القرآن بين القراءة الباردة والقراءة الحارة.

أبو عبد المعز

Active member
إنضم
20/04/2003
المشاركات
596
مستوى التفاعل
25
النقاط
28
القرآن بين القراءة الباردة والقراءة الحارة.

نعني بالقراءة طريقة تلقي القرآن..
فإذا نظر إليه "نصا" كان التلقي باردا،وإذا نظر إليه "خطابا"كان التلقي حارا.
ونحن نستعمل هنا ثنائية نص/خطاب بدلالات مختلفة قليلا عن دلالاتها في اللغويات الحديثة ف"النص" عندهم-أقصد اصطلاح المحققين منهم وليس الغوغاء- هو التحقق الحسي للقول أما "الخطاب" فهي البنية المجردة أو الخصائص الكلية التي تتجلى في هذا النص أو ذاك..فالخطاب الشعري مثلا هي القوانين العامة التي تجعل من كلام ما شعرا فهي موجودة مجردة في النظريات والأذهان أما النص الشعري فهي هذه القصيدة بعينها التي يكتبها هذا الشاعر بعينه...وإن شئت قلت إن النصوص الشعرية المتفرقة تتضمن خصائص مشتركة هي الشعرية فهذه الخصائص التجريدية هي الخطاب وتجسدها يكون دائما في نص...(وقد نجد نقط التقاء كثيرة بين ثنائية خطاب/نص والثنائية السوسيرية الشهيرة كلام/لغة والثنائية الافلاطونية الأشهر معقول/محسوس لكن لا مجال هنا لتفصيله).
بيد أننا نكاد نقصد بالخطاب المعنى اللغوي لا الاصطلاحي:
فالقرآن "نص" عربي، لكنه للمؤمنين "خطاب"!!
والفرق بين الاعتبارين واسع جدا، فشتان بين أن ترى رقعة ملقاة على قارعة الطريق تقرأ فيها بوضوح جملة: "سأقتلك" ،وبين رسالة تأتيك بواسطة البريد باسمك تحمل الجملة نفسها "سأقتلك"..فالجملة الأولى نص تتلقاه ب "برود" وعدم اكتراث سرعان ما تختفي من دائرة وعيك، لكن أمر الجملة الثانية مختلف تماما، فهذا خطاب "حار" من شأنه أن يهزك ويسكنك وقد يقلب حياتك -وحياة أسرتك -رأسا على عقب ..!!
يدلك هذا على أن الخطاب يقتضي أمورا زائدة على المكون اللغوي الذي هو النص...فالاهتمام، والانفعال ،والتهيؤ النفسي لاستقبال النص، وحضوره في الوجدان بعد انقضاء تلقيه، تلك بعض علامات الخطاب...
والتنزيل المبين يعرض أمامنا النوعين من التلقي:
1-البارد :

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال : 31]
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس : 15]

2-الحار:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم : 58]
{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة : 83]

فأنت ترى هنا عجبا:المسموع متحد، لكن السلوك عقبه توزع على قطبية حادة!
فهل نقول إن الذين "خروا سجدا وبكيا" فهموا أكثر مما فهم الذين استهتروا وسخروا؟
كلا!
فكثير من المؤمنين الأعاجم يهزهم القرآن هزا فيما يظل أبوجهل أو أبو لهب في النطاق البارد وهما العربيان الفصيحان!!
القراءة الحارة تتموضع على السلم الكيفي لا الكمي..
لنلحظ أن القراءة الحارة في الآيات السابقة يتلوها دائما رد فعل نفسي/جسدي يتمثل في البكاء أو السجود أو هما معا..أما القراءة الباردة فيعقبها رد فعل ذهني يتمثل في جدال هو أيضا بارد....أو نقول بعبارات أخر إن القراءة الحارة تجعل المتلقين يتجهون إلى الله بالتضرع والدعاء أما القراءة الباردة فتجعل المتلقين يتجهون لا إلى الله ولكن إلى رسوله ليجادلوه أو يسخروا منه..
القراءة الحارة سير والقراءة الباردة مواجهة!
 
وهذا ماكان عليه الصحابة حيث أنهم يقرأون القرآن و يستمعون إليه مستشعرين توجه الخطاب إليهم, وهذا بلا شك له بالغ الأثر , فقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه " إذا سمعت قول الله ((يا أيها الذين ءامنوا )) فأرعها سمعك فإما خيرا تؤمر به و إما شرا تنهى عنه"

ويقول الشيخ ابي بكر الجزائري:أهيب بكل مؤمن و مؤمنة أن يقرأ هذه الندائات أو يستمع إليها فإنها منقذة بإذن الله تعالي من الجهل و رافعة الي أعلي درجات العلم.

وأضيف إلى ذلك أيضاً استشعار المريض للآيات التي يرقى بها و التي تحاكي مايعنيه , فإن لها أبلغ الأثر و الوقع , وكم من حالات مريرة حار لها الأطباء شفيت ببركة كلام الله. وتدبر معانيه,


ما أروع الخطاب القرآني وما ألذه على القلب , يجد المريض مايثلج صدره , والمهموم , المبتلى , بل كل مايعرض في الحياة من عوارض نجد لها في الكتاب العزيز جوابا كافيا و علاجا شافيا.

فطوبى لمن استغنى بكنوز القرآن, فأغناه الله عمن سواه .
 
عودة
أعلى