القراءات القرآنية واللهجات العربية من منظور علم الأصوات

عمر السنوي

New member
إنضم
21/02/2016
المشاركات
4
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
الإقامة
الأردن
القراءات القرآنية واللهجات العربية
من منظور علم الأصوات الحديث


إن أداء القرآن الكريم وتلاوته يُعرف بأنه هو: النطق بالحروف من مخارجها، وإعطاؤها حقها ومستحقها من الصفات، بتلقيه عن الشيوخ مشافهةً، وهو ما يُسمى علم التجويد[1]، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ((اقْرَؤُوا كما عُلِّمْتُمْ))[2].
أما علم القراءات القرآنية، فهو الذي يبحث في الأوْجُه المتعدِّدة لطريقة أداء ألفاظ القرآن الكريم[3]، بحيث تتوفر لصحَّتها ثلاثة شروط: صحة إسناد كل وجه مروي عن رسول الله، وموافقته للغة العربية ولو بوجه من الوجوه، وموافقته لأحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً[4].
"وعلى هذا فهو يشترك مع علم التجويد في موضوعات كثيرة؛ كالبحث في مخارج الأصوات وصفاتها، وما يَعروها حال التركيب من أحكام، كتلك التي تتعلَّق بالترقيق، والتفخيم، والإدغام، والفك، والمد، والقصر، والإمالة، والفتح، والإشمام، والاختلاس، إلى غير ذلك، فقد يتداخل العِلمان في مباحثهما، لكن لكلٍّ منهما مباحث أصلية تُعدُّ في العلم الآخر تتميمًا للفائدة، ومع ذلك يُعَد كل واحد من العلمين مُتمِّمًا للآخر، ويتفقان في الهدف العام، وهو صَون كلام الله - تعالى - عن التحريف والتغيير، وقد يترتب على الجهل بأحدهما فقدان الصواب العلمي لأي منهما"[5].
واختلاف هذه الأوجه في غالبه كان مُمثَّلاً باختلاف اللهجات العربية ولغات القبائل حينذاك، وذلك من أجل "التيسير على الأمة الإسلامية؛ فإنها كانت قبائل كثيرة، وكان بينها اختلاف في اللهجات، ونبرات الأصوات، وطريقة الأداء، وشُهرة بعض الألفاظ في بعض المدلولات، على الرغم أنها كانت تجمعها العروبة"[6]. فهذه هي الحكمة الأساسية التي أخبرنا عنها رسول الله في غير ما حديثٍ ثبَتَ عنه صلى الله عليه وسلم[7]، ولكن لا يعني ذلك أنها لا تَشتمِل على حِكَم وأسرار أخرى، تكشف عن بديع المعاني القرآنية العظيمة.
وهذه الأوجُه كافية لتغطية حاجة الأمة على سعة لهجاتها المتداولة منذ ذلك العصر وحتى تقوم الساعة، ففي الموضِع الواحد لا يمكن أن يزيد عدد أوجه القراءة عن سبعة أوجه، وقد يكون أقل من ذلك في موضع آخر، بل في كثير من المواضع لا يكون هناك خلاف أصلاً، كل ذلك حسب تَحقُّق الكفاية من تسهيل القراءة[8].
هذا، وقد كان "للقراءات القرآنية شأن في علوم العربية؛ فقد أثمرت تراثًا غنيًّا، تأتي في مقدمته كتب الاحتجاج، وهي تُعنى ببيان وجه كل قارئ فيما اختاره من قراءة، وأكثر هذه الوجوه لغوية، فكانت مجلى نظرات بارعة في درس العربية من جوانبها كافة: الصوتية، والصرفية، والنحوية، والدلالية، على أن اختلاف القراءات القرآنية - وهو أدائي في غالب الأمر - جعَل للجوانب الصوتية الكفَّة الراجحة في تلك الكتب"[9].
ويَقودنا هذا إلى تعريف علم الأصوات الذي اهتم بالجوانب الصوتية للغة؛ فهو علم يبحث في كيفية إنتاج أصوات اللغة، ومعرفة خصائص كل منها، وأُسسِ تصنيفها إلى مجموعات، للوقوف على وجوه التشابه والتقارب والتباعد فيها[10]؛ حيث إن "اللغة [هي] أصوات مَنطوقة تصدرها آلة النُّطق لدى الإنسان، وتَنتقِل من فم الناطِق إلى أُذنِ السامع عبر الهواء"[11].
وهذا ما يجعل علم التجويد شديد الصلة بعلم الأصوات العربية، وهذا - أيضًا - ما يجعل هذه المقالة تسلط الضوء على علم القراءات من منظور علم الأصوات.
وقد اختار الله - تعالى - لكتابه العزيز أفصح الحروف والتراكيب، وبها يتحقَّق أفصح النُّطق والأداء، وهو الذي يُمثِّل الحروف الهجائية التي استوَتْ عند العرب على أحسن وجهٍ وأكمله، وتخلصَت من الأحرف المستقبحة والسقيمة وغير النموذجية التي كانت تُستعمَل في لهجات بعض القبائل، مثال هذه الأحرف: الباء القائمة مقام الميم في لهجات مازن، والكاف القائمة مقام الجيم عند أهل البحرين، والسين القائمة مقام الصاد في لغة بني العنبر، وما بين الجيم والكاف من لغات اليمن وبغداد، وما بين الكاف والقاف من لغة بني تميم، ويُمكن أن يَندرج تحت هذا الباب التحولات الصوتية لبعض الحروف المنسوبة إلى بعض القبائل؛ كالعنعنة والشنشنة والوتم، والإدغامات والإقلابات الحاصلة عند بعضهم[12].
ثم بعد ذلك تأتي تفسيرات بعض علماء اللغة العربية في عصر التقنين اللغوي، وبخاصة في المَجال الصوتي؛ فأدخلوا القراءات القرآنية ضمن إطار النسق العام للقواعد التي صنَعوها في بنائهم اللغوي المتكامل، فلم يُفرِّقوا فيه بين ما هو أصلاً لغة عامة للعرب، وما هو إحدى اللهجات، ووضعوا بذلك قواعدهم المعيارية.
والمعروف أن الأصوات العربية نوعان: جامدة وذائبة؛ فالحركات والمدود ذائبة، وبقية حروف الهجاء جامِدة.
ويُلاحَظ أن بعض القراءات القرآنية تأخذ صورًا متعددة في هذا الإطار الصوتي بنَوعيه، وتبدو كما يلي:
1- قراءات تفضِّل حركةً مُعيَّنةً.
2- قراءات تثبت حركة أو تَحذفها.
3- قراءات تبدل حرفًا من آخر.
4- قراءات تقرِّب صوتًا من آخر.
ومن خلال التتبع والاستقراء وجد الباحثون أن التخريج السليم لها هو: التخريج اللهجي، وهذا ما تدعمه الأدلة العلمية، وتؤيده البراهين الصوتية قديمًا وحديثًا[13].
يقول د.عبدالغفار هلال -بعد توسُّعه في دراسة هذه القضية-: "ونَخلص من ذلك إلى أن الفكر القياسي الذي انتهجه بعض اللغويين والنحاة القدامى لم يصل إلى المطلوب في تفسير القراءات، وأن وصلها باللهجات هو الحل العلمي المنهجي السليم"[14].
ومثلُ هذا ما صنعوه في قضية (صلة هاء الضمير للمفرد المذكَّر)، فنتَج عن فعل بعض اللغويين والنُّحاة القدماء تهجُّمٌ على القراءات القرآنية المتواترة، بسبب منهجِهم ذاك، مع أن القضية ليست قضية قياس منطقي؛ فاللغة ليست منطقًا فحسب، بل هي ظاهرة اجتماعية، وعلمُ اللغة الحديث يفسر ظاهرة إثبات صلة الضمير وحذْفِها، وتنوع اللهجات في ذلك[15].
وقِسْ على ذلك القضايا الصوتية الأخرى: تحقيق الهمزة وتسهيلها، والإدغام والفك، والسكون والحركة في الجوامد الحلقية، وتسكين وتَحريك هاء ضمير الغائب المذكَّر، والفتح والإمالة، وهذا ما يقود الباحث في المجال الصوتي إلى التفسير اللهجي؛ حيث إن ذلك يُبعده عن تجريح القراءات المتواترة، وفي الوقت نفسه يريح العقول من الجري وراء أمور نظرية بعيدة عن التفسير العلمي الصحيح، والله أعلم.

وكتب: عمر السنوي الخالدي


[1] يُنظَر: معبد، محمد أحمد: الملخص المفيد في علم التجويد، ط4، دار السلام، القاهرة، 1998م (ص: 10).

[2]
الألباني، محمد ناصر الدين: صحيح الجامع الصغير، ط4، المكتب الإسلامي، بيروت، 2004م (حديث رقم 1171).
الوادعي، مقبل بن هادي: الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين، ط2، دار الآثار، صنعاء، 2005م (حديث رقم 894).

[3] يُنظَر: هلال، عبدالغفار حامد: القراءات واللهجات من منظور علم الأصوات الحديث، ط3، دار الفكر العربي، مصر، 2005م (ص: 22).

[4] ابن الجزري، محمد بن محمد: النشر في القراءات العشر، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، (د. ت) (ج1 / ص9).

[5] هلال، عبدالغفار حامد: القراءات واللهجات من منظور علم الأصوات الحديث، (ص: 22 - 24).

[6] الزرقاني، محمد عبدالعظيم: مناهل العرفان في علوم القرآن، ط1، مكتبة الفكر، لبنان، 1996م (ج1 / ص117).

[7] يُنظَر: موسى، عبدالله رمضان: كشف أكاذيب أعداء الإسلام، ط1، الأثرية للتراث، دهوك - العراق، 2010م (1 / 72 - 73).

[8] يُنظَر: السابق، (1 / 93).

[9] النيرباني، عبدالبديع: الجوانب الصوتية في كتب الاحتجاج للقراءات، ط1، دار الغوثاني، دمشق، 2006م (ص: 5).

[10] يُنظَر: الحمد، غانم قدوري: مدخل إلى علم أصوات العربية، ط1، دار عمار، عمان، 2004م (ص: 43).

[11] المرجع السابق (ص: 20).

[12] يُنظَر: هلال، عبدالغفار حامد: القراءات واللهجات من منظور علم الأصوات الحديث (ص: 63 - 65).

[13] مُستفاد من المرجع السابق (ص: 88 - 89).

[14] المرجع السابق (ص: 107).

[15] يُراجَع: المرجع السابق (ص: 115).




 
عودة
أعلى