انتقاصاً من المفسرين للمرأة.
وإذا بحثت في جوجل عن " التفسير الذكوري للقرآن " ستجد عجائب من قراءات إسقاطية، وأخرى لا تخلو من تنميط وتسطيح، والله المستعان!
 
ما أود أيضاً أن أضيفه هنا بمناسبة هذا الموضوع هو أن موقف الإنتقاص الحداثي من التراث مع إدخال القرآن والسنة فيه، ينطلق من الفكرة الحداثية والقاعدة التحررية ذاتها لنفس الفكرة وليس لشئ آخر!
أي أنهم يواجهون التراث برؤية كونية علمانية مادية وأخلاقية ترفض كل مسلمات الدين عن الأسرة والمرأة والعلاقة الأصيلة للرجل والمرأة التي تبدأ أو تنتهي بالزواج.
ومن هنا ينطلقون!
فالمرأة لها ذات حداثية في مواجهة المرأة في الإسلام!
وإذا نظرنا لموقفهم من الأخلاق الدينية فالحداثة أحدثت قطيعة معها.
وعلينا أن نجمع الموقف الحداثي عن المرأة وموقفهم العام في الأخلاق فيما يخص صناعة القوانين وصناعة الأمة وصناعة الإنسان وصناعة المواطن وصناعة الذات الحداثية.
إذا فعلنا ذلك كله تبين أن موقفهم ليس نقد موقف العلماء أو بعض العلماء من المرأة، مع حجبهم لمواقف علمية ومشهورة ولها أكبر التأثير على مجتمعات الإسلام والمسلمين، فضلا عن موقف القرآن وموقف الرسول من المرأة، وإنما نقد الموقف الأخلاقي العام لما قبل "الحداثة" أو "مابعد الحداثة" للمرأة!
فالمرأة مثل الرجل في الحرية المطلقة!
وحرية الرجل أن يفعل مايشاء بجسده أو بذاته من زرع المشاعر الحداثية بمكوناتها النفسية والإجتماعية والسياسية والإقتصادية التي تهدف إلى الفصل بين مرحلة رجل ماقبل التنوير الغربي ومابعده!
أي تلك الشخصية التي بنتها وشكلتها قوانين وأعراف وسياسات وفلسفات الحداثة في الرجل والمرأة على السواء
فللرجل أن يصنع أسرة مع رجل مثله كما تفعل-او كانت تفعل بحسب الرؤية العلمانية - الأسر البشرية لما قبل الحداثة أي علاقة تامة اجتماعية وجنسية وكل ماهو كائن في علاقة الرجل بالمرأة
وكذلك ولأجل ليس المساواة فقط ولا لأجل مفهوم الحرية فقط ولكن لأجل النظام الحداثي الفلسفي القانوني بمفهومه العام، والمتطور داخلياً أي المفهوم الذي يتداخل فيه الإنساني مع السياسي مع الإجتماعي مع الفكري والشعوري والوجداني والتنظيري بل وما يزعم أنه(العلمي!!)
فإذا كان الأمر كذلك يمكن لنا أن نتبين وجه المقارنة بل المفاجأة التي يحاولون تمرير أدبياتها الأولية مثل موضوعنا هنا أو بالأحرى موضوعهم.
فالمرأة اليوم في عالم الحداثة الغربية ترفض القيم والأعراف والأخلاق والمبادئ التي تنطلق منها المرأة في الإسلام!
أو في تراثنا.
فأخلاق الزواج أو العلاقة بين الرجل والمرأة مرفوضة حداثياً رسمية وغير رسمية وكمثال -في الحالة غير الرسمية المقبولة على العموم وغير المدانة بصورة عامة لانها حرية يكفلها النظام الفكري ولايدينها القانوني -للمرأة أن تفاجئ صديقها أو ربتها بعشيقة-ابتتها الحالة العلمانية- وعليه أن يقبل أو يرفض، وهناك علاقات تبدأ هكذا كما عرضتها زميلة عمل -غربية-في ربع ساعة راحة من العمل اثناء احتساء كوب من الشاي -ولأول مرة أرى المرأة أو أُكلمها!!- قبل البدء مرة أخرى في العمل: اتقفنا أنا وصديقي كما هو العادة أن نبقي على حبنا لبعض الا ان لكل منا أن يمارس اموره الجنسية مع رضا الطرف الثاني مع من يشاء!
(أما الحالة الرسمية او القانونية أو العرفية فحدث ولاحرج!!)
هذه حالة أولية في المجتمع وقد يفاجئ بها الطرف الآخر أثناء العلاقة المعينة (في الحداثة،أي علاقة بين رجل ورجل أو إمرأة وإمرأة) فيدخل عنصر ثالث من أي نظير قد يوافق عليه طرف أو يرفضه!
هنا تنطلق الحداثة من عنصري الحرية والمساواة ) كما (من العقل الحداثي المتطور دائما في ظل رؤية أخلاقية علمانية معينة)
فلا عجب أن يذهب أو يلجأ الحداثي وهو لايقدر أن يعيب الزواج أو الأسرة الثابتة ومفهومها الى حيلة الإصطياد في الماء العكر!
وكأن لسان أحدهم يقول(من هنا نبدأّ)
 
عودة
أعلى