لا يشفي غليلي ولا يروي عليلي في باب البيان والتأثير إلا الجملة القرآنية الآسرةالجزلة المشرقة وقد عرفت سر انهزام العرب العرباء الفصحاء أمام إعجاز القرآنونصاعة بيانه وبراعة فصاحته حتى استسلموا وأذعنوا جميعا، والدمغة القرآنية لها صفةخاصة من حيث الجرس والوقع والتأثير حتى قال تعالى: «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّعَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّاتَصِفُونَ». وقد أشارت بعض الصحف المحلية إلى ظاهرة الاستشهاد بالآيات القرآنية فيالثورات العربية عبر الفضائيات، لكنها مرت على هذا الخبر مرورا عابرا.
وكنت أتابع الاستشهاد القرآني في الفضائياتفيملأ قلبـي يقينا ويعمر نفسي إبداعا وجمالا ويسافر خيالي مع هذا الحسن الذي يأخذبالألباب، كان المذيع يعلق على مشهد خروج الرئيس المصري بطائرته من القصر فيقول:«فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً» وينتهينهاية الرئيس التونسي ثم يقول: «أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ»ويتصل دبلوماسي ليبـي منشق عن نظام القذافي ويقول للقذافي مستشهدا بالآية:«وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ»، ويأتي تقرير بصوت مذيع فخمالعبارة مشرق الديباجة عن النظام السوري فيتحدث عن منذر الأسد ويقول مشيرا إلى آيةسورة يوسف: «إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ»، ويتعرض الرئيساليمني لمحاولة اغتيال وينجو بصعوبة فيقول المذيع: «فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍيَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ».
وعلى ذكر اليمن فإنني أحفظ استشهادات قرآنية من اليمن في هذا الباب، منها: أن أحدالطلاب في جامعة يمنية قال لأستاذه: ما بالنا يا أستاذ ونحن في جزيرة العرب جيرانمع السعودية وحالهم الاقتصادي كما ترى وحالنا كما ترى. فقال الأستاذ: لأن صاحبهم،يقصد إبراهيم، عليه السلام، قال في أرضهم: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِتَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ»،وصاحبنا في سبأ قال: «رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُواأَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ»، وفيكتب الأدب أن رجلا من قريش قال ليمني: ما فعلت عجوزكم التي حكمتكم؟ يقصد بلقيس.قال: عجوزنا أسلمت مع سليمان لله رب العالمين، وعجوزكم حمالة الحطب دخلت النار معأبي لهب. وكان في اليمن أحد الأعيان الوجهاء مشهور بأكل الربا والكذب، فدعا بعضالناس لمأدبته وفيهم شاعر، ثم جلس في رأس المأدبة يحدثهم بخرافات وأباطيل ثم التفتإلى الشاعر فقال: كيف حالكم يا فلان؟ فقال: حالنا كما قال الله تعالى:«سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ».
وسمع داعية كان يسكن أوروبا أن نظام حافظالأسد بدأ بحوار مع العلماء والدعاة فاغتر ورجع إلى سوريا، فلما وصل المطار وجدالاستجواب فعاد بعدها بحيلة إلى أوروبا فسأله زملاؤه: كيف وجدت سوريا؟ قال: وجدتها«مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا».
وكان الرئيس التونسي بن علي يمنع المحاضرات والدروس والندوات الإسلامية، فلما جاءالبث المباشر التلفزيوني أخذت الشاشة تصب في غرفة نومه محاضرات ودروس العلماءوالدعاة، فقال أحد مفكري تونس: «فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِفَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ». وقد سافرت في رحلة ممتعة معالراغب الأصبهاني والجرجاني والزمخشري والجاحظ والشعراوي والطنطاوي، وهم يضعونإصبعي على إبداعات وجواهر وأسرار القرآن فأصبحت أي مقولة أو قصيدة لا يهش لها قلبيولا تجنح معها نفسي بقدر ما تمتلئ روحي من بلاغة القرآن وعظمته وأسره، وقد حلقالرافعي في كتابه «تحت راية القرآن» حول سر خلود وروعة وإبداع القرآن بفيض منالبراعة الأدبية التي لا يستطيعها غيره.
المصدر : جريدة الشرق الأوسط .