الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، وعلى آله وصحبه.
أمَّا بعدُ:
فسنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - مليئة بالفوائد والدُّرر، والكلام القليل الذي يحمل من المعاني الكثير، والعلم النافع الذي يَهدي العباد إلى العمل الصالح، ويُرشد العقول إلى الخير المأمول. وكي نحصلَ على هذا الخير، لا بد أن نفهم السنَّة في ضوء القرآن، وليس بمعزلٍ عنه، وإن كان هذا ليس شرطًا مطَّردًا؛ لأن في السنَّة تفصيلاتٍ لا وجود لها في كتاب الله.
ولا بد أن يكون عندنا أدواتُ العلم، وأن نستفيدَ من علم اللغة، وعلم أصول الفقه، وعلم مقاصد الشريعة، وغير ذلك من العلوم النافعة المُعِينة على فَهْم النصوص على الوجه الصحيح. وليس معنى أن الشخص قد امتلَك أدوات الفهم، أنَّ فهمه للنص يكون صحيحًا، فكم من العلماء مَن فَهِم النص على خلاف مراد الشرع، مع امتلاك العالِم لأدواتِ الفهم والاستنباط، وتجرُّد العالِم للحق، والسرُّ في ذلك: الاختلافُ في الاستعدادات الفِطْرية والمكتسبة لدى العلماء، واختلاف نظرتهم للنص، وتفاوُت عِلمهم، ودرجة استنباطهم، والقواعد التي يَبنون عليها فَهْم النصوص، فرُب قاعدةٍ يسير عليها عالِم لا يُقرُّها عالِمٌ آخرُ، ورُبَّ عالم يبني استنباطَه على قاعدة باطلةٍ ودليلٍ باطل.
والفهم الصحيح للنص توفيقٌ من الله مع الأخذ بأسباب الفهم، فندعو الله أن يَهدينا إلى الحق فيما اختُلف فيه.
ولتفاوت العلماء في الفهم، فمن الأفهامِ ما يوافق الكتابَ والسنَّة، ومن الأفهام ما يخالف الكتاب والسنَّة؛ فالواجب عرضُ كلام العلماء على الكتاب والسنَّة، فما وافقهما، قبِلناه، وما خالفهما، رددناه. ومن النصوص التي فَهِم منها البعضُ خلاف ما يوافق مراد الشرع حديثُ: ((لن يُدخِل أحدَكم عملُه الجنَّةَ))، وهذا الحديث الشريف في الصحيحين؛ فهو في أعلى درجات الصحة.
والحديث نصُّه عن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سدِّدوا وقارِبوا وأبشِروا؛ فإنه لا يُدخِل أحدًا الجنةَ عملُه))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يَتغمدَني اللهُ بمغفرة ورحمة))[1].
وفي رواية عن عائشة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا وقاربوا، واعلموا أن لن يُدخِل أحدَكم عملُه الجنةَ، وأنَّ أحبَّ الأعمالِ إلى الله أدومُها وإن قلَّ))[2].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لن ينجِّي أحدًا منكم عملُه))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمَّدَني اللهُ برحمة، سدِّدوا وقاربوا، واغدُوا ورُوحوا، وشيء من الدُّلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا))[3].
ودعونا نَحْيَ في رحاب هذا الحديث، ننهل منه الدررَ والفوائد والعِبر؛ فقولُ السيدة عائشة - رضي الله عنها -: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم"، يدلُّ على رواية النساءِ لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أي: نشر النساء الصحابيات للحديث النبوي، وحِفظهن للسنَّة؛ أي: إن للنساء دورًا في نشر السنَّة وحفظها، كما نشَرها الرجال وحفظوها، فلا يُنكِر دورَ النساء في نشر السنَّة وحفظها إلا جاهلٌ بعلوم الحديث.
وتحديث السيدة عائشة أم المؤمنين عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - دليلٌ على أن نساء النبيِّ - رضي الله عنهنَّ - كان لهنَّ دورٌ في نشر السنة والدين، وحفظ السنة والدين، وقد روت السيدة عائشة - رضي الله عنها - "2210" حديثًا، وروت السيدة أم سلَمةَ "378" حديثًا، وروت السيدة ميمونة - رضي الله عنها - "76" حديثًا، وروت السيدة أم حبيبة - رضي الله عنها - "65" حديثًا، وروت السيدة حفصة - رضي الله عنها - "60" حديثًا، وروت السيدة جُوَيرية - رضي الله عنها - خمسة أحاديث.
ومن هنا نُدرك أن تعدُّدَ زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جعله اللهُ سببًا من أسباب نشر الدين وحِفظه، وهذا يدل على امتثال أُمهات المؤمنين لقوله - تعالى -: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 34].
والآية فيها حضُّ نساءِ النبي - صلى الله عليه وسلم - على نشر وتعليم العلم الشرعي، المتمثلِ في القرآن والسنَّة؛ فالذي يُتلى في بيوت زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - هو كتابُ الله، والحكمةُ، التي هي سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا أمرٌ للنساء أن يُشاركْنَ الرجال - حيث لا فتنةَ - في تبليغ القرآن والسنَّة.
ولا يقال: الأمر خاصٌّ بنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن خطاب الله - سبحانه وتعالى - لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل فيه نساءُ المؤمنين؛ إذ نساء المؤمنين تَبَع لهن في ذلك، وإنما خصَّ الله - سبحانه وتعالى - نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخطاب لشرفهنَّ ومنزلتهن من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأنهن القدوةُ لنساء المؤمنين، ولقرابتِهن من النبي - صلى الله عليه وسلم - والعبرة بعموم اللفظِ لا بخصوص السبب[4]، ما لم يَرِدْ دليلٌ يدل على التخصيص.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا)) من السداد، والسداد: الصواب من القول والقصد[5]، أو الإصابة في المنطق والتدبير والرأي[6]، والتسديد: هو إصابةُ الغرض المقصود، وأصله من تسديد السهم إذا أصاب الغرضَ المَرْميَّ إليه، ولم يُخْطِئْه[7]، وفُسِّر السدادُ بالصواب، وهو مقارب للقصد؛ لأن التقصير في المطلوب أو المغالاة فيه، تُخرجه عن الصواب.
ومعنى "سدِّدوا": اقصدوا السداد، واطلبوه، واعملوا به في الأمور، وهو القصد فيها دون التفريط ودون الغُلو[8]، فالسداد هو الاستقامة، وهو القصد في الأمر والعدل فيه[9].
قال ابن رجب: "السداد: هو حقيقةُ الاستقامة، وهو الإصابة في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد، كالذي يرمي إلى غرضٍ، فيُصيبه"[10].
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا)) أمرٌ بالسداد؛ أي: ابْلُغوا بأعمالكم درجةَ السداد والصلاح، والأمر يفيد الوجوب[11] ما لم يأتِ صارف، وما دام السدادُ في الأمور واجبًا، فهذا يفيد وجوبَ القصد والاعتدال فيما طلبه الشرعُ منَّا؛ أي: وجوب الاستقامة؛ كما قال - تعالى -: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [هود: 112]، والمعنى: فاستقمْ كما أمرك ربُّك في كتابه، فاعتقِد الحقَّ، واعمل الصالح، واترُك الباطل، ولا تعمل الطالح أنت ومَن معك من المؤمنين؛ ليكونَ جزاؤُكم خيرَ جزاء يوم الحساب والجزاء[12].
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا)) أمرٌ بتصحيح العقيدة، ونهي عن الشرك؛ لأن السدادَ ليس في القول والفعل فحسب، بل أيضًا في الاعتقاد، والأمر باستقامة المعتقد يستلزم النهي عن الشرك، وفي النهي عن الشرك قال - تعالى -: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [النساء: 36]. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا)) النهي عن التقصير في الطاعات؛ لأن الأمر بالسداد أمرٌ بفعل الطاعة كما ينبغي، والتقصير يخالف ذلك. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا)): نهي عن التشدد في الدين؛ لأن التشدد غلوٌّ في الدين، والشرع أمرنا بالقصد، ونهانا عن المغالاة؛ فالغلو خروج عن المقصود، وخروج عن الاعتدال. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا)): أمرٌ بالإخلاص في العمل، ونهي عن الرياء؛ لأن العمل كي يكون سديدًا صوابًا، لا بد من إخلاص النية؛ بأن يقصِد المرءُ بعبادته التقربَ إلى الله - سبحانه وتعالى - والتوصل إلى دار كرامته؛ كما قال - تعالى -: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ﴾ [البينة: 5]؛ أي: وما أُمِروا في سائر الشرائع إلا ليعبدوا اللهَ وحده، قاصدين بعبادتهم وجهَه، مائلين عن الشرك إلى الإيمان. والأمر بإخلاص النية نهيٌ عن الرياء؛ لأن الأمرَ بالشيء نهيٌ عن ضده[13]. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سددوا)): أمرٌ بموافقة الشرع، ونهي عن البدعة؛ لأن العمل كي يكونَ سديدًا صوابًا لا بد من موافقةِ ما شرعه الله، وما شرعه الله هو ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن أتى بما لم يكن عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فعمله ليس بصوابٍ، بل عمله مردودٌ، بل يأْثَم على فعله، وفي حُرمة الإتيان بفعل ليس على هَدْي النبي - صلى الله عليه وسلم - قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث في أمرِنا ما ليس منه، فهو ردٌّ))[14]؛ أي: الأمرُ الديني المُحدث مردودٌ باطل. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بسنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين المَهديين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومُحدثاتِ الأمور؛ فإن كلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))[15]؛ أي: الأمر الديني المحدَث بدعة وضلالة يقع الإثم على فعْله. والعمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا، لم يُقبَل، وإن كان صوابًا ولم يكنْ خالصًا، لم يُقبَل؛ حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكونَ لله، والصواب أن يكون على السنَّة. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا)): دليلٌ على وسطية الدين واعتداله، فلا يأمر الدينُ إلا بالقصد والاعتدال، وإعطاء كلِّ ذي حق حقَّه؛ لأن السداد هو التوسط والاعتدال في العمل بلا إفراط أو تفريطٍ، وألا يجورَ شيء على شيء، وعندما قال سلمان الفارسي - رضي الله عنه - لأبي الدرداء: إن لربِّك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا؛ فأعطِ كل ذي حق حقَّه، فأتى أبو الدرداء النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((صدَق سلمانُ))[16]. ومن تتبَّع الشريعةَ في أحكامها، وجدها تنحو المنحى الوسط في الأمور، وتقصِد الاعتدالَ في كل ما يقوم به المكلَّفون من أعمال؛ فالخروج عن ذلك إلى التشديد أو التخفيف المُفرِط، خروجٌ عن مقصد الشريعة، وهو أمرٌ مذموم لا ممدوح. قال ابن تيمية: "المشروعُ المأمور به الذي يحبه اللهُ ورسوله - صلى الله عليه وسلم - هو الاقتصادُ في العبادة"[17]. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سددوا)): دليلٌ على نفي الجَبْر؛ فلولا قدرةُ الإنسان على السداد، لَمَا كان لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابةَ بالسداد معنًى؛ فالقول بالجبر يُبطِل أمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابةَ بالسداد. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قاربوا)) من المقاربة، وهي القصد الذي لا غلوَّ فيه ولا تقصير، وهو القريب من الطاعة، الذي لا مَشقَّة فيه[18]، وقارَب في الأمر: اقتصَد وترَك المبالغةَ، ترَك الغلوَّ وقصد السداد والصِّدق[19]. وقال ابن الجوزي: "المقاربةُ: القصد في الأمور من غير غلوٍّ ولا تقصيرٍ"[20]. قال ابن رجب: "والمقاربة: أن يُصيب ما قرُب من الغرض إذا لم يُصِب الغرضَ نفسه، ولكن بشرط أن يكون مُصمِّمًا على قصد السداد وإصابة الغرض، فتكون مقاربته عن غير عمدٍ، ويدل عليه قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الحكم بن حزن الكُلَفي: ((أيها الناس، إنكم لن تَعملوا - أو لن تُطيقوا - كلَّ ما أمَرتكم، ولكن سدِّدوا وأبشروا))[21]. والمعنى: اقصدوا التسديد والإصابة والاستقامة؛ فإنهم لو سدَّدوا في العمل كله، لكانوا قد فعلوا ما أُمِروا به كله"[22]. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((قاربوا)) بعد قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سددوا)): إشارةٌ إلى سماحة الشريعة ويُسْر الشريعة، وأنها بُنِيت على القصد والاعتدال، ورُوعِي فيها اجتنابُ التشديد أو التخفيف الذي يؤدي إلى التحلُّلِ من أحكام الإسلام؛ فالمطلوب: الاستقامة، وهي السداد، وفعل المطلوب على وجه الكمال، فإن لم يستطعِ الشخص الأخذَ بالأكمل، فليعمل بما يقرب منه، والمقاربة دون السداد؛ أي: يُكتفى منك في الشرع بالمقاربةِ رفعًا للحرَج، فالعبدُ يتَّقي اللهَ قدر استطاعته؛ كما قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16]. واكتفاءُ الشرع بالمقاربة دون السداد عند عدم القدرة على فعل السداد - دليلٌ على أن الدِّين يُسرٌ لا عُسر فيه ولا حرَج، وليس في أحكامه ما يجاوز قُوى الإنسان، أو ما يُعنته، وقد جاءت الكثيرُ من النصوص التي تحمل هذا المعنى؛ كقوله - تعالى -: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، وقال - تعالى -: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]. قال النووي: "معنى ((سدِّدوا وقاربوا)): اطلبوا السدادَ، واعملوا به، وإن عجَزتم عنه، فقاربوه؛ أي: اقربوا منه، والسداد: الصوابُ، وهو بين الإفراط والتفريط، فلا تَغلوا ولا تُقصِّروا"[23]. واكتفاءُ الشرع بالمقاربة دون السداد عند عدم القدرة على فعْل السداد - دليلٌ على أن الشرع لا يريد من العبد إلا ما يُطيق ويستطيع ويتحمَّل، ولا يريد الشرعُ من العبد ما يشقُّ عليه مشقةً غير معتادة لا يستطيع تحمُّلها؛ إذ الشرع لا يقصِد بالتكليف المشقةَ، بل يقصد ما في التكليف من المصالح التي تعود على المكلَّف، فإذا اختلَف عليك طريقان للعبادة، فإن أيسرَهما أقربُهما إلى الله، وكون الإنسان يذهب إلى الأصعب مع إمكان الأسهل، هذا خلافُ الأفضل؛ فالأفضل اتِّباع الأسهل في كل شيء. قال ابن حجر: "والحاصل أنه أمَرَ بالجد في العبادة، والإبلاغ بها إلى حد النهاية، لكن بقيد ما لا تقع معه المشقةُ المُفضية إلى السآمة والملال"[24]. قال الشاطبي: "المشقة ليس للمكلَّف أن يقصِدَها في التكليف نظرًا إلى عِظَم أجرها، وله أن يقصِد العمل الذي يعظُم أجرُه؛ لعظم مشقَّته من حيث هو عمل"[25]، وقال أيضًا: "فإذا كان قصدُ المكلف إيقاعَ المشقة، فقد خالف قصد الشارع؛ من حيث إن الشارعَ لا يقصِد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطلٌ؛ فالقصدُ إلى المشقة باطلٌ، فهو إذًا من قبيل ما يُنهَى عنه، وما يُنهى عنه لا ثوابَ فيه"[26]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "ومما ينبغي أن يُعرَف أن الله ليس رضاه أو محبتُه في مجرد عذاب النَّفس وحملِها على المشاقِّ، حتى يكون العملُ كلما كان أشقَّ كان أفضل، كما يحسب كثيرٌ من الجُهال أن الأجرَ على قدر المشقَّة في كل شيء، لا، ولكن الأجر على قدر منفعةِ العمل، ومصلحته، وفائدته، وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله، فأيُّ العملين كان أحسن، وصاحبه أطوع وأتبع - كان أفضلَ؛ فإن الأعمالَ لا تتفاضل بالكثرة، وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل"[27]. ومن قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا وقاربوا))، نعلم أن الذين يكلِّفون أنفسهم بعبادات لا يستطيعون القيامَ بها، أنهم يخالفون أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويخالفون هَدْي النبي - صلى الله عليه وسلم - ويخالفون مقصودَ الشرع، فلم يسدِّدوا ولم يقاربوا، بل شدَّدوا على أنفسهم. قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا وقاربوا)): يفيد أن المحبوبَ من العبادة ما كان أدومَ؛ فالشرع أمَرَ بالاقتصاد في العبادة، وألا يتحمَّل الإنسانُ من العبادة ما لا يُطيقه، فتكون العبادةُ سهلةً ميسورة، وهذا أدعى لدوامها، أما فِعل ما لا يطاق، وإجهادُ النفس في العبادة جهدًا غير معتاد - فهذا يُفضي إلى الملال، وزوالِ الشعور بالمتعة أثناء أداء العبادة، فيؤدي ذلك مع الوقت إلى ترْك العبادة. قال ابن حزم في كلامه على مواضع من البخاري: "معنى الأمر بالسداد والمقاربة أنه - صلى الله عليه وسلم - أشار بذلك إلى أنه بُعِث ميسِّرًا مسهِّلاً، فأمر أمَّته بأن يَقتصدوا في الأمور؛ لأن ذلك يقتضي الاستدامة"[28]. قال أبو عمر: "قوله في هذا الحديث: ((سدِّدوا وقاربوا))، يفسِّر قوله: ((استقيموا ولن تُحصوا))، يقول: سدِّدوا وقاربوا، فلن تبلغوا حقيقةَ البِر، ولن تُطيقوا الإحاطةَ في الأعمال، ولكن قاربوا؛ فإنكم إن قاربتُم ورفَقتم، كان أجدرَ أن تدوموا على عملكم"[29]. قال ابن حجر: "((وقاربوا))؛ أي: لا تُفْرِطوا، فتُجهدوا أنفسَكم في العبادة؛ لئلا يُفضي بكم ذلك إلى الملال، فتتركوا العملَ، فتُفَرِّطوا"[30].
[1]رواه البخاري في صحيحه 8/98، حديث رقم 6467، باب القصد والمداومة على العمل. [2]رواه البخاري في صحيحه 8/98، حديث رقم 6464، باب القصد والمداومة على العمل. [3]رواه البخاري في صحيحه 8/98، حديث رقم 6463، باب القصد والمداومة على العمل، ورواه مسلم في صحيحه 4/2169، حديث رقم 2816، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله. [4] المحصول؛ للرازي 3/125، والفروق؛ للقرافي 1/114، والأشباه والنظائر؛ للسبكي 2/134، و نهاية السول شرح منهاج الوصول؛ للإسنوي ص 219. [5] معجم ديوان الأدب 3/64. [6] الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي ص 197. [7] شرح صحيح البخاري؛ لابن رجب 1/151. [8] انظر: مشارق الأنوار على صحاح الآثار 2/210. [9] النهاية في غريب الحديث 2/ 352. [10] جامع العلوم والحِكم ص 512. [11] إرشاد الفحول؛ للشوكاني 1/250، قواطع الأدلة في الأصول؛ للسمعاني 1/81. [12] أيسر التفاسير 2/584. [13] الفصول في الأصول؛ للجصاص 2/164، والعدة في أصول الفقه؛ للقاضي أبي يعلى 2/368، والتبصرة في أصول الفقه؛ للشيرازي ص 89. [14] رواه البخاري ومسلم في صحيحهما. [15] سنن أبي داود 2/610 حديث رقم 4607، قال الألباني: صحيح. [16] رواه البخاري في صحيحه 3/38 حديث رقم 1968، باب من أقسم على أخيه ليُفطر في التطوع، ولم يَرَ عليه قضاءً إذا كان أوفقَ له. [17] مجموع الفتاوى؛ لابن تيمية 25/272. [18] تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم؛ لابن فتوح الأزدي ص 313. [19] معجم اللغة العربية المعاصرة؛ للدكتور أحمد مختار 3/1791. [20] غريب الحديث؛ لابن الجوزي 2/228. [21] رواه أبو داود في سننه 1/287 حديث رقم 1096، وقال الألباني: حسن، ورواه أحمد في مسنده 29/399 حديث رقم 17856، ولفظه: ((يا أيها الناس، إنكم لن تفعلوا، ولن تُطيقوا كلَّ ما أُمِرتم به، ولكن سدِّدوا وأبشِروا))، قال شعيب الأرناؤوط: إسناده قوي؛ شهاب بن خراش وشعيب بن رزيق صدوقان لا بأس بهما، والحَكَم بن موسى ثقةٌ. [22] جامع العلوم والحكم؛ لابن رجب ص 511. [23] شرح صحيح مسلم؛ للنووي 17/162. [24] فتح الباري؛ لابن حجر 11/299. [25] الموافقات؛ للشاطبي 2/222. [26] الموافقات؛ للشاطبي 2/222. [27] مجموع الفتاوى؛ لابن تيمية 25/281 - 282. [28] فتح الباري؛ لابن حجر 11/300. [29] التمهيد؛ لابن عبدالبر 24/320. [30] فتح الباري؛ لابن حجر 11/297.
تابع : الفوائد والدرر من حديث: "لن يدخل أحدكم عمله الجنة"
تابع : الفوائد والدرر من حديث: "لن يدخل أحدكم عمله الجنة"
تابع : الفوائد والدرر من حديث: "لن يدخل أحدكم عمله الجنة"
قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا وقاربوا))، يفيد أن ما لا يُدرَك كلُّه لا يُترَك جُلُّه، فإذا تعذَّر حصول الشيء كاملاً، وأمكن الإنسانَ فعلُ بعضه، فإنه يفعل المقدور عليه، ولا يترك الكلَّ بحجة عجزه عن بعضه؛ لأن إيجاد الشيء في بعض أفراده - مع الإمكان - أَولى من إعدامه كليَّةً، وهذا من يُسْر الشريعة، وبيان ذلك أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا وقاربوا))، بيَّن أن المطلوبَ الاستقامةُ، وهي السداد، وفعل المطلوب على وجه الكمال، فإن لم يستطعِ الشخصُ الأخذَ بالأكمل، فليَعمل بما يَقرُب منه.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قاربوا))، دليلٌ على نفي الجبر، فلولا القدرةُ على المقاربة، لَمَا كان لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابةَ بالمقاربة معنًى؛ فالقول بالجبر يُبْطل أمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمقاربة.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سددوا وقاربوا))، يجعلُ الإنسانَ يَحمَد اللهَ على رحمته به، فلم يكلِّفه إلا بما يُطيق وبما في وُسْعه.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا وقاربوا))، يفيد أن الداعيةَ عليه أن ييسِّر على الناس ما يسَّره الله، ويوسِّع لهم ما وسَّعه الله، ولا يضيِّق على الناس ما وسَّعه الله، ولا يعسِّر ما يسَّره الله؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا"[31].
ومن قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا وقاربوا))، نعلم أن المقصودَ من التشريع: استقامةُ النفس، والمحافظة على هذه الاستقامة من الانحراف والاعوجاج قدر الاستطاعة، وليس المقصود من التشريع استقصاءَ وإحصاء العبادات والطاعات، ولو كان المقصود من التشريع استقصاءَ وإحصاء العبادات والطاعات، لَمَا كان للأمر بالمقاربة عند عدم القدرة على فعل السداد معنًى.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا وقاربوا))، فيه مراعاةُ أحوال الناس وقدراتهم وطبائعهم، والاهتمام بالجانب الواقعي الإيجابي؛ فالنفس البشرية لا تخلو من نقص وقصورٍ، وتَعجِز النفسُ عن الوصول للكمال في الأعمال في كثيرٍ من الأحيان، فلا يأمر الشرع إلا بما يُستطاع، فأمر الشرع بالسداد، ومن لم يستطع الوصول للكمال، فعليه بالمقاربة، فكأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: اعملوا بعمل الطاعة ما أمكنكم ذلك؛ حتى تبلغوا كمالَ الطاعة وتمامها، فإن لم تبلغوا كمالَ الطاعة، فلا أقل من أن تَقتربوا من الكمال، فإذا أردت أن تطاع، فاطلُب ما يُستطاع، وأما إن طلَبت ما لا يستطاع، فأنت تُضيِّع وقتك؛ لأنك تطلب مستحيلاً، وهذا من الحكمة في الدعوة.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أبشِروا)) من البِشارة، وهي الإخبارُ بما يُسَرُّ به المُخبَرُ به إذا كان سابقًا لكل خبرٍ سواه، وبنى العلماء عليه مسألةً فقهية بأن الإنسان إذا قال لعبيده: أيكم بشَّرني بقدوم زيد، فهو حرٌّ، فبشَّروه فُرادى، عُتِق أوَّلُهم؛ لأنه هو الذي سرَّه بخبره سابقًا، ولو قال مكان (بشَّرني): "أخبرني"، عُتِقوا جميعًا[32].
واشتقاق البِشارة إما من البِشْر، وهو السرور، فيختص بالخبر الذي يسُرُّ، أو من البَشَرة، وهو ظاهر الجِلد؛ لتأثيره في تغيير بَشَرة الوجه، فيكون فيما يسُرُّ ويغُمُّ؛ لأن السرورَ كما يوجب تغيير البشرة، فكذلك الحزنُ يوجبه، لكنه عند الإطلاق يختص في العُرف بما يسُرُّ، وإن أريد خلافه، قُيِّد؛ كما في قوله - تعالى -: ﴿ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الانشقاق: 24].
قال نجم الدين النسفي في البشارة: "الخبر الذي يؤثِّر في بشرة المخبَر، وهي ظاهرُ جلده بالسرور، وذلك يحصل بإخبار الأول دون الثاني، وقد يقع البشارة على الخبر المحزِن؛ لِما أنه يؤثر في البشرة أيضًا بالحزن؛ قال الله تعالى: ﴿ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الانشقاق: 24]"[33].
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أبشروا))، يعني: إذا سدَّدتم أصبتُم، أو قاربتُم الصواب واقتصدتُم في العبادة بلا إفراط أو تفريطٍ، فأبشروا بالثواب الجزيل والخير؛ لأن البِشارة المطلَقة لا تكون إلا بالخير.
وهنا فائدة: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر ما هي البِشارة، بل أطلَقها؛ لتتناول البشارةَ بكل خيرٍ عميمٍ، وفضل عظيمٍ، وعطاءٍ جزيل في الدنيا والآخرة. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أبشروا)) بعد قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا وقاربوا))، فيه دلالة على أنَّ التمسُّك بالشرع وامتثال هدْيه، يعودُ بالنفع على العبد في الدنيا والآخرة. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أبشروا)) بعد قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سددوا وقاربوا))، فيه تحفيزٌ على الاستقامة والطاعة والتزام الشرع، وفيه عون لهم على الاستقامة والطاعة والتزام الشرع. فذِكرُ الجزاء الحسن على فعْل العمل، يدفع الإنسانَ للعمل، وتزيد رغبتُه في عمله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - رغَّب الناس في الاستقامة من خلال البِشارة بالخير المترتِّب على الاستقامة. والنبي - صلى الله عليه وسلم - عندما أمر بالاستقامة والمقاربة، ذكر ما يُشوِّق إلى ذلك من خير وفضلٍ في الدنيا والآخرة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أبشروا))، وفي هذا مراعاة للنفس البشرية التي جُبِلت على محبة ما فيه نفعُها ومصلحتها والإقبال عليه، وكُرْه ما يضرُّها ويؤذيها ويُفسِد عليها أمرَها، والنفور منه، وهذا من الحكمة في الدعوة.
ومما نلاحِظُه هنا أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حثَّ الصحابةَ بالترغيب ولم يُتبعه بالترهيب؛ لعلمه - صلى الله عليه وسلم - باستعداد الصحابة للإقبال على الدعوة والانقياد للهَدي النبوي، وفي هذا فائدة أن عند الدعوة والنصح إذا كان الإنسان أشدَّ استجابةً لدواعي المصلحة، ومستعدًّا للإقبال على الدعوة والانقياد للحق - سوف ينفعه الترغيبُ؛ فرغِّبه تثبيتًا له على الحق، وتحفيزًا له ليلزمَ الحق، وإذا كان الإنسانُ أشدَّ انسياقًا وراء الهوى والشهوات، فلن يُردَع إلا بالترهيب؛ فرهِّبْه؛ لأنه أحرى بأن يوقظَه من غفلته، ويُعيده إلى الجادة إن لم يكنْ خُتِم على قلبه بعدُ.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أبشروا)) بعد قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا وقاربوا))، فيه ردٌّ على الجبرية الذين يدَّعون عدم فائدة العمل، فلولا فائدةُ العمل الصالح والتزام الشرع، لَمَا كان لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أبشروا)) بعد قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا وقاربوا)) معنًى.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فإنه لا يدخل أحدًا الجنةَ عملُه))، الفاء هنا تسمى الفاء الفصيحة، وهي تدل على محذوفٍ قبلها، هو سببٌ لِما بعدها، وقد سُمِّيت فصيحةً؛ لإفصاحها عما قبلها، والمعنى: وتبشيركم بالخير لا تظنُّوا أنه عِوضٌ عما عمِلتم من الطاعة والعمل الصالح؛ فإنه لا يُدخِل أحدًا الجنةَ عملُه، وهذا ردٌّ على المعتزلة القائلين: إن العبدَ يستحق دخول الجنة على ربِّه بعمله.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فإنه لا يُدخل أحدًا الجنةَ عملُه))، ليس فيه نفي فائدةِ العمل الصالح كما توهَّم البعض، ولكن فيه أن العملَ الصالح لا يوجب دخولَ الجنة لذاته؛ ردًّا على المعتزلة القائلين: إن العملَ الصالح يوجب دخولَ الجنة لذاته، وصاحب العمل الصالح يستحق أن يُدخلَه اللهُ الجنةَ.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فإنه لا يُدخِل أحدًا الجنةَ عملُه))، ليس فيه نفي أن يكون العملُ سببًا لدخول الجنة، ولكن يفيد عدم الاعتماد والاتِّكال على العمل في دخول الجنة، ويفيد أن مجردَ السبب لا يوجب حصولَ المسبَّب.
وكون العمل الصالح لا يُدخِل الجنةَ، فهذا لا يستلزم ألا يكونَ العملُ الصالح سببًا لدخول الجنة، كما أن الوطءَ لا يستلزم الإنجاب، وإن كان الوطءُ سببًا في الإنجاب، والتداوي لا يستلزم الشفاء، وإن كان التداوي سببًا في الشفاء، والمطر لا يستلزم الإنبات، وإن كان المطرُ سببًا في الإنبات، والمذاكرة لا تستلزم النجاحَ، وإن كانت المذاكرة سببًا في النجاح.
وكم من رجلٍ وطِئ زوجتَه ولم يحدُث إنجاب، وكم من مريض أخذ الدواء ولم يحدثِ الشفاءُ، وكم من مطر نزَل على أرضٍ ولم يحدث الإنباتُ، وكم من طالبٍ ذاكَرَ ولم ينجح؛ فمجردُ الأسباب لا يوجب حصول المسبَّب، بل لا بد من تمامِ الشروط وزوال الموانع، وكلُّ ذلك بقضاءِ الله وقدره.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: "ومجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبَّب؛ فإن المطر إذا نزل وبُذِر الحب، لم يكن ذلك كافيًا في حصول النبات، بل لا بد من ريحٍ مُربية بإذن الله، ولا بدَّ من صرْف الانتفاءِ عنه؛ فلا بد من تمام الشروط وزوال الموانع، وكلُّ ذلك بقضاء الله وقدره، وكذلك الولد لا يولد بمجرد إنزالِ الماء في الفرج، بل كم مَن أنزل ولم يولَد له؛ بل لا بد من أن اللهَ شاء خَلْقه، فتَحْبَل المرأةُ وتُربيه في الرحم، وسائر ما يتم به خَلقه من الشروط وزوال الموانع. وكذلك أمر الآخرة ليس بمجردِ العمل ينال الإنسانُ السعادةَ، بل هي سبب؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنه لن يَدخُل أحدُكم الجنةَ بعمله))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمَّدَني اللهُ برحمةٍ منه وفضلٍ)).
وقد قال: ﴿ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 32]، فهذه باءُ السبب؛ أي: بسبب أعمالِكم، والذي نفاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - باءَ المقابلة؛ كما يقال: اشتريتُ هذا بهذا؛ أي: ليس العملُ عوضًا وثمنًا كافيًا في دخول الجنة، بل لا بد من عفو الله"[34].
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فإنه لا يُدخِل أحدًا الجنةَ عملُه))، يفيد نفْي الجبر؛ فقد أضاف النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - العملَ للإنسان، والإضافة تقتضي التخصيصَ؛ فالعمل خاص بالإنسان، من فعله لا من فعل غيره، ولو لم يكن العملُ من فعل الإنسان، لَمَا كان لإضافة النبي - صلى الله عليه وسلم - العملَ للإنسان معنًى.
ولو لم يقُل لنا النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يُدخِل أحدًا الجنةَ عملُه))، لظننَّا أن أعمالَنا تُبلغنا المنزل؛ ففي هذه الجملة الوجيزة قطعُ الغرور بالعمل، وما من عمل صالحٍ إلا ويشوبُه شيءٌ من التقصير وعدم فعْله على الوجه الأكمل، خاصة في الصلاة وقراءة القرآن والأذكار، تجد انشغال البال؛ لذلك أُمرنا عقب الطاعة بالاستغفار؛ جَبْرًا لِما حدث من تقصير في فعْل الطاعة كما ينبغي، ولو لم يكن في الاستغفار عقب عمل الطاعات إلا أن يكون سدًّا منيعًا من أن يصابَ المرءُ بالعُجب والغرور، لكفى.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا أنا))، دليلٌ على عدم عُجْب النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه وعمله، رغم رفعة مقامه، وصدق قوله - تعالى -: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]؛ أي: لقد كان لكم في أقوال رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وأحواله قدوةٌ حسنة تتأسَّون بها، فالزموا سنَّته؛ فإنما يسلكُها ويتأسَّى بها مَن كان يرجو الله واليوم الآخر، وأكثَرَ من ذِكر الله واستغفاره، وشُكرِه في كل حال.
قال الكرماني: "إذا كان كلُّ الناس لا يدخلون الجنة إلا برحمة الله، فوجْه تخصيص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذِّكر، هو أنه إذا كان مقطوعًا له بأنه يدخل الجنة، ولا يدخلها إلا برحمة الله؛ فغيرُه يكون في ذلك بطريق الأَولى"[35].
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إلا أن يتغمَّدني الله))؛ أي: إلا أن يسترَني الله برحمته، يقال: تغمَّده الله برحمته: إذا سترَه بها، ويقال: تغمَّدت فلانًا؛ أي: سترتُ ما كان منه وغطَّيته، ومنه غَمْد السيف؛ لأنك إذا غمدتَه، فقد سترتَه في غِلافه[36].
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إلا أن يتغمدَني اللهُ بمغفرة ورحمة))، يفيد تركَ الاعتماد على الأعمال، والرُّكونِ إليها، والطمع في عفوِ ورحمة ذي الجلال والإكرام.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إلا أن يتغمدَني اللهُ بمغفرة ورحمة))، يفيدُ عدم الاغترار بالأعمال، فمهما بلَغت الأعمالُ من العِظَم، لا بد من فضل الله ورحمتِه لتدخلَ بسببها الجنة.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إلا أن يتغمدَني اللهُ بمغفرة ورحمة))، فيه أن العاملَ لا ينبغي أن يتَّكِل على عمله في طلب النجاة ونَيْل الدرجات؛ لأنه إنما عمِل بتوفيق الله، وإنما ترَك المعصيةَ بعصمة الله، فكلُّ ذلك بفضله ورحمته[37].
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إلا أن يتغمدَني اللهُ بمغفرة ورحمة))، فيه ردٌّ على المعتزلة القائلين بأن الجنة عِوَضٌ عن العمل في الدنيا، كما أن الأجر عِوَضٌ عن عمل الأجير، وهذا سوءُ أدبٍ مع الله، واستدلوا بقوله - تعالى -: ﴿ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الزخرف: 72]، والآية دليلٌ عليهم لا لهم؛ فكونُ الجنة ميراثًا؛ أي: أنها ليست بعِوَض عن شيء؛ كالميراثِ من الميت ليس بعِوَضٍ عن شيء، بل هو صلةٌ خالصةٌ حصَلت بلا تعبٍ.
قال زين الدين العراقي: "فيه حجَّة لمذهب أهل السنَّة أن الله - تعالى - لا يجب عليه شيءٌ من الأشياء، لا ثواب ولا غيره، بل العالَم ملكُه، والدنيا والآخرة في سلطانه، يفعل فيهما ما يشاء، فلو عذَّب المطيعين والصالحين أجمعين وأدخلهم النار، كان عدلاً منه، وإذا أكرَمهم ونعَّمهم وأدخلهم الجنة، فهو بفضلٍ منه، ولو نعَّم الكافرين وأدخلهم الجنة، كان له ذلك، لكنه أخبر - وخبرُه صِدقٌ - أنه لا يفعل هذا، بل يغفر للمؤمنين ويُدخلهم الجنة برحمتِه، ويعذب الكافرين ويدخلهم النار عدلاً منه؛ فمن نجا ودخل الجنة، فليس بعمله؛ لأنه لا يستحق على الله - تعالى - بعمله شيئًا؛ وإنما هو برحمةِ الله وفضلِه، وذهبت المعتزلةُ إلى إيجاب ثواب الأعمال على الله - تعالى - وحكَّموا العقل، وأوجبوا مراعاةَ الأصلح"[38].
وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخطأ المعتزلةُ، فلن يَدخُلَ أحدٌ الجنةَ بعمله؛ ففي القرآنِ ما يدل على أن دخولَ الجنة بفضل الله، لا عوضًا عن العمل، منها قوله - تعالى -: ﴿ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ [الروم: 45]، ودل قوله - تعالى -: ﴿ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ على أنه لن يَدخُل أحدٌ الجنةَ بعمله؛ لقلَّتِه وحقارته، ولكن بمحضِ فضل الله تعالى؛ إذًا وعدُ الله للمؤمنين بالجنة تفضُّلٌ وإنعام، لا كما يقول الجهَّال.
وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخطأ المعتزلة، فلن يدخُل أحدٌ الجنةَ بعمله؛ لأن عمل الإنسان مهما بلغ، فلن يساوي شيئًا من نِعَم الله عليه في الدنيا، فضلاً عن الآخرة؛ إذًا وعْدُ الله للمؤمنين بالجنة تفضُّلٌ وإنعام، لا كما يقول الجهَّال.
وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخطأ المعتزلةُ، فلن يدخُل أحدٌ الجنةَ بعمله؛ فعمل العبد وخدمته لسيده واجبةٌ عليه، بحكم كونِه عبدَه ومملوكَه، ولو طلب من سيده الأجرةَ على عمله وخدمتِه، لعدَّه الناسُ أحمقَ، ونحن عبيدٌ لله، وطاعتنا لله تعود بالنفع علينا لا على الله، وهو الذي أعطانا القدرةَ على طاعته، ويسَّر لنا طاعته، ووفَّقنا لطاعتِه، فكيف ننتظر منه أجرةً؟! إذًا وعْدُ الله للمؤمنين بالجنة تفضُّل وإنعام، لا كما يقول الجهَّال.
وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخطأ المعتزلةُ، فلن يدخُل أحدٌ الجنةَ بعمله؛ فإنك إذا وفِّقت للعمل الصالح، فهذا نعمةٌ قد أضلَّ اللهُ - سبحانه وتعالى - عنها أُمَمًا، وما دامت نعمةً، فهي تحتاجُ إلى شُكر، وإذا شكرت فهي نعمة تحتاج إلى شُكر آخرَ، فكيف تريد أخْذ أجرةٍ من شيء لا تستطيعُ أن توفِّي شُكرَه؟! إذًا وعْد الله للمؤمنين بالجنة تفضُّل وإنعام، لا كما يقول الجهَّال.
وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخطأ المعتزلةُ، فلن يدخُل أحدٌ الجنةَ بعمله؛ لأن نعمةَ الجنة نعمةٌ مستمرَّة دائمة، وعملك في الدنيا محدودٌ منقطعٌ، أعمالُ الطاعات كانت في زمن يسيرٍ، والثواب لا يَنفَد؛ فالإنعام الذي لا ينفَد (الجنة)، في جزاء ما ينفد (عمَل الإنسانِ خلال عمره في الدنيا)، بالفضل لا بالأعمالِ، لا كما يقول الجهال.
قال ابن بطَّال: "فإن قال قائل: فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لن يُدخِل أحدَكم عملُه الجنَّة)) يعارض قوله - تعالى -: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الزخرف: 72]، قيل: ليس كما توهَّمت، ومعنى الحديث غيرُ معنى الآية، أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث أنه لا يستحقُّ أحدٌ دخولَ الجنة بعمله، وإنما يدخلها العبادُ برحمة الله، وأخبر الله - تعالى - في الآية أن الجنةَ تُنال المنازلُ فيها بالأعمال، ومعلوم أن درجاتِ العباد فيها متباينةٌ على قدر تبايُن أعمالهم؛ فمعنى الآية في ارتفاع الدرجات وانخفاضها والنعيم فيها، ومعنى الحديث في الدخول في الجنة والخلود فيها؛ فلا تعارض بين شيءٍ من ذلك"[39].
قال ابن رجب: "ومما يتحقَّق به معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لن يَدخُل أحدٌ الجنةَ بعمله))، أو ((لن ينجِّيَ أحدًا عملُه)) - أن مضاعفةَ الحسنات إنما هي من فضلِ الله - عز وجل - وإحسانِه؛ حيث جازى بالحسنة عشرًا، ثم ضاعَفها إلى سبعمائة ضِعفٍ إلى أضعاف كثيرة، فهذا كله فضلٌ منه - عز وجل - ولو جازى بالحسنة مثلَها كالسيئاتِ، لم تَقْوَ الحسناتُ على إحباط السيئات، فكان يهلك صاحب العمل لا محالة"[40].
وقال ابن أبي العز: "فإن الباء التي في النفي غيرُ الباء التي في الإثبات؛ فالمنفي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لن يَدخُل الجنةَ أحدٌ بعملِه)) باء العِوض، وهو أن يكونَ العملُ كالثمن لدخول الرجل إلى الجنة، كما زعمت المعتزلةُ أن العاملَ مستحقٌّ دخولَ الجنة على ربِّه بعمله! بل ذلك برحمةِ الله وفضله، والباء التي في قوله - تعالى -: ﴿ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 17] ونحوها - باءُ السبب؛ أي: بسبب عملكم، والله - تعالى - هو خالقُ الأسباب والمسببات، فرجع الكلُّ إلى محض فضل الله ورحمته"[41].
وقال النووي - رحمه الله -: "وفي ظاهر هذه الأحاديث دَلالةٌ لأهل الحق أنه لا يستحقُّ أحدٌ الثوابَ والجنة بطاعته، وأما قوله - تعالى -: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 32]، ﴿ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الزخرف: 72]، ونحوهما من الآيات الدالة على أن الأعمال يُدخَل بها الجنة، فلا يُعارِض هذه الأحاديثَ، بل معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، ثم التوفيق للأعمال، والهداية للإخلاص فيها، وقَبُولها - برحمة الله تعالى وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرَّد العمل، وهو مراد الأحاديث، ويصح أنه دخل بالأعمال؛ أي: بسببها، وهي من الرحمة، والله أعلم"[42].
وقال الرازي: "طعن بعضُهم فقال: هذه الآية تدل على أن العبدَ إنما يدخل الجنةَ بعمله، وقوله - عليه السلام -: ((لن يَدخُل أحدٌ الجنةَ بعمله، وإنما يدخلها برحمة الله تعالى)) وبينهما تناقض، وجواب ما ذكرنا: أن العملَ لا يوجب دخول الجنَّة لذَاتِه، وإنما يُوجِبهلأجل أن الله - تعالى - بفضله جعَله علامةً عليه، ومعرفةً له، وأيضًا لما كان الموفِّي للعمل الصالح هو اللهَ - تعالى - كان دخولُ الجنة في الحقيقة ليس إلا بفضل الله تعالى"[43].
وقال الشوكاني: "قال في الكشاف: بسبب أعمالكم، لا بالتفضُّل كما تقولُه المُبطِلة؛ انتهى. أقول: يا مسكينُ، هذا قاله رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فيما صحَّ عنه: ((سدِّدوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يدخُلَ أحدٌ الجنةَ بعمله))، قالوا: ولا أنت يا رسولَ الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمَّدَني الله برحمتِه))، والتصريحُ بسببٍ لا يستلزم نفيَ سببٍ آخر، ولولا التفضُّل من الله - سبحانه وتعالى - على العامل بإقداره على العمل، لم يكنْ عَمَلٌ أصلاً، فلو لم يكن التفضُّلُ إلا بهذا الإقدار، لكان القائلون به محقَّةً لا مُبطِلةً، وفي التنزيل: ﴿ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ ﴾ [النساء: 70]، وفيه: ﴿ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ ﴾ [النساء: 175]"[44].
وقال القنوجي في قوله - تعالى -: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آل عمران: 107]: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ ﴾ يعني: المؤمنين المُطيعين لله عز وجل، ﴿ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾؛ أي: فهم مستقرُّون في جنتِه ودار كرامته، عبر عن ذلك بالرحمة؛ إشارة إلى أن العمل لا يستقلُّ بدخول صاحبِه الجنة، بل لا بد من الرَّحمة، ومنه حديث: ((لن يدخُلَ أحدٌ الجنةَ بعمله))؛ وهو في الصحيح، ﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ جملةٌ استئنافية بيانيَّة، كأنه قيل: فما حالهم فيها؟"[45].
وقال ابن عثيمين: "قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لن يدخُل أحدٌ الجنةَ بعمله))؛ أي: من باب المقابلة؛ لأن اللهَ لو حاسَبَنا على وجه المناقشة، لكان فعلُنا للخيرات دَينًا علينا؛ لأنه هو الذي منَّ علينا بذلك، وحينئذٍ لو عذَّبنا في هذه الحال أو من هذا الوجه، لعذَّبنا وهو غيرُ ظالمٍ، هذا إذا صحَّ الحديث، وعلى ذلك فلا يكونُ في هذا إشكالٌ"[46].
وقال الشعراوي: "لقد سبَق الله - تعالى - المكلَّف بالإحسان، فخلَق له مقوِّمات حياتِه قبل أن يوجَد، ثم تركه يَرتع في نِعَمه دون أن يطالبَه بشيءٍ حتى بلغ سنَّ التكليف. فإذا ما كلَّفه اللهُ بعد سابقِ نِعَمه عليه، فعليه أن يُطيع هذا التكليف؛ جزاءَ ما سبَق من إحسان الله إليه الإحسان الأوَّل، وبذلك يكون الجزاءُ في الآخرةِ ليس على العمل، إنما محضُ فضلٍ من الله على عباده. إذًا حينما تؤدِّي ما كلَّفك ربُّك به، كأنك تجازي ربَّك بطاعتِه على سابق إحسانِه إليك، فكأنَّ الجنةَ ونعيمَها زيادةٌ وفضل من الله؛ فالله - سبحانه - له الفضلُ عليك في الأولى، وله الفضل عليك في الآخرة. ثم إن الحقَّ - تبارك وتعالى - حين يشرع لك ويكلِّفك، فشرعُه وتكليفه في ذاته فضلٌ، ألا ترى أن الحسنةَ عنده - سبحانه - بعَشْر أمثالها، وأنها تُضاعَف إلى أضعاف كثيرة؟ ونحن ملكه - سبحانه - يُعطينا أو لا يعطينا"[47].
وقال الشيخ أبو زهرة: "كونُ الجزاء بفضْل الله، فيه إشارةٌ إلى أن العملَ وحده لا يستوجب العطاءَ؛ إنما هو من فضل الله تعالى"[48].
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وإن أحبَّ الأعمال إلى الله، أدومُها وإن قلَّ))؛ يفيد أن مِن مقصود الشرع في الأعمال الصالحة دوامَ المكلَّف عليها؛ أي: إن القليلَ الدائم خيرٌ من الكثير المنقطع، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كان عمله دِيمةً[49]؛ أي: دائمًا غيرَ منقطع. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وإن أحبَّ الأعمال إلى الله أدومُها وإن قل))؛ يفيد كراهةَ ترْكِ ما اعتاد عليه الإنسانُ من خير؛ فعن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عبدالله، لا تكن مثلَ فلان؛ كان يقوم الليل، فترَك قيام الليل))[50].
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وإن أحبَّ الأعمال إلى الله أدومُها وإن قل))، دليلٌ على أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بُعِث ميسِّرًا مسهِّلاً، فأمر أمَّته بفعل العمل الصالح ولو كان قليلاً؛ لأن ذلك يقتضي الاستدامةَ، وقبل ذلك قال - صلى الله عليه وسلم - ((سدِّدوا وقاربوا))؛ أي: أمر بالاقتصاد في العبادة؛ لأن ذلك يقتضي الاستدامةَ أيضًا.
وإذا أراد المسلمُ ألا يصابَ بالفتور، وألا يترك العمل الصالح؛ فليَحرِص على العمل القليل الدائم المقتصَد؛ فهو خيرٌ من الكثير المنقطع الشاقِّ.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وإن أحبَّ الأعمال إلى الله أدومُها وإن قل))، فيه إثباتُ صفة المحبة لله، وهذا فيه ردٌّ على الأشاعرة؛ فهم لا يُثبتون من الصفات سوى سبع صفاتٍ، وهذه الصفاتُ عندهم هي: "العلم، القدرة، الحياة، السمع، البصر، الإرادة، الكلام".
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((واغدُوا ورُوحوا، وشيء من الدُّلْجة))، من الغُدُو والرَّوَاح والدَّلَج، والغُدو: نقيضُه الرَّواح، والغدو: هو السيرُ أول النهار، والرَّواح هو السير آخر النهار، والدَّلَج: السيرُ ليلاً، والحديث فيه الكلام عن العبادة، ولكن هنا تكلَّم عن السير والسفر؛ أي: شبَّه المتعبِّدين بالمسافرين.
وقد شبَّه المتعبِّدين بالمسافرين؛ لأن العابدَ كالمسافر إلى محل إقامته، وهو الجنة، وكأنه قال: لا تَستوعبوا الأوقاتَ كلَّها بالسير، بل اغتنموا أوقاتَ نشاطكم، وهو أول النهار وآخره وبعض الليل، وارحموا أنفسَكم فيما بينهما؛ لئلا ينقطعَ بكم[51].
والغَدْوة والرَّوحة والدُّلْجة، أحسنُ الأوقات للسفر وقطْع المسافات عند العرب؛ فكان المسافرُ يسيرُ في هذه الأوقات لنشاط الدوابِّ ببردِ الهواء، فيَقطع فيها من المسافة ما لا يقطعه في أطول منها من باقي الأوقات، فكما أن هذه الأوقاتَ طيبةٌ مباركة سَمحة لقطْع الأسفارِ الدنيوية، فإنها مبارَكة للمسارعة في فعْل الخيرات.
ومعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((واغدُوا ورُوحوا وشيء من الدلجة)): استعينوا على طاعة الله - عز وجل - بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم، بحيث تستلذُّون العبادةَ، ولا تَسأَمون، وتبلغون مقصودكم، كما أن المسافرَ الحاذق يسيرُ في هذه الأوقات ويستريح هو ودابتُه في غيرها، فيصل المقصود بغير تعبٍ[52].
وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما قال: ((واغدوا ورُوحوا وشيء من الدُّلجة))؛ أي: استعينوا في هذه الأوقات بطاعة ربِّكم في أول النهار وآخره، وفي الليل اجعلوا لكم نصيبًا من طاعة الله، فأول النهار ذهنُك صافٍ ونشط، وآخر النهار قد أنهيتَ العمل، وفي وقت الراحة والفراغ، وفي الليل سكونٌ وهدوء وأنت في راحة وفراغٍ، وكلما كان القلبُ غيرَ مشغول والذهن صافيًا، استطعتَ أن تُقبِلَ على العبادة في حبٍّ وفي صفاء، وهذا هو المطلوب؛ لذلك أمرنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ألا نصلِّيَ ونحن ندافع الأخبثين، وأمرنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ألا نصلِّيَ في حضرة الطعام؛ حتى نُقبِلَ على العبادة بذهن صافٍ.
وكأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عندما قال: ((واغدُوا ورُوحوا وشيء من الدلجة))، أرشدك إلى مزيدٍ من العبادة في أول نشاطِك وفي فراغك؛ كي تتلذَّذ بالعبادة وتُداومَ عليها، ومن تلذَّذ بالعبادة، فَقَد حلاوةَ المعصية؛ إذ التلذُّذُ بالعبادة والتلذُّذ بالمعصية لا يمكِنُ أن يجتمعا، ومن تلذَّذ بشيءٍ داوَم عليه، وكان في فعْله له راحة.
قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((واغدوا ورُوحوا وشيء من الدلجة))، فيه ردٌّ على من يُشدِّد على نفسه، ويريد أن يستمرَّ في العبادة طيلة النهار والليل، فكأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: لا تستوعبوا كلَّ النهار وكل الليل في العبادة، بل اعبدوا اللهَ في طرف الليلِ وفي طرف النهار؛ كي لا تَملُّوا وتَنقطعوا، وتشقُّوا على أنفسكم بالعبادة المستمرة؛ فإنما هي ساعة وساعة.
قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والقصدَ القصدَ تبلغوا))؛ أي: من لزِمَ الاستقامةَ والاقتصاد في العبادة، وُفِّق لطريق الجنة وطريق الفلاح، وبلغ الجنَّةَ والفلاح بلا تعبٍ بالغ ومشقةٍ غير معتادة، أما من شدَّد على نفسه، فيُخشى ألا يبلغَ الغايةَ، فينقطع في الطريق، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن اللهَ لم يجعل تعذيبَ النفوس سببًا للتقرب إليه، ولا لنَيْل ما عنده، ولا يَقصِد بتكليف عباده المشقةَ لهم، بل يريد - سبحانه - ما فيه مصلحةٌ لهم في العاجل والآجل، فإذا كان قصدُ العبد إيقاعَ المشقة على نفسه بعبادةٍ معيَّنة - مثلاً لو أن هناك عبادة يمكن أن تُدرَك بطريق اليُسر أو بطريق العُسر، فيختار طريق العسر رغبةً في الثواب - فقد خالف قَصْدَ الشرع.
اللهم ارزقنا السدادَ في القول والعمل، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحاتُ.
[31] رواه البخاري في صحيحه 1/25 حديث رقم 96، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخوَّلهم بالموعظة والعلم؛ كيلا يَنفروا، ورواه مسلم في صحيحه 3/1359، حديث رقم 1734، باب في الأمر بالتيسير وترْك التنفير. [32] معجم الفروق اللغوية؛ لأبي هلال العسكري ص 100. [33] طَلِبة الطَّلَبة؛ لنجم الدين النَّسفي ص 59. [34] مجموع الفتاوى؛ لابن تيمية 8/70. [35] فتح الباري؛ لابن حجر 11/297. [36] عمدة القاري شرح صحيح البخاري 23/63. [37] فتح الباري؛ لابن حجر 11/297. [38] طرح التثريب في شرح التقريب 8/240. [39] شرح صحيح البخاري؛ لابن بطال 10/180. [40] مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي 4/399. [41] شرح الطحاوية؛ لابن أبي العز 2/643. [42] شرح النووي على صحيح مسلم 17/ 116. [43] مفاتيح الغيب 14/244. [44] فتح القدير؛ للشوكاني 2/235. [45] فتح البيان في مقاصد القرآن 2/308. [46] شرح العقيدة السفارينية 1/345. [47] تفسير الشعراوي 19/1138. [48] زهرة التفاسير 4/1754. [49] رواه البخاري في صحيحه 8/98، حديث رقم 6466، ورواه مسلم في صحيحه 1/541، حديث رقم 783. [50] رواه البخاري في صحيحه 2/54، حديث رقم 1152. [51] إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري؛ للقسطلاني 9/266. [52] تطريز رياض الصالحين؛ لفيصل النجدي 1/116.