القرآن لساناً وعربياً: الفهم الصحيح لسجود الملائكة عند خلق آدم

إنضم
07/08/2007
المشاركات
8
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
بسم1
القرآن لساناً وعربياً: الفهم الصحيح لسجود الملائكة عند خلق آدم

بقلم: الريح عبد القادر محمد عثمان​
أمام وضوح الكفر في السجود لغير الله، وجد السادة المفسرون مشقة كبيرة في تخريج سجود الملائكة وسجود أبوي يوسف وإخوته. ففرقوا بين سجودين: سجود التعظيم، وهو لله وحده، وسجود التحية والتكريم، وهو ما حدث من سجودٍ [ظُنّ أنه] لآدم ثم ليوسف. وقالوا آخرون إن السجود ليوسف كان بحكم عادة القوم في ذلك الزمان. وكل هذه الأقوال مردودة. بيد أن نهجنا في هذا البحث لا يقوم على تتبع تلك الآراء والتخريجات ومحاولة دحضها. فما من حاجة لذلك. وسنرى بعد قليل أن التحليل اللغوي الدقيق لمعنى عبيرة "سجد لـ" تعني، في ذلك السياق، من خلال استقراء معاني حرف اللام في المصحف الشريف، "سجد بشأن أو سجد بخصوص"، ولا تعني أبداً السجود تحت قدمي آدم أو يوسف عليهما السلام.

السجود لا يكون إلا لله
أمرنا الله سبحانه تعالى أن نسجد له: "فاسجدوا لله واعبدوا" (النجم/62)؛ وأمرنا تعالى أن نسجد له ولا نسجد لمخلوقاته: "لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (فصلت/ 37)؛ فكل المخلوقات تسجد له هو "وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ (الرعد/ 15)؛ ونهانا أن نسجد لغيره، فقال تعالى: "وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحد" (الجن/18). وقد نها الرسول صلى الله عليه سلم صحابته من السجود له وتعظيمه وإطراؤه ودعاهم، في حديث رواه البخاري، إلى أن يقولوا عنه إنه عبد الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم).
يدل هذا البيان على أن السجود لغير الله كفر، لأنه معصية تنخر في لب العقيدة. وعلى ضوء ذلك، ندلف الآن إلى النظر في ما ورد في القرآن الكريم عن سجود الملائكة بشأن خلق آدم، وسجود أبوي يوسف عليه السلام وإخوته بشأن ما حصل ليوسف، عليه السلام، لنكتشف، بحمد لله، أنهما سجودان لله وحده، وليسا سجوداً لآدم وسجوداً ليوسف، عليهما السلام.

ذكر المولى تبارك وتعالى سجود الملائكة عند خلق آدم في سبعة مواضع من الكتاب العزيز:
- "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ" (البقرة/ 34)؛
- "وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ" (الأعراف: 11)؛
- "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا" (الإسراء/ 61)؛
- "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ؟ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا" (الكهف/ 50)؛
- "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى" (طه: 116)؛
- "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ" (الحجر/ 28-30)؛
- "إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ" (ص/ 71-73).
كما ورد ذلك السجود في السنة النبوية:
- في حديث أبي هريرة: "وأسجد لك ملائكته...."
- وحديث أنس: "خلقك الله بيده وأسجد لك ملائتكته...".
التحليل التركيبي والدلالي لفعل السجود في القرآن الكريم:
"سجد" فعل لازم لا يحتاج إلى مفعول به لتتم الدلالة في الجملة. لكنه يمكن أن يرتبط بالاسم، المسجود له، بعلاقة ظرفية عن طريق حر الجر، اللام، فتنشأ عبيرة "سجد لـ". وتقوم الفرضية التي نعمل على إثباتها على أنّ اللام في عُبيرة "سجد لـ" تحمل معنيين متمايزين حسب السياق: ففي "فاسجدوا لله"، تفيد اللام المباشرة، أي السجود المباشر لله سبحانه وتعالى؛ أما في عبارة "اسجدوا لآدم" فإنها لا تفيد أبداً السجود المباشر أمام آدم، أو تحت قدميه، أو السجود "له" بالمعنى الذي نفهمه الآن، بل تفيد السجود بشأن آدم أو بخصوصه. إن لللام هنا معنىً آخر بعيداً كل البعد عن المعنى الذي نفهمه في عربيتنا في طورها الآني. وذلك المعنى الذي تدل عليه اللام لم نصل إليه تأويلاً ولا تجويزا، بل هو معنى صميم من معاني حرف اللام نجده مبثوثاً في آيات عديدة في القرآن الكريم:
· لنتأمل مدلول عبارة "قالوا للحق"، في سورة سبأ، الآية 43، "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ". فهو لا يعني أن الذين كفروا وجهوا حديثهم للحق وخاطبوه وقالوا له أنت سحر مبين؛ إذ إنّ اللام هنا ليست "لام المباشرة"، بل يعني أنهم قالوا عن الحق وبشأنه وبخصوصه إنه سحر. إنهم بالتأكيد يتحدثون عن الحق ولا يخاطبونه.
إذن فإن هناك لامين: لام المباشرة، وهي التي توجه الفعل إلى المفعول به (غير المباشر)، وتوجه كلام المتكلم إلى المخاطب؛ ولاماً أخرى، هي لام الشأن، أو لام الأجل، أو لام الخصوص، ومهمتها أن تدلنا على أن الفعل أو القول جاء بشأن الاسم المجرور بها، أو من أجله، أو بخصوصه. وبهذا يكون المعنى المراد في قوله تعالى "اسجدوا لآدم" هو: اسجدوا بخصوص آدم، أي أنا ربكم وقد خلقت آدم، فاسجدوا لي لخلقي آدم.
ومثل ذلك قوله تعالى في سورة الأحقاق الآية 7: "وإذا تتلى عليهم آياتنا قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين"؛ وفي السورة نفسها، الآية 11: "وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه"، أي قالوا عنهم، أو بشأنهم، أو بخصوصهم، لو أن هذا الإيمان خير لما سبقونا إليه، فنحن أولى به لو كان خيراً، ولكنه ليس كذلك، هكذا يقولون. ومثل ذلك أيضاً: "قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون" (يونس /77). وهنا أيضاً لا يمكن أن نتصور أن المكذبين بموسى كانوا يوجهون الحديث إلى الحق ويخاطبونه، وإنما كانوا يتحدثون بشأنه، عنه، فاللام هنا أيضاً لام الخصوص والشأن. وفي سورة النحل الآية 116: "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام": أي لا تقولوا بخصوص ما تصفه ألسنتكم.
· في سورة يس الآية 47: "وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه؟ إن أنتم إلا في ضلال مبين!". هل الذين كفروا في هذه الآية يخاطبون الذين آمنوا خطاباً مباشرا؟ كلا، إنهم يتحدثون عنهم، يتحدثون بشأنهم، قائلين: لماذا نطعمهم نحن، فإن أراد الله إطعامهم لأطعهم هو. إذن فاللام في هذه الآية الكريمة ليست لام المباشرة وإنما هي لام الشأن، أو لام الخصوص؛ أي أنّ الذين كفروا يتحدثون بخصوص الذين آمنوا ولا يخاطبونهم خطاباً مباشرا. ومثله قوله تعالى في سورة النساء الآية 51: "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً". في هذه الآية الكريمة لا يوجه الذين أوتوا نصيباً من الكتاب كلامهم توجيهاً مباشراً للذين كفروا، بل الذين كفروا هم موضوع حديثهم، فيقولون بشأنهم، أو عنهم، إنهم أهدى سبيلاً من المؤمنين.
في الآيات أعلاه نلاحظ بوضوح أن اللام، التي نعرفها بوصفها أداة لتعدية القول من المتكلم إلى المخاطب، كما في قوله تعالى "قال موسى لقومه" (الأعراف/128)، لا تلعب ذلك الدور دائماً، إذ إنها، كما رأينا في الأمثلة السابقة، قد تجعل الاسم المجرور بها (أو، إن شئت، معمولها) موضوعاً للقول. ففي "قالوا للحق"، يصبح الحق هو المقُول عنه، أو موضوع القول، أو المقول بشأنه أو بخصوصه؛ أما في "قال موسى لقومه" فإن كلمة "قومه" هي المقول له، أو المخاطب مباشرة. وبناء على كل ما تقدم يصبح آدم في عبارة "اسجدوا لآدم" ليس هو المسجود له، بمعنى المسجود تحت قدميه، بل هو المسجود لله عز وجل بشأنه وبخصوصه.
بيد أن دور اللام هذا لا يقتصر وروده مع فعل القول؛ فقد ورد أيضا في القرآن في سياق ضرب المثل. ففي عبارات قرآنية مثل "واضرب لهم مثلاً رجلين" (الكهف/32) و "واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية" (يس/13)، و "واضرب لهم مثل الحياة الدنيا" (الكهف/45)؛ و"واضرب لهم مثلاً قرية كانت آمنة"، نلاحظ أن المثل يُضرب للناس وهم يتلقونه أو يسمعونه مباشرة. إذن فاللام هنا لام المباشرة. لكن في عبارات أخرى مثل: "ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط" (التحريم/10) فإن المثل هنا ليس مضروباً للذين كفروا ليستمعوا له، بل هو مضروب عنهم، وبخصوصهم وبشأنهم. ومثل ذلك بالطبع الآية التالية في نفس السورة "وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون"، فالذين آمنوا غير مخاطبين مباشرةً بل جئ بمثل بخصوصهم وبشأنهم. وفي سورة الفرقان "انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا" (الفرقان/48)، نلاحظ أن الكافرين لم يضربوا الأمثال للرسول (ص) موجهين الخطاب إليه مباشرة، بل ضربوا الأمثال بشأنه فقالوا هو شاعر وساحر وكاهن ومجنون.
من هنا يتأكد لنا بما لا يدع مجالا للشك أن في القرآن لامين للتعدية:
اللام الأولى: لام المباشرة، ووظيفتها تعدية الفعل مباشرةً من الفاعل إلى الاسم المجرور باللام، وتعدية القول من المتكلم إلى المخاطب، وتعدية المثل إلى الأشخاص الذين ضرب لهم المثل ليستمعوا له مباشرة؛
واللام الثانية: لام الخصوص، أو لام الشأن: ووظيفتها أنها تجعل الاسم المجرور بها موضوعاً للفعل، وبالتالى تغيبه عن الحدث، ويصبح حصول الحدث إنما تمّ بشأنه وبخصوصه.
وبالتالي فإن قولنا "سجد الملائكة لآدم" ليس إجابة عن "لِمَنْ سجد الملائكة" بل هو إجابة عن "لماذا سجد الملائكة؟"، فتكون تلك الإجابة:
سجدوا لأجل خلق الله آدمَ > سجدوا لخلق آدم > سجدوا لآدم.
وبالمثل، فإن قولنا "سجد الأبوان والإخوة ليوسف" إنما هو إجابة للسؤال: "لماذا سجدوا" وليس جواباً عن "لمن سجدوا":
سجدوا لأجل الآيات التي تجلت في قصة يوسف > سجدوا لأجل آيات يوسف > سجدوا لأجل يوسف > سجدوا ليوسف.

وعلى ضوء هذا التحليل اللغوي الدلالي لمعنى حرف اللام في القرآن الكريم يصبح من الميسور تفسير سجود الملائكة، وسجود الشمس والقمر والكواكب الأحد عشر، وسجود أبوي يوسف وإخوته: سجدت الملائكة لله سجوداً بخصوص خلق آدم؛ وسجدت الشمس والقمر والكواكب لله سجوداً بخصوص ما تجلى من الآيات الباهرة في قصة يوسف؛ وسجد الأبوان والإخوة لله شكراً بخصوص ما رأوه من آيات في أمر يوسف. وهذا يعفي المتأولين قديماً وحديثاً من جهد التأويل المتعسف، وابتداع سجود منكر سموه سجود تحية وتكريم، في مقابل سجود التعظيم.
وما يتضح من التحليل أعلاه أن اللام في عبيرة "سجد لـِ" يمكن أن ترد بمعنى "سجد بشأن أو بخصوص"، ويظل السجود دائماً وحصرياً لله سبحانه وتعالى.
تحليل سياق السجود في حالة يوسف عليه السلام
يدلنا السياق القصصي أيضاً دلالة واضحة على أن من الخطأ الكبير الظن أن أبوي يوسف وإخوته سجدوا له شخصياً. فهو، عندما دخلوا عليه، رفع أبويه على العرش، أي أنه سارع إلى إكرامهما بالتواضع لهما، فتنازل لهما عن سريره وأجلسهما عليه. ولو كان عليهم أن يسجدوا له هو شخصياً بين قدميه لكان الأولى أن يسجدوا فور دخولهم عليه في مجلس سلطانه. وليس من المنطقي أن يدخلوا بدون أن يسجدوا، بل ينزل هو من عرشه ويصعدوا هم إلى العرش، ثم بعد ذلك يسجدوا له. بل المنطقي أنهم، بعد أن استقروا في مجلس يوسف، والأبوان مكرّمان على العرش، طغا الشعور بنعمة الله على يعقوب – وهو من ذوي الأيدي والأبصار - فخر ساجداً لله تعالى، شكراً على جمعه بولديه، وإكباراً لما رآه من آيات تجلت في سلامة يوسف وتمكين الله له على ما كان عليه من ضعف، وخرت الأم والبنون كلهم جميعاً ساجدين شكراً لله. ولربما حدث ذلك بعد أن حكى لهم يوسف طرفاً مما جرى له. وبالتالي لا شيء يمنع أن يكون سيدنا يوسف نفسه قد خرّ ساجداً معهم شكراً لله. فعبارة "خروا له سجدا"، تعني أنهم خروا سجداً لله بخصوص ما حدث ليوسف عليه السلام، فهو أولى الساجدين بالسجود شكراً. ومحال أن يسجد الأنبياء لغير الله.
أما القول بأن السجود ليوسف كان سجوداً تحت قدميه هو جرياً على عادة القوم، فكلنا نعلم أن الأنبياء إنما جاءوا ليوجهوا الناس من السجود لغير الله إلى السجود لله، ولم يأتوا ليتركوا الناس على ضلالهم ويقرِّوهم عليه. وما كان يوسف ليفرح بأن تسجد الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً له شخصياً؛ ولا أن يسجد أبواه وإخوته له شخصياً؛ فما ينبغي لنبي أن يفرح بمجد الدنيا؛ وإنما كان فرح يوسف لأن أبويه وإخوته – وقبلهم الأجرام السماوية - سجدوا شكراً على أَنعُمٍ أنعمها الله عليه. ومن المؤكد أن سجود الوالدين للابن أمر منكر مهما حاولنا تخريج ذلك السجود بالقول إنه للتكريم أو لما جرت عليه العادة في زمان ومكان بعينهما، إذ إنّ من المعروف بالضرورة أن من واجب الولد تجاه والديه خفض جناح الذل لهما؛ وبناءً عليه فإن الشق عليهما في شيء، وقول أفٍ لهما، وحتى النظر إليهما نظرة تأنيب، كل ذلك من العقوق المهلك، فحاشا أن يكلف نبيٌّ أبويه مشقة السجود تحت قدميه، ناهيك عن وزر ذلك السجود.
سياق سجود الملائكة
لقد أمر الله جميع الملائكة، بمن فيهم إبليس من الجن، أن يسجدوا له عند خلقه آدم. ولربما كان ذلك أمراً قائماً وسنة راسخة أن يسجد الملائكة ومن معهم عندما يرون آية من آيات الله تتجلى أمامهم، أو عندما يخلق الله خلقاً جديدا مكرماً. وقد نفهم من خلال السياق أيضاً أن آدم لم يكن حاضراً - أو ربما لم يكن معنياً بما جرى - أثناء ذلك السجود. وقد ذكرنا أن لام الخصوص أو الشأن تجعل الاسم المجرور بها موضوعاً للفعل وتغيِّبه عن الحدث. نعم، يبدو لنا أن آدم كان غائباً عن الحدث، وإلا فلو كان موجوداً لعرف عداوة إبليس له، وبالتالي لاحتاط لنفسه ولم يتمكن إبليس من غوايته. لو كان السجود سجوداً حقيقياً أمام آدم وتحت رجليه لعلم به آدم، ولعلم أن أبليس عدوه وعدو الله منذ الوهلة الأولى. لكن ما حدث هو أن الله سبحانه وتعالى هو الذي حذر آدم فيما بعد من إبليس حين قال له :" فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى" (طه/117). وما كان آدم ليسمع لإبليس لو كان يعرف أن إبليس عصا ربه بسبب احتقاره لآدم.
المهالك التي ترتبت عن إساءة فهم سجود الملائكة وسجود عائلة يوسف
لقد خطط الشيطان حتى يلقي في روعنا أن هناك سجوداً ممكناً وجائزاً لغير الله تعالى. ومن طرق الاحتيال تلك أنه يكمن لنا في اللغة. إلا إن الشيطان ليكمن في اللغة كمون النار في الحطب. فبهذا اللبس غير الضروري، أو هذا التلبيس، ضل أقوام، وتاه آخرون واحتاروا. فكم من أقلام وأفواه انبرت تدافع عن إبليس فتقول إنه لم يشرك بالله، فلماذا لا يغفر الله له!؟ وآخرون يقولون إن لإبليس اللعين الحق في رفض السجود لآدم، ويزعمون أن الأولى أن يحظى بالتكريم لأنه رفض أن يسجد لغير اللهّ! هؤلاء هم المنبرون دفاعاً عن إبليس. هؤلاء هم من أساءوا فهم كلام الله الذين أنزله بلسان بشري وبلغة عربية. فقرأنا نثراً يعذر الشيطان! وقرأنا شعراً بائساً يمجد الشيطان لأنه قال لا في وجه من قالوا نعم!
يظن البعض أن إبليس لم يشرك بالله. لقد أفرحوا إبليس فرحاً لعيناً بتبرعهم بتبرئته. براءة يستخدمها لإغواء الكثيرين، للأسف. ألا فلنعلم علم اليقين أن أبليس هو أول من أشرك. أشرك أبليس حين تكبر. وأشرك حين تعاظم. العظمة رداء الله والكبرياء إزراه لا شريك له فيهما. الشيطان هو أول من تكبر، وبالتالي أول من أشرك؛ وهو أول من عصا أمر ربه عناداً، وبالتالي، فهو أول من كفر.
ألا فليعلم الجميع، علم اليقين، أن إبليس اللعين هو أول مَن تكبر، وأول من أشرك، وأول من كفر، وأول من تمرد وعصا ومرق وفسق فسقاً، وأول من فسق عن أمر ربه فسوقاً، وأول من ضلّ وغوى، وأول من أضلّ وأغوى، وهو المسؤول – بالإغواء - عن كل شرك وكفر وفسق وفسوق ومعصية وضلالة تقع على وجه الأرض إلى يوم يبعثون. وهو بذلك استحق لعنة الله، الذي أمرنا أن نتخذه عدوا.
إبليس هو العدو الأول، هو العدو الحقيقي، وعلينا أن نصرف جهدنا كله لمعاداته. لا بد لنا أن ننصرف عن عداوة البشر إلى عداوة عدو البشرية جمعاء. لقد جاء القرآن ليحذرنا من إبليس، وليعلمنا أن أبانا آدم ما خرج من الجنة إلا بسببه. وما من دليل يشير إلى أن آدم كان ليخرج من الجنة لولا أن أخرجه الشيطان منها بوسوسته وكيده. والآن، ونحن في الدنيا، لن نضل عن الجنة وندخل النار إلا بالركون لوساوس الشيطان، وإلا بالإنصراف عن معاداة الشيطان إلى معاداة الإنسان. علينا أن نحذر جميع الأعداء المحتلمين الآخرين، أي نتفادى جانباً فيهم، لكن بدون أن نعاديهم عداءً مطلقاً. العداء المطلق هو للشيطان وحده. هكذا أمرنا ربنا: "إن الشيطان لكم عدو فاتخذو عدوا" (فاطر/6). وهذا هو السبيل الوحيد لنجاتنا. الشيطان يقعد لنا الصراط المستقيم. فهل نترك له الصراط المستقيم؟ لو حدنا عن الصراط لهلكنا. إذن فلا بد لنا من أن نزيحه، هو، عن طريقنا لنصل إلى بر الأمان. لكن نحن لا طاقة لنا بإزاحته ولا بد لنا من الفرار إلى ربنا جل وعلا لننجو من كيد الشيطان.
التواضع هو المهرب الوحيد من الشيطان
الشيطان يأتينا عن اليمين وعن الشمال ومن الأمام ومن الخلف: "ولآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين" (الأعراف/17). لكنه لا يأتينا من فوقنا ولا من تحتنا. وهذا من تفسيرات قوله تعالى "إن كيد الشيطان كان ضعيفاً" (النساء/76): فهو وإن أحاط بنا من الجهات الأربع: الأمام والخلف واليمين والشمال، فقد ترك لنا، مضطراً، جانبين لنهرب من خلالهما، إنْ أردنا الهروب منه، هما الأسفل والأعلى. فلو كان الشيطان يأتينا كذلك من فوقنا ومن تحتنا لما وجدنا من سبيل للهروب منه. ورحم الله الشيخ الشعراوي لإشارته لهذا المعنى في أحد دروسه. لا يستطيع الشيطان أن يأتي من أعلى، لأن هناك يد الله؛ ولا يستطيع أن يأتي من أسفل، لأن هذا موضع السجود، موضع العبودية، موضع التواضع؛ والشيطان لم يسجد، ولم يتواضع. إنْ أردنا النجاة فعلينا أن نظل دائماً في هذا الموضع: موضع السجود، والعبودية، والتواضع. هنا، وهنا فقط، سنكون في مأمن من الشيطان. هل حثنا ربنا على الهروب إليه إلا من الشيطان في قوله تعالى: "ففروا إلى الله" (الذاريات/ )؟ إننا نفر من الشيطان إلى الله بالسجود والتواضع والعبودية والعبادة. والحمد لله على ذلك حمداً كثيراً. فنحن نستخدم سلاحاً يفتقر إليه الشيطان، إلى وهو التواضع. ذرة من التكبر تجعل المؤمن يشابه الشيطان في خصلته الأساسية. وبالتالي فإن مهربنا من الشيطان إنما هو في سجودنا وفي تواضعنا. وستأتي يد الله من فوقنا، ونحن ساجدون متواضعون، لتنقذنا، لترفعنا. "ما تواضع لله أحد إلا رفعه": شرط وجوابه. إنه وعد الله، ولا يخلف الله وعده؛ إنه وعد الله على لسان نبيه الصادق الأمين، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
 
الأخ الكريم \ هل كان إبليسُ يعرفُ هذا المعنى من أن السجودَ لعظمة الله في خلق آدم ثم امتنع ؟ وهل قوله { لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ} يدل عليه بالله عليك ؟
ما دعاني للردِ إلا عدمُ الرد وأنا أعجب من الصمت المُعتاد للكبار في أمور هم أولى الناس بالرد عليها لا الصغار أمثالنا .
فلقد تنكّر أخي الكريم لما اجتمع عليه سلفه الصالح في فهمهم للآية -وقام هو مسرعا بترتيب الأوراق وتعديل المفاهيم في هاته المسألة .
وأقول - أما قولك بأنهم سجدوا لعظمة الله في خلق آدم -فقد يُسمح لك فيها بالمرور - أما سجود إخوة يوسف والأبوين بشأن ما رأوا من آيات الله الممنوحة ليوسف عليه السلام فهذا أمر عجيب وغفلة لم تكن لك .
أما دعواك بأن اللام لام شأن أو غير ذلك - فمن أين أتيت بذلك ؟ وما هو مرجعك فيما تقول ؟ وما هو الذي يجب أن يتبع الفعل{ سجد } من وجهة نظرك حتى يؤدي معناه ؟
ثم ما قلت بعدم حضور آدم وقت السجود - فهل تسجد الملائكة لوهم أو مجهول - فعلى هذا تكن البلية أعظم -
فأخبرني كيف وسوس إبليسُ لآدم عليه السلامُ وكيف دخلَ عليهما الجنة ؟ وكيف قاسمهما واستدرجهما؟
أو ليس في اللغة العربية ما يؤيد غير ما تقول؟
ألم يقل ربنا تعالى {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ }
ما غرابة أن يكون سجودا حقيقيا - وقد أطلق الله لفظ { الرب} على العبد .أيقال هذا من الشرك .
هل يأمر ربنا الملائكة بالسجود للعظمة خلقه في ثوب آدم عليه السلام ؟ وهل خلق آدم أعجب من خلق الملائكة – قال تعالى {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)}
وهل لما جعل الله الأنعام شريكا للإنسان في كل نعم الله عليه في قوله :{ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)} بعد ذكر أنه خلق كل شيء ثم أشركه الأنعام { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)}
وقوله تعالى :{ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)}
وهل لما أقسم الله بالشمس والقمر والسماء والتين والطور والمرسلات والذاريات - كان ذلك قسما للتعظيم أم للتحقيق ؟ وأي حاجة لله أن يُقسم بما خلق ؟ فنقول له تعالى أن يفعل ما يشاء . {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}
وقول النبي عليه الصلاة والسلام :{ لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرْتُ النِّسَاءَ أَنْ يَسْجُدْنَ لأَزْوَاجِهِنَّ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ مِنَ الْحَقِّ .أخرجه أحمد وأصحاب السنن - صحيح - تخريج الألباني رحمه الله
هل يقصد النبي سجودَ التعظيم لله لخلق الأزواج لهن أم حقيقة السجود ؟

وللحديث بقية إن شاء الله
 
تكلف للمعنى، والمصدر في ذلك هو أنك قد (أوجدت حرجاً وتناقضاً ) هو ليس موجوداً بالأساس. فأنت بنيت على أمر ليس موجوداً من البداية .
 
عودة
أعلى