....والنصوص الدينية التى يشير إليها نصر أبوزيد بالمناسبة هى القرآن، ولا شىء سوى القرآن، إلا أنه بطريقة لحن القول لا يريد أن يضع النقاط على الحروف، بل يوارى ويوارب ظنا منه أن جمهور القراء لن يتنبه إلى تلك اللعبة.
قال طه حسين بشأن ذهاب إبراهيم إلى بلاد العرب وبنائه الكعبة فى مكة هو وابنه إسماعيل عليهما السلام كما ذكر القرآن (أو "النصوص الدينية" بالتعبير المراوغ من نصر أبو زيد): "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا. ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلي مكة ونشأة العرب المستعربة فيها. ونحن مضطرون إلي أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهودوالعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية من جهة، والقرآن والتوراة من جهة أخرى. وأقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهوديستوطنون فيه شمال البلاد العربية وينشئون المستعمرات. فنحن نعلم أن حروبا عنيفةشبت بين هؤلاء اليهود المستعمرين وبين العرب الذين كانوا يقيمون في هذه البلاد،وانتهت بشيء من المسالمة والملاينة ونوع من المخالفة والمهادنة. فليس يبعد أن يكون هذا الصلح الذي استقر بين المغيرين وأصحاب البلاد منشأ هذه القصة التي تجعل العرب واليهودأبناءأعمام، ولا سيما قد رأي أولئك وهؤلاء أن بين الفريقين شيئا من التشابه غير قليل،فأولئك وهؤلاء ساميون. ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أن ظهور الإسلام وما كان من الخصومة العنيفة بينه وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب قد اقتضى أنت ثبت الصلة الوثيقة المتينة بين الدين الجديد وبين الديانتين القديمتين: ديانة النصارى واليهود. فأما الصلة الدينية فثابتة وواضحة، فبين القرآن والتوراة والأناجيل اشتراك في الموضوع والصورة والغرض، فكلها ترمي إلي التوحيد، وتعتمد علي أساس واحد هو هذاالذي تشترك فيه الديانات السماوية السامية. ولكن هذه الصلة الدينية معنوية عقليةيحسن أن تؤيدها صلة أخرى مادية ملموسة أو كالملموسة بين العرب وأهل الكتاب. فماالذي يمنع أن تُسْتَغَلّ هذه القصة، قصة القرابة المادية بين العرب العدنانيةواليهود؟ وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول مثل هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح، فقد كانت في أول هذا القرن قد انتهت إلي حظ من النهضة السياسيةوالاقتصادية ضَمِنَ لها السيادة في مكة وما حولها وبسط سلطانها المعنوي علي جزء غيرقليل من البلاد العربية الوثنية. وكان مصدر هذه النهضة وهذا السلطان أمرين: التجارةمن جهة، والدين من جهة أخري. فأما التجارة فنحن نعلم أن قريشاكانت تصطنعها في الشام ومصر وبلادالفرس واليمن وبلاد الحبشة. وأما الدين فهذه الكعبة التي كانت تجتمع حولها قريش ويحج إليها العرب المشركون في كل عام، والتي أخذت تبسط علي نفوس هؤلاء العرب المشركين نوعا من السلطان قويا، والتي أخذ هؤلاء العرب المشركون يجعلون منها رمزا لدين قوي كأنه كان يريد أن يقف في سبيل انتشار اليهودية من ناحية، والمسيحية من ناحية أخري. فنحن نلمح في الأساطير أن شيئا من المنافسة الدينية كان قائما بين مكة ونجران. ونحن نلمح في الأساطير أيضاأن هذه المنافسة الدينية بين مكة وبين الكنيسة التي أنشأها الحبشة في صنعاء هي التي دعت إلي حرب الفيل التي ذكرت في القرآن. فقريش إذن كانت في هذا العصر ناهضة نهضة مادية تجارية ونهضة دينية وثنية. وهي بحكم هاتين النهضتين كانت تحاول أن توجد في البلاد العربية وحدة سياسية وثنية مستقلةتقاوم تدخل الفرس والروم والحبشة وديانتهم في البلاد العربية. وإذا كان هذا حقا،ونحن نعتقد أنه حق، فمن المعقول جدا أن تبحث هذه المدنية الجديدة لنفسها عنأ صل تاريخي قديم يتصل بالأصول التاريخية الماجدة التي تتحدث عنها الأساطير. وإذن فليس ما يمنع قريشا من أنت قبل هذه الأسطورة التي تفيد أن الكعبة من تأسيس إسماعيل وإبراهيم كما قبلت روما قبل ذلك ولأسباب مشابهة أسطورة أخري صنعها لهااليونان تثبت أن روما متصلة بإنياس بن بريام صاحب طروادة. أمر هذه القصة إذن واضح،فهي حديثة العهد ظهرت قبيلالإسلام لسبب ديني، وقبلتها مكة لسبب ديني وسياسي أيضا".
إذن فهذا النص الدينى القرآنى ليست سوى أسطورة وجدها محمد جاهزة فاستغلها. وهذا التصرف من جانبه لا يعنى إلا شيئا من شيئين: أنه كان على علم بأسطوريتها، لكنه قبلها بغرض نفعى لا علاقة له كما نرى بحق أو باطل، فهو إذن رجل براجماتى مكيافيلى، الغاية عنده تبرر الوسيلة، أو أنه كان رجلا جاهلا فصدق هذه الأسطورة ورددها فى قرآنه ظنا منه أنها حق لا ريب فيه. ومن كان عنده تفسير ثالث فليوافنى به، وله المثوبة والأجر من الله! والعقل الغيبى الخرافى الأسطورى هو الذىي صدق ما جاء فى القرآن ويأخذه على أنه حقيقة تاريخية، أما العقل العلمى فيرى فيه أسطورة ملفقة زيفها العرب فى الجاهلية، ثم جاء الإسلام فاستغلها لأسباب سياسية. ومن كان لديه تفسير مختلف لما قاله كل من طه حسين ونصر أبو زيد فله كل الشكر إذا أمدنا به.وثم نقطة أخرى، إذ يقول نصرأبو زيد: "لقد كان ارتباط ظاهرتَىِ الشعر والكهانة بالجن فى العقل العربى وما ارتبط بهما من اعتقاد العربى بإمكانية الاتصال بين البشر والجن هو الأساس الثقافى لظاهرةالوحى الدينى ذاتها. ولو تصورنا خلو الثقافة العربية قبل الإسلام من هذه التصورات لكان استيعاب ظاهرة الوحى أمرا مستحيلا من الوجهة الثقافية. فكيف يمكن للعربى أن يتقبل فكرة نزول ملك من السماء على بشر مثله ما لم يكن لهذا التصور جذور فى تكوينه العقلى والفكرى؟ وهذا كله يؤكد أن ظاهرة الوحى (القرآن) لم تكن ظاهرة مفارقة للواقع أو تمثل وثبا عليه وتجاوزا لقوانينه، بل كانت جزءا من مفاهيم الثقافة ونابعة من مواضعاتها وتصوراتها. إن العربى الذى يدرك أن الجنِّىّ يخاطب الشاعر ويلهمه شعره،ويدرك أن العراف والكاهن يستمدان نبوءاتهما من الجن، لا يستحيل عليه أن يصدق بملك ينزل بكلام على بشر. لذلك لا نجد من العرب المعاصرين لنزول القرآن اعتراضا على ظاهرة الوحى ذاتها، وإنما انصب الاعتراض إما على مضمون كلام الوحى أو على شخص الموحَى إليه. ولذلك أيضا يمكن أن نفهم حرص أهل مكة على رد النص الجديد (القرآن) إلى آفاق النصوص المألوفة فى الثقافة، سواء كانت شعرا أم كهانة... إن العلاقة بين النبوة والكهانة فى التصور العربى أن كليهما "وحى"، اتصال بين إنسان وبين كائن آخرينتمى إلى مرتبة وجودية أخرى: ملَكٌ فى حالة النبى، وشيطانٌ فى حالة الكاهن. وفى هذا الاتصال/ الوحى ثمة رسالة عبر شفرة خاصة لا يتاح لطرف ثالث أن يفهمها على الأقل لحظة الاتصال، وذلك لأن النبى "يبلِّغ" للناس بعد ذلك الرسالة، والكاهن "ينبئ" عن محتوى ما تلقاه. وفى هذا كله تصبح ظاهرة "الوحى" ظاهرة غير طارئة على الثقافة ولامفروضة عليه من خارج" (ص38- 39، 44 من كتاب مفهوم النص- دراسة فى علوم القرآن/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 1993م).
وقبل أن ندخل فى مناقشة تفاصيل هذا الكلام نتساءل: هل كان الجاهليون يسمون وسوسة الشياطين للكهان: "وحيا"، ومن ثم يصح أن يقول نصر أبوزيد إن هناك علاقة بين مفهوم الوحى الجاهلى ومفهوم الوحى فى الإسلام؟ كل ما أورده د. نصر فى هذا الصدد نصان شعريان جاهليان ليس فيهما أدنى إشارة إلى أى وحى (ص39). وهذان هما النصان، ولا أدرى لم أوردهما ما داما لا يحتويان على الشاهد المراد. فأماالنص الأول فهو للأعشى، ويتحدث فيه عن قرينه مِسْحَل، أى الشيطان الذى كان يعتقدأنه يساعده فى نظم الأشعار:
وَما كُنتُ شاحِردا وَلَكِن حَسِبتُني * إِذامِسْحَلٌ سَدَّى لِيَ القَولَ أَنطِقُ
شَريكانِ فيما بَيْنَنا مِن هَوادَةٍ * صَفِيّانِ: جِنِّيٌّ وَإِنسٌ مُوَفَّقُ
يَقولُ فَلا أَعْيَا لِشَيءٍ أَقولُهُ * كَفانِيَ لاعَيٌّ وَلا هُوَ أَخرَقُ
وأما النص الثانى فلبدر بن عامر:
ولقدنطقتُ قوافيًا إنسيةً * ولقد نطقتُ قوافىَ التجنينِ
وهناك شاهد آخر أورده نصر أبو زيدلعلقمة الفحل، لا بمعنى اتصال الجن بالإنس، بل بمعنى حديث الثور الوحشى إلى أبقاره،وشتان الأمران. وهذا هو الشاهد:
يوحي إِلَيها بِإِنقاضٍ وَنَقنَقَةٍ * كَما تَراطَنُفي أَفدانِها الرومُ
ولقد بحثت بنفسى فى الموسوعة الشعرية الإماراتيةلعلى أجد شيئا يعضد ما زعمه د. أبو زيد عن تسمية الجاهليين لاتصال الكهان والشعراء بالجن: "وحيا" فلم أجد فى الشعر الجاهلى إلا نصا واحدا لزهير بن جناب الكلبى أتتفيه فعلا كلمة "وحى"، ولكن بمعنى "حديث" الأطلال إلى الشاعر الحزين على فراق حبيبتهلا بمعنى وسوسة الجن إلى الإنس كما يقول أبو زيد:
فَكادَت تُبينُ الوَحيَ لَمّاسَأَلتُها * فَتُخبِرُنا لَو كانَتِ الدارُ تَنطِقُ
هذا فى مجال الأسماء، أما فى مجال للأفعال فلم أعثر إلا على البيت الذى ساقه د. نصر لعلقمة الفحل ليس غير. ونخرج منهذا كله أن الأساس الذى أقام عليه نصر حامد أبو زيد دعواه بمشابهة الوحى القرآنىللوحى الكهانى والوحى الشعرى هو أساس منهار لم يكن يصح أن يتخذه مستندا فى مثل هذه القضية الحساسة التى يمكن أن يُزِيغ الأبصارَ فيها كلامُه المندفع غيرالمسؤول.
ولقد لاحظ القارئ كيف يكرر د. نصر أبو زيد عبارة "ظاهرة الوحى القرآنى"، مع أن القرآن حالة فردية لا تمثل ظاهرة، إذ هو لم ينزل على غير محمد صلى الله عليه وسلم، ولو كان ظاهرة لرأينا كثيرا من العرب أنبياء يتنزلالقرآن عليهم. هذا هو معنى الظاهرة، أما إذا كانت الحالة فردية أو محصورة فى نطاق ضيق فلا تسمَّى: ظاهرة. ترى هل إذا اكتشف السكان مثلا فى مدينة من المدن أن بينهم لصا، هل يقال إن اللصوصية أصبحت تمثل ظاهرة فى مدينتهم؟ هل إذا اكتشف الأطباء فى بلد من البلاد حالةَ فشلٍ كٌلْوِىّ، هل يقال إن هذا المرض صار يشكل ظاهرة؟ واضح أننصر أبو زيد لا يراعى معانى المصطلحات التى يستعملها، ويترك لنفسه العنان فى استخدامها كما يعنّ له دون تدقيق أو تبصر أو مراعاة لما استقر عليه العُرْف اللغوى والاصطلاحى. لو كان نصر أبو زيد قال إن "الوحى" (الوحى بإطلاق) يمثل ظاهرة لكان كلامه معقولا، فالوحى فعلا يمثل ظاهرة لتكرره وشيوعه فى التاريخ البشرى، إذ ما من أمة إلا وقد ظهر فيها نذير أو أكثر حسبما ينبئنا القرآن المجيد، أما الوحى القرآنى بالذات فهو حالة من الحالات التى تتمثل فيها تلك الظاهرة، لكنه لا يشكل وحده ظاهرة.
أيا ما يكن الأمر فإن كلام أبو زيد يفيد أن مفهوما لوحى فى الإسلام هو انعكاس للفكر الجاهلى. لكن هل جاء الإسلام للعرب وحدهم فاستغل مفهوم الكهانة عندهم ورتب عليه مفهوم النبوة؟ أم كيف يا ترى يفسر انتشار الإسلام فىك ل بلاد العالم قديما وحديثا، وهم ليسوا عربا، ومنهم اليهودى والنصرانى والوثنى والمادى، والموحد والمثلث والثنوى والمتشكك، والفارسى والمصرى والتركى والإسبانى والأمريكى والهندى والصينى واليابانى والمكسيكى والأسترالى...؟ وبالمثل كيف يفسر تكذيب العرب بالكهانة بعد مجىء الإسلام بل تَرْك كثير من الكهان لكهانتهم إذا كان مفهوم النبوة امتدادا لمفهوم الكهانة؟ كذلك لو كان ما يحاوله أبو زيد من الربط بين الكهانة والنبوة صحيحا لكان الجاهليون قد سارعوا إلى الإيمان بالنبى من أول وهلة مادام الأمران واحدا. لكنهم، فى واقع الأمر، كانوا بوجه عام يصدقون الكهان ولا يصدقون النبى إلا بعد أخذ ورد ومجادلات وحروب على ما هو معروف للجميع. وقد قال أبو جهل إن قبيلته وقبيلة النبى كانتا كفرسى رهان، أى متساويتين فى الشرف والكرامة، إلى أن قالم حمد إنه نبى، وهو ما أكد أبو جهل أن قبيلته لا يمكنها شىء من ذلك. ترى لماذا؟الواقع أنه لو كانت النبوة امتدادا للكهانة كما يزعم نصر أبو زيد ما قال أبو جهل ماقال. ولقد كان بعض الجاهليين، حسبما حكى القرآن فى مواضع عدة منه، يقولون عن النبىإنه كاهن، ومع هذا كذبوه. فلماذا إذن لم يؤمنوا به كما كانوا يؤمنون بصدق ما يقوله الكاهن لهم؟ وفوق هذا فإن وظيفة النبى ووظيفة الكاهن مختلفتان بل متناقضتان، إذالكاهن إنما يزعم مقدرته على علم الغيب، وكان العرب لا يقصدونه إلا لمعرفة ما خفىعليهم، أما النبى فقد فاجأهم منذ البداية بالقول بأنه لا يعلم الغيب، إذ لا يعلمالغيب إلا الله، فضلا عن أن رسالته هى تتميم مكارم الأخلاق والدعوة إلى الإيمانبالله الواحد الأحد وإلى العبادة والعمل الصالح، وهو ما زادهم منه نفورا. كما أنالكاهن كان يحرص على لفلفة أقاويله فى ثياب الغموض حتى تحتمل عدة معان بحيث تصدُقعلى أى وضع، أما القرآن والحديث فمعانيهما واضحة لا لفلفة فيها ولا غموض. ثم إن كلام الكاهن قصير جدا لا يتجاوز عدة جمل، أما القرآن فقد يطول النص منه حتى ليبلغ صفحات وصفحات وصفحات، كما فى "البقرة" و"آل عمران" مثلا. ليس ذلك فقط، بل كان الكهان يأخذون جُعْلاً على ما يقولون، أما النبى فقد كرر القرآن منذ وقت جد مبكرأنه لا يسألهم على ما يقوله لهم أى أجر. واضح أن الأمرين مختلفان تماما حتى فى عقولالجاهليين.
وفى الصفحة السابعة والخمسين بعد المائة من كتاب "مفهوم النص" يزعم نصر أبو زيد أن العرب لم تستطع التمييز بين القرآن وبين الشعر وسجع الكهان، فلذلك قالوا عنه إنه شعر أو إنه من اسجاع الكاهنين. وهذا كلام غيرصحيح، وإلا فإذا كان القرآن فى نظرهم شعرا وكهانة، فلماذا لم يؤمنوا به كما كانوايؤمنون بصحة كلام الكهان مثلا؟ إن الفروق بين القرآن والشعر والسجع الكهانى واضحةتمام الوضوح، لكن عنادهم هو الذى أملى لهم فى الغى والكفر. وإذا كان القرآن قداختلط عندهم بالشعر، وتحداهم بأن يأتوا ولو بسورة منه، فلماذا لم يقف من بينهم أحدويقول: "هأنذا آتى بسورة من مثله"، ثم ينشد قصيدة من قصائده؟ كذلك قد رموا الرسول بالكذب، فهل كان القرآن فى ثقافتهم يشبه كذب الكذابين؟ وقالوا عنه إنه سحر، فهل كان السحر هكذا؟ وعلى كل حال هأنذا أسوق وصف عتبة بن ربيعة للقرآن، ومنه يتبين أن العرب كانوا واعين بالفروق التى تميز بين القرآن والكهانة والشعر تمام الوعى.
ففى سيرةابن هشام أن "عتبة بن ربيعة، وكان سيدا حليما، قال ذات يوم وهو جالس في نادي قريش،ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده في المسجد: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى هذا فأكلمه أمورا لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكفّ عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة بن عبد المطلب، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون. فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقم فكلمه. فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى اللهعليه وسلم فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة في العشيرة، والمكانفي النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت من مضى من آبائهم. فاسمع مني أَعْرِض عليك أمورا تنظر فيها لعلك أن تقبل منها بعضها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليدأسمع. فقال يا بن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت من هذا القول مالا جمعنا من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تريد شرفا شرّفناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد مُلْكا ملَّكناك، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيًّا تراهولا تستطيع أن ترده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوَى منه. ولعل هذا الذي تأتي به شعر جاش به صدرك،فإنكم، لَعَمْرِي يا بني عبد المطلب، تقدرون منه على ما لا يقدر عليه أحد. حتى إذافرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال رسول الله صلى الله عليهوسلم: أفرغتَ يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: فاستمع مني. قال: أفعل. فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم* حم* تنزيلٌ من الرحمن الرحيم* كتابٌ فُصِّلَتْ آياته قرآنا عربيا". فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها عليه. فلما سمعها عتبة أنصت له، وألقى بيده خلف ظهره معتمدا عليها يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجد فيها، ثم قال: قد سمعتَ يا أباالوليد ما سمعتَ، فأنت وذاك. فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك ياأبا الوليد؟ فقال: ورائي أني والله قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط. والله ما هوبالشعر ولا بالسحر ولا الكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي. خَلُّوا بينهذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه. فو الله ليكونن لقوله الذي سمعتُ نبأ. فإنتُصِبْه العرب فقد كُفِيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلْكه مُلْككم، وعِزُّه عِزُّكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سَحَرك والله يا أبا الوليد بلسانه. فقال: هذا رأيي، فاصنعوا ما بدا لكم".
ثم إن نصر أبو زيد لا يكتفى بهذا، بل يمضى على غُلَوائه فيرمى القرآن بالبراجماتية، إذ يزعم أن القرآن قد تقبل الكهانة فى البدايةلأنها سبق أن بشرت بمجىء النبى، ثم لما تمت له الاستفادة من تبشير الكهان بمجىءالنبى عليه السلام عاد فأنكرها وولاها ظهره بعدما أخذ منها ما يريد. كيف؟ يقول نصرأبو زيد إن القرآن فى السور المكية، أى فى المرحلة التى كان بحاجة إلى من يشهد لهبالصدق (يقصد الكهان، الذين يقال إنهم قد بشروا بالنبى قبل مجيئه فمهدوا لهالطريق)، قد حرص على ممائلة سجعهم فكانت الفاصلة فى سور المرحلة المكية، ولكنهبعدما أخذ من الكهان ما يريد واستقرت دعائمه ولم يعد فى حاجة إلى شهادتهم، حرص علىأن يخالف سجعهم، فخلت السور المدنية أو كادت من الفاصلة (انظر "مفهوم النص"/ 161- 164).هذا ما زعمه أبو زيد، أماحقائق التاريخ والواقع فشىء آخر غير هذه التخريفات: فأولا لقد نفى القرآن منذ وقتمبكر فى مكة أن يكون الرسول كاهنا، وهو ما يبرهن بكل قوة وحسم أنه يدين الكهانةوالكهان ويتبرأ منهم منذ البداية، فكيف يقال إنه كان حريصا على مماثلتهم؟ يقول جلشأنه: "فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ" (الطور/ 29)، "وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ* وَلابِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ" (الحاقة/ 41- 42). وثانيا لم يكن السجع خصيصة مقصورة على كلام الكهان، بل كان الجاهليون يراعونه فى الخطب والأمثال. كل ما هنالك أنه عند الكهان كان متكلفا ثقيلا وغامضا يحتمل معانى متعددة كبيت الثعلب له عدة أبواب بحيث إذا أطبق عليه الصائد من بابٍ تسلل هو من بابٍ غيره دونأن يشعر الصائد به، أما فى الخطب والأمثال فكان السجع طبيعيا سلسا. وثالثا من قالإن الفاصلة قد اختفت أو ندرت فى القرآن المدنى؟ إنها موجودة فى كل سور القرآن: مكيها ومدنيها، وإلا فليشرح لنا د. نصر ماذا يعنيه بمصطلح "الفاصلة" حتى نفهم مرمىك لامه ذاك العجيب.
وهذه بعض الأمثلة من سجع الخطب والأمثال. فمن ذلك خطبة عبد المطب بن هاشم جد الرسول عليه السلام حين ذهب مع وفد من قريش لتهنئة سيفبن ذى يزن ملك اليمن على تخلص بلاده من الاحتلال الحبشى: "إن الله تعالى أيها الملك أَحَلَّك محلاًّ رفيعًا، صعبًا منيعًا، باذخًا شامخًا، وأنبتك منبتًا طابت أَرُومَتُه، وعزَّتْ جرثومتُه، وثبَتَ أصله، وبَسَقَ فرعه، في أكرم معدن، وأطيب موطن. فأنت، أَبَيْتَ اللعن، رأْسُ العرب وربيعُها الذي به تُخْصِب، ومَلِكها الذيبه تنقاد، وعمودها الذي عليه العِمَاد، ومعقلها الذي إليه يلجأ العباد. سَلَفُك خيرسلف، وأنت لنا بعدهم خير خَلَف. ولن يَهْلِك من أنت خَلَفُه، ولن يَخْمُل من أنت سَلَفُه. نحن، أيها الملك، أهل حَرَم الله وذمّته وسَدَنة بيته. أَشْخَصَنا إلي كالذي أبهجك بكشف الكَرْب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد الَمْرِزَئة". ومنهاخطبة قس بن ساعدة الإيادى فى سوق عكاظ: "أيها الناس، اجتمعوا واسمعوا وعوا. إنه منعاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت، أقسم قس قسما لا كذب فيه ولا إثم إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعِبَرا. سقف مرفوعٌ، ومهادٌ موضوعٌ، وبحرٌ مسجورٌ،ونجومٌ تسير ولا تغور. ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرَضُوا بالمقام فأقامواأم تُرِكوا فناموا؟ أقسم بالله قسمًا إن لله دينا هو أرضى من دينٍ نحن عليه. وأراكم قدتفرقتم بآلهةٍ شتى. وإن كان الله رب هذه الآلهة، إنه ليجب أن يعبد وحده". ومنا لأمثال: "اختلط الحابل بالنابل"، "إذا أردتَ المحاجزة فقَبْلَ المناجزة، "إذا لم تَغْلِبْ فاخْلُبْ"، "إذا جاء الحَيْن، حارَ العَيْن"، "اِرْقَ على ظَلْعك،واقْدِرْ بذَرْعك"، "أَرِنِيها نَمِرَة أُرِكَها مَطَرَة"، "أَعْذَرَ من أَنْذَر"، "إننى لن أَضِيرَه. إنما أطوى مَصِيرَه"، "استغنت التُّفَّة عن الرُّفَّة"، "بِعْتُجارى، ولم أَبِعْ دارى"، "جاء بالطِّمّ والرِّمّ"، "جَدَّك لا كَدَّك"، "حال الجَرِيض دون القَرِيض"، "الخَلاء بَلاء"، "دُهْدُرَّيْن سَعْد القَيْن"، "رُبَّقَوْل أشد من صَوْل"، "الطريفُ خفيف، والتَّليدُ بليد"، "قُرْبُ الوِسَاد، وطُولُالسَّوَاد"، "لولا اللئام لهَلَكَ الأَنَام"، "ليس من العَدْل سرعة العَذْل"، "مَنْلى بالسانِح بعد البارِح؟"، "المنايا على البلايا"، "اليومَ خَمْر، وغدًاأَمْر".
وهذا كله لو كان الكهان قد بشروا فعلا بالنبى عليه السلام قبل مجيئه فمهدوا له الطريق. بيد أن هذا غير صحيح، فهم لم يبشروا به. وكيف يبشرون به وهم بشر من البشر لا يعلمون الغيب؟ ثم لو كانوا بشروا به حقا فكيف لمي تخذ القرآن ولا الرسول ذلك حجة على الوثنيين فينبههم إلى ما كان الكهان يقولونه فى حقه قبل مجيئه، والكهان فى نظر العرب مصدَّقون؟ إن كل ما ذكره القرآن هو أن أهل الكتاب كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم لإتيان البشارة به فى كتبهم، ولم يقل شيئا من ذلك عن الكهان. ومع هذا فإنه لم يداهن أهل الكتاب، بل أعلن منذ وقتٍ جِدّ مبكرٍ رأيه فى مواقفهم وعقائدهم، وذَمَّهم بل كفّرهم ودعاهم إلى نبذ ما هم عليه والدخولفى الدين الجديد إذا أرادوا النجاة يوم القيامة. فإذا كان هذا حاله مع من ذكر أن كتابهم قد بشر بمحمد عليه الصلاة والسلام، فكيف يقال إنه قد حرص على مجاملة الكهان باحتذاء أسجاعهم حتى تم له ما أراد من اعتراف العرب به، وعندئذ انقلب عليهم وقلبلهم ظهر المجنّ؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا يا ترى لم يحرص أيضا على مراعاة خاطر الوثنيين فيثنى على آلهتهم فى البداية حتى يجد لنفسه فى مجتمعهم موطئ قدم، ثم يلعنأبا خاشهم بعدئذ ولا يبالى؟
ولسوف آخذ نصا من نصوص الكهان التى يقال إنها فى التبشير بنبوة النبى عليه السلام قبل مجيئه بالرسالة، وهو حديث خنافر بن التوأم الحِمْيَرِيّ مع رَئِيّه شَصَار، وذلك كى أُرِىَ القارئ على الطبيعة تهافُت ما يقال عن تبشير الكهان الوثنيين به صلى الله عليه وسلم. ولسوف نقرأ النص أولا ثم نرى فيه رأينا بعد ذلك: "كان خُنَافر بن التوأم الحميري كاهنا، وكان قد أُوتِيَ بسطة في الجسم وسَعة في المال، وكان عاتيا. فلما وفدتْ وفود اليمن على النبي وظَهَر الإسلام أغار على إبلٍ لِمُرَاد فاكتسحها، وخرج بأهله وماله ولحق بالشِّحْر، فخالف جَوْدانبن يحيى الفِرْضِمي، وكان سيدا منيعا، ونزل بواد من أودية الشِّحْر مُخْصِبًا كثيرالشجر من الأيك والعَرِين. قال خنافر: وكان رَئِيِّي في الجاهلية لا يكاد يتغيبعني، فلما شاع الإسلام فقدتُه مدة طويلة، وساءني ذلك. فبينا أنا ليلةً بذلك الوادينائما إذ هَوَى (انحدر فى الجَوّ) هُوِىَّ العُقَاب، فقال: خنافر؟ فقلت: شصار؟فقال: اسْمَعْ أَقُلْ. قلت: قُلْ أَسْمَعْ. فقال: عِهْ تَغْنَمْ. لكل مدةٍ نهاية،وكلُّ ذي أمدٍ إلى غاية. قلت: أجل. فقال: كل دولةٍ إلى أجل، ثم يتاح لها حِوَل. انتُسِخت النِّحَل، ورجعت إلى حقائقها المِلَل. إنك سَجِيرٌ (أى صديق) موصول،والنصح لك مبذول، وإني آنَسْتُ بأرض الشأم نَفَرًا من آل العُذَّام (يقصد قبيلة من الجن)، حكّاما على الحكّام، يَذْبُرون (يقرأون) ذا رونق من الكلام، ليس بالشِّعرالمؤلَّف، ولا السجع المتكلَّف، فأصغيتُ فزُجِرْتُ، فعاودتُ فظُلِفْتُ (أىمُنِعْتُ)، فقلت: بم تُهَيْنِمون؟ وإلام تَعْتَزُون؟ قالوا: خِطَابٌ كُبَّار، جاءمن عند الملك الجبار، فاسمع يا شَصَار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تَنْجُمن أُوَار النار. فقلت: وما هذا الكلام؟ فقالوا: فرقانٌ بين الكفر والإيمان. رسولمن مُضَر، من أهل المـَدَر، ابتُعِث فظهر، فجاء بقَوْلٍ قد بَهَر، وأَوْضَحَ نَهْجًا قد دَثَر، فيه مواعظ لمن اعتبر، ومَعَاذٌ لمن ازدجر، أُلِّف بالآىِ الكُبَر. قلت: ومن هذا المبعوث من مُضَر؟ قال: أحمد خير البشر. فإن آمنتَ أُعْطِيتَ الشَّبَر (أى الخير)، وإن خالفت أُصْلِيتَ سَقَر. فآمنتُ يا خُنَافر، وأقبلت إلي كأبادر، فجانِبْ كل كافر، وشايِعْ كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفراق، لا عن تلاق. قلت: من أين أبغي هذا الدين؟ قال: من ذات الإِحَرِّين، والنَّفَر اليمانين، أهل الماءوالطين. قلت: أَوْضِحْ. قال: اِلْحَقْ بيثربَ ذات النخل، والحَرّة ذات النعل، فهناك أهل الطَّوْل والفضل، والمواساة والبذل. ثم امَّلَسَ عنى، فبِتُّ مذعورا أراعيا لصباح. فلما برق لي النور امتطيتُ راحلتي وآذنتُ أَعْبُدِي واحتملتُ بأهلي حتى وردتُ الجوف، فرددتُ الإبل على أربابها بحَوْلها وسِقَابها (أى بجِمَالها ونُوقها. جَمْع: "حائل" و"سَقْب") وأقبلتُ أريد صنعاء، فأصبت بها معاذ بن جبل أميرا لرسول الله فبايعته على الإسلام، وعلَّمني سورا من القرآن، فمنّ الله علي بالهدى بعدالضلالة والعلم بعد الجهالة".
وفى هذا الحديث نلاحظ ما يلى: أن رَئِىّ خنافر قد تركه فى عمايته فلم يُعْلِمه بأن نبيا جديدا ظهر بدعوته فى بلاد العرب، إلى أن أصبحالناس فى تلك البلاد كلهم يعلمون ذلك، اللهم إلا خنافرا. فعندئذ، وعندئذ فقط، تذكرشَصَارُ صاحبَه الكاهن المسكين النائم على أذنه لا يدرى خبر الإسلام رغم أن نورهكان قد دخل اليمن وأضحى لدولته فيها رسولٌ من لدن النبى الكريم هو معاذ بن جبل رضىالله عنه. ترى ما دور شصار إذن إذا لم يكن ما أنبأ به خنافرًا إلا خبرا يعرفه القاصى والدانى؟ إن معنى هذا أن شيطان خنافر قد هجره هجرا غير جميل طَوَال ما يقرب من عشرين سنة، أى منذ بدء النبوة إلى وقت دخول الإسلام اليمن فى أواخر حياته صلىالله عليه وسلم، فكيف كان خنافر يمارس كهانته إذن دون رَئِىٍّ من الجن؟ أم تراه توقف عن ممارستها كل تلك الفترة؟ لكن هل يمكن أن يكون ذلك؟ وهل يمكن أن يستعيض كاهن عن كهانته بالسرقة والإغارة على إبل الآخرين، وبخاصةٍ أن خنافرا لم يكن، كما هو بَيِّنٌ من القصة، ذا عزوة تمنعه من طلب القبائل المعتدَى عليها وعملها على الثأرمنه؟ كذلك ليس هناك سبب مفهوم لهجر شَصَار لصاحبه كل تلك المدة، وهذه ثُغْرَة فى القصة تحتاج إلى ما يملؤها. كما أن تهديده له بأنه إذا لم يعتنق الإسلام مثله فلن يراه مرة أخرى هو تهديد لا معنى له، لأن معنى هذا التهديد أن شَصَار لن يساعد خُنَافِرًا فى كهانته، مع أننا نعرف جيدا أن الإسلام يكفِّر الكهان ويحاربهم دون هوادة، وهو ما يعنى بكل وضوح أن اللقاء بينهما من الآن فصاعدا سيكون لقاء مجرَّماومحرَّما أشد التجريم والتحريم، وهذا إن قَبِلَ الجنى أن يقوم بدوره القديم المناقضلعقيدته الجديدة التى يدعو إليها خنافرا! فكما ترى هذه ثُغْرَة أخرى فى القصة يصعببل يستحيل سَدّها. ثم أليست القصة تريد أن تقول إن شصار قد أتاه بخبر الغيب، فأىغيب هذا الذى كان يعرفه الجميع فى أرجاء الجزيرة الأربعة؟ بل لماذا لم يعرف شصارب دوره بنبإ الإسلام إلا من إخوان له من الجن كانوا قد آمنوا قبله؟ ولماذا يا ترى كانوا يزجرونه عن سماع القرآن الذى كانوا يتلونه؟ ألم يأت القرآن لهداية الجن والإنس؟ فهل مما يتناسب مع هذه الغاية أن يُزْجَر عنه من يريد سماعه؟ فكيف يعرف إذنما جاء فيه من هدى ونور؟ إن سورة "الجن" والآيات 29- 32 من سورة "الأحقاف" تحدثاننا عن سماع نفر من الجن للقرآن من الرسول عليه السلام دون أن يزجرهم زاجر، فلماذا جرى الأمر فى قصتنا هذه على خلاف ذلك؟ ولماذا كان هؤلاء النفر من الجن من أهل الشام لا من أهل اليمن؟ أترى القصة تريد أن تقول إن "الشيخ البعيد سره باتع"؟ أم تريد أنتجرى على سُنّة المثل القائل: "من أين أذنك يا جحا؟"؟ كذلك ألم ينصح شَصَارُ لخنافرب أن يأتى النبىَّ فى المدينة؟ فلماذا اكتفى خُنَافِرُنا بلقاء مُعَاذ بن جبل بعد كلهذا الكلام المشوِّق لرؤية النبى الكريم؟ يا له من كاهن كسول! بل لماذا أراد صنعاءَمن الأصل، ولم يأت لها ذكر فى الحوار بينه وبين رَئِيّه؟
ثم إذا كان الأمر على ما ترويه القصة، فهل كان خبر خنافر لِيغيب عن كُتُب الحديث؟ إنه لا وجود له فيها. كذلك لوكان ما قرأناه هنا صحيحا لقد كان خبر ذلك الكاهن اليمنى سلاحا بتارا فى الدعايةلهذا الدين، فلماذا لم يستغله المسلمون؟ صحيح أنه إنما أسلم، كما رأينا، بأُخَرة،لكن لا شك أن خبره كان يمكن أن يكون ذا نفع جزيل فى معركة الدعاية بحيث يسهِّلإنجاز المهمة الباقية، وهى القضاء على فلول الوثنية فى بلاد العرب، تلك الوثنيةالتى لم تكن قد خمدت تماما حتى بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وانفجرت متخذةًشكل رِدَّةٍ مستطيرة. ثم مصطلح "السجع المتكلَّف"، هذا المصطلح البلاغى الذى لميعرفه العرب قبل عصر الازدهار الثقافى فى العصر العباسى، من أين يا ترى للعرب الجاهليين بمعرفته؟ بل إن فى النص سجعا متكلَّفا لا قِبَل للجاهليين به كما هو واضحفى المثال التالى: "خِطَابٌ كُبَّار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شَصَار، عنأصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تَنْجُ من أُوَار النار"، علاوة على هذه البهلوانية البلاغية الجميلة المتمثلة فى هاتين الجملتين اللتين تبادلهما الكاهن والجنى: "قال: اسْمَعْ أَقُلْ. قلت: قُلْ أَسْمَعْ" والتى يصعب علىّ أن أتصورها منشِيَم الأدب الجاهلى. ليس ذلك فحسب، فهذا الكلام المنسوب للجن، هل يمكن أن نصدقه؟إن الجن عالم خفىٌّ لا نعرف نحن البشر عنه شيئا سوى ما جاء فى الوحى كما هو الحال فيما أنبأنا به رب العزة من كلامهم عندما استمعت طائفة منهم إلى القرآن الكريم لأول مرة، أما ما عدا هذا فأنا لا أستطيع أن أهضم شيئا منه كما هو الحال هنا، وبخاصة أنه كلام عربى، فهل الجن يتحدثون العربية، ويصطنعون السَّجْع والجِنَاس وسائرالمحسِّنات البديعية أيضا؟ وبطبيعة الحال لا يمكن القول بأنهم فى سُورَتَىِ "الأحقاف" و"الجن" قد استخدموا كذلك لسان بنى يعرب، إذ الواقع أن ما نقرؤه هناك من كلامهم إنما هو ترجمة لما قالوه بلغتهم التى لا ندرى نحن البشر عنهاشيئا.
على أن القضية لمّا تنته عند هذا الحد، إذ نقرأ قوله: "كان رَئِيِّي في الجاهلية لايكاد يتغيب عنى، فلما شاع الإسلام فقدتُه مدة طويلة، وساءني ذلك. فبينا أنا ليلةًبذلك الوادي نائما إذ هَوَى هُوِىَّ العُقَاب، فقال: خنافر؟ فقلت: شصار؟ فقال: اسْمَعْ أَقُلْ. قلت: قُلْ أَسْمَعْ. فقال: عِهْ تَغْنَمْ. لكل مدة نهاية، وكل ذيأمد إلى غاية. قلت: أجل. فقال: كل دولة إلى أَجَل، ثم يتاح لها حِوَل. انتُسِخت النِّحَل، ورجعت إلى حقائقها المِلَل. إنك سَجِيرٌ (أى صديقٌ) موصول، والنصح لك مبذول، وإني آنَسْتُ بأرض الشأم نَفَرًا من آل العُذَّام (يقصد أنه قابل قبيلة من الجن)، حُكّامًا على الحُكّام، يَذْبُرون ذا رونقٍ من الكلام، ليس بالشِّعرالمؤلَّف، ولا السجع المتكلَّف، فأصغيتُ فزُجِرْتُ، فعاودتُ فظُلِفْتُ (أىمُنِعْتُ)، فقلت: بم تُهَيْنِمون؟ وإلام تَعْتَزُون؟ قالوا: خِطَابٌ كُبَّار، جاءمن عند الملك الجبار، فاسمع يا شَصَار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تَنْجُمن أُوَار النار. فقلت: وما هذا الكلام؟ فقالوا: فرقانٌ بين الكفر والإيمان. رسولمن مُضَر، من أهل المَدَر، ابتُعِث فظهر، فجاء بقَوْلٍ قد بَهَر، وأوضحَ نهجًا قددَثَر، فيه مواعظُ لمن اعتبر، ومعاذٌ لمن ازدجر، أُلِّف بالآى الكُبَر. قلت: ومنهذا المبعوث من مُضَر؟ قال: أحمد خير البشر. فإن آمنتَ أُعْطِيتَ الشَّبَر (أىالخير)، وإن خالفت أُصْلِيتَ سَقَر. فآمنتُ يا خُنَافر، وأقبلت إليك أبادر، فجانِ بْكل كافر، وشايِعْ كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفراق، لا عن تلاق. قلت: من أين أبغي هذاالدين؟ قال: من ذات الإِحَرِّين (أى الحجارة السُّود)، والنَّفَر اليمانين، أهلالماء والطين". ومعنى هذا الكلام أن خنافرا، كما هو واضح من مفتتح حديثه، كان يعرفب مجىء الإسلام منذ البداية، لكننا نفاجأ، من خلال أسئلته عن الدين الجديد والرسولالذى جاء به والكتاب الذى نزل عليه، بأنه لم يكن يعرف شيئا من ذلك بالمرة. فكيف يسوغ فى العقل هذا؟ وبعد هذه الجولة هل بقى فى ضمير القارئ شك فى تهافت ما قاله نصرأبو زيد عن استغلال القرآن لسجع الكهان فى توطيد دعائمه فى نفوس العرب ثم انقلابه عليهم بعد أن استقرت له الأوضاع؟