القرآن بين التدبر المرغوب فيه والقراءة المرغوب عنها

أبو عبد المعز

Active member
إنضم
20/04/2003
المشاركات
596
مستوى التفاعل
25
النقاط
28
القرآن بين التدبر المرغوب فيه والقراءة المرغوب عنها
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله..

قال ابن فارس في المقاييس:
(قَرِيَ) الْقَافُ وَالرَّاءُ وَالْحَرْفُ الْمُعْتَلُّ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى جُمَعٍ وَاجْتِمَاعٍ. مِنْ ذَلِكَ الْقَرْيَةُ، سُمِّيَتْ قَرْيَةً لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا.
وَإِذَا هُمِزَ هَذَا الْبَابُ كَانَ هُوَ وَالْأَوَّلُ سَوَاءً.
قال الراغب:
والقِرَاءَةُ: ضمّ الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في التّرتيل، [وليس يقال ذلك لكلّ جمع]. لا يقال: قرأت القوم: إذا جمعتهم، ويدلّ على ذلك أنه لا يقال للحرف الواحد إذا تفوّه به قراءة، والْقُرْآنُ في الأصل مصدر، نحو: كفران ورجحان. قال تعالى:
إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ[القيامة/ 17- 18]

-كنا نود لو قال الأصوات بدلا من الحروف ،فالظاهر أن الراغب يرادف الصوت والحرف، ويستعمل الحرف بالمعنى الاصطلاحي المتأخر، وليس بالمعنى المتداول في زمن النبوة حيث كان الحرف يوازي الكلمة والكلمة توازي الجملة...وقصده بالحرف الواحد الصوت الواحد ،صحيح أنه لا مشاحة في الاصطلاح لكن التدقيق يقتضي التمييز بين المصطلحين وفق بيان آت قريبا-

القراءة أدل على الجذر المعنوي /اجتماع/ من المشتقات الأخرى على اعتبار أن الجمع فيها متكرر على مراتب:
فالقراءة جمع أولي في النطق للأصوات لتكوين كلمات..
ثم جمع ثانوي لما جمع لتكوين جمل
ثم جمع للجموع لتكوين نصوص....
ومن ذكاء هذه اللغة الشريفة أن جعلت "الكتابة" راجعة إلى الجذر المعنوي نفسه:
قال ابن فارس:
(كَتَبَ) الْكَافُ وَالتَّاءُ وَالْبَاءُ أَصْلٌ صَحِيحٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى جَمْعِ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ. مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالْكِتَابَةُ. يُقَالُ: كَتَبْتُ الْكِتَابَ أَكْتُبُهُ كَتْبًا.

ومنه الكتيبة وهي الجماعة من الجند..

فاسم القرآن باعتبار جمع أصواته،
واسم الكتاب باعتبار جمع حروفه.
فيكون التنزيل العزيزدالا على الوجهين :
-السمعي من حيث هو أصوات مرتلة ،
-والمرئي من حيث هو صحف مكتوبة..
وفيه إشارة أخرى إلى منهجي حفظه:
-فهو محفوظ في الصدور قرآنا ،
-ومحفوظ في السطور كتابا!

و" القراءة"أعم من كل المفاهيم المجاورة لها في حقل الاشتغال بالقرآن كالتفسير، والتدبر، والتثوير، والتأويل، وغيرها..
ومن دلائل عموميتها صحة إسنادها إلى الخالق والمخلوق:
{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة : 18]
{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء : 45]
ومن دلائل إطلاقها أنها منفكة عن الفهم والعمل فمن تهجى أصوات القرآن فقد قرأه سواء أفهم أم لم يفهم ،وتدبر أم لم يتدبر، وآمن به أم لم يؤمن..
وللرسول الكريم صلى الله عليه وسلم "نمذجة" حاصرة لطبقات القراء:

عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَثَلُالْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الأُتْرُجَّةِ؛رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ, وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَايَقْرَأُ الْقُرْآنَ؛ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَاحُلْوٌ, وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُالرَّيْحَانَةِ؛ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ, وَمَثَلُالْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِلَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ)

وفي الحديث نلمس ترغيبا في القراءة حتى بالنسبة للكفار والمنافقين فلا ريب أن الريحانة أفضل من الحنظلة !


هذا، وإن " القراءة" في الاصطلاح الدائر اليوم لا تعني ما دلت عليه في النصوص الشرعية من الترتيل الخطي للأصوات وإنما تعني باختصار–بعيدا عن تهاويل القوم-"الفهم".

ولما كان الفهم ناشئا عن القراءة فقد سموا الفهم باسم سببه أو مقدمته على طريقة المجاز المرسل.

بيد أن الفهم هنا لا يراد به الفهم العام المتعلق بالحس المشترك بل هو دائما فهم شخصي ناتج عن شروط ذاتية.

فتكون القراءة هي "فهمي" لا مطلق الفهم.

ويمكن رصد اختلاف القراءة- بمعناها العصري- عن التدبر باعتبار القطبية التالية:

1-التدبر واقعي والقراءة مثالية.

2-التدبر موضوعي والقراءة ذاتية.

3-التدبر مطلق والقراءة نسبية.

4-التدبر كشف والقراءة اختراع.

5-التدبر مقيد والقراءة مفتوحة..

6-التدبرعبادة والقراءة شهوة..

هي ثنائيات متداخلة أو متلازمة سنشتغل بتقريرها بعد حين إن شاء الله..
 
[FONT=&quot]1-[/FONT]

إن الاشتغال بالمقالات لفهمها وانتقادها يقتضي- أولا -ردها إلى أصولها، فلا يتم معرفة النبتة إلا بمعرفة المنبت، وإن الإجهاز على الجذع بضربة واحدة قوية لأجدى من تتبع فروعه بالتشذيب والتقليم، لما في الاستقصاء من إضاعة للوقت وفسح المجال للمناورة والمداورة ...

فكان لا بد –والحالة هذه-من تلمس "الأصول الفلسفية" لمفهوم "القراءة" ورصد المناخ الفكري المحيط بها...
ونحن نرى أن "القراءة" عند القوم هي إحدى تجليات الرؤية المثالية للعالم..وهذا أخطر وأهون ما في الموضوع في وقت واحد!
أما "أخطر" فلأن المآل خراب كل شيء..
وأما "أهون" فلأن مجرد تصور هذا المذهب تجعل الفطر والعقول السليمة تمجه وتنصرف عنه ..
لا يسمح المقام بالتفصيل لذا سنقتصر على تقريب ميسر( ليتبعنا من ليس عنده خبرة كبيرة بمقالات الفلاسفة):

أولا "المثالية " IDEALISMEترجمة خادعة براقة فنحن عادة ما تستهوينا عبارات مثل" رجل مثالي" و"خطة مثالية" و"المثل الأعلى"..بل لقد ساد وهم كبير عند المسلمين طيلة القرن الماضي عندما اعتقدوا –كما اعتقدنا نحن في سن الطلب-أن المثالية هي فلسفة الإيمان بالله في حين أن المادية هي فلسفة الإلحاد..!
وهو وهم عام عند الفريقين:
فالماركسيون -العرب وغيرهم -مثلا لا يكادون يستسيغون سماع مثالية فهي منعوتة عندهم"رجعية بورجوازية "
في حين مدحها خصومهم نكاية بهم أو اعتقادا أن المثالية هي شرط الإيمان بالغيب -وقد وقع المسلمون تحت وهم الدعاية زمنا طويلا، وانخرطوا في حرب أهلية غربية بين ( ماركسية /مادية ) و(ليبرالية/ مثالية) وهي حرب لم تكن تعنيهم أبدا لو كانوا يشعرون!! -

المثالية هي نسبة إلى ما" يتمثله" الذهن استحضارا أو استصناعا ،ويقابلها الواقعية (لا المادية على الصحيح).

تعني الواقعية أصالة الواقع الخارجي وتبعية الذهن له ..
وتعني المثالية أصالة الذهن وتبعية الواقع له -إن وجد-

والسفسطة لازمة لكل المثاليين، وإن تبرأ بعضهم منها..
ومآل الجميع إلى مذهب الذات الواحدة وإن انزعجوا منها.
وقد كان الأسقف الإرلندي "جورج باركلي" أكثر شجاعة عندما جعل إدراكه شرطا لوجود العالم..
وقد كان "أرتير شوبنهور" أكثرجرأة من الأصحاب عندما صرح بدون مواربة أن :"العالم هو فكرتي"..
فيما بقي "عمانؤيل كانت" محتشما فحتى على فرض أن مذهبه يسمح بوجود واقعي خارجي إلا أن هذا الواقع لن يعدو أو يكون سديما أو عماء لا معنى له، لن يتمتع بالوجود الحقيقي إلا إذا التبس بقوانين العقل ومقولاته...

إن الأصل –والمآل أيضا-لكل المثاليات المعتدلة والمتطرفة هو مذهب السفسطة بشعارها السرمدي:
الذهن مقياس كل شيء ،ولا وجود إلا لذاتي وأفكارها!!

والآن نصل إلى المساءلة الحاسمة:
ما مصير القرآن في مثل هذا المذهب الذهني؟

إن القرآن من المنظور الواقعي –الذي فطر الناس عليه-"شيء" موجود باستقلال عن الذهن سواء أكان ثمة ذهن مدرِك أم لا...
أما في المنظور المثالي فلا يكون القرآن إلا تمثلا ذهنيا شخصيا لا وجود له مستقلا عن الادراك...
والنتيجة هي حتما ما يكرره خصوم الشريعة- بدون ملل منهم- من تغييب القرآن واستحضار القراءات (نعنى القراءة في مصطلحهم وليس القراءات في علوم القرآن)..
فإذا قلت:" قال الله "صححوا لك :
بل قل " ما اعتقدت أن الله قال"..
ولما كان القرآن لا يوجد إلا في تمثل، والتمثل فهم ذاتي دائما، فقد تعدد القرآن بحسب تعدد القراء فيكون وضع القرآن أسوء بكثير من وضع الإناجيل..!!
وهذه الحجة في الواقع لا يمكن الرد عليها إلا باللوازم ...كما قيل: إذا جاءك السفسطي يجادلك في الواقع الخارجي فالطمه على وجهه، فإذا حاول الانتصار لنفسه فقد ناقض مذهبه، وإن لم يحاول-وهذا مستبعد منه- فقد نلت منه كما تشاء وقيد نفسه بمذهب فاسد يمنعه من درء الألم عن نفسه...!!
والعجيب إن هذا المذهب الركيك في الفطر والعقول هو عمدة كل دعاة "القراءة"يستلذون معه أن يصبح التراث الإسلامي كله مجرد قراءات الفقهاء والسلفيين والمتزمتين والأصوليين يعارضونها بقراءات أخرى لها الشرعية نفسها في زعمهم يستحيل معها أية موازنة أو مفاضلة فمن قال "قراءة السلف أحسن من قراءة العصريين" فلا يعدو أن يكون هو نفسه جاء بقراءة أخرى لا يسلم بها ويمكن معارضتها لا إلى نهاية...!!
 
[FONT=&quot]2-[/FONT]
اعلم أن "القراءة" ليست من"التفسير"...
وإنما قلنا ذلك لفارق حاسم بين المفهومين، سنظهره من خلال استكناه معنى التفسير:
عرفه صديق خان القنوّجي ـ رحمه الله ـ في كتابه أبجد العلوم بأنه "علم باحث عن معنى نظم القرآن بحسب الطاقة البشرية وبحسب ما تقتضيه اللغة العربية".
بيد أن أفضل تعريف – في نظرنا- هو تعريف الشيخ الزرقاني ـ رحمه الله ـ في كتابه المناهل بقوله " علم يُبحث فيه عن أحوال القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية "
وسند تفضيلنا له تنصيصه على "مراد الله " وهو أحسن من عبارتي القنوجي "معنى نظم القرآن" و " بحسب ما تقتضيه اللغة العربية"..لأن إرادة المعنى أخص من المعنى، كما أن "ما تقتضيه اللغة" أعم مطلقا من المراد، فليس كل ما تقتضيه اللغة صالحا لأن يكون مرادا لله ...وفي هذه النكتة بالضبط يكمن الفرق العظيم بين التفسير والقراءة..
ونحب أن نحدث تعديلا يسيرا على تعريف الشيخ الزرقاني فنمحو منه العبارة النمطية "علم يُبحث فيه عن أحوال القرآن الكريم" التي اقتضتها الصنعة المنطقية ونستبدل بها عبارة "استفراغ الجهد"- المستوردة توا من حد الاجتهاد، فما التفسير إلا اجتهاد قبل كل شيء- ليصير التعريف هكذا :
"التفسير: استفراغ الجهد للكشف عن مراد الله بقدر الطاقة البشرية..."

وقد استقر رأينا على هذا التعريف لاشتماله على المكونات الثلاث:
أ-المكون الخلقي، المستفاد من عبارة "استفراغ الجهد"
ب-المكون الغائي، المشار إليه بعبارة "الكشف عن مراد الله"...
ج-المكون الآلي ،المتضمن في عبارة " بقدر الطاقة البشرية"..

1-لا يمكن للاشتغال العلمي بالقرآن أن ينفك عن عمود الأخلاق وإن كان هذا سائغا في غيرنصوص الوحي...فلا عبرة بتفسير يزبره صاحبه وهو مستلق على أريكة !
ونحن نقصد باستفراغ الجهد المعنى الحرفي للعبارة ولوازمه -أو مقدماته- النفسية أيضا :من مثل هيبة القرآن ،والخوف من القول على الله بغير علم، ومحاسبة النفس عن اتباع الهوى ...كل ذلك كان سياطا نفسيا يدفع المفسر إلى التردد، والتأكد ، والمراجعة، والتمحيص ،والانتقاد.. ذلكم هو استفراغ الجهد!

2- أما المكون الغائي، المشار إليه بعبارة "الكشف عن مراد الله" فهو العمود الفقري للتفسير...وهو يحتاج إلى تفصيل لاحق.

3-أما المكون الآلي فيندرج فيه كل الأدوات التي يتوسل بها المفسر إلى الكشف عن مراد الله كاللغة والبلاغة وأصول الفقه وكل ما توصلت إليه الطاقة البشرية من معارف وتجارب ،فضلا عن المواهب الخاصة بالمفسر من حدس وبصيرة وذوق.
 
استراحة قبل مواصلة الكلام:
قيل :
مَنْ طَلَبَ غَرَائِبَ الْحَدِيثِ كَذَبَ.
قلت:
ومَنْ طَلَبَ غَرَائِبَ الْتفسير لعبَ!
 
إن مصطلح "التفسير" يختص بموضوعه فلا يمكن تعميمه:
فقد يستساغ لغة أن يقال "تفسير الشعر"، و"تفسير الأبيات المشكلات"... لكن هذا لا يمكن أن يندرج في "التفسير" اصطلاحا، بل هو من علم الأدب أو النقد الأدبي أو غيرهما من التسميات...
إن مجالنا التداولي ليسعى إلى تسييج القرآن وتحصينه من أي تداخل مع غيره ...فصاغوا فيه مصطلح التفسير تنبيها على أن هذا المصطلح خاص بالقرآن، وإن كان اشتغال المفسر في الحقيقة لا يختلف عن اشتغال الناقد الأدبي ومحلل النصوص الشعرية، بل إنهم ميزوا بين القرآن والحديث نفسه فقالوا: "شراح" الحديث و"مفسرو" القرآن مع اتحاد المنهج إجمالا عند الفريقين .
فكأنهم يرون أن الموضوع هو الذي يحدد المنهج :فلكلام البشر منهج ولكلام رب البشر منهج...
وهكذا استقر عندهم أن شرف العلم بشرف المعلوم!
أما القراءة فتنطلق من قاعدة عكسية تماما حيث يكون المنهج أشرف من الموضوع، بل إن الموضوع -من وجهة نظر فلسفة القراءة -ملقى على قارعة الطريق وإنما الشأن في المنهج والقراءة..
ولتفعيل هذا المبدإ الابستملوجي انفتحوا على أنواع من النصوص كان النقاد-الغربيون-من قبلهم يتنزهون عن الاشتغال بها مثل الأدب الرخيص والفلكلور والإشهار وقصص الأطفال المصورة ونشرات الأخبار وغيرها ...وكنت تجد المحلل يتناول قصيدة ل"لامرتين" وبعدها مباشرة يحلل نصا في "مقادير وصفة طبخ" أو إعلانا عن فستان جديد!!
(انظر على سبيل المثال المواضيع التي اهتم بها رولان بارت أحد دهاقنة فلسفة القراءة)
وعلى هذا الأساس كنت تجد محمد أركون –مثلا- يشتكي من عدم تطبيق القراءة الانتربولوجية على القرآن ...
واعتقد السذج من الناس أن هذه دعوة إلى تطوير التفسير وإغناء دلالات القرآن و الكشف عن وجوه (إعجازية!!) جديدة من طريق هذه القراءات..وخفيت عنهم النوايا الحقيقية وهي تسوية القرآن بالنص الإشهاري أونص الطبخ أونص أسطورة من قبيلة هندية حمراء...
ولننظر الآن إلى ما تبقى من المكونات الثلاث التي قدمناها :
-فاستفراغ الجهد حل محله التلذذ..ولرولان بارت مقال طويل سماه "لذة النص" فكأن اتصال القاريء بالنص ينتج عنه ابتهاج شبيه باللذة الجنسية عند اتصال جسد بجسد.
-أما المكونان الغائي والآلي فقد قلبتهما القراءة رأسا على عقب..فبموجبها تصبح الوسائل غايات والغايات مجرد ذرائع لقيام القراءة..فالنص في خدمة القراءة لا العكس...ولتفهم هذا الوضع جيدا فكر في بعض الفضائيات أثناء الطور التجريبي فهي تقدم أخبارا وأشرطة وأغان مصورة لكن الغاية ليست هذه البرامج بل الغاية هي تجريب وسائل البث!!
النصوص إذن لتجريب القراءات..
فلم لا نجرب القرآن لقراءة أنتربلوجية أو قراءة سيكلوجية أو سوسيولوجية ..والنتيجة طبعا ليس إثبات "عظمة" القرآن بل إثبات "عظمة" القراءة...
 
[FONT=&quot]3[/FONT]-
سنفصل الآن القول في المكون الغائي للتفسير:
أولا:
نميز بين "المعنى" و"المعنى المراد" ..وإن الفرق بينهما لواضح تبينه اختلاف العبارات والاعتبارات الآتية،
فلك أن تقول:
المعنى ينتمي إلى حيز اللغة، أما إرادة المعنى فتنتمي إلى حيز الكلام.
أوتـقول :
للمعنى وجود بالقوة ،وللمعنى المراد وجود بالفعل.
أو تقول:
المعنى صلوحي ،والمعنى المراد تنجيزي...
أو تقول- ببساطة -:
إن المعنى هو ما يحتمله اللفظ في اللغة عبر مستوياتها المتراتبة ،أما المعنى المراد فما استقر عليه اختيار المستعمل، كأن يعتمد احتمالا ويعدم أخرى ،أو يرتب الاحتمالات فيجعل بعضها في المركز وبعضها في الهامش..
فالمادة المعجمية ،مثلا، يورد لها أهل اللغة المعاني الكثيرة والمتباينة فيستحيل عادة أن يستعملها المتكلم وفق هذه الموارد كلها -على تعددها وتباينها- فلا مناص من تدخل الإرادة للترشيح والترتيب ،وأحيانا لتخصيص المادة بمعنى جديد -كما في مقام وضع المصطلحات-...
ثانيا:

هذا التمييز يزيل لك بعض ما يستشكل في منهج التفسير عند الرسول صلى الله عليه وسلم وعند صحابته ...
فهل فسر الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن كله بناء على آيات مثل
{
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل : 44]
أم لم يفسره كله بناء على لوازم الآيات التي تأمر بالتدبر مثل:
{
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد : 24]
والجمع بين الأمرين المختلفين ظاهر:
فإذا كان ترجيح –أو ترشيح-المعنى المراد ممكنا استنادا إلى القرائن فالأمر موكول إلى التدبر،,إن استحال -في مقام وضع مصطلح جديد-أو صعب في حالة غياب القرائن أو ضعفها- فالمصير إلى البيان النبوي...
ومن العبارات المتكررة في البيان النبوي :
"ليس( كذا) ما تذهبون إليه ...ولكن ..."
فهو يفرق بين المعنى المعروف وبين إرادة معنى جديد أو غير معروف.
ولاحاجة إلى التذكير بركاكة الرأي الحرفي الذي يزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين كل لفظ في القرآن مثل " الجمل" و"الشجر" و"البحر" و"الشمس"...!!
وما جهله بعض الصحابة -كعمر رضي الله عنه وغيره –هو من هذا المشرب أيضا فيستبعد جدا أن يكون الصحابة لا يعرفون "الأبّ"-والقرآن ما نزل إلا بلسانهم-وإنما لم يتبينوا الفرق بين المعنى المحتمل الذي يعرفونه حق المعرفة والمعنى المراد الذي التبس عليهم في الآية..
هذا تفصيل لما هو واضح –كما ترى- لكننا اضطررنا إلى سوقه لإبطال إحدى أهم مقولات فلسفة القراءة وهي:
"موت المؤلف"
كما سيأتيك تفصيلها.
 
قرأت ما ذكرته حفظك الله عدة مرات، لم أقف حقيقة على المراد، وقد يكون ذلك لعدم علمي بمثل هذه المسائل، وأود ذكر الفوائد والوقفات في هذا الموضوع بصورة أيسر لو تكرمتم،وعندي تساؤل : عنوان الموضوع يوحي بأن المطلوب التدبر،بينما القراءة المجردة عن التدبرغير مرغوب فيها ؟ والقرآن الكريم يقرؤه الأمي والأعجمي والكبير وغيرهم ممن لا فقه عنده لما قد يقرؤه ،ولا يتحصل من قراءته التدبر، فهل يقال له: لا تقرأ القرآن الكريم ،فالقراءة بدون تدبر غير مرغوب فيها؟
هذا سؤالي حفظكم الله ،وبارك الله علمكم
 
[FONT=&quot] [/FONT]
[FONT=&quot]"موت المؤلف"![/FONT]
[FONT=&quot]إذا صرفنا النظر عن مقصد التهويل -على عادتهم في الاصطلاح- فلايبقى من المفهوم إلا العنوان الساذج من أن مقاصد المتكلم ونواياه لا اعتبار لها في فهم القول ،فضلا عن أن تكون هي الوجهة التي ينبغي للقاريء أن يتجه نحوها.[/FONT]
[FONT=&quot]هذا التصور-على صعيد مناهج التحليل- له منبت[/FONT] [FONT=&quot]وامتداد[/FONT][FONT=&quot] في الفلسفة الوضعية -على صعيد رؤية العالم-[/FONT]
[FONT=&quot]فبعد إبعاد "الله" ها هو "الإنسان" يبعد ![/FONT]
[FONT=&quot]لقد استقر في منهج الوضعيين أنه لا حاجة إلى "الله "لتفسير العالم، وأن الأسباب والعلل محايثة لا مفارقة، وأنه لا مكان بينها لسبب غير مادي لن يكون إلا "غيبا" أو "لاهوتا" أو أسطورة" وأن هذه منافية لروح العلم ...[/FONT]
[FONT=&quot]وأعلنوا "موت الإله" عنوانا لهذا النهج...وهم –للإنصاف-لا يقصدون بهذه العبارة الفاجرة وجود أو عدم وجود الله –أنطلوجيا-بل يقصدون الاستغناء عنه –ابستمولوجيا- فلا يرجع إليه لتفسير ظاهرة في الكون أو لإثبات قيمة في الأخلاق...أما "مسألة وجوده" في نفس الأمر فهم في الغالب لاأدرية أو على الأقل يضعونها بين قوسين لا ينشغلون بالتفكير فيها مادامت المسألة غيبية ،ولا فائدة عملية منها لأن البحثين المادي والخلقي مستقلين بمناهجها في التفسيرسواء أوجد الإله أم لم يوجد[/FONT][FONT=&quot]![/FONT][FONT=&quot]!![/FONT]
[FONT=&quot]وقد يستغرب صاحب العقل السليم فيتساءل:[/FONT]
[FONT=&quot]كيف يمكن تأسيس خطاب علمي يتحدث عن مخلوقات لا ذكر فيه للخالق![/FONT]
[FONT=&quot]وأية لغة يمكن أن تنقل مثل هذا الخطاب !![/FONT]
[FONT=&quot]هذه المعضلة الكبرى توهموا أنهم قد أحاطوا بها بالتوسل بظاهرة أسلوبية يسيرة مبنية على تعويض "الفاعل " الحقيقي بما تتيح به اللغات من مقولات نحوية وصرفية مثل صيغ المطاوعة وصيغ البناء للمجهول أو الإسناد لفاعلين مجازيين.... كأن يقولوا هذه الخلية تتركب من كذا (على المطاوعة) أو رُكبت (على المجهولية) أو ركبتها الطبيعة والتطور(على المجازية)...وهم في هذا اللعب الأسلوبي كله يتوهمون العلمية في العبارة حتى إذا قلت "خلق الله الخلية" نفروا الناس من هذه العبارة على أنها غير علمية لأن كلمة الله لا معنى لها في منهجهم ولو سألتهم عن معنى الطبيعة التي يستبدلون الله بها لما وجدت عندهم جوابا يرضون هم أنفسهم عنه..وواضح أن المسألة هنا ليست مسألة لغة أو عقل بل هي مسألة قلوب تشمئز من ذكر الله فقط!![/FONT]
[FONT=&quot]هذا الداء العضال استشرى بهم فامتد إلى النصوص المؤلفة ،ونحن نرى أنه لا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها ،فتصور كتاب بدون مؤلف أهون بكثير من تصور عالم بدون رب أما هم فيهنؤون "بالاتساق المنهجي" فيتصورون أنهم أنجزوا أمرا عظيما بتوحيد الرؤية وطرد القاعدة..وهكذا تجد من العلامات الاسلوبية عند اصحاب القراءة الاستفتاح بعبارات مثل "يقوم النص" أو "ينهض النص" أو" يتركب النص" أو "يطرح النص" أو" يسائل النص"...وهي عبارات قد لا نشاحح فيها لو ثبتت براءة الخلفية الفكرية عند مستعمليها ولكنها عند غيرهم عرض منهجي ينم عن مقولة "موت المؤلف"..[/FONT]
[FONT=&quot]لنحاول الآن مجاراتهم في عبثهم ولنفرض معهم جدلا أن المؤلف قد مات ..فمن يتكلم في النص إذن؟[/FONT]
[FONT=&quot]لهم جواب جاهز:المتكلم هو اللغة؟ّ[/FONT]
[FONT=&quot]وكيف كان ذلك![/FONT]
[FONT=&quot]تفصيله بعد حين...[/FONT]
 
الأخ أبو عبد المعز .... المحترم .
حياكم الله.
وبعد:
شكرا لكم وجزاكم الله خيرا على هذا الموضوع المفيد والشيق وقد أعجبني تفسيرك لكلمة التفسير وهو قولك: " التفسير هو استفراغ الجهد للكشف عن مراد الله بقدر الطاقة البشرية ... " . إلا إن لي تعديل بسيط عليه أرجو أن تقبله لأنك تتكلم عن تفسير القرآن الكريم فيكون التعريف كما يلي : " التفسير هو استفراغ الجهد للكشف عن مراد الله "" في القرآن الكريم "" بقدر الطاقة البشرية " .
وجزاكم الله خيرا .

[تمت المشاركة باستخدام تطبيق ملتقى أهل التفسير]
 
[email protected]

[email protected]

حياكم الله.
وبعد:

إنما دفعني إجراء التعديل على تعريف كلمة التفسير هو وجود كتب أخرى تتكلم عن تفسير آخر غير تفسير القرآن الكريم مثل: كتب تفسير الأحلام .وأنا أتفق معك بأن كلمة التفسير يجب أن تكون محصورة بالقرآن الكريم فقط ويؤيده قوله تعالى: ( ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ) .
وشكرا .
 
التعديل الأخير:
موضوع مهم و قيم و أرجو لطفا و ليس أمرا البعد عن المصطلحات الغربية عند الحديث عن قراءة القرآن و تدبره.
نحن بحاجة إلى عودة حقيقية لإحياء المعنى القرآني للكلمات من خلال معرفة السياق و القالب الذي جاءت فيه.
التدبر هو الغاية من القراءة و من أنوار التدبر يأتي الخشوع في القلب فتستنير الجوارح، ألا بذكر الله تطمئن القلوب.
استفراغ الجهد البشري في معرفة مراد الله من كلامه العظيم عمل ذاتي بمعنى أن كل إنسان حسب إمكاناته و ملكاته و طاقته و خبرته و بيئته مطالب بالتدبر في كلام الله و الله يفيض بأنواره على من يشاء كيف يشاء.
طول الصحبة مع كتاب الله قراءة و تدبرا و تعلما و مراجعة تذلل كل عسير في فهم و معرفة مراد الله من كلامه.
مراد الله الأعظم من كلامه هو هدايتهم إليه و تعريفهم به "و تعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك إليه و تعريف الحال عند الوصول إليه" كما ذكره إمامنا الغزالي في جواهر القرآن.



و الله الهادي للخير
 
السلام عليكم أبا عبدالمعز ورحمة الله وبركاته
خلاصة مقالتكم القيمة:
1- القراءة المنهي عنها هي قراءة أركون.
2- التدبر المرغوب فيه هو دراسة القرآن ابتغاء فقهه (تفسيره) والعمل به.
3- القراءة هي النطق بالكلام المكتوب (برأيكم) سواء كان القارئ فقيهاً وغير فقيه وسواء كان مؤمنا ومنافقاً.
4- القراءة (كما يراها أركونُ وقبيلُه)هي النظر في الاقوال وتفسيرها سواء كانت اقوالا ركيكة و ثقيلة. ولا يقيمون وزناً لقائل الاقوال.
5- شتان بين تفسير القرآن و قراءة اركون.
هذا ما وَعَيْته منكم.
اما بعد
فقد كتبتم سطوراً قيمة وأحرّضكم على الإكمال بكلام أقصر اقتداءً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم "لئن كنت اقصرت الخُطْبة لقد أعرضت المسألة"
ولا اقول ذلك لوماً لكم ولكن لعل القول الاقصر هو أيسر لنا فهماً. وجزاكم الله خيرا.
 
تفترض القراءة مبدءا لا محيص عنه :
وهو انفراد اللغة بفكر خاص ومعقولية ذاتية..
وقد زعم هيغل أن" للغة وعيا أعمق يتجاوز وعي الأفراد المستعملين لها "وعلى هذا الأساس تؤخذ مثل التعابير التالية :"تقول اللغة" و"عقل اللغة" و "مراد اللغة" على أنها تعابير حقيقية لا مجازية!!
ولعل المقصود من هذا الافتراض هو استقلال اللغة عن الاستعمال فدلالات الكلمات موضوعية تتشكل داخل النظام اللغوي وتتطور عبر التاريخ ،يمكن رصدها من خلال "حفريات" أو "تفكيكيات" وليس من خلال نوايا المتكلم أومقاصد المستعمل!ّ
من المفيد أن نسرد هنا حكاية طريفة تلقي الضوء على هذه الأطروحة:
اجتمع ثلة من الروائيين والنقاد الفرنسيين في ندوة عن "الرواية الجديدة" قدم فيها الناقد المعروف "جان ريكاردو" ورقة ضمنها قراءة عن إحدى الروايات ...وكان مؤلف الرواية حاضرا في الندوة فاعترض على ما ورد في الورقة بحجة أن ما ذكره الناقد لم يخطر له ببال..
فكان جواب الناقد:ياعزيزي صحيح إنك ألفت الرواية ،لكنك الآن هنا مجرد قاريء مثلنا، وقراءتك لا امتياز لها عن باقي القراءات!!!
لكن المشكلة الحقيقية أن القاريء، إذ يستغني عن المؤلف ،يجد نفسه أمام احتمالات لانهائية للغة :فلا بد من انتقاء، أو ترتيب، أو إقصاء، أو تركيب ...وفي كل هذا يسري هواه وتشهيه ، فيؤول الأمر إلى أن المتكلم الحقيقي ليس المؤلف ولا اللغة بل القارئ نفسه!!
فتكون القراءة أوسع فضاء يتحقق فيه الهوى في أعلى تجلياته .
 
لعل الموضوع يطول لو تتبعنا خلفياته الفلسفية ،لذلك سنحصر الخلاصة في بضعة بنود:
1-القراءة ليست اصطلاحا ساذجا لا مشاحة فيه ،وإنما هو مفهوم ذو غور فلسفي يمتد إلى تخوم تخريب العقول والأديان.
2-القراءة لا تنضبط بقاعدة أو مرجعية اللهم إلا رغبات القاريء وأهوائه...وهذه نتيجة طبيعية بعد أن أقصيت نوايا المؤلف أوالمتكلم ...فتمسى كل الدلالات ممكنة ومتكافئة.
3-القراءة تفترض النص مفتوحا إلى الأبد..ومعنى الانفتاح إمكان "الزيادة" في دلالاته .فيفقد النص بذلك كينونته فيصبح تابعا للقاريء أو مجرد "هيولى" قابلا للدلالة وليس دالا...
4-القراءة تفترض النص بالضرورة متعددا..على اعتبار أنه يوجد من النص بعدد ما يوجد من قرائه..ومن ثم شاع بين المنافقين والملاحدة توصيف القرآن ونسبته إلى مناهج القراء فيقال "القرآن السلفي" و"القرآن التنويري" و"القرآن الحركي"....
5-القراءة لا تكون "صحيحة" ولكنها تكون "صالحة" فقط..والمعروف إن معيار الصحة تتحقق من خلال مطابقة الكلام مع خارجه ،وفي القراءة لا خارج هناك ،فلا يبقى إلا معيار الصلاحية التي تضبط من خلال الانسجام والاتساق الداخليين...
6- مادامت القراءات لا تتفاضل –لغياب معيار الصحة- تصبح الطرافة والغرابة مطلبا رئيسا للقراء، لإكساب قراءاتهم شيئا من التميز وسط ركام القراءات، ومن ثم يحدث تسابق نحو "المفاجأة" و"الإثارة".
 
عودة
أعلى