الفكر العربي المعاصر و محاولات دنيوة النصّ القرآني و الذات المعتنقة له

إنضم
05/08/2012
المشاركات
21
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
الإقامة
تونس
بسم الله الرحمن الرحيم






الفكر العربي المعاصر و محاولات دنيوة النصّ القرآني و الذات المعتنقة له:
قراءة في المرجعيّات و في المآلات.


إعداد : إلياس قويسم
أستاذ مساعد في مادة علوم القرآن و التفسير : المعهد العالي للحضارة الإسلاميّة
جامعة الزيتونة،تونس

ملخص البحث
شكل التعامل الحديث و المعاصر مع كتاب الله (الوحي)المنزّل على قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،انعطافة مفصليّة في مستوى النظر إلى النصّ القرآني و من خلاله إلى الذات المسلمة المعتنقة لمقولاته،على اعتبار أنّ العديد من المناهج التي تعاملت معه تنامت في حقل غير حقل الدراسات الإسلاميّة،بل ظهرت مع قراءة النصّ الأدبي من حيث هو منتج بشري /نسبيّ،من ثمّ يغدو التكييف الإجرائي و المعرفي صعب المنال أو فعلا متعسّفا يأتي بنتائج في تضاد تام مع مقصود النصّ إن فهمت هذه المناهج على أنّها عقائد أو أطروحات إيديولوجيّة لا على أنّها آليّات مساعدة و رافدة لفهم أعمق و أكثر تقدّما من السابق،و لكن ضمن حدود نسبيّة الفهم البشري و محدوديّته محدوديّة الآليّات الموظّفة في نطاق اشتغالها،نظرا إلى أنّ المحرّك ليس النصّ بقدر ماهي قبليّات القارئ و انتظاراته من دون اعتبار لوضع النصّ من حيث المصدريّة،لأنّ القراءة تغيّر المقروء حسب وضع القارئ.
لذلك يغدو البحث في مرجعيّات القراءة المعاصرة للنصّ القرآني له شرعيّته المنهجيّة و المعرفيّة،لأنّه يطمح إلى محاولة تشكيل صورة أكثر وضوحا عن جهد القراءة العربيّة الإسلاميّة للتحيّز داخل حقل الحداثة و ما بعدها.هذه القراءة التي ظلّت متعثّرة و تبحث عن ذاتها وسط هذا الكون من المناهج الوافدة علينا على السواء من الماضي و من الحاضر،فهل تستطيع القراءة العربيّة الإسلاميّة المعاصرة أن تتجاوز هذا المأزق حتى تنحت ذاتها وتقدّم لنا قراءة تحافظ في الآن نفسه على قدسيّة النصّ القرآني و على الحداثة؟،كذلك هل تستطيع هذه القراءات أن توائم بين قداسة النصّ و حيويّته المضمونيّة و المعنويّة و بين حضور فاعل للإنسان إلى جانب فاعليّة النصّ المرجعي و الحضور القويّ لمرسله/الله في كينونتنا و تاريخنا؟كيف السبيل إلى صياغة مناهج تساعد على إيقاع نقلة نوعيّة في مجال تعاملنا نصّنا المرجعي،من خلال حلقيّة الاستيعاب فالمواءمة فالتكيّف لجهود سلفنا في مجال علوم القرآن من أجل رسم صورة أكثر فاعليّة قادرة على الدفاع عن خصوصيّاتنا الإسلاميّة؟ فانطلاقا من وجه القراءة الذي تقدّمه هذه القراءات المعاصرة لمرجعيّاتنا عبر المواءمة بين مناهج السلف و المناهج الناشئة حديثا،سنكون أمام وضعيّة مصيريّة في مستوى علاقتنا بالنصّ القرآني المقدّس هل سنقدّم قراءة محيّنة دون مساس بقدسيّته وعلميّة و ليست تلوينيّة؟و الجواب المترتّب عن الاستفهام الآنف سيحدّد طبيعة حضورنا في هذا السياق التاريخي.

الفكر العربي المعاصر و محاولات دنيوة النصّ القرآني و الذات المعتنقة له :
قراءة في المرجعيّات و في المآلات.

توطئة
اعتبرت عصور الحداثة في منظور هيغل،بما أنّها عصور جديدة تفتقر إلى أنموذج سابق للقياس عليه،فهي عصور مختلفة نوعيّا عمّا ألفته الذات الإنسانيّة فردا و جماعات،ومن ثمّ يغدو الحاضر المحاضر فترة انتقاليّة تستنفذ ذاتها في الوعي بنسق التسارع المحدث فيه،مع توقّع مستقبل مختلف نوعيّا عن الحاضر و جذريّا عن الماضي،بمعنى أنّ المنبثق الجديد يقوم في طور منه بداءة بإغراق المنظومات السابقة عنه في خزانة الماضي الذي قد مضى،مثل هذه الطفرة التي أحدثها الفعل الإنساني انتقلت به من وضع الإلفة و الاطمئنان إلى وضع القلق الذي بات يداهم كلّ ما ظلّ باقيا من مكوّنات الأنموذج المفكّك،مثل هذا الإحساس الغامض بقدوم وضع جديد ضبابيّ الملامح هي الإرهاصات المعلنة و المهيّئة لهذا الظهور الأوّل لنموذج ما يعرف بعصور الحداثة،مثل هذا التأسيس لا يتسنّى له أن يستند إلاّ إلى أطروحاته الناشئة،بالنظر إلى وضع القطيعة الذي ارتأته مع جملة الإيحاءات و الإلهامات المعياريّة للماضي التي هي غريبة عنه،وهو ما يطرح إشكال عثور عصور الحداثة على ذاتها أو مشروعيّتها الخاصة من خلال صياغة ضمانات ذاتيّة بسبب غياب نماذج سابقة و جاهزة،و من ثمّ غدا الفكر الغربي منذ لحظة الحداثة يتحدّث عن انفصامات و تعارضات و شروخ ملازمة للحداثة،لعلّ أبرزها تلك المتعلّقة بالتحلّل من قيم الماضي وأطروحاته و انشقاق دائرة المعرفة عن دائرة الإيمان و جملة توليداته المعياريّة و القيميّة النظريّة و الإجرائيّة وخصوصا تلك المتعلّقة بحدث استقلال دائرة المعارف و انبثاق تمايزات داخل دائرة الثقافة،بمعنى إيقاع إجرائي لوضع استقلال الدائرة المعرفيّة عن دائرة الإيمان الميتافيزيقي-المتعالي،مثل هذا الانفصام الجذري بدأت تعبّر عنه المصطلحات المتداولة مثل الأزمة و التطوّر و التحرّر و الثورة...و عليه تغدو سمة هذا العصر مميّزة في المعايير التالية:
 العلم،باعتباره بحثا،و إسقاطا لتصوّرات قبليّة على الطبيعة بغية إدراكها رياضيّا.
 النظر إلى الأفعال الإنسانيّة من حيث هي تعبير عن ثقافة و حضارة.
 غياب المقدّس و حضور التاريخ.

الخلفيّات الفلسفيّة للقراءات الحديثة و المعاصرة للنصّ : الدنيوة كظهور و تشكّل
إذا جاز لنا اختصار جملة الآراء الواردة آنفا،فإنّنا نقف أمام عبارة "نهاية اليقين"(La fin de la certitude) معرفيّا يحيل مثل هذه المعنى إلى تجريد الحقيقة أو اليقين من "ألف لام" التعريف،فنغدو نتحدّث عن حقيقة أو يقين موقوت أو ظرفيّ قابل للنقض أو الاستبدال أو التجاوز بحكم طبيعة الفكر النسبي الذي نتحدّث عنه مع وضع الحداثة،فلم يعد بالإمكان الحديث عن المعنى الكوني أو الكلّي أو اليقيني،بل غدا الحديث عن دلالات متشظّية معبّرات عن خطابات أو مقولات تاريخيّة محايثة للممارسات الفرديّة أو الاجتماعيّة والأفعال و السلوكات ذات الطابع الظرفي-التاريخي،بحيث تدفع هذه الأفكار أو المناهج خارجها كلّ فكرة ثيولوجيّة تسعى إلى التحكّم في نظامها و نسقها بصورة متعالية عن المحايث أو التاريخي .بهذا المعنى نكون أمام نظام يقوم على أساس نسبويّة العقل و القيم و المبادئ،و فكر عدميّ يفكّك مكوّنات الحقيقة إلى حقائق متعدّدة و متضاربة و متداخلة،و و يجزّئ المعنى إلى دلالات متشابكة و متشظيّة،تلك هي دلالات تهافت اليقين و حلول عصر الارتياب و الفراغ.باختصار تتعلّق المسألة بتبيان أنّ تاريخ الحداثة يكمن في فاعليّة العقل المنعكس حيث يسعى إلى إيقاع هامش مختلف بين وصف أصل و نشأة الأفكار و بين حركة إبداع الفكر النقدي.
إذن،تبرز الانعطافة التاريخيّة في وضع الحداثة،من خلال المواجهة بين الإنسان و الإله،حيث ترتبط إمكانية الاختفاء و الاغتراب التي تجعل من التاريخ الفكري مغامرة ضمن الأفق الوجودي للإنسان،حيث فاعليّة النفي التي تنفي الحلقيّة المنعكسة للمحاكاة الأصليّة"إنّني أنا الإله" بحيث تتحوّل لعبة المحاكاة و النفي إلى صراع بين الإنسان و الإله ينتهي بتأسيس عالم هجره الإله و تلخّصها العبارة الإنجيليّة " مملكتي ليست في هذا العالم" .لا يمكن التردّد في إثبات المتولّد عن مثل هذه التصوّرات وهي تلك المتعلّقة بتأسيس تاريخ جديد للإنسان و تحويل مساره خارج إطار الإنسان المتديّن المنشدّ إلى المتعالي.فالنسيان هو وضع يروم تحويل مجرى الذات و تأسيس انعطافات فكريّة و مفهوميّة و معرفيّة مخالفة لتلك التي كانت سائدة و فاعلة،ومن ثمّ نفهم من خلال النظر في تاريخ الأفكار طبيعة المعرفة المنعكسة التي تسعى إلى تأزيم المفاهيم الكبرى للثقافة الغربيّة،ومن ثمّ نثرها في الأطراف: أزمة فكرة الإله و أزمة النصّ و أزمة الذات و أزمة الحقيقة...
و عليه يكون المشغل الرئيس هنا،في مشكل البداية،بمعنى البحث عمّا هو أوّل،عمّا يأتي في المقام الأوّل، لأنّ النظر في هذه المسألة تترتّب عليه معايير و ضوابط معرفيّة في مستوى النظر و معالجة القضايا الكبرى المحايثة لفكر الإنسان و الملازمة لسيرورته،من ذلك مسألة مصدريّة النصوص الثيولوجيّة أو الدينيّة في ظلّ واقع غربيّ يقوم على أساس الصراع بين الإنسان و الإله،أي جدل الظهور و الخفاء،بدل وضع الجدليّة و التواصليّة المثبت في المنظومة الدينيّة الإسلاميّة و الكتابيّة،بحيث نلحظ في الواقع الدنيوي الناشئ نوعا من اللاتناسق بين الإلهي والإنساني،و ضمن هذا المسار يغدو الوجود "في" العالم هو الأساس الذي تقوم عليه فلسفة الظاهريّات الحديثة ،و بهذا تكون عبارة أنّنا نعيش في العالم و نجرّبه هي البداية الحقيقيّة،و يترتّب عن ذلك أمر ثان تتمثّل في أنّ كلّ العبارات و المفاهيم التي تقال عن العالم مستمدّة من التجربة،أي من تجربتنا بالعالم و في العالم و معه أيضا،و كلّ فهم دورانيّ ليس إلاّ تفاعلا و إنصاتا له، و ما عدا ذلك يغدو من قبيل المجاز العقلي من دون أن يعني مجاوزة ضوابط الوجود الأرضي-المادي .
تتطلّب مثل هذه الخيارات الفلسفيّة،أن تكون كلّ العبارات المعبّرة عن العالم و جملة المفاهيم الحافة أن تكون متخارجة من رحم هذا الوجود،أي من تجربة الذات في العالم و بالعالم،هنا يكمن المعنى الحقيقي للفكر الظهوراتي-الإمبيريقي في مطالبته بالتخلّي عن أيّ افتراض مسبق.و مثل هذا القول عن تحييد كلّ افتراض يعني أن يكون هو البداية و التبرير،وهنا يفترض بداية أن لا تبلغ الذات سمة المعرفة إلا ابتداء من هذه التجربة و من هذه الرؤية ،أي الإقرار بأنّ التجربة تتضمّن افتراضاتها الخاصة و توضيحاتها الملائمة.
باختصار تكون عمليّة الدنيوة أو علمنة الوجود التي انخرط فيها عقل الحداثة الغربي،منحصرة في وجهين، الأوّل إجرائي سياسي،يتعلّق بتنظيم علاقة الدين الممثّلة في الكنيسة بالدولة،عبر عمليّة القطع أو الفصل بينهما،من خلال العمل على نزع هالة القدسيّة عن كلّ نشاط و ممارسة ضمن الدولة و ممثّليها،و تقييدها بضوابط و معايير إجرائيّة ذات بعد مدني محض تخضع للمتابعة و التعديل العقليّة و المحاسبة ضمن الأفق البشري من دون التعلّق بمقولات غيبيّة تتعالى عن التاريخ البشري،ومثل هذا التمشّي أقرّ نظريّا و إجرائيّا سواء في الدول الغربيّة أو الدول التابعة ،في حين أنّ الوجه الثاني فهو فلسفي يتعلّق بإدارة الرأسمال الرمزي و تنظيم العلاقات داخل العقل ذاته"بين مصادر القيم و الرموز المختلفة القديمة و الحديثة،الدينيّة و العلميّة،الروحيّة و الماديّة،الأرضيّة و السماويّة،و ليس لتطوّر العلمانيّة بهذا المعنى أيّ برنامج عمليّ لأنّها الثمرة الطبيعيّة و العفويّة لتطوّر الحضارة،و ما يرافقها من ارتفاع في مستوى استخدام العقل" شكّلت هذه الأرضيّة التاريخيّة لنشوء و تطوّر موقف علماني جديد من العالم،شرعيّة تسنّى بمقتضاها الفرد البشري من التخلّي التدريجي عن اللجوء إلى المسبقات اللاهوتيّة و التفسيرات الأسطوريّة أو المفارقة في مجال فهم مكوّنات الوجود،بمعنى أنّ الإنسان الغربي الحديث استقال فكريّا،في كثير من المواقف و التصوّرات عن توظيف آليّات سحريّة لفهم العالم و التعامل معه و تعيين و تحديد مواقفه،ومن ثمّ بدأت تتخارج إلى دائرة الضوء قيمة الفعل البشري الإبداعي و صيرورته و كذلك نسبيّته ومن ثمّ كان الانتقال من وضع التعلّق بالكليّات أو بالمفاهيم المطلقة إلى وضع نسبيّ يتّسم بالمرونة و التحوّل و التاريخيّة و الزمنيّة
بهذا يعلن الفكر الغربي نفسه في الاختفاء الإرادي للإله و حيرة الإنسان نظرا إلى تحويل مجراه خارج الإنسان المسيحي المتديّن.مثل هذه المغامرة خارج النسق الديني هي التي تخارج من رحمها مفهوم الدنيوة،أين تنعكس حقيقة العقل الغربي كصراع أزلي بين الديني-الإلهي و بين الإنسانيّ،أو بين المقدّس و الدنيوي،بحيث يسعى الثاني إلى الحلول محلّ الأوّل من خلال تجربة علمانيّة أو علمنة Laïcisation أو تحويل الأخلاق الدينيّة والمتعالية إلى قيم علمانيّة و ضعيّة إنسانيّة Sécularisation حيث يحاول إرجاع تاريخ الأفكار إلى ذاته من دون إحالة إلى غيره،و مثل هذه المحاولات تعبّر عن حيرة هذه الذات في إدراك المعنى المفقود أو سدّ الفراغ الناتج عن غياب الإله و ما يتبع ذلك من محاولات تبديد أوهامه .
من ثمّ يمكن ضبط المعايير الرائزة للفكر الغربي في النقاط التالية:
• وجوب الاشتغال بالإنسان و ترك الاشتغال بالإله من أجل التصدّي للوصاية الروحيّة للكنيسة.
• وجوب التوسّل بالعقل،و ترك التوسّل بالوحي،من أجل التصدّي للوصاية الثقافيّة للكنيسة.
• وجوب التعلّق بالدنيا و ترك التعلّق بالآخرة،من أجل التصدّي للوصاية السياسيّة للكنيسة.
و عليه تعدّد ظهور الوجه الإجرائي لمثل هذه الضوابط الفلسفيّة،من خلال التوالد المطّرد للنظريّات الأدبيّة التي تعنى بتحليل المعنى،سواء المعنى الذي يتمّ إيصاله من المؤلّف إلى القارئ مباشرة،أو المعنى الذي يكون ملازما لكلمات النصّ،أو المعنى المتولّد من بنية النصّ،فمثل هذه المقاربات تعنى بالمشكلات المتصاعدة من النصّ حال اشتغالنا عليها عبر سيرورة القراءة،و قد انتبه ناقد عربيّ معاصر إلى أهميّة سلطة القارئ و القراءة عندما لاحظ بأنّنا قد "وجدنا أنفسنا في مواجهة خطيرة مع فاعليّة القراءة،فقد منحناها سلطة على النصّ تجعلها ذات قيمة أوّليّة"





الدنيوة كممارسة إجرائيّة في محضن النشأة و في محضن الإجراء: قراءة النصّ القرآني من التعالي إلى المحايثة.
تبلورت فكرة الدنيوة كصياغة فلسفيّة نظريّة في مستوى الفكر،ثمّ انتقلت إلى مجال الأجرأة عبر إيقاعها كضابط من ضوابط الممارسة العمليّة في حقل الوجود الإنساني،فقد وقع إضفاء قيمة على العقل كقدرة استكشاف للقوانين الداخليّة للطبيعة الماديّة و الحيّة و من بعدها تأويل النصوص و إبراز دلالتها التاريخيّة المتحوّلة،و هكذا تحوّل الاهتمام من الشعور بالانسجام مع العالم نحو شعور بالسيطرة فالأمن.و دعّم تغيّر العقل هذا فعل التحرّر من الدين،باعتباره ممارسة مكتسبة عبر تاريخ من المحاولات للانعتاق من سيطرته وجاذبيّته،فأصبحت كلّ المجالات المتاحة في المجتمع التي كانت في السابق مرتبطة أشدّ الارتباط بسلطة الدين أو نابعة منه،تعتبر نفسها مسائل أو ضعيّات خاضعة للتجربة و للتشريح و للقراءة و للتعديل،فالعقل قادر على حلّها وفق معايير التحليل المنطقي دون الالتجاء إلى الحلول العجائبيّة-لو استخدمنا عبارة محمّد أركون-و قد وصلت هذه الممارسات إلى حدّ تبرير الأخلاق نفسها حسب تحليل للطبيعة البشريّة و لإكراهات النظام الاجتماعي،وعليه اعتبرت مثل هذه المغامرة التأويليّة تملّكا جديدا للإنسان من قبل نفسه،بعكس الوضع السابق حيث كان الخضوع للقوانين الإلهيّة يتحكّم في المبادئ الأخلاقيّة و في مجمل المقولات المفسّرة و المبيّنة للنصّ المقدّس،من خلال الخضوع لجملة الشروط و المعايير الضابطة لفعل القراءة بطريقة تمكّن من التماهي مع المراد الإلهي وهو ما يجعل من هذه الممارسة إبرازا للذات الإلهيّة و تغييبا للقارئ،وهو فعل محمود في المنظومة الدينيّة بما هو انخراط للذات الإنسانيّة في المجال الإلهي،و مع ثورة العقل المنعكس،كان بروز الذات الإنسانيّة عبر استبدال لمستويات الحقيقة والمجاز عبر انفلات للحركة من وضع الصعود إلى التحيّز في الوجود الإمبيريقي بمعنى الوجود الإنساني،حيث تتأسّس انعطافات فكريّة و معرفيّة أخرى خارج نمط الرؤية.
و تماشيا مع قاعدة أفرزها المذهب الدنيوي مفادها أنّ العالم هو مأوى الإنسان و هدف مشاريعه الإنسانيّة الخاصة،و من ثمّ ظهر الاعتقاد بأنّ العالم و البشريّة هما مشروع تاريخ،من خلال تكريس فكرة الاعتقاد بانعتاق الإنسان و نضجه،ومن ثمّ فالإنسان يقود تاريخه الخاص وهو البوّابة الممكّنة من التقدّم و الاسترسال لكن ضمن حدود التاريخ البشري،ومنها تكوّنت فكرة تاريخيّة العالم،حيث برزت في الفرن الثامن عشر و تضمّنت الشعور بالتغييرات و بنسبيّة المؤسّسات أو بزوال الحضارات،كما احتوى هذا المفهوم على فكرة التقدّم الخطّي و المتدرّج للإنسان كإنسان " إنّ الإنسان ليس مشروعا جاهزا مصمّما من قبل،و لكنّه مشروع في حالة تخلّق...إنّه يقوم بجولة هرمينوطيقيّة (تأويليّة) من خلال التعبيرات الثابتة التي تنتمي إلى الماضي.و بهذا المعنى فهو كائن تاريخي..إنّ التاريخ-إذن-ليس معطى موضوعيّا في الماضي،قائما هناك،و لكنّه معطى متغيّر.إنّنا في كلّ عصر نفهم الماضي فهما جديدا من خلال التعبيرات الباقية لنا،و يكون فهمنا للماضي أفضل كلّما توافرت شروط موضوعيّة في الحاضر شبيهة بما كان في الماضي."
تماشيا مع جملة هذه الضوابط التي أحدثها العقل المنعكس في الغرب،فإنّ تفحّصنا لمجمل التيّارات الدينيّة والفلسفيّة و الفكريّة التي عرفتها أوروبا منذ حركة الإصلاح البروتستاني وصولا إلى الفلسفات المعاصرة اليوم مرورا بالمذاهب وجملة المنعطفات المفصليّة مثل فلسفة الأنوار والماركسيّة والوجوديّة وغيرها من المذاهب والتيّارات الأخرى،فإنّنا نقف عند معيار ضابط جامع بينها رغم تباين أهدافها و منطلقاتها،وهو الإنسان من حيث القيمة العليا و مدار كلّ تفكير و بحث و نظر،فكيف ما قلّبنا الآراء و الأفكار و التصوّرات و المنطلقات الفكريّة في الغرب في جميع المستويات و التوجّهات،وجدنا أنّ الإنسان يمثّل الهدف و المبتغى و أنّ السعادة الدنيويّة في الهنا،في العالم هي الغاية القصوى،ومنه تشكّلت جملة من الضوابط التي على أساسها ظهرت نظريّات شتّى في جميع الميادين،من ذلك نظريّات القراءة أو التلقّي التي تعنى بالنصّ و بتحليله و بقراءته،مركّزة على منتهى النصّ وهو القارئ،في تغييب لمرسله أو مؤلّفه أو منشئه...و فحوى هذه الضوابط هو الآتي:
• نفي مقولة الثبات و القول بالتقدّم أو التطوّر أو السيرورة على جميع الأصعدة بوصفها أخصّ خصائص الإنسان.
• رؤية الجنس البشري لا من حيث هو وحدة فحسب،بل من حيث هو تنوّع و اختلاف أيضا.
• انطلاقا من مقولتيْ التطوّر و التنوّع ظهر مفهوم أساسيّ في فكر الحداثة،وهو مفهوم النسبيّة الذي يناهض كلّ ضرب من ضروب الإطلاقيّة سواء من حيث الأحكام أو المعايير أو القيم أو غيرها.
مثل هذه الأسس التي أنتجتها الحداثة الغربيّة،تبدو مرتبطة ارتباطا وثيقا بالإنسان،بالنظر إلى مصدريّته لها وانتهائها إليه،وهو ما أوجد مفهوم المحايثة أو الوجود في-العالم-،وهو مفهوم يقابل مفهوم التعالي أو المفارق أو عالم الغيب،و هو مسار إجرائي لمقولة هجرة الإله و تعاليه عن العالم،حيث أوقع الإنسان انعطافته الحداثيّة بفعل انعكاسيّ من خلال استبدال التعالي بالمحايثة،وتحديد ضوابط التعالي بمعيار التعالي ضمن الوجود في –الهنا-،وتأكيدا لما ذهبنا إليه نجد سارتر يعرّف العمل الأدبي بأنّه " خذروف غريب لا يوجد إلاّ بالحركة و لابدّ لإبرازه إلى الوجود من فعل ملموس هو القراءة،بحيث لا يدوم وجوده إلاّ بدوامها.و ما عدا ذلك،فهو مجرّد خطوط سوداء على الورق" و مهما تكن فرادة كلّ نظريّة في القراءة و ضوابطها المنهجيّة و مرجعياتها الإيديولوجيّة و العقديّة،فإنّها تتّفق إجمالا في تصوّرها للنصّ،من دون تمييز لمصدريّته،و بالتالي لوظيفة القارئ/القراءة"فالنصّ في تقديرها يتّسم بالتعدّد و التحوّل الدلاليين.وهو فعلا كذلك،وهذا قدره إذ لو كان يتضمّن في ذاته معنى جاهزا و نهائيّا لما تغيّرت دلالته السابقة بتغيّر قراءاته المتعاقبة في الزمن،رغم أنّ كلماته و حروفه لا تتغيّر،و لما اكتسب دلالات جديدة لدى تحوّله إلى لغات أخرى.إنّ النصّ مجرّد كمون دلاليي يحتاج باستمرار إلى قرّاء محتملين يحقّقونه،ففي حواره مع القرّاء تتولّد دلالاته،وفي تنوّع مواقع القراءة تنوّع لدلالاته أيضا.ذلك أنّ القراءة المثلى،القراءة النقديّة،هي التي تنزاح عن القراءات السابقة التي كرّست للنصّ دلالات معيّنة،و إلاّ كانت مكرّرة و غير منتجة،بهذا الفهم تكون كلّ قراءة جديدة للنصّ إعادة ثابتة له،لا تماهيا معه و امّحاء فيه"
من خلال هذه المتابعات التاريخيّة-الفكريّة لطبيعة العقل المنعكس الناشئ في الغرب و امتداداته الإجرائيّة،حاولنا أن نتبيّن المنطق العام الذي يسيّر الرؤى الحداثيّة،ومن ثمّ استجلاء طبيعة الانتقال مثل هذه المناهج بكلّ شحناتها الإيديولوجيّة إلى الحقل الإسلامي ورصد طبيعة تفاعله مع النصّ المرجعي فيها ممثّلا في القرآن،وهنا وجب التنبيه إلى نقطة إجرائيّة حال الانتقال بالنظريّة من حقل النشأة إلى حقل الممارسة،فبانتقالنا إلى الحقل الإسلامي غدونا نتحدّث عن تطبيقات أو إجراء عملي للنظريّات الوافدة،فثمّ فاصل هام بينهما،فالنظريّات نبّهت إلى قيمة المناهج الحديثة في مستوى قراءة النصّ وتناول المسكوت عنه أو تناول مناطق بكر لم تدرس قبل،في حين أن التطبيق أو الممارسة الإجرائيّة تفترض إعادة استيعاب البناء المنهجي بالقدر الذي يضمن توظيفه ضمن حقله الذاتي بطريقة إيجابيّة،أي البحث عن أهليّتها الفكريّة للتعامل مع النصّ المرجعي للحضارة الإسلاميّة، ولكن مثل هذا التوظيف بالنظر إلى ارتباطه بشحنات إيديولوجية-عقديّة موجّهة تطلّبت نوعا من الخيانة قصد وضع النصّ القرآني في نسق من الإحالات لم يرصد لها أصلا .
و المتفحّص في المتداول المجتمعي الإسلامي يدرك أنّ العديد يجهل طبيعة هذه المناهج و خلفيّاتها و درجة التمكّن من التكيّف مع نصّ لم ترصد له أصلا مردّ ذلك أنّ كلّ ذي فكر يروم التستّر على مقوّماته أو أقانيم فكره،إن كانت تعارض السائد أو تحرجه،لذلك فتناول مفهوم الدنيوة في محضن التشكّل ثمّ في محضن الممارسة الإجرائيّة في غير بيئته الثقافيّة ضروريّ نظرا إلى أنّه شكّل إدراجه في الدراسات الإسلاميّة انعطافة مفصليّة مع النصّ و ما ترتّب عن ذلك من تنازلات أليمة خاصة بالنصّ القرآني و بالذات الإنسانيّة المنتمية إلى منظومته في مستوى الهويّة و البناء الحضاري-الكوني و ما رافق ذلك من تغيّر في نظرة العديد إلى هذه المدوّنة على اعتبار أنّ المناهج التي تعاملت معه تنامت في حقل غير حقل الدراسات الإسلاميّة بل ظهرت مع قراءات النصّ الأدبي من حيث هو منتج بشري نسبي،من ثمّ يغدو التكييف الإجرائي و المعرفي صعب المنال أو فعلا متعسّفا يأتي بنتائج في تضاد تام مع مقصود النصّ إن فهمت هذه المناهج على أنّها عقائد مقدّسة لا على أنّها آليّات مساعدة و رافدة للفهم في مستوى نسبيّته ومحدوديّته محدوديّة الآليّات الموظّفة في نطاق اشتغالها،نظرا إلى أنّ المحرّك ليس النصّ بقدر ما هي قبليّات القارئ وانتظاراته من دون اعتبار لوضع النصّ من حيث المصدريّة لأنّ القراءة تغيّر المقروء حسب وضع القارئ،فمحمّد العزيز الحبابي يرى أنّنا نقرأ بالبصر وبالحدس ،و نقرأ في الآن نفسه بسابقات على البصر،أي بما يقترح تسميته بقبليّات القراءة/فالتواصل بين كاتب و قارئ يحصل في الواقع بين خلفيّات أو ضمنيّات الأوّل وقبليّات الثاني ،هذا إن تحدّثنا عن النصوص المحايثة لا المفارقة للوجود البشري،فالفارق ليس هيّنا بين نصّ بشريّ و نصّ مقدّس.
حينما نتحدّث عن النصّ القرآني في المنظومة الرسميّة المتداولة،فإنّنا نقرّ بوجود معادلة واضحة طرفها الأوّل هو الله (المرسل) و طرفها الثاني هو الإنسان (المتلقّي) و بينهما النصّ من حيث هو رسالة،و عليه فالمسألة منضبطة في البداية ضمن إطار يخالف حيثيّات تاريخ العقل المنعكس من حيث هو صراع و ظهور و تخفيّ بين الإله و الإنسان،ففي الإطار الإسلامي نجد نوعا من التفاعل بين الإلهي و الإنساني من دون مفارقة أو منازعة و يلخّص الحبابي طبيعة الرسم التفاعلي القائم من خلال هذه المعايير الضابطة للمسارات و للمهام :
• الله بمحض إرادته،هو الذي قضى بأن تكون قوانين (الطبيعة)و قضى بأن يخضع لها سير الكون
• يترك الله للكائن البشري إمكانيّة اتّباع استعداداته الطبيعيّة المحدّدة.
• القوانين التي تتحكّم في سير الكون "موضوعيّة"،و محسوسة.
• على الكائن البشري ،أن يتبنّى العالم بالتكيّف معه.
• يتكوّن الشخص بفضل الفكر وهو يصنع عالمه،و يصنع العالم على مستواه بالإسهام في الخلق الإلهي،إذ يعمل على إكماله.فبفضل العقل،يتعاون الإنسان مع الله،و يصبح إنسانا آخر له كثافته الأنطولوجيّة،إنّه مخلوق و لكنّه يساهم في كينونة العالم.
• -إنّنا في عالم لم نخلقه،و لكن كلّ شيء في العالم يحتّم علينا أن نبدعه في حلّة جديدة،فنحن نلاحظ العالم،ثمّ نغيّره،بل نلاحظه لنغيّره.
• إنّ العالم حدث،و الإنسان هو كذلك حدث،و عن علاقة الحدث الثاني بالأوّل،ينتج حدث ثالث يمنعنا في أن نبقى متفرّجين،إذ يحتّم علينا أن نكون عاملين:نصنع،و نصلح و ننسّق،و ننظّم ماهو موجود لنجعل منه شيئا كاملا.تلك هي المهمّة المجيدة للإنسان،أي "الأمانة"التي حمله الله إيّاه.
بهذه الطبيعة التأسيسيّة في الفكر الإسلامي،نجد أنّ النصّ القرآني ينفتح على أفقين أفق الله/المرسل من حيث هو متعال و مفارق،و أفق المتلقّي الذي هو بخصائصه المحايثة،و لكن حال تفاعله مع مقولات النصّ القرآني تفسيرا وتأويلا و دراسة و ممارسة،فإنّه يحاول أجرأة الحقائق الثابتة التي ينصّ عليها النصّ القرآني في محيطة المحايث الموقوت و النسبي،بحسب القدرة البشريّة من دون ادّعاء أنّها تفصح عن المعنى المراد من قبل الله إلاّ من جهة ما ثبت وروده نقلا عن الرسول صلّى عليه و سلّم،فيما يتعلّق بأمور العقيدة و العبادات و غيرها من الأمور التي يستغنى فيها بالتنزيل عن التفسير،أمّا ما عدى ذلك فهي محاولة اجتهاديّة متجدّدة في مستوى الفروع التي تفسح المجال للتفاعل المطّرد مع محدثات الوجود المحايث وفقا للمرجعيّات المنضبطة الواردة عن المتعالي المفارق "إنّنا أمام شيء آخر يأخذ من الماديّة و المثاليّة،على السواء،فهو تركيب يتكامل فيه الاتجاهان.لولا هذا التركيب لكان الإسلام روحانيّة تسبح في الفضاء،دون جذور في العالم"
لكن الطارئ الجديد المحرّك لمقولات التجديد هو تناسي المصدر و الاهتمام بالتشكيل الدلالي المتجسّد نصّا ،فالنصوص في مستوى المنظومات الجديدة سواء لا تمييز بينها إلاّ من حيث الكثافة المضمونيّة و غناها الدلالي،بالقدر الذي يعطي لها شرعيّة التداول ما خضعت لشروط القارئ و توجّهاته ذات البعد الواقعي-التاريخي.إنّ مثل هذه الممارسات التشريحيّة-التأويليّة للنصّ تعبّر عن جدّة وثورة و إثراء في مجال التعامل و تحقيقا لاستحقاق خليفي يتمثّل في المساهمة في فهم النصّ ،ما إن عرفت حدودها الإجرائيّة ونعني بذلك حدود النتاج البشري من النصوص،باعتبار أنّه صادر عن مؤلّف ضمن سياق معيّن،في حين أنّ النصّ القرآني يكتسب هويّة أخرى نظرا إلى تعاليه و انزياحه من المفارق إلى المحايث بغرض الفعل فيه تشخيصا وتوجيها و تعديلا،على اعتبار طبيعته القيميّة-العقديّة-الفكريّة فهو يريد إعادة شخصنة الذات بالقدر الذي تستقيم فيه مع منطوق النصّ،هذا إن أخذنا بالمعنى المعتدل الذي يتبنّاه السياق الإسلامي،عكس المعنى الذي يرومه الحداثيّ في صيغته الغربيّة-الوافدة.
لذلك نجد أنّ هناك فارقا ليس هيّنا بين النصّ القرآني و النصّ الأدبي خصوصا إذا تعلّق الأمر بالمصدريّة ثمّ بثراء النصّ،و من هنا تبرز قيمة نصّ عن غيره من النصوص،إنّه انفتاح لا نهائي و حركة لغويّة لا تقف عند حدّ،إذ كلّ قراءة أخرى للنصّ من القارئ نفسه قد تجد معنى آخر و تفسيرا آخر و هذا كلّه يدلّ على مدى الثراء الذي يكتسبه النصّ من خلال القراءات المتعدّدة فالنصّ الجيّد لا يستهلك نفسه لأنّه يترك فراغات في شكل حيل أسلوبيّة يملؤها القارئ عبر تجاوز حرفيّة النصّ إلى إبراز إشكاليّاته،فإنّ لكلّ قارئ معاملا شخصيّا به يميّز تلقائيّا،ما يلائم طبعه و اهتماماته و مضمراته و تساؤلاته،هذا إن أخذنا بالفهم العام للنصّ.
مثل هذه الطفرات التجديديّة التي ميّزت الفكر الغربي في تعامله مع نصوصه المرجعيّة سعى إلى بثّها في الأطراف قصد مساعدتها على بناء ثورتها التجديديّة مع المحافظة على الأسس و المبادئ المميّزة لرؤيتها للنصوص،هذا أفرز مسارا آخر في التعامل مع النصّ القرآني،وهو النموذج الدنيوي بالإضافة إلى النسق المتداول المحافظ على قدسيّة النصّ وثوابته العقديّة،ممّا أفرز وجودا متزامنا لتيارين متصارعين على المسك بشرعيّة قراءة النصّ القرآني و تأويله و حراسة رأسماله الرمزي،وهو ينضوي ضمن سياق العولمة في وجهها الإجرائي-الفكري الذي يسعى إلى استلاب خصوصيّة النماذج و دمجها ضمن منطق الفكر الواحد و القطب الواحد و التطواف السلبي في حمى أو حوافي أو العتبات الخارجيّة للأنموذج الغربي،قصد الإبقاء على هيولاميّة ذات الثالثي و من ثمّ تبعيّته له في كلّ مفردات وجوده،لأنّه قد غدا ذاتا بالمعيّة لا ذاتا بمكوّناته،بعبارة أخرى فذاته هبة أو منّة وافدة وليست صياغة متميّزة متخارجة من كنفه.
مثل هذه الريبة أو الموقف المتردّد التي تكتنف فعل التجديد الوافد من الغرب،إنّما مردّها إرادة تشخصن الذات الثالثيّة خارج حقل الدين و النصّ،و كلّ المفردات المحيلة على الإله وما يتبع ذلك من ضوابط شرعيّة يراها الفكر المتحرّر قيودا مكبّلة للفكر و لانطلاقة التجديد المتدوّم في نسق التاريخ،نظرا إلى أنّ العودة إلى البدايات تشير إلى أنّ الفكر الغربي أعلن عن إنكاره للإله بمفهومه المسيحي أثناء ممارسته للعقل النقدي و الذي اعتبره محرّرا له كفرد و أصبح منافسا للإله،و تلخّص العبارة الإنجيليّة هذا النفي وهذه المفارقة و التي وردت على لسان يسوع عليه السلام " مملكتي ليست من هذا العالم" و هناك صفحات عديدة من الإنجيل أين يعلن فيها الإله انسحابه " نعم،فأنا أخفي ذاتي في هذا اليوم بسبب كلّ الشرّ الناتج عن عبادة آلهة أخرى"،وهو ملمح يشير إلى ولادة العقل المنعكس كمنافس للعقل المتديّن السائد.
و في حقلنا الأهلي رصدنا محاولات من قبل بعض المثقّفين ذوي التوجّهات التحديثيّة-الغربيّة،إلى التجديد و التحديث انطلاقا من إعادة قراءة نصّنا القرآني مستأنسين بالفلسفة البنيويّة و المقولات اللسانيّة و التفكيكيّة والتاريحيّة-الاجتماعيّة و غير تلك من المناهج الحديثة ،فكانت نتاجات محمّد أركون الذي سعى إلى تأسيس قراءة جديدة يطمح من خلالها إلى إدخال العقل المسلم إلى الحداثة عير خلخلة الثوابت البالية التي يتمسّك بها،و منطلقه في ذلك قراءات أليمة للنصّ كتلك التي طالت النصّ التوراتي و الإنجيلي،و التي مهّدت حسب قوله للعقل الغربي تأسيس حداثته الخاصة به،فلا بدّ من المحاكاة الإيجابيّة للنماذج الناجحة،و كذلك نجد أعمال نصر حامد أبو زيد المنطلقة من مقولته الأساسيّة " إنّ النصّ في حقيقته وجوهره منتح ثقافي،و المقصود بذلك،أنّه تشكّل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على العشرين عاما" .وهو يروم البحث عن الإنسان و التاريخ الغائبين في ثقافتنا المنشدّة إلى الإله،ممّا يعني محاولة إنزال غربة الذات من المفارق إلى التاريخ.و من ثمّ فالقراءات المعاصرة في الحقل العربي الإسلامي بمختلف اتجاهاتها المنهجيّة و خلفيّاتها الإيديولوجيّة و مرجعيّاتها الفكريّة و التي تأخذ مسلك التاريخيّة و الدنيوة،تكرّس مبدأ نقد العقل الإسلامي و الفكر الديني بآليّات وافدة و منتجة وفق نسق العقل الوضعي،و نذكر في هذا السياق مشروع محمّد أركون و الطيّب تيزيني و حسن حنفي و محمّد شحرور و نصر حامد أبو زيد و عبد المجيد الشرفي و غيرهم كثير،وهم في هذا يقرّون مبدأ النقد و المراجعة قصد الخروج من السياج الدوغمائي المغلق الذي تمّ ترسيخه و تشغيله و إعادة إنتاجه من قبل المؤسّسات الدينيّة،وهذا السياج تمثّل في الأصل أوّل ما تمثّل " بالدائرة الإيديولوجيّة التي افتتحها القرآن و عمَلَ النبيّ،ثمّ وسّعت و ضخّمت فيما بعد من قبل العلماء و الفقهاء" .
بهذا المعنى لا يمكن أن يقرأ النصّ القرآني قراءة معاصرة وفق ضوابط الحداثة الغربيّة،بما هي فتح غدوي للإنسان في تقدير منظّريها،إلاّ من خلال التناهي إلى استعادة النصّ من حيث هو حقل للإمكانيّات الإنسانيّة التي تسعى إلى الولوج إلى النصّ بما هو فضاء للتأويل و نصّ مفتوح على كلّ الإمكانيّات،وهذا القول لا ينضبط إلاّ من خلال استدعاء مفهوم الخيانة المبدعة المتداولة في القراءات الغربيّة للنصوص الأدبيّة،و من ثمّ ينتقل النصّ من ملكيّة المرسل إلى ملكيّة القارئ،ومعنى الانتقال يفيد إسقاطا لتجربة القارئ الذاتيّة على تجربة العمل،و تلقيحا للمدلول الفكري الذي تنقله الأدلّة اللغويّة بمعنى جديد،فالقارئ بكلّ ثقافته و محيطه الاجتماعي و استعداداته النفسيّة و اللحظيّة،متورّط تماما في عمليّة القراءة.فهو يعيد بناء رسالة جديدة،بطريقة تساعد على تحقيق إمّا مفهوم التأريخيّة أو التآريخيّة،بمعنى إمّا القول بمتحفيّة النصّ و مصادرة فاعليّته الراهنة بما هو نصّ ينتمي إلى الماضي،أو الإقرار بامتداده الحاضر ولكن وفق شروطه المتداولة،و في كلتا الحالتين،نقرّ بحاكميّة القارئ أو الواقع في تغييب متعمّد للمرسل بما هو مصدر متعال و مفارق" إنّ فهم النبيّ للنصّ يمثّل أولى مراحل حركة النصّ في تفاعله بالعقل البشري،و لا التفات لمزاعم الخطاب الديني بمطابقة فهم الرسول للدلالة الذاتيّة للنصّ،على فرض وجود مثل هذه الدلالة الذاتيّة" ،وهذا ما يشرّع مقولة أنّ القراءة ليست إعادة أو استعادة لما يترك الكاتب،بل إنّ القراءة تغيّر المقروء حسب وضع القارئ،حسب تآريخيّته ،هذا ممكن و متاح إن كان التعامل مع نصوص/أفقيّة- بشريّة،و لكن القراءة الإسلاميّة المعاصرة في بعض توجّهاتها ترى أنّ مبدأ مطابقة القراءة للنصّ المقروء بمثابة القراءة الميّتة،بما هي خضوع للمرسل الذي هو في هذا المقام الله،في حين أنّ القراءة البديلة التي تتبنّى نبض الواقع هي تلك التي تسعى إلى الكشف والاستقصاء و هاجسها الخلق و التجديد،فهي لا تركن إلى المقول و المحمول و تعمل على صياغة نصوص ثواني أو حافة لبيانه و شرحه،كما هو حال المفسّرين في المنظومة الأرثودكسيّة-لو استخدمنا مصطلح أركون-،بل تعنى بالبحث عن القبلي و المحتمل،و تهتمّ بالكشف عن المتحجّب و المتخفّي و المسكوت عنه،لأجل أن تكون بعيدة عن التطابق و موقعة نسق الاختلاف عن الأصل ،و يترتّب عن مثل هذه القراءات المعاصرة الآخذة بالخطّ التاريخي و بالتفسير الواقعي لنشأة النصّ و تطوّره،مآلات تخصّ النصّ و مرسله و محتضنه

حديث في المآلات
إنّ مثل هذه القراءات المعاصرة في نطاق انخراطها لدراسة النصّ القرآني من خلال المناهج الجديدة ترى أنّ ممارستها تكتسب مشروعيّة كمشروعيّة التفسير والتأويل لدى السلف،على اعتبار المسافة الفاصلة بين النصّ المرجعي و النصوص الثواني المفسّرة فلا يمكن بأيّ حال القول بالتطابق التام،لأنّ القراءة أو خطاب التفسير متولّد عن حاجة ثقافيّة تاريخيّة و قائم على النسبي و الممكن ،فهو رهن بشروطنا التاريخيّة و بظروف ذاتيّة و إنسانيّة ممّا يعني القول بتاريخيّة القراءة باعتبارها خطابا أو منتجا ثقافيّا فأدواتها المعتمدة بالضرورة ثقافيّة و تاريخيّة ،أي ممكنة التجاوز نظرا إلى نسبيّتها نسبيّة منتج القراءة،و هذا المستوى من القراءة يتحكّم فيه بعدان من تربط بينهما علاقة جدليّة بحيث يوجب حضور الواحد منهما حضور الآخر بالضرورة:
• 1 تنسيب دلالة آيات القرآن تنسيبا تاريخيّا و اجتماعيّا،بمعنى ربطها بصورة مباشرة بواقع المجتمع العربي الوسيط،وهذا العمل يناقض تماما البعد الإطلاقي الغالب على التفاسير التقليديّة.
• 2 الاستثمار الإيديولوجي،و يعني أنّه ثمّة دعوة إيديولوجيّة في فكر كلّ قارئ تبيح له اعتماد المنهج الاجتماعي-التاريخي.
من هنا تأخذ القراءة المعاصرة مشروعيّتها حيث الحركة الدورانيّة للفهم و القراءة،التي تحاول إيجاد دورة تأويليّة تحاول التكييف بين حداثة القراءة و تراثيّة المقروء أو ما فوق التراثي ،إن رمنا مزيد التدقيق و الخروج من دائرة الخلاف،و إقامة جسر تواصل بين وعي المطلق و وعي التاريخ كما عبّر عن ذلك وليد منير في كتابه النصّ القرآني من الجملة إلى العالم.لكن تبقى عيوب مثل هذه القراءات، النزعة الوضعيّة التي ألحّت عليها تلك المناهج،تلك النزعة التي تناقض بشكل صارخ خصائص النصّ القرآني و تصطدم مع البعد الأهمّ وهو المصدريّة الإلهيّة،الذي يشرّع لإطلاقيّة الأحكام.
العيب الثاني لهذه القراءات هو تعاملها مع هذه الأدوات و المناهج و كأنّها حقائق ثابتة و ليست كنظريّات لم تستقرّ،من ثمّ فالناقلون لمثل هذه المناهج دعوا إلى تنسيب دلالات الفهم و نزعة القداسة على النصّ تشريعا لدراسة علميّة،لكنّهم وقعوا في الإشكال الذي أرادوا تحييده،ألا وهو القداسة،التي تحوّلت من النصّ إلى المناهج،حيث نجد أنّ المحاولات التي قصرت عن إدراك غاياتها تعيب النصّ لا الأداة،ومن ثمّ فهو خطاب يناهض الأصوليّة و لكنّه يقف على أرضها،نظرا إلى بعده عن الروح العلميّة و وظّف البعد الإيديولوجي الموجّه للأدوات.
انطلاقا من هذا التشخيص لواقع القراءات المعاصرة و أدواتها التفسيريّة يبدو أنّ توجيهها إلى إعادة قراءة النصّ القرآني قراءة معاصرة تستبطن مرامي غير تلك المعلنة،بحيث تتبدّى لنا جملة من مآلات فعل الدنيوة أو أنسنة النصّ:
• لم نعد نقول بحاكميّة صنف فقط من المعارف بقدر ما غدونا نقول بتداخل أصناف المعرفة من دون إقصاء أو حجب و من دون نظر إلى المصدريّة،لأنّ المعيار الناظم ليس النظر في المصدر بقدر النظر في الفاعليّة و النفعيّة أي اكتسابه الأهليّة الفكريّة للتواجد،فالنصّوص في مستوى حداثة العقل المنعكس قد استوت ونُزعت عنها سمة القداسة والتراتبيّة،وغدت نصوصا ذات صلة بالإنسان،لأنّها تحوّلت من دائرة الاعتقاد إلى دائرة التفكير العلمي،أي من دائرة الإله إلى دائرة الإنسان، بحيث يروم بانتقاء النصوص بطريقة نفعيّة بحسب وضعيّاته و خصوصيّاته،أي أنّنا نشهد تاريخ هدم للنصوص و بناء نموذج لنصّ متداخل بعيد عن مقولات الاعتقاد الأخروي و المقدّس،بالنظر إلى نوع من الانفلات من وضع الثبات القيمي إلى إقرار المرونة القيميّة بحسب مقتضيات الواقع و حاجيّاته،فالمرجعيّة هنا يمتلكها القارئ-الإنسان،و لم تعد بيد الإله،فلا رقابة على المقدّسات و لا حرج في مراجعاتها،فلا شيء فوق المراجعة أو المجاوزة،بهذا التمشّي نشهد "غزوا" لأزمة الغرب وتصديرا إجرائيّا يستهدف تأزيم المفاهيم الكبرى للثقافة العربيّة الإسلاميّة: أزمة فكرة الإله،أزمة قداسة النصّ القرآني،أزمة الذات و خصوصيّاتها،أزمة تلاشي الحقيقة بمفهومها المطلق و انزياحها نحو التاريخيّة،بذلك نشهد عبر هذا النقل الحرفي للمناهج اكتساحا لمفهوم العولمة بما هي " تيّارات و منظومات قيم تفرض نفسها أكثر فأكثر بوصفها مصادر إلهام مشتركة لجميع بني البشر،بصرف النظر عن أصولهم القوميّة و ثقافاتهم و أديانهم"
• حصر النصّ القرآني ضمن دائرة الدراسات التفكيكيّة و غيرها في غياب تام للبعد القيمي-الأخلاقي-التشريعي الذي تضمّنه النصّ،على اعتبار انضمامها إلى المصلحة،و من ثمّ تتلاشى خصوصيّة النصّ القرآني،باعتباره نصّ حياة وآخرة،فتكون المناهج آسرة لذات القارئ لا ضمن حدودها المعرفيّة بل ضمن حدودها الكبرى الحضاريّة،فيكون الناقل العربي،ناقلا للمناهج و القيم المتعلّقة بها،وهذا ما يجعل حدود الحداثة العربيّة أو الثالثيّة مرتهنة بالمركزيّة الغربيّة،ممّا يشرّع لتداول مقولة التحوّل من وضع الكونيّة إلى وضع العولمة،أي من الحوار من خلال الخصوصيّة وخطاب الذات،إلى تعميم نموذج الغالب:مناهج و قيم و قواعد،وهو تكريس لمفهوم استعمار الذاكرة و التاريخ و الجغرافيا،و استلاب للذات العربيّة و إفراغها من خصوصيّتها لتكريس مبدأ التبعيّة المنهجيّة و من ورائها مضمراتها القيميّة و ملحقاتها الاجتماعيّة و ضوابط التصرّف داخل الوجود المحايث،عبر انتزاع المفارق من ذهن القارئ بفعل آليّة التأويل،حيث يتّجه الفكر التاريخي إلى محاولة الاجتهاد في مجال العقائد و القصص الديني و العبادات،و جملة الفهوم المتعلّقة بالعالم المفارق عبر جعلها مجرّد محاولات من قبل الإنسان لتجاوز اغترابه في العالم
• ضمور الوازع الديني و إلغاء البعد التشريعي-و تنسيب البعد التفسيري للنصّ،نظرا إلى ربط الأحكام بزمنيّة النصوص من خلال تعميم قاعدة "العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ"،قصد الوصول إلى رهن الأحكام بزمن النزول و حيثيّاته الاجتماعيّة الموجبة لظهور النصّ و تشريع الأحكام،و يكمن وراء هذا التوجّه قناعة بأنّ لكلّ جيل قراءته فطقوسه فعبادته،من دون نسيان تعميم أسباب النزول بكلّ آية و التغاضي عن التقسيم الذي أقامه القدامى بين ما نزل ابتداء و ما نزل لسبب،قصد رهن الآية بواقعها التاريخي و إعدام كلّ امتداد لها بعده،و من ثمّ يتحوّل الله في سياق هذه القراءات إلى مفهوم مبهم يتجاوب بحسب التشكيل الفكري للقارئ،فتكون بذلك الصلاة و الزكاة و الصوم و الآخرة بكلّ مكوّنات العالم المفارق،رهينة بفهم القارئ فقد تتحوّل إلى تعبيرات مجازيّة أو أسطوريّة.
• هناك إرادة جامحة تنتاب الفكر للتغيير و للثورة وللتجديد وللتفكيك وللهدم و للتجاوز ولإعادة الصياغة من خلال طرح كلّ المرجعيات و إسقاط حجب التقديس عنها وتطبيق الصرامة المنهجيّة و النقدية عليها،لأجل فسح المجال أمام تصوّرات جديدة يراد لها أن تكون البديل الفكريّ-الحضاري في هذا الوجود التاريخي-الإنسانيّ حيث كلّ متعال عنه يُعدّ من قبيل المجاز،بالإضافة إلى اعتبار أنّ التعالي و المفارقة من المفاهيم التي تشوّش على المفكّر دراسته العلميّة للنصّ،إن أخذناها من المفهوم السلفي-المحافظ،أمّا إن اتخذنا نهج التعالي المؤنسن ضمن حدود الأفق التاريخي-الإنساني فأنّها تغدو دافعة للتناول العلمي وتنسيب الدلالات المطلقة ومحاولة تدجينها وأنسنتها،ومن ثمّ وجب تحرير الذهنيّات من حصار مفاهيم"المحظور"و"الحرام"المانعة من كلّ تناول ومعالجة "للنصّ -التابو"،فوجب التقحّم والمواجهة لنفي صبغة التقديس والتعالي و المفارقة عبر استبدال هذا الدياليكتيك النازل من المفارق إلى المحايث بديالكتيك صاعد من المحايث إلى المفارق دون هجرة للعالم هنا،بعبارة أخرى فإذا كان لا بدّ من التعامل مع النصّ القرآني،فإنّ هذا التعامل يتمّ بخلفيّة أسبقيّة العقل على الدين و ذلك بتأويل النصّ الديني من أجل غاية واضحة و محدّدة هي خدمة المجتمع،و إن كان ثمّة تعارض بين مصلحة المجتمع و مصلحة الدين قدّم الطرف الأوّل على الثاني بالنظر إلى تبعيّة الدين للمجتمع.
• استبدال البدايات،يطرح إشكال "المجاز"في الفكر الإسلامي ،بمعنى أيّ العالميْن"عالم الإله" أو "عالم الإنسان-الهنا" يمثلّ الحقيقة والآخر يمثّل المجاز،ومن ثمّ يخرج إشكال المجاز من حقله اللغوي إلى حقله الحضاري في مجال "صياغة رؤية للعالم"، وعبر ذلك تتحدّد الرؤى إمّا الهجرة من عالم الهنا-المجازي إلى عالم الحقيقة الفوقي،ممّا يعني انتصارا للموقف المتداول الرسمي،و إمّا الإقرار بحقيقة الوجود الإنساني-في الهنا و اعتبار العالم الفوقي الكامن في الوعي عالما مجازيّا،وهو ما يعني انتصارا للموقف الحداثي-العلمي،و لعلّ تعبيرات النخب الآخذة بالنموذج الغربي و تحليلاتها تشير بداهة لا إلى انتصارها إلى الموقف الثاني فحسب،بل و تؤكّد سعيها إلى إضعاف حجج الموقف السلفي و سلبه أهليّة حضوره وتداوله عبر القول بتاريخيّة أفكاره و فقدانها مشروعيّة التداول،مثل هذه القراءة تأخذ مشروعيّتها من حيث أنّها تسعى إلى إيقاع نسق التنوير عبر المتابعات التأويليّة التي تفضي إلى تثوير الممارسات المنشدّة إلى المرسل أي إلى المفارق،و تحويل وجهتها إلى المحايث عبر القراءة التأويليّة المنتجة.
• استبدال هويّة النصّ عبر تحويله من ناطق باسم الإله إلى ناطق باسم تأويلات الإنسان وانتظاراته،وهي مغامرة تستهدف تحييد المنظومة العقديّة برمّتها وجهود الأقدمين الذين أصّلوا تلك الحقائق ،عبر إخضاع كلّ الظواهر بما فيها النصّ القرآني إلى مناويل التحليل التاريخي لنشأة الأفكار للتأكيد على تاريخيّة دلالة النصّ،ومن ثمّ العودة إلى القول بفاعليّة الواقع الإنسانيّ في صياغة النصّوص ،وبالتالي إلى نسف قول المنظومة الأشعريّة بمفارقة النصّ القرآني واستبداله بمقولة الوجود الإنسانيّ من حيث كونه الوجود الحقيقي و كلّ مفارق له هو مجاز.مثل هذه التأكيد يفضي إلى تغيّر جذري في مستوى التعامل مع موجدات النصّ القرآني نعني بذلك قضيّة مسلّم بها في المنظومة الأرثودكسيّة-الإسلاميّة وهي الوحي،وهو تغيّر يعتبر مدخلا أساسيّا لتحقيق وعي علمي بالنصّ المقدّس وتجاوز الوعي الإيديولوجي الذي تتستّر وراءه الخطابات الأشعريّة أو حرّاس الرأسمال الرمزي.
• لتطويع النصّ المتعالي لمبادئ الدنيوة القائمة على أساس التاريخيّة كان الولوج إليه من علم أسباب النزول من خلال جعل كلّ آية تتوسّل بواقعة اجتماعيّة لتشريع نزولها قصد نقض مبدأ النزول ابتداء و جعل النصّ ينشدّ إلى واقعيّة الوسط الاجتماعي باعتباره الحاضن له و الفاعل الأساسي لبلورة موضوعاته،و هنا يطرح إشكال تبدّل وظيفيّة علوم القرآن في الفكر المعاصر من وسيلة مساعدة على فهم النصّ إلى آليّة من آليّات تشريع القول بالتاريخيّة و الخصوصيّة الاجتماعيّة،تشريعا للاجتهاد فيه ابتداء من خلال تجاوزه،نظرا إلى أنّ العقل المنعكس يؤمن بأنّ النصّ ينتمي إلى البنى الفوقيّة المتولّدة عن بنى تحتيّة مؤسّسّة،ممّا يعني أنّ كلّ تغيّر يطال الثانية يلحق بالأولى ضرورة،سواء في مستوى الإلغاء أو التبديل أو التحوير،و هذا ما يحيل إلى حاكميّة القارئ و الواقع و المصلحة الماديّة لا حاكميّة النصّ الذي غدا تابعا.
• يترتّب عن هذا الرأي نتيجة أخرى وهو القول بأنّ القرآن خطاب تاريخي لا يتضمّن معنى مفارقا جوهريّا ثابتا،و ليس ثمّة عناصر جوهريّة ثابتة في النصوص،بل لكلّ قراءة بالمعنى التاريخي الاجتماعي، و إذا انتفى أيّ ثبات عن أيّة معان أو مفاهيم أو أحكام للقرآن و جعلنا لكلّ قراءة و لكلّ قارئ الحريّة في كشف جوهر قراءته،و إذا علمنا مع ألتوسير بأنّه لا توجد ثمّة قراءة بريئة،فهل يبقى من قدسيّة النصّ القرآني شيء،و الهدف من ذلك التخلّص من فاعليّة أحكام النصّ على واقع الإنسان الذي يريد التحرّر و التخلّص من المرجعيّة الدينيّة ومن ثمّ تشريع منطق التحرّر من كلّ الضوابط المحيلة على الديني-الإلهي و القول بمشروعيّة أحكام الإنسان المتجدّدة،ممّا يعني تحوّل كثير من الأحكام إلى مقولات تاريخيّة متحفيّة سواء في مستوى العبادة أو العقائد أو غيرها،فلكلّ جيل فهومه لمثل هذه المقولات.
• و لعلّ النتيجة الأكثر بروزا في مجال الجهد التنظيري لدنيوة النصّ القرآني تلك متعلّقة بتحويله من ممارسة طقوسيّة-إيمانيّة إلى وضعيّة اجتماعيّة، وعليه فإنّ النصّ القرآني بما هو مرجع لإنتاج الممارسة الدينيّة لا يمكن إلاّ أن يرتبط بعلاقة تاريخيّة و موضوعيّة مع المجتمع،على اعتبار وضعيّة المحاكاة و النفي التي مارسها الإنسان " الحديث" في مستوى علاقته بالإله،و انطلاقا من الوضع الجديد يغدو العقل سابق للدين و تبعيّة هذا الأخير له،ومن ثمّ يكون التعامل مع المنتج الديني بخلفيّة وظفيّته للمجتمع و لوضعيّاته الطارئة و كلّ ما عدا ذلك لا يشكّل أثرا أو وزنا معرفيّا-روحيّا،لأنّ المعتمد هنا النصّوص في سياقاتها و ليس النصّ في مصدريّته ،ومن ثمّ يفقد النصّ مشروعيّته من حيث هو نسق تحديثي قابل للممارسة التاريخيّة ،ويتحوّل إلى وضعيّة متحفيّة محيّدة قابلة للتوظيف و للتفعيل في حال ارتأى حرّاس الرأسمال الرمزي الاحتكام إليه أو الارتقاء ببعض مقولاته إلى وضع الإدراج والإدماج ضمن الحراك الاجتماعي و تماس تام مع بقيّة النصوص في تساو تام و في نسيان مقصود للمصدريّة.
• إنّ مثل هذه القراءات و الجهود في تطويع النصّ القرآني لمثل هذه المناهج و النظريّات التي أنتجت لنصوص بشريّة تريد إضاعة هويّة النصّ القرآني وما إضاعة هذه الهويّة و الخصوصيّة إلاّ إضاعة لخصوصيّة الذات المسلمة و تميّزها و من ثمّ حشرها ضمن الذوات التابعة المنبهرة بكلّ جديد و حديث من دون نظر وتفكير في تكييفها مع خصوصيّة المرجع المتداول لديها،و هذا يعود بالأساس إلى الرغبة في التجديد و الانبهار بالغرب ومحاولة تقليده للظفر بالحداثة و التقدّم حتى وإن كان ذلك على حساب تشخصن الذات و تراثها و قيمها ومرجعيّاته،فالمفكّر العربي المشبع بالفكر الاستشراقي حال محاولته إعادته لقراءة النصّ القرآني قد وضع في أفق منظوره النصّ و المخاطب به قصد محاولة استدراجهما إلى محضن الدراسات التاريخيّة القائمة وفق مقولات العقل الوضعي،وهو ما يستدعي فعلا انتقائيّا قصد تشذيب النصّ و من ورائه الذات المعتنقة له،فكلّ مساس بخصوصيّة النصّ في مستوى الدلالات و الدفع بها نحو الظهور و التداول و الرواج هو بمساس بجوهر الذات في مستوى الاعتقاد و الفعل الإجرائي،ممّا يسمح بالقول أنّنا أمام فكر استشراقي أهلي يطمح إلى تعميم الأنموذج الغربي وتأسيس لعهد العقل المنعكس الإسلامي،بما هو زحزحة للذات من وضع الأنموذج المتديّن إلى وضع الأنموذج الدنيوي-التاريخي وفق ضوابط الإنسان المنافس للإله لا الإنسان العابد له.
• لكن مع كلّ هذه المحاذير التي حفّت بالقراءات المعاصرة ذات التوجّه التغريبي،فإنّ المعطيات الواردة آنفا تتّجه بنا إلى القول بأنّ الفعل الفلسفي الذي استأنفه جيل الستينات قد مكّن من تحريك سواكن الفكر المغاربي و زحزحة الإنسان المغاربي من معاقل التفكير المهيمن عليه،لذلك كانت مفاهيم العقل و التاريخ والاجتهاد و التأويل والتجاوب و التحاور و النقد و التفكيك و التحوير و التحرّر بدل الحريّة و الإصلاح والتجديد و التحديث تعبّر عن مدى التجاوب الذي أبداه الفكر المغاربي مع كلّ التيّارات الفلسفيّة المعاصرة مردّ ذلك قلق الإصلاح و توتّر التجاوز الذي يسكن المصلحين المغاربة من أمثال محمّد العزيز الحبابي و محمّد الطالبي وهشام جعيط و محمّد أركون و عبد الله العروي و محمّد عابد الجابري ...مثل هذه التجارب الفلسفيّة شكّلت في اجتماعها قاعدة للتنظير الفلسفي الإصلاحي ومنطلقا لمواصلة هذه المسيرة وتطويرها عبر التحاور و التجاور مع الفكر الكوني،حاملة في صلبها تلك الأسئلة الكبرى التي وجّهت الفكر المغاربي في تعامله مع النماذج الفلسفيّة المتداولة و الوافدة على السواء من الذاكرة الأهليّة أو الغربيّة أو من الآن المعاصر الغربي،و لعلّ أهمّ سمات هذا الانخراط الفكري:
• بناء توجّه إيجابي في النظر إلى وظيفة الفكر الفلسفي.
• امتلاك سمة الانخراط النقدي-الإيجابي في التعامل مع التاريخ الفلسفي و مذاهبه و مدارسه،بحيث تسنّى له تحويل جملة الامتلاكات الفكريّة إلى أدوات قادرة على إضاءة أسئلة الماضي و مآزق الحاضر في فكرنا وفي واقعنا التاريخي.
• مثل هذه النتائج تفرض علينا إيقاع مفهوم استعمله الحبابي في مستوى الصياغات الحضاريّة ولكن نستخدمه هنا في مستوى الصياغات النظريّة، وهو مفهوم الغديّة،بالنظر إلى أنّها تواجه في الحقيقة الموقف التقني الذي أصبح سمة الواقع المعاصر و هذا الموقف لا يعني مجرّد استعمال الآلة و شيوع استخدام التقنية في مختلف مكوّنات حياتنا،بل ما تولّد عنه من صيغ و طبائع و قيم و سلوكات و نماذج حياتيّة أفقدت الإنسان قيمه و مبادئه و جعلتها مجرّد شعارات فضفاضة،لأنّ التقنية قد استعمرت الإنسان و أدخلته في دوّامة من التبدّل ذات طابع سريع،أفقدته فطريّته و اطمئنانه و سكونه و سعادته و أعطته قيما استهلاكيّة تفقد فاعليّتها بسرعة،ممّا يجعل الإنسان يعايش عصابا متواصلا جعله يتّجه نحو حلول تدميريّة لذاته يعدم معها تشخصنه و ترقّيه،مثل هذه الفوضى تعكس فوضى في مستوى الفكر الذي أفرز كونا من المناهج و القراءات التي حوّلت فعل الاشتغال من "على النصّ القرآني" إلى "بالنصّ كمنتج ثقافي"و مثل هذه المناهج تأخذ طابع الموقوتيّة بما هي فعل متناغم مع النمط الاستهلاكي الذي أفرزته حداثة العقل المنعكس الغربي.

في طريق الختام
إنّ الحداثة التي داهمتنا بقيمها و مناهجها و معاييرها و ضوابطها،هي حداثة وافدة و ليست متخارجة من التربة الأهليّة،فهي آتية من طريق الاستعمار الجغرافي الذي رافقه استعمار للفكر و الذاكرة والتاريخ و للمناهج،بحيث تطبّع في الذات الثالثيّة نوع من التبعيّة و المديونيّة للغرب،و بالتالي أحدثت شروخا في الوعي وفي طرق الإدراك،و عليه تداخلت السيطرة و التحرّر لدى الذات الأهليّة،فهي تدّعي بمناهجها و ضوابط القراءة العلميّة أنّها توقع قراءة علميّة للتراث الإسلامي و لأصوله و تأويل علمي أو فهم موضوعي للإسلام قصد الخروج من جاذبيّة ثقل التراث و عطالته الفكريّة و الإجرائيّة،و تعمل على تزويد هذه الذات ببدائل تساعده على حسن الاختيار،و لكن هذه الحداثة تعود لتلتف على هذه الحريّة بأشكال و أساليب لتكيّفه و تشرطه وتشذّب أبعاده النقديّة،مبقية على بعد واحد هو بعد الامتثال و أحاديّة البعد،فهي تسمح بإيقاع هذه التجاذبات الأهليّة بين القديم و الحديث ضمن سياقها الجغرافي الثالثي،عبر نقد للأطروحات المتداولة حول الوحي و النصّ القرآني و أصوله و أحكامه و ممارساته بطريقة دهريّة تسعى إلى هدم الثوابت المتعالية و تسطيح المفارق،و تحويل الجواهر إلى علاقات و الماهيات إلى سيرورات و الغايات إلى وسائل،و مدهرنة كلّ ماهو مقدّس و مؤرخنة كلّ ماهو أبدي،و تفتيت الأصول و تحويلها إلى مجرّد وضعيّات تاريخيّة اجتماعيّة قابلة للتجاوز بحسب حاجة الإنسان و نوازله،ومن ثمّ فهي تعضف باطمئنان المجتمعات الإسلاميّة و تخرجها من زمنيّتها التي عهدتها،قصد الزجّ بها في التجدّد النوعي الدائم و النزوح المستمرّ عن المركز،و لذلك تحاول القراءات المعاصرة ذات الطابع الدهري أو العلماني أو الدنيوي أن توقع المجتمعات الإسلاميّة ضمن دائرة معتلّة بماهي واقعة بين زمنين،وهذا مردّه أنّ القراءات المعاصرة لا تنضبط بقواعد و ضوابط مثلما كان سائدا لدى علماء القرآن في السابق،حيث رسّخوا قواعد مرجعيّة حال تعاملهم مع القرآن،في حين أنّ القراءات المعاصرة تحاول تقويض مثل هذه القواعد وتفكيكها قصد التخلّص من تبعتها،و من ثمّ إمكانيّة التحرّر و التصرّف في النصّ بكلّ حريّة من دون ضابط سوى ضابط العدميّة بما هي تاريخ تدمير و بناء،نفي و إثبات،انفعال و فعل،مثل هذه القيمة لا يمكنها أن تتخلّص من عمقها العدمي الي يسكنها،فالعدميّة ضمن هذا السياق تبدو كالمبدأ الأصلي و الحقيقي لكلّ ممارسة،ومن ثمّ تغدو المراهنة على الإنسان :الجسدي الأرضي هي القيمة العليا من حيث هو استعداد لأن يتجاوز نفسه من أجل الإنسان الأعلى،تلك هي مآل القراءات الدنيويّة أو الدهريّة التي أرادتها بعض النخب العربيّة أن تكون داعية لها في حاضرتها الإسلاميّة من خلال محاولة تجاوز الإنسان الثالثي لذاته عبر تجاوز نصّه المرجعي أو قراءته وفق ضوابط الدنيويّة،و القراءة هنا تفيد معنى جدليّة النفي و الإثبات،وهو ما يكرّس الأصوليّة المنهجيّة التي تدّعي محاربتها،فما بين النظري و الممارسة الإجرائيّة خيانة مانعة من الانضباط المنهجي من دون خلفيّات إيديولوجيّة حاجبة.

المصادر و المراجع
1.أبو زيد (نصر حامد)، 1990 ،مفهوم النص،المركز الثقافي العربي،ط1، 1990،بيروت-لبنان.
2. 1992،الخطاب الديني رؤية نقديّة،،دار المنتخب العربي،ط1، 1992،بيروت-لبنان.
3. 1992 ،إشكاليّات القراءة و آليّات التأويل،المركز الثقافي العربي،1992،ط2،بيروت-لبنان.
4.أركون (محمّد)،1992،الفكر الإسلامي: نقد و اجتهاد،ترجمة و تعليق هاشم صالح،دار الساقي ط1، 1992،لندن.
5.براند(جيرد)،1983،العالم و التاريخ و الأسطورة ،تر:عبد الغفار مكاوي ،مجلّة فصول،مجلّة النقد الأدبي،الهيئة المصريّة العامة للكتاب ،القاهرة -مصر ،المجلّد 4 عدد1.
6.بن حدّو (رشيد)،1988،قراءة في القراءة،مجلّة الفكر العربي المعااصر،عدد48-49،مركز الإنماء القومي ،بيروت-لبنان.
7.الحبابي (محمّد العزيز)،د-ت،الشخصانيّة الإسلاميّة،د-ت،دار المعارف،ط2،القاهرة-مصر.
8. 1976-1977،من تأريخ الفارابي إلى تآريخيّته،مجلّة دراسات فلسفيّة و أدبيّة،السلسلة الجديدة،عدد1، ،دارالكتاب،الدار البيضاء-المغرب.
9. 1988،ورقات عن فلسفات إسلاميّة،دار توبقال للنشر،1988،الدار البيضاء-المغرب.
10.الحبيب (سهيل)،1997،اعتماد مقولات المنهج الاجتماعي التاريخي في فهم دلالات القرآن عند المفكّرين المعاصرين أو بواكير نهج القراءة الإنسيّة،مجلّة الحياة الثقافيّة،عدد86،السنة 22،تونس.
11.حرب (عليّ)،1993،نقد النصّ ،المركز الثقافي العربي،ط1، 1993،بيروت-لبنان.
12.حنفي (حسن)،1979،من التراث إلى الثورة،حول نظريّة مقترحة في التراث العربي،مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتى المرحلة المعاصرة،دار الجيل،1979،ط3،بيروت-لبنان.
13.سبيلا(محمد)، 2000-2001،الوعي الفلسفي بالحداثة بين هيغل و هيدغر،مجلة الفكر العربي المعاصر،عدد116-117،مركز الإنماء القومي ،بيروت –لبنان.
14.عطية (عاطف) و آخرون،1995،العنف الأصولي: نوّاب الأرض و السماء،رياض الريس للكتب و النشر، ط1، 1995 ،لندن-بيروت.
15.الغذامي(عبد الله)،1985،الخطيئة و التكفير:من البنيوية إلى التشريحيّة قراءة معاصرة لنموذج إنسان معاصر،،د-ط،1985 ،جدة-السعوديّة،النادي الأدبي الثقافي.
16.غليون (برهان)،1991، نقد السياسة:الدولة و الدين،المؤسّسة العربيّة للدراسات و النشر،1991،ط1،بيروت-لبنان.
17. رهانات العولمة : على الموقع الإلكتروني: Accéder Google Francais
18.فوشو(ميشال)1998،تاريخ الأفكار و العقل المنعكس،قراءة في ماهية العقل الغربي،مجلة الفكر العربي المعاصر،عدد102-103
19.فيرجوت(أنطوان)1983،،الدين و الدنيويّة في أوروبا الغربيّة،مجلّة شؤون عربيّة،عدد28،جامعة الدول العربيّة،تونس.
 
لم أقرأ المقال إلا أني وجدت استاذنا الدكتور إلياس قويسم من تونس، ففي لحظة خاطفة تذكرت كلام مستر هانوتو وزير خارجية فرنسا في كلامه المكتوب ردا اظن على الشيخ محمد عبده انه يريد أن ينزع تونس من مكة
وهاأنذا أقول هاهي تونس تعود إلى مكة، في ملتقى الإنتصار للقرآن الكريم، على الأقل!
فأهلا ومرحبا بك سيدي الدكتور إلياس، وسأقرأ المقال حالا بعد أن تمتعت برؤية عنوانه!
 
شكرا أخي الكريم على حسن شعورك ،و تلك سنة الله :يريدون ليطفؤوا نور الله بأفواههم و الله متمّ نوره و لو كره الكافرون.نتواصل إن شاء الله أخي الكريم و نجدد تحياتي على شعورك المرهف
 
بحث ممتع، بارك الله فيك سعادة الدكتور إلياس قويسم.

الأنسنة والعقلنة والعلمنة التي تطرق إليها الدكتور طه عبد الرحمان في كثير من مناقشاته الفلسفية والأخلاقية ليست معايير في الفكر الغربي بل هي ردة فعل في ثوب "مبادئ" جاءت نتيجة صراع خاضه الأنواريون في أوروبا مع رجال الكنيسة و أُنزلت منزلة قوام الواقع الحداثي الغربي، ومن المعلوم عند التنقيب والتمحيص أن الحداثة: أ) ظاهرة واحدة من عدة ظواهر في الفكر الغربي، ب) روح الحداثة غير واقعها و ت) واقعها متعدد في الزمان والمكان وليس واحدا. لابد من الإشارة إلى غياب مبدأ آخر في مثل هذا التحليل وهو الفردنة (وجوب التخلص من الروح الجماعاتية التي كانت الكنيسة تقف عليها) وأظن أن عدم التأصيل لهذا المبدأ في كثير من القراءات العصرية والحداثية سببه أن جل "المفكرين" من خلفية يسارية أو على الأقل من خلفية علمانية متطرفة ترى أن الثورة الفرنسية كلمة مرادفة للثورة الغربية. وفي نظري هذه النظرة لما يسمى الفكر الغربي نظرة إنتقائية إختارها هؤلاء المنظرون لسبب أو لآخر وهي نظرة علمانية متطرفة قرأت التاريخ إيديولوجيا أو كانت تريد أن تسقط الصراع الانواري-الكنسي الكاثوليكي على أوروبا بأكملها، إذن هي قراءة فكرانية وليست قراءة تاريخية علمية. مثال صغير لتوضيح ذلك: التصدي للوصاية الكنسية عرف طريقه الحقيقي والثوري على يد التيار الإصلاح الديني الذي نادى بل وحارب من أجل فكر بالـكتاب فقط. ونرى بريطانيا وبعض الدول الإسكندنافية حققت واقعها الحداثي -لا الحداثة نفسها- بتزامن أو بتصاحب مع حركات الإصلاح الديني جنب إلى جنب. هذه حقائق تاريخية رغم أن الهيمنة للقراءة الفكرانيّة التي إستطاعت أن تجد طريقا إلى التأريخ لأوروبا ولا أستبعد أن تقوم نخب أوروبية في المستقبل القريب إعادة النظر فيما أصبح من المسلمات.

لكن بغض النظر عن ذلك يجب أن نسأل فيماذا يهم معرفة "الفكر الغربي" (سواء بالتصور الواقعي أم بالتصور البلاغي والفكراني) في معالجة القراءات العصرية والحداثية للنص القرآني المقدّس؟ أسأل هذا السؤال وأنا أتذكر كلام للدكتور إسماعيل أحمد الطحان يقول فيه: "وحتى الذين آثروا المنطق وموضوعية البحث حادوا بعض الشيء عن صلب المشكلة واستمرأوا الدفاع عن قضية ليست هي جوهر المشكلة وقصروا حديثهم على النظرية دون التطبيق فلم يدحضوا باطلا ولم يستردوا حقا.".

تجد قارئ إسلامي لكتابات العصرانيين والحداثيين يكشف أن هؤلاء تقليديين يعيدون إنتاج الواقع الغربي لكن نحن المسلمين لم نمر بنفس المراحل التي مر فيها أو بها "الغرب" (وهذا حق) ولذلك نظرياتهم لا تناسبنا نحن. هل معنى هذا أنه - لا قدّر الله - لو حدث معنا ما حدث مع الأوروبيين فسوف يعني الإسلام ما تعنيه المسيحية؟ هل عندها يعقل أن نقول لابأس لكل من هب ودب يعيد قراءة ثبوت النص القرآني وقدسيته؟
ثم تجد قارئ إسلامي آخر يرفض النظرة العلمانية معللا ذلك بالقول أن المسيحية قابلة للعلمنة بسبب مبدأ دع لقيصر ما لقيصر..
هذا يتكلم عن علمانية ظهرت نتيجة الصراع مع الدين وآخر يتكلم في علمانية من "توليد" الدين.. وبين القولين طارت الحقيقة إلى السحابة وذهبت تلك السحابة وبقينا تحت زمهرير الشمس لا ندري أإلى الشرق نتجه أم إلى الغرب..

لهذا أرى أن الكتابات العصرية والحداثية والايديولوجية الأخرى الي تريد "إعادة" قراءة "النص" لأنسنته أو علمنته أو روحنته (من التصوف الفرداني) أو عقلنته أو دنيوته أو إعلائه (جعله 'شيء' فوق الانسان من عالم آخر لا يناسب الانسان) أو غير ذلك لن تخرج عن زوايا المثلث: الهدف، الأداة وطريقة إستخدام الأداة.
يجب التركيز على هذا المثلث منطلقين من الذات لا نسلم ذواتنا لغيرنا فنحن نقر بمناهجنا وأدواتنا وأهدافنا ولا نترك منهجا من مناهج أُبدعت من داخل ذواتنا حتى يثبت ما هو أحسن منها. والـأشياء كما يقال بأضدادها تعرف.
الهدف: إلى ماذا يريد أن يصل؟ هل نختلف (إختلاف تضاد) نتقف معه أم نتميز (اختلاف تنوع) عنه؟
الأداة: هل ثبتت وأنتجت ويعمل بها أم تخريفات إفتراضية؟ هل نكتفي الرد عليه بتلك الأداة أو الأدوات أم نقحم في النقد أداة أو أدوات خارجية إبداعية تتصل بالذات و لا تنفصل عن النافع الثابت عند غيرنا؟
طريقة إستخدام الأداة: يتبع الأداة. إن تثبت نظرنا في صحة التوظيف وهل يمكن أن نوظفها بشكل أحسن ثم نصل إلى نتيجة أخرى؟

هذا هو الطريق كما أظن وأظن أن ماعدا ذلك مضيعة للوقت ليس إلا - على الأقل في نظري أنا طبعا، ولا إكراه في الرأي قد تبين المفيد من اللغو. على الأقل عندي أنا.

جزاك الله خيرا. ننتظر المزيد وفقك الله لنصرة دينه وإظهار رسالته الخاتمة.
 
شكرا على تفاعلك مع هذه الدراسة ،و تصوّرك منطقي و معقول يأتي ضمن تشخيص للمكوّنات النظريّة لمفهوم الحداثة و ما قابلها من ممارسة إجرائيّة ضمن إحداثياتها الزمنيّة و المكانيّة،و مثل هذه المراجعات الأليمة التي قام بها الفكر الغربي كما ذكر محمد أركون في كتاباته تأتي ضمن سياقات معيّنة و ملابسات مغايرة للموروث الثقافي الإسلامي في تفاعله مع نصوصه المركزيّة خصوصا القرآن من حيث كونه رسالة تخترق الزمان و تؤثّر و لا تتأثّر به من حيث قصر فاعليّته على زمن دون آخر من منطلق العبارة القرآنيّة "لحافظون" وهي تقصر الحفظ على القرآن دون غيره من الكتب و من ثمّ جرأة الفكر الغربي في مستوى بعض تجاربه الدفع بالدراسات الاستشراقيّة نحو أرخنة القرآن و جعلها نصّا ثقافيّا أو منتجا واقعيّا أو توصيفه بعبارات تاريخيّة مؤنسنة هدفها تملّك القارئ له ومن ثمّ خضوعه لمفهوم القراءة الحرّة و انقلاب معيار الاحتكام من القرآن إلى الواقع المتغيّر القائم على أساس المصلحة فهي محاولات بيّنة واضحة في أهدافها وهي اعتقال النصّ في زمنيّته للتصرذف في مقولاته و معانيه بحسب الآفاق الغدويّة الإنسيّة في استبعاد تام للمقولات التي تحيل على الإله أو الغيب أو الميتافيزيقا،لأنّهم يريدون عالما يحتكم إلى الإنسان،بالرغم من أنّ مناهجهم كثيرا ما تقصر عن انتزاع الشواهد من مضانها القرآنيّة للتدليل على مقولاتهم فيعنبرون أنّ العيب في النصّ لا في المنهج وهنا مكمن الدوغمائيّة المنهجيّة أو الوثوقيّة الأصوليّة التي تتعارض و منطوق مقولاتهم القائمة على الترحال لا على الحلّ إنّها الهجرة و النسبيّة و الموقوتيّة .و لا يعني هذا الاتهام التقليل من قيمة المناهج بقدر ما نسعى إلى التنبيه على الفارق بين المنهج و خلفيّاته و شحناته الإيديولوجيّة ،فيمكن الاستعانة بالمنهج كتقنية لا كأقانيم و أطروحات إيديولوجيّة،وهذا المنطق الحداثي-القيمي الذي يجب أن يسود من خلال التنصيص على خصوصيّة كلّ أمّة و تعزيزها و تعييرها بدل السعي نحو منطق المتابعة و المراقبة قصد دفعها للخضوع لا للتفاعل
و شكرا على تفاعلك
 
جزاك الله خيرا سيدي الكريم الدكتور إلياس قويسم،،
مبحث إظهار القرآن أو الإنتصار للقرآن مبحث عظيم ينبغي أن يتحول إلى علم حقيقي قائم بمناهجه وأصوله الخاصة يهتم به العلماء والباحثون جماعة وأفرادا، ويأخذ هذا العلم حصة وافرة من الإهتمام لدى المراكز والمؤسسات المعنية بعلوم القرآن ودراساته، ويطرح بقوة في الملتقيات والمؤتمرات، بل أرى أن هذا ينبغي أن يكون من أولى الأولويات.

ما يوجه للقرآن من إتهامات وما يوجه ضده من دعاوي وما يدور حوله من نقاشات لهذا أو ذاك السبب لا تخرج عن المصدر أي أصل القرآن والقيمة العملية (حكمية، روحية، قيمية وتربوية توجيهية) أو كلاهما معاً. إذا أخذنا نبحث في خلفيات تلك الإتهامات، الدعاوي والنقاشات فسوف لن نتحرر من الإنغلاق على هو نظري بحت، وتكون المواجهة مع القناعات في عقر دارها والقناعات في أرضها غالبا ما تتحول إلى "كيان دوغمائي"، إذن هذا لن يجدي شيئا ملموسا والمسلم العامي أو غير المتخصص سيقرأ سطر أو سطرين ثم ينسحب. لذلك يجب التركيز على إستنباط الأهداف، ثم الأدوات وهي الخطوات التي تستهدف تحقيق الغاية وأخيرا طرق توظيف هذه الأدوات (قد تكون هذه الطرق أيضا مناهج ولهذه المناهج بدورها خلفيات معينة، وهكذا سندور في دوامة لا تنتهي).

كما أظن أن الدخول في مناقشة الخلفيات يؤدي إلى الإقتصار عليها فالهجرة والنسبية والموقوتية والمادية والفدائية (عقيدة المسيحية) والوضعية وغيرها من الخلفيات التي ينطلق منها "المتكلّم" هي أيضا عقائد تفتقر إلى الثبوت عندهم كما تحتاج إلى إثباتها أمام غيرهم، وهذه العمليات بدورها تقوم بأنظمة حججاية ومسالك تبريرية ومناهج تنظيرية مختلفة، وعلى ذلك سيتحول "إظهار القرآن" إلى "المناظرة العقدية". هذا التحول لا عيب فيه، بل العيب أن يؤدي هذا التحول إلى الإبحار في التناظر مما يؤدي إلى غض الطرف عن "الإظهار" بعد أن قال المتكلّم مقالته، وهذا للأسف الشديد هو الواقع.
 
عودة
أعلى