الفرق بين قولي الله تعالى: يحرفون الكلم عن مواضعه، و : يحرفون الكلم من بعد مواضعه؟

البنهاوي

New member
إنضم
28/02/2006
المشاركات
3
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
ما هو الفرق بين قولي الله تعالى: يحرفون الكلم عن مواضعه، و : يحرفون الكلم من بعد مواضعه؟
 
46

مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً

قال ابن عاشور رحمه الله:
التحريف هنا مستعمل في الميل عن سواء المعنى وصريحه إلى التأويل الباطل، كما يقال: تنكَّب عن الصراط، وعن الطريق، إذا أخطأ الصواب وصار إلى سوء الفهم أو التضليل، فهو على هذا تحريفُ مراد الله في التوراة إلى تأويلات باطلة، كما يفعل أهل الأهواء في تحريف معاني القرآن بالتأويلات الفاسدة. ويجوز أن يكون التحريف مشتقّاً من الحرف وهو الكلمة والكتابة، فيكون مراداً به تغيير كلمات التوراة وتبديلها بكلمات أخرى لتُوافِق أهواء أهل الشهوات في تأييد ما هم عليه من فاسد الأعمال. والظاهر أنّ كلا الأمرين قد ارتكبه اليهود في كتابهم. وما ينقل عن ابن عبّاس أنّ التحريف فساد التأويل ولا يعمد قوم على تغيير كتابهم، ناظرٌ إلى غالب أحوالهم، فعلى الاحتمال الأول يَكون استعمال { عن } في قوله: { عن مواضعه } مجازاً، ولا مجاوزة ولا مواضِعَ، وعلى الثاني يكون حقيقة إذ التحريف حينئذٍ نقل وإزالة.


41

يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ

وقال هنا { مِن بعد مواضعه } ، وفي سورة النساء (46) { عَن مواضعه } ، لأنّ آية سورة النّساء في وصف اليهود كلّهم وتحريفهم في التّوراة. فهو تغيير كلام التّوراة بكلام آخر عن جهل أو قصد أو خطأ في تأويل معاني التّوراة أو في ألفاظها. فكان إبعاداً للكلام عن مواضعه، أي إزالة للكلام الأصلي سواء عوّض بغيره أو لم يعوّض. وأمّا هاته الآية ففي ذكر طائفة معيّنة أبطلوا العمل بكلام ثابتٍ في التّوراة إذْ ألغوا حكم الرّجم الثّابت فيها دون تعويضه بغيره من الكلام، فهذا أشدّ جرأة من التّحريف الآخر، فكان قوله: { من بعد مواضعه } أبلغَ في تحريف الكلام، لأنّ لفظ (بعد) يقتضي أنّ مواضع الكلم مستقرّة وأنّه أبطل العمل بها مع بقائها قائمة في كتاب التّوراة.
أ.هـ. من التحرير والتنوير.

وما قاله ابن عاشور مخالف لما ورد عن أبي حيان، فكل منهما نظر إلى جهة تختلف عن الآخر ... حيث راعى ابن عاشور ألفاظ الآيتين، بينما التفت أبو حيان إلى السياق ..
حيث قال:
الذي يظهر أنهما سياقان، فحيث وصفوا بشدة التمرد والطغيان، وإظهار العداوة، واشترائهم الضلالة، ونقض الميثاق، جاء يحرفون الكلم عن مواضعه. ألا ترى إلى قوله: { ويقولون سمعنا وعصينا } وقوله:
{ فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه }
فكأنهم لم يتركوا الكلم من التحريف عن ما يراد بها، ولم تستقر في مواضعها، فيكون التحريف بعد استقرارها، بل بادروا إلى تحريفها بأول وهلة. وحيث وصفوا ببعض لين وترديد وتحكيم للرسول في بعض الأمر، جاء من بعد مواضعه. ألا ترى إلى قوله:
{ يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا }
وقوله بعد:
{ فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم }
فكأنهم لم يبادروا بالتحريف، بل عرض لهم التحريف بعد استقرار الكلم في مواضعها. وقد يقال: أنهما شيئان، لكنه حذف هنا. وفي أول المائدة: من بعد مواضعه، لأن قوله: عن مواضعه يدل على استقرار مواضع له، وحذف في ثاني المائدة عن مواضعه. لأن التحريف من بعد مواضعه يدل على أنه تحريف عن مواضعه، فالأصل يحرفون الكلم من بعد مواضعه. فحذف هنا البعدية، وهناك حذف عنها. كل ذلك توسع في العبارة، وكانت البداءة هنا بقوله: عن مواضعه، لأنه أخصر. وفيه تنصيص باللفظ على عن، وعلى المواضع، وإشارة إلى البعدية. أ.هـ.
 
نبه النسفي والرازي للفرق بينهما في التفسير ، فيمكن العودة لهما .

والله أعلم .
 
قال النسفي رحمه الله :
{ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مواضعه } يميلونه عنها ويزيلونه لأنهم إذا بدلوه ووضعوا مكانه كلماً غيره فقد أمالوه عن مواضعه في التوراة التي وضعه الله تعالى فيها وأزالوه عنها مقامه وذلك نحو تحريفهم «أسمر ربعة» عن موضعه في التوراة بوضعهم «آدم طوال» مكانه . ثم ذكر هنا «عن مواضعه» وفي المائدة { مِن بَعْدِ مواضعه } [ المائدة : 41 ] فمعنى «عن مواضعه» على ما بينا من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه ، ومعنى { مِن بَعْدِ مواضعه } أنه كانت له مواضع هو جدير بأن يكون فيها ، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره والمعنيان متقاربان .
مدارك التنزيل وحقائق التأويل ج1 ص256 طبعة دار الكتب العلمية .
 
ثم وجدت النسفي رحمه الله يفرق بين اللفظتين في التفسير فينسب الأولى إلى التحريف المعنوى والتأويل الباطل الفاسد والثانية إلى التحريف اللفظي وهذا في تفسير سورة المائدة .

قال النسفي في تفسير { يحرفون الكلم عن مواضعه } المائدة آية 13: (( يفسرونه على غير ما أنزل )) تفسير النسفي ج1 ص312 .

وفرّق رحمه الله بين الآية السابقة وبين قوله تعالى { يحرفون الكلم من بعد مواضعه } المائدة آية 41 فقال : (( أي يزيلونه ويميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها فيهملونه بغير مواضع بعد أن كان ذا موضع )) المصدر السابق ص322 .

وانتصب الرازي رحمه الله لهذة المسألة فقال في تفسيره لسورة النساء آية 46 : (( المسألة الرابعة : ذكر الله تعالى ههنا : { عَن مواضعه } وفي المائدة { مِن بَعْدِ مواضعه } [ المائدة : 41 ] والفرق أنا إذا فسرنا التحريف بالتأويلات الباطلة ، فههنا قوله : { يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه } معناه : أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص ، فههنا قوله : { يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه } معناه : أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص ، وليس فيه بيان أنهم يخرجون تلك اللفظة من الكتاب . وأما الآية المذكورة في سورة المائدة ، فهي دالة على أنهم جمعوا بين الأمرين ، فكانوا يذكرون التأويلات الفاسدة ، وكانوا يخرجون اللفظ أيضا من الكتاب ، فقوله : { يُحَرّفُونَ الكلم } إشارة إلى التأويل الباطل وقوله : { مِن بَعْدِ مواضعه } إشارة إلى إخراجه عن الكتاب )) منقول من الموسوعة الشاملة .

والله أعلم .
 
لتقريب المراد:
يرى أبو حيان ـ رحمه الله تعالى ـ اختلاف التعبير لاختلاف الترتيب الزمني للمحرِّفين.
" عن مواضعه ": تحريف بني إسرائيل قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم (وهو لفظي غالباً)
" بعد مواضعه ": تحريف بني إسرائيل زمن النبوة الشريفة (وهو تحريف المعنى غالباً)؛ لأن ألفاظ التوراة استقرت (على التحريف اللفظي الأول السابق).

والحكم في بيان أي المعنيين مراد، هو السياق.

بعد فهم هذا، تبين ما جاء في البحر المحيط:
" والذي يظهر أنهما سياقان، فحيث وصفوا بشدة التمرد والطغيان، وإظهار العداوة، واشترائهم الضلالة، ونقض الميثاق، جاء يحرفون الكلم عن مواضعه.
ألا ترى إلى قوله: " ويقولون سمعنا وعصينا " وقوله: " فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه " فكأنهم لم يتركوا الكلم من التحريف عن ما يراد بها، ولم تستقر في مواضعها، فيكون التحريف بعد استقرارها، بل بادروا إلى تحريفها بأول وهلة.
وحيث وصفوا ببعض لين وترديد وتحكيم للرسول في بعض الأمر، جاء من بعد مواضعه. ألا ترى إلى قوله: " يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا " وقوله بعد: " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " فكأنهم لم يبادروا بالتحريف، بل عرض لهم التحريف بعد استقرار الكلم في مواضعها ".

والله تعالى أعلم
 
عودة
أعلى