الفرق بين ضِعَاف و ضُعَفَاءُ من خلال التفسير الموضوعي / بقلم الدكتور أنس العمايرة

إنضم
24/05/2011
المشاركات
14
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
الإقامة
المملكة الأردنية الهاشمية / العاصمة عمَان.
الفرق بين ضِعَاف و ضُعَفَاءُ في القرآن الكريم
من خلال التفسير الموضوعي
بقلم
الدكتور أنس العمايرة

(ضِعَاف و ضُعَفَاءُ) كلمتان قرآنيتان متفقتان في المادة اللغوية: (ض ع ف)، وهما جمعان لكلمة "ضَعِيْف"، إذ تقول: ضَعُفَ يَضْعُفُ، ضَعْفاً وضُعْفاً وضَعَافَةً وضَعَافِيَةً. فهو ضَعِيْفٌ وضَعُوفٌ وضَعْفانُ. والجمع: ضِعَافٌ، وضُعَفاءُ، وضَعَفَةٌ، وضَعْفَى، وضَعافَى. ونسوة ضَعِيفاتٌ وضَعائفُ وضِعَافٌ(1).
هذان الجمعان لم يلفتا انتباه اللغويين والمفسرين ككلمتي "ضَّعْفُ وضُّعْفُ" اللتين فرق بعضهم بينهما، فيرى الخليل بن أحمد الفراهيدي أن "الضَّعْف" بالفتح يكون في: الرَّأْي والعَقْلِ. و "الضُّعْف" بالضم يكون في: الجسد(2). وبذلك صرح أبو البقاء(3).
ويرى ابنُ الأَعرابي أن الضَّعَفَ بفتح العين لغة في الضَّعْفِ بتسكين العين وأَنشد مُفَرِقاً بين ما هو مضموم الضاد وما هو مفتوح الضاد:

ومَنْ يَلْقَ خَيْراً يَغْمِزِ الدَّهْرُ عَظْمَه = عَلَى ضَعَفٍ من حالِهِ وفُتُورِ

فهذا في الجسم .

وأَنشد في الرَّأْي والعقل:
ولا أُشارِكُ في رَأْيٍ أَخا ضَعَفٍ = ولا أَلِينُ لِمَنْ لا يَبْتَغِي لِينِي(4)

في الوقت الذي يقول فيه الفراء: (الضم لغة قريش، والفتح لغة تميم)(5)؛ لذا فهما يحملان نفس المعنى(6). و يخبرنا الأَزهريُّ أن كليهما سِيّانِ عند البصريين حيث يُسْتعملان معاً في ضُعف البدن وضَعف الرَّأْي(7). ويقول الزجاج: (والمعنى في القراءتين واحد، يقال: هو الضُعف والضَعف، والمُكث والمَكث، والفُقر والفَقر. وفي اللغة كثير من باب "فُعل وفَعل" والمعنى واحد)(8).
حول الأصل اللغوي
الكلمتان يجمعها الأصوات الثلاثة: ( ض ع ف) وهي في أصل اللغة تدل على أمرين، أولهما: خلاف القوة -والكلمتان المدروستان من هذا الباب- وثانيهما: المِثل والزيادة. يقول ابن فارس:(الضاد والعين والفاء أصلان متباينان، يدل أحدهما على خلاف القُوة، ويدل الآخر على أن يُزاد الشيءُ مِثْلَه.
فالأول: الضَّعْف و الضُّعْف، وهو خلاف القُوَّة، يقال: ضَعُفَ يضعُفُ، ورجلٌ ضَعِيْفٌ وقومٌ ضُعَفاءُ وضِعَافٌ.
وأما الأصل الآخر فقال الخليل: أضْعَفْتُ الشيءَ إضْعَافاً، وضَعَّفتُه تَضْعِيْفَاً، وضاعفْتُه مُضاعَفةً، وهو أن يُزادَ على أصل الشيءِ فيُجعلَ مِثْلَين أو أكثر. وقال غيره: المضعوف: الشيء المضاعَف)(9).
جولة مع مادة (ضعُفَ) وتصريفاتها في القرآن الكريم
وردتْ مادة (ضعف) واشتقاقاتها وتصريفاتها مرات عديدة في القرآن الكريم، نستطيع ذكرها ضمن مجموعتين تبعا للمعنى:
المجموعة الأولى: (يُضَاعِفْهُ، فَيُضَاعِفَهُ، يُضَاعِفْهَا، يُضَاعَفُ، ضِعْفٌ، ضِعْفاً، ضِعْفَيْنِ، أَضْعَافاً، مُضَاعَفَةً، الْمُضْعِفُونَ).
المجموعة الثانية: (ضَعُفَ، اسْتُضْعِفُوا، يُسْتَضْعَفُونَ، يَسْتَضْعِفُ، ضَعْف، أَضْعَفُ، ضَعِيفاً، ضِعَاف، ضُعَفَاءُ، مُسْتَضْعَفُونَ).

أما المجموعة الأولى فهي مشتقة من: الضِّعْف بكسر فاء الكلمة وهو "الضاد" وتسكين عينها وهو "العين"، وكل كلمة من هذا الاشتقاق –أي: كان أصلها مكسور الضاد وساكن العين- تحمل المعنى الثاني الذي ذكره ابن فارس وهو: المِثْل (10). فتقول عندي ضِعْفُ ما عندك من النقود، أي: مثلاه. وضِعْفاه ثلاثةُ أمثاله. لذا تدخل كلمة الضِّعْف وما تَصَرَف عنها ضمن الأسماء (المُتضايفة) التي يقتضي وجود أحدهما وجود الآخر، تماماً كالجار فإنه لا يكون جارا لغيره إلا وذلك الغير جار له، و كالأخ والصديق.

هذه المجموعة وردت في أربع عشرة آية بواقع ثماني عشرة مرة إلا أنها خارجة عن موضوع البحث(11)؛ وسأكتفي بالتمثيل بآية واحدة فقط وأترك دراسة بقية الآيات لباحث آخر يعيش ظلالها ويستخرج لطائفها وإيحاءاتها(12).
قال تعالى: ]يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً[ (الأحزاب: 30) الخطاب خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم والحكم كذلك، وهو أن من تقع في الزنا منهن تعاقب يوم القيامة عقابا يختلف عن عقاب غيرهن من المسلمات، فعقابهن ثلاثة أمثال عقاب غيرهن من المسلمات. لِما قاله الطيبي: (والصواب أن ضِعْف الشيء مثلاه، وضِعْفيه ثلاثة أمثاله) (13).
بقي أن نورد كلام الراغب حول ذلك، قال رحمه الله: (والضِّعْفُ هو: من الألفاظ المُتضايفة التي يقتضي وجود أحدهما وجود الآخر كالنصف والزوج، وهو تركُّبُ قدْريْنِ مُتَساوِيين ويختص بالعدد، فإذا قيل: أَضْعفْتُ الشيءَ وضَعّفْتُه وضَاعَفْتُه: ضَمَمْتُ إليه مِثْلَه فصاعِدا ...... فَضِعْفُ الشيء هو الذي يُثَنِّيه، ومتى أُضِيفَ إلى عَدد اقتضى ذلك العدد ومِثْلَه، نحو أن يقال: ضِعْفُ العَشَرَة و ضِعْفُ المائة: فذلك عِشْرون ومائَتَان بلا خِلاف ....... وإذا قيل: أعطه ضعفي واحد فإن ذلك اقتضى الواحد ومثليه وذلك ثلاثة؛ لأن معناه الواحد واللذان يزاوجانه وذلك ثلاثة، هذا إذا كان الضِّعْف مضافا، فأما إذا لم يكن مضافا فقلتَ: الضِّعفين فإن ذلك يجري مجرى الزوجين في أن كل واحد منهما يزاوج الآخر فيقتضي ذلك اثنين لأن كل واحد منهما يضاعف الآخر، فلا يَخرجان عن الاثنين بخلاف ما إذا أضيف الضعفان إلى واحد فَيُثَلِّثْهُما نحو ضِعْفَي الواحد) (14).

أما المجموعة الثانية ففيها محور الدراسة (ضِعَاف و ضُعَفَاءُ) إلا أنني سأبدأ بالتصاريف الأخرى إجمالا ثم أنتقل إلى محور الدراسة تفصيلا:

أولاً:(ضَعُفَ): هو الفعل الماضي المبني للمعلوم للمادة المدروسة، ورد مرتين، وجاء بالمعنى المعنوي للكلمة لا الحسي وإليك البيان:
قال تعالى: ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ[ (الحج:73). فالضَعف هنا ليس ضُعفا ماديا محسوسا في الأجسام بل هو ضَعف معنوي في الحال، أي الضَعف الذي هو ضد القوة، بمعنى: عَجَزَ ولم يستطع.
وقال تعالى في وصف من قاتل مع الأنبياء(15): ]وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ[(آل عمران:146). فالضَعف هنا ضَعف الروح المعنوية لهم بدلالة قوله تعالى: ]لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ[ والذي يصيبهم في سبيل الله هو القتل والجرح والأسر والتعذيب .... رغم ذلك فلم تضعف عندهم الروح المعنوية وبقيت قوية. قال الإمام الطبري رحمه الله: (يعني بقوله تعالى ذكره: ]فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ[ فما عجزوا لما نالهم من ألم الجراح الذي نالهم في سبيل الله، ولا لقتل من قتل منهم عن حرب أعداء الله، ولا نكلوا عن جهادهم. ]وَمَا ضَعُفُوا[ يقول: وما ضعفت قواهم لقتل نبيهم ]وَمَا اسْتَكَانُوا[ يعني: وما ذلوا فيتخشعوا لعدوهم بالدخول في دينهم ومداهنتهم فيه خيفة منهم، ولكن مضوا قُدُمَا على بصائرهم ومنهاج نبيهم صبرا على أمر الله وأمر نبيهم وطاعة لله واتباعا لتنزيله ووحيه)(16) .

ثانياً: (اسْتَضْعَفُونِي): هو الفعل الماضي المبني للمعلوم -للمادة المدروسة– المتصل بياء المتكلم والمضاف في أوله سين وتاء. ورد مرة واحدة، وجاء بالمعنى المعنوي للكلمة لا الحسي وإليك البيان:

قال تعالى: ]قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي[ (الأعراف:150) أي: ظنوا أني ضعيف لا ناصر لي؛ فتركوا طاعتي واتباع أمري فعبدوا العجل. قال الطبري: (وكان استضعافهم إياه: تركهم طاعته واتباع أمره)(17) ، والظاهر أن هارون عليه السلام كان يتصف بهدوء الأعصاب يستقبل المواقف الانفعالية بأعصاب هادئة؛ لذا حاول عليه السلام أن يعالج أمر العجل بطريقة هادئة خشية إن هو استخدم العنف يتفرق بنو إسرائيل، وقد أمره أخوه أن يحافظ عليهم، فنصحهم وبيّن لهم فرفضوا فعارضهم وحده معارضةً شديدة؛ فرأوا أن ليس له شوكة عليهم فاستضعفوه وأوشكوا أن يقتلوه؛ فقدَّم حفظ الجماعة والأنفس والأخوة على حفظ العقيدة اجتهاداً منه عليه السلام، على اعتبار أن موسى عليه السلام سيصحح لهم عقيدتهم عند عودته من مناجاة ربه؛ لذا سكت وانتظر مجيء موسى عليه السلام. وهذا هو الاستضعاف وهو معنوي كما ترى. قال ابن عاشور: (وكان اجتهاده ذلك مرجوحا لأن حفظ الأصل الأصيل للشريعة أهم من حفظ الأصول المتفرعة عليه)(18).
قال القرطبي: (استذلوني وعدّوني ضعيفا)(19).
ويقول ابن عاشور: (والسين والتاء في ]اسْتَضْعَفُونِي[: للحسبان، أي حسبوني ضعيفا لا ناصر لي؛ لأنهم تمالؤوا على عبادة العجل، ولم يخالفهم إلا هارون في شرذمة قليلة. وقوله: ]وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي[ يدل على أنه عارضهم معارضة شديدة ثم سلّم خشية القتل)(20).

ثالثاً: (اسْتُضْعِفُوا): هو الفعل الماضي المبني للمجهور للمادة المدروسة، المتصل بضمير الواو الذي هو في محل مفعول به.
ورد هذا الفعل أربع مرات وجاء بالمعنى المعنوي للكلمة لا الحسي وإليك البيان:
ثلاثة منها جاءت في سياق تخاصم الأتباع والمتبوعين في النار وكان ذلك في سورة واحد هي سورة "سـبأ"، قال تعالى حكايةً عنهم: ]وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ[ (سـبأ:31) فالذين اسْتُضْعِفُوا هنا هم: الاتباع والعوام و ضعفاء الرأي والمستحقرين والمستذلين(21)، وليسوا ضُعفاء الجسم الهزيلين المرضى. واستضعافهم كان بسبب تبعيتهم وضَعف رأيهم؛ لأن معنى استضعفه: وجده ضعيفاً(22) واعتبره كذلك.
ومثلها ]قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى[ (سـبأ:32) و ]وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ[ (سـبأ:33) فتطلق هذه الكلمة على أصحاب الآراء السطحية كما حكى عن قوم نوح قولهم: ]مَا نَرَاكَ إِلا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ[(هود:27).

أما الموضع الرابع فجاء في سياق تشكيك الكفرة من قوم عاد العامة المتبعين صالح عليه السلام في دعوته وإنكار ذلك عليهم والاستهزاء بهم، قال تعالى على لسان هؤلاء: ]قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ ؟‍‍‍![ (الأعراف:75) أي عامة الناس. حكى الواحديُ وابنُ الجوزي وغيرُهما أن المستضعفين هنا هم: المساكين(23).
وبقي أن نورد كلام ابن عاشور، يقول: (والذين استضعفوا هم: عامة الناس الذين أذلهّم عظماؤهم واستعبدوهم، لأن زعامة الذين استكبروا كانت قائمة على السيادة الدنيوية الخلية عن [لعلها: الخالية من] خلال الفضيلة من العدل والرأفة وحب الإصلاح؛ فلذلك وصَف الملأ: بالذين استكبروا، وأطلق على العامة وصف: الذين استضعفوا) (24).

رابعاً: (يُسْتَضْعَفُونَ): هو الفعل المضارع المبني للمجهول للمادة المدروسة، وهو متصل بالواو التي هي ضمير متصل في محل نائب فاعل.
ورد هذا الفعل مرة واحدة وجاء بالمعنى المعنوي للكلمة لا الحسي، قال تعالى: ]وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا[(الأعراف:137).
قال الإمام الطبري: (وأورثنا القوم الذين كان فرعون وقومه يستضعفونهم فيُذَبِّحونُ أبناءهم ويستحيون نساءهم ويستخدمونهم تسخيراً واستعباداً من بني إسرائيل)(25). فالاستضعاف هنا جاء بالمعنى المعنوي للكلمة وهو الاستعباد و الإذلال والاستحقار؛ بعد أن وجدوهم سطحيي التفكير.

خامساً: (يَسْتَضْعِفُ): هو الفعل المضارع المبني للمعلوم للمادة المدروسة، ورد مرة واحدة وجاء بالمعنى المعنوي للكلمة أيضاً، وكان فاعله ضميراً مستتراً يعود على فرعون اللعين، قال تعالى:
]إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ[ (القصص:4) والمعنى: أن فرعون وجد جماعة منهم ضَعيفة في الفكر وقابلة للاتباع فقام بذلهم وذبحهم .... .

سادساً: (مُسْتَضْعَفُونَ): وهو جمع المذكر السالم للمادة المدروسة، ورد خمس مرات في القرآن الكريم، مرة مرفوعاً وأخرى مجروراً وفيما بقي منصوباً، وجاء في جميع الحالات بالمعنى المعنوي للكلمة لا الحسي وقُصد بهم: من ليس لهم شوكة ولا غلبة.
قال تعالى: ]وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[ (الأنفال:26) أي: ليس لكم شوكة ولا غلبة في مكة. نقل الطبري بسنده عن قتادة رضي الله عنه قوله: (]وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ[ قال: كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا وأشقاه عيشا وأجوعه بطونا وأعراه جلودا وأبينه ضلالا على رأس حجر بين الأسدين فارس والروم، ولا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيا ومن مات منهم رُدِّيَ في النار، يُؤكَلَون ولا يَأكِلُون، والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منهم منزلا حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد ووسع به في الرزق وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس)(26).
وقال تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً[ (النساء: 97- 98) الآيتان تتحدثان عن فريقين، فريق النفاق في مكة الذين لم يهاجروا للمدينة بحجة أنهم مستضعفون، أي: ليسوا أصحاب شوكة و غلبة برغم أنهم قادرون على الهجرة، ثم خرجوا مع مشركي قريش إلى بدر فأُصيبوا يومئذ فيمن أصيب فهم من أهل النار.
وفريق آخر مؤمن ليس لهم شوكة ولا غلبة في مكة، فهم حقيقةً مستضعفون فيها، لا يستطيعون الهجرة لخوفهم وسيطرة قريش عليهم وعدم توفر المال ومعرفة الطريق، وهذا هو سب استضعافهم بنص الآية(28) .
فأنزل الله في الفريقين هاتين الآيتين لتكشف كذبَ المنافقين ومصيرَهم، وتَعْذُرَ أهلَ الصدق. وقد كان يقول ابن عباس رضي الله عنه في قوله: ]إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ[: (كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان)(28). وقال عكرمة و مجاهد رضي الله عنهما: (]لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً[ أي: نهوضا إلى المدينة ]وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً[: طريقا إلى ا لمدينة)(29). وقال السدي: (الحيلة: المال، و السبيل: الطريق إلى المدينة)(30).

قال تعالى: ]وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً[ (النساء:75) في الآية حث للمؤمنين في المدينة على الجهاد في سبيل الله وسبيل تخليص مَن ليس لهم قدرة ولا منعة من المسلمين -الذين ما زالوا- في مكة من قريش الظالمة.
قال ابن عباس: (]وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ[ هم أناس كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا منها ليهاجروا فعذرهم الله فهم أولئك)(31). وقال الإمام القرطبي شرحاً للآية الكريمة: (يعني بذلك جل ثناؤه: ]وَمَا لَكُمْ[ أيها المؤمنون ]لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ[ وفي
]وَالْمُسْتَضْعَفِينَ[ يقول: عن المستضعفين منكم ]مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ[ فأما من ]الرِّجَالِ[ فإنهم كانوا قد أسلموا بمكة فغلبتهم عشائرهم على أنفسهم بالقهر لهم وآذوهم ونالوهم بالعذاب والمكاره في أبدانهم؛ ليفتنوهم عن دينهم، فحض الله المؤمنين على استنقاذهم من أيدي من قد غلبهم على أنفسهم من الكفار فقال لهم: وما شأنكم لا تقاتلون في سبيل الله وعن مستضعفي أهل دينكم وملتكم الذين قد استضعفهم الكفار فاستذلوهم ابتغاء فتنتهم وصدهم عن دينهم؟)(32).
وقال تعالى: ]وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً[ (النساء:127).
والمعنى الله يفتيكم في النساء و في يتامى النساء وفي المستضعفين(33)من الولدان الصغار من أولاد الميت. قال ابن عباس: (وذلك أنهم كانوا لا يورثون الصغير والضعيف شيئا فأمر الله أن يعطى نصيبه من الميراث)(34). فالمستضعفون هنا هم من لم يبلغوا الحُلُم ، وسموا مستضعفين لأنهم تحت ولاية الآخرين فلا يحسنون التصرف.

سابعاً: (ضَعْف): وهو الاسم من المادة المدروسة، ورد أربع مرات في آيتين وقصد بها ضُعف الأبدان ، قال الله تعال : ]اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ[ (الروم:54) فالضعف الأول هو: نطفة وماء مهين، أي: المني. والضعف الثاني: الضعف الموجود في الجنين والطفل(35). والضعف الثالث هو: (الهرم والكبر)(36) في السن و الأبدان وقد يصاحبه نقص في العقل.
والقوتان الأولى هي: التي تجعل للطفل من التحرك وهدايته واستدعاء اللبن ودفع الأذى عن نفسه بالبكاء. والقوة الثانية هي: التي بعد البلوغ(37).
قال الراغب: (ويدل على أن كل واحد من قوله: (ضعف) إشارة إلى حالة غير الحالة الأولى: ذكره منكرا. والمنكر متى أعيد ذكره وأريد به ما تقدم عُرِّف(38). كقولك: رأيت رجلا فقال لي الرجل: كذا. ومتى ذكر ثانيا منكرا أريد به غير الأول)(39).
وقال تعالى: ]الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ[ (الأنفال:66) أي عدم القدرة على مواجهة الفرد الواحد منكم عشرة أفراد من عدوكم؛ لأن طبيعة الجسم البشرية لا تستطيع مواجهة عشرة من أمثاله، فهو ضعيف البدن أمامهم مهما كانت صحته قوية؛ لذا خُفف الحكم ليصبح لكل مجاهد اثنان.
فكما ترى هنا فإن المقصود هو الأمر المادي البدني لا المعنوي بخلاف ما يراه ابن عاشور إذ يقول: (وهو ضعف الرهبة من لقاء العدد الكثير في قلة وجعله مدخول (في) الظرفية يومئ إلى تمكنه في نفوسهم فلذلك أوجب التخفيف في التكليف)(40). ولكن لا أرى ذلك لأنهم بقوا -رضوان الله عليهم– ثابتين أمام العدو في معركة بدر حتى نزل التخفيف بعد المعركة.
تبين من خلال الآيتين السابقتين أن المعنى في "ضَعف" قد يأتي في الأبدان، وهذا مخالف لِما ذهب إليه بعض اللغويين في قول من أقوالهم بأن "ضَعف" بفتح الضاد يكون دائما في الأمور المعنوية مثل العقل.

ثامناً: (أَضْعَفُ): اسم تفضيل على وزن أفعل، ورد مرتان قال تعالى: ]فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً[ (مريم:75) بمعنى: أقل فئة و أنصاراً وأعواناً(41). وقريب منها قوله تعالى: ]حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً[ (الجـن:24).

تاسعاً: (ضَعِيف): اسم على وزن فعيل (صفة مشبهة)، ورد أربع مرات كلها جاءت بالمعنى المعنوي، قال تعالى: ]وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً[ (النساء:28) وهذا الضَعف معنوي، وقد اختلفوا فيه فيرى الطبري أن الضعف هو: العجز عن ترك الجماع لذا أباح الله الزواج من الإماء عند العجْز عن نكاح الحرائر. وهو قول مجاهد وطاووس وابن زيد رضي الله عنهم(42). على حين جعل الراغب المعنى أوسع واعتبر أن ضعف الإنسان يكون: بكثرة حاجاته التي يستغني عنها الملأ ُالأعلى(43). في حين يرى ابن منظور و أبو البقاء أن الإنسان ضعيف لأن هواه يستميله(44).
وقال تعالى: ]إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً[ (النساء:76) فكيد الشيطان أقل قوة من عزيمة المؤمنين؛ لأن الشيطان وأعوانه يقاتلون حقدا وحسدا، أما المؤمنون فيقاتلون الشيطان وأعوانه إيمانا بالله ورجاء ثوابه ويخافون عقاب الله إن تركوا الجهاد(45). يقول الراغب: (فضعف كيده إنما هو مع من صار من عباد الله المذكورين في قوله: ]إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ[(الحجر:42)(46).
وقال تعالى: ]قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ[ (هود:91) قال أبو روق: (]ضَعِيفاً[: يعنون ذليلا لأن عشيرتك ليسوا على دينك)(47)، ويؤيد ذلك قول السدي: (أنت واحد)(48).
أما ما روي عن بعض السلف من أنه كان ضعيف البصر أو أعمى فلم تصح الروايات في ذلك(49). وقد رَدَّها الشِّهابُ في "العِنايَةِ" كما أخبر الزبيدي في تاج العروس(50).
قال ابن كثير: (]وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ[ أي: قومك لولا معزتهم علينا لرجمناك، قيل بالحجارة وقيل لسببناك. ]وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ[ أي: ليس عندنا لك معزة)(51).
قال الطبري: (]وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ[ يعنون: ما أنتَ مِمَّنْ يُكَرَّم علينا، فيَعْظُم علينا إذلالُه وهوانُه بل ذلك علينا هيّن)(52). لذلك أجابهم شعيب قائلا: ]يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ[(هود: 92) قال ابن كثير في هذه الآية: (يقول: أتتركوني لأجل قومي ولا تتركوني إعظاما لجناب الرب تبارك وتعالى أن تنالوا نبيه بمساءة)(53).
بقي قولـه تعالى: ]فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ[ (البقرة:282). اختُلِف في معنى الضَعيف هنا(54)، ولعل المقصود به: القاصر الذي لم يبلغ سن الرشد لأنه غير راجح العقل؛ ذلك كون لا ترادف في القرآن، والآية احتوت على ثلاث كلمات (سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ) وفصلت بينهمابـ (أو) فدل ذلك على المغايرة.

ومن المعلوم أن السفيه هو: البالغ الذي لا يحسن التصرفات المالية(55).
والذي لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ: قصد به هنا: العاجز عن الإملاء بسبب صحي كالأخرس أو المجنون ..... أو الذي لا يحسن صياغة الكلام بسبب أميّته أو كِبر سنه أو غير ذلك (56). والله أعلم.
قال القرطبي رحمه الله (]فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاًِ[ فأثبت الولاية على السفيه كما أثبتها على الضَعيف، وكأن معنى الضعيف راجعا إلى: الصغير، ومعنى السفيه إلى: الكبير البالغ؛ لأن السفه اسم ذم ولا يذم الإنسان على ما لم يكتسبه والقلم مرفوع عن غير البالغ، فالذم والحرج منفيان عنه قاله الخطابي)(57). ولنعد الآن إلى مادتي الدراسة: "ضِعَاف و ضُعَفَاءُ":
أولاً : ضِعَاف
(تستخدم في الأمور المعنوية فقط)

"ضِعَاف" هو جمع "ضَعِيف" على وزن "فِعَال"، كقولك: كريم كِرام، وظريف ظِراف، لم يرد في القرآن الكريم إلا مرة واحدة؛ لذا فهو من فرائد القرآن الكريم.
جاء هذا الجمع وقصد به: القُصَّر الذين لم يبلغوا سن الرشد، ولا شك أن هذا ضَعف معنوي؛ لأنه ليس لديهم القدرة على القيام بشؤون الحياة مع عدم استطاعة تحصيل المال.

قال تعالى: ]وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً[ (النساء:9) توجيه لمن حضر رجلا ينازِع وكان يوصِي، فلا ينبغي لمن حضر أن يقول له: أوص بمالك كله وقدِّم لنفسك؛ لما فيه حرمان لأولاده الصغار وضررٍ بهم، ذلك لأنه سيتركهم بدون مال، فكما لا ترضون ذلك لأطفالكم فلا ترضوه لصغار المحتضرين وأطفالهم(58).

فكلمة "ضِعَافاً" هنا قصد بها: القُصَّر الذين لم يبلغوا سن الرشد، فهم ضعاف لأنهم يعتمدون على غيرهم في الإنفاق، وبالتالي إذا لم يترك لهم أبوهم مالا وورْثَه فسيصبحون عَالةً على الناس. إلى ذلك ذهب الزمخشري(59)، و الألوسي(60)، والنسفي(61)، وابن عاشور(62)، والسعدي(63)، و الشعراوي(64)، وأبو بكر الجزائري(65).


ثانياً : ضُعَفَاءُ
(تستخدم في الأمور المادية والمعنوية)
"ضُعَفَاءُ" هو جمع "ضَعِيف" على وزن "فُعَلاء"، كقولك: كريم كرماء، وظريف ظرفاء، وشريك شركاء، و رحيم رحماء. ورد هذا الجمع في القرآن الكريم أربع مرات. وقصد به:
أولاً: الأمور المعنوية أي: الضَعف الذي هو ضد القوة إما بالرَّأْي وإما بالقلب أو بالحال.
ثانياً: وجاء أيضاً وقصد به الأمور الحسية أي: الضُعف البدني. وإليك التفصيل:
أولاً: مجيئه بالمعنى المعنوي:
]وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ[ (إبراهيم:21).
فالضعفاء هنا هم: عوام الناس و الأتباع(66)، سموا بذلك لأنهم يفقدون القوة المعنوية في مواجهة السادة والكبراء، فلا رأي لهم فاستحقرهم السادةُ واستذلوهم.
ومثلها تماماً قوله تعالى: ]وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ[ (غافر:47).

ثانياً: مجيئه بالمعنى المادي "البدني" والمعنوي معاً:
قال تعالى : ]أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ[ (البقرة:266).
الآية مثال لخسارة المنافق المرائي، فهي تتحدث عن بطلان صدقة المنافق وذلك بضرب مثَل احتراق بستان العجوز وقت حاجته له. كذلك من أنفق ماله رئاء الناس لم يقبلها الله وأحبط عمله يوم القيامة وقت حاجته الماسة له، كما احترق البستان عند كبر صاحبها وعدم قدرة أولاده(67).

و "الذرية الضُعَفَاء" عند معظم المفسرين هم: الأطفال الصغار القُصر(68)، وبالتالي يكون المعنى هنا معنوي. إلا أنني أرى أن المقصود هنا الضُعف البدني، أي: أن ذريته بالغون لكنهم أصيبوا بوهن القوة البدنية بسبب وجود نحافة خلقية تجعلهم لا يقوون على أعمال البستان. والذي جعلني أذهب لذلك أمور:
الأمر الأول: لا يمكن أن يكون هناك ترادف بين الجمعين "ضِعَاف و ضُعَفَاءُ" لِما قررناه مراراً وتكرارا من أنه "لا ترادف في القرآن الكريم"؛ فلما جاءت الأولى بمعنى الأطفال يستحال أن تأتي الثانية بنفس المعنى.
ثانياً: لذا بحثت طويلا في كتب اللغة حتى أتبين الفرق بين الجمعين، فتبين لي أن فُعَلاء يأتي جمعاً لفَعيل -غير المضعف وغير المعتل الآخر- بشرط أن تكون بمعنى فاعل وصفاً لمذكر عاقل(69) . قال ابن عقيل(ت:769) رحمه الله: (من أمثلة جمع الكثرة فُعَلاء، وهو مَقِيس في فَعِيْل - بمعنى فاعل- صفة لمذكر عاقل، غير مضاعف، ولا معتل، نحو: ظريف وظرفاء، وكريم وكرماء وبخيل وبخلاء)(70) لذا فسر الدكتور فاضل السامرائي "الذرية الضُعَفَاء" في الآية: بالذين لا يستطيعون القيام بالأمر(71).
ثالثاً: ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: ]وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ[ أي: الهرم. وإذا وصل الرجل لهذا السن من الكبر والهرم الذي أقعده عن العمل في بستانه، كان منطقيا أن تكون ذريته كبارا بالغين غالباً؛ إذ لا يعقل أن يبلغ سن الهرم -الذي هو فوق السبعين أو الثمانين على الأقل- ويكون أبناؤه لم يتجاوزوا سن البلوغ!! –الذي هو ما بين الرابعة عشرة إلى الخامسة عشرة– فيكون في هذه الحالة قد أنجبهم في وقت هرمه!! وهذا يستحيل في العادة.
رابعاً: ومن الأسباب التي دفعتني بالقول: أن المقصود هنا الضُعف البدني هو: كون وصف ذرية المنافق بالمرض المزمن أبلغ في توضيح المثل المضروب، وأيأس له. والله أعلم.

بقيت آية أخيرة للدراسة في هذا المجال هي قول الله تعالى : ]لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[ (التوبة:91).
كلمة "الضُّعَفَاء" هنا جاءت بمعنى: من ضَعفت قواه عن الخروج إلى الجهاد لكبر السن أو الوهن في البدن أو الزمانة أو العمى. قال الإمام الطبري: (ليس على أهل الزمانة وأهل العجز عن السفر والغزو)(72). وقال الزمخشري: (الضعفاء: الهرمى والزمنى)(73). وقال الألوسي: (]لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ[ كالشيوخ ومن فيه نحافة خلقية لا يقوى على الخروج معها. ....... ولا على المرضى جمع مريض ويجمع على مراض ومراضى وهو: من عراه سقم وإضطراب طبيعة سواء أكان مما يزول بسرعة ككثير من الأمراض أم كالزمانة وعَدُّوا منه ما لا يزول كالعمى والعرج ....)(74).
وقال الثعالبي: (يقول: ليس على أهل الأعذار من: ضعف بدن، أو مرض، أو عدم نفقة. إثم)(75).
ويلخص لنا ابن الجوزي -رحمه الله– الأقوال في ذلك ثم يرجح فيقول: (وفي المراد بالضعفاء ثلاثة أقوال، أحدها: أنهم الزمنى والمشايخ الكبار، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني: أنهم الصغار. والثالث: المجانين، سموا ضعافا لضعف عقولهم. ذكر القولين الماوردي.
والصحيح أنهم: الذين يضعفون لزمانة أو عمى أو سن أو ضعف في الجسم.
والمرضى الذين بهم أعلال مانعة من الخروج للقتال)(76).

ويعجبني تفريق ابن عاشور بين الضُعف والمرض –أثناء تفسيره للآية– إذ يقول: (و"الضُّعَفَاء" جمع ضعيف، وهو الذي به الضعف. وهو: وهن القوة البدنية من غير مرض.
و"الْمَرْضَى" جمع مريض، وهو الذي به مرض. والمرض: تغير النظام المعتاد بالبدن بسبب اختلال يطرأ في بعض أجزاء المزاج ومن المرض المزمن كالعمى والزمانة)(77).
ويقول في موضع آخر: (والضعف: عدم القدرة على الأعمال الشديدة والشاقة ويكون في عموم الجسد وفي بعضه)(78).
الـــخـــلاصـــة
تأبى لغة التنزيل أن تساوي بين الجمعين "ضِعَاف و ضُعَفَاء"، وقد تبين بعد الاستقصاء ما يلي:
أولاً: "ضِعَاف": جمع "ضَعِيف" على وزن "فِعَال"، فريدة من فرائد التعبير القرآني قصد بها: القُصَّر الذين لم يبلغوا سن الرشد؛ وبالتالي فاستخدمت في الأمور المعنوية فقط.

ثانياً: "ضُعَفَاءُ" جمع "ضَعِيف" على وزن "فُعَلاء": وقصد به الأمور المعنوية كضعف الرَّأْي أو النفس أو الحال. وكذا قصد به الأمور الحسية أي: الضُعف البدني كالهرم وغيره.

والله تعالى أعلم
ــــــــــــــــــــــ
الــــــــهــــــوامــــــش
(1) ينظر: لسان العرب: 9/203، والقاموس المحيط: 3/165.
(2) أخبر بذلك الراغب في المفردات:331، وكذا الألوسي في روح المعاني:10/32. وقد عدْتُ لكتاب العين فوجدْتُ الخليلَ قد أخبر عن غيره بصيغة المجهول فقال: (ويُقَالُ: الضَّعْفُ في العقل والرأي والضُّعْفُ في الجسد) العين:1/281.
(3) ينظر الكليات: 575.
(4) لسان العرب:9/203، وانظر: تاج العروس:1/5972.
(5) زاد المسير:3/ 378.
(6) ينظر المصباح المنير: 2/362.
(7) لسان العرب: 9/203.
(8) زاد المسير:3/ 378.
(9) المقاييس: 599.
(10) انظر: لسان العرب: 9/203، و القاموس المحيط: 3/165، و الكليات: 575.
(11)كون محور الدراسة في هذا المطلب هو: (ضِعَاف و ضُعَفَاءُ).
(12) علماً بأن الآيات التي ذكرت هذه المجموعة هي: (البقرة:245و265)، (آل عمران:130)، (النساء:40)، (الأعراف:38)، (هود:20)، (الفرقان:69)، (الروم:39)، (الأحزاب:30 و 68)، (الحديد:11و18)، (التغابن:17).
(13) الكليات: 575، وهو قول الفيروز آبادي في المحيط، يراجع: القاموس المحيط:3/165.
(14) المفردات: 332، بتصرف.
(15) انظر معاني الرِبيين في الآية في تفسير الطبري: 3/ 460.
(16) تفسير الطبري:3/460، وللاطلاع على الفرق بين (الوهن والضعف والاستكانة) راجع كتاب الفروق لأبي هلال العسكري:124-125.
(17) تفسير الطبري: 6/64.
(18) التحرير والتنوير: م8/ج16/293.
(19) تفسير القرطبي: 7/253.
(20) التحرير والتنوير: م5/ج9/117.
(21) تراجع بعض هذه المعاني في تفسير البغوي:1/247 و400، و تفسير البيضاوي:1/36.
(22) ينظر: لسان العرب: 9/203.
(23) يراجع تفسير الواحدي:1/401، و زاد المسير: 3/ 225.
(24) التحرير والتنوير: م5/ج8/222-223.
(25) تفسير الطبري:6/ 43.
(26) تفسير الطبري:6/ 218.
(27) ينظر هذا المعنى في تفسير الطبري:4/235.
(28) المرجع السابق نفسه.
(29) المرجع السابق نفسه.
(30) المرجع السابق نفسه.
(31) المرجع السابق:4/171.
(32) تفسير القرطبي:4/171
(33) يراجع تهذيب وتقريب الطبري: 3/43، و الكشاف:1/285.
(34) تفسير الطبري: 4/297.
(35) المفردات:332.
(36) يراجع تفسير الطبري:10/198، و المفردات:332.
(37) المفردات: 332.
(38) هذا حسب القاعدة: "النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى وإذا أعيدت معرفة أو أعيدت المعرفة معرفة أو نكرة كان الثاني عين الأول". قال ابن هشام: (فإذا ادعي أن القاعدة فيهن إنما هي مستمرة مع عدم القرينة فأما إن وجدت قرينة فالتعويل عليها سهل الأمر). انظر: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لابن هشام الأنصاري: 863، تحقيق: د.مازن المبارك ومحمد علي حمد الله، دار الفكر في بيروت، ط6(1985).
(39) المفردات: 332.
(40) التحرير والتنوير: م 6/ج 10/70.
(41) ينظر: تفسير البغوي:1/ 253، وتفسير البيضاوي:1/30.
(42) ينظر هذا المعنى في: تقريب وتهذيب الطبري: 2/571.
(43) المفردات: 332.
(44) ينظر: لسان العرب:9/203، الكليات: 575.
(45) ينظر هذا المعنى في: تقريب وتهذيب الطبري:2/571.
(46) المفردات:332،مرجع سابق.
(47) تفسير ابن كثير:2/501.
(48) المرجع السابق نفسه.
(49) ينظر تقريب وتهذيب الطبري: 4/393.
(50) يراجع: تاج العروس:1/5972.
(51) تفسير ابن كثير: 2/501.
(52) تفسير الطبري: 7/103.
(53) تفسير ابن كثير: 2/501.
(54) ينظر الخلاف في تفسير الطبري: 3/115.
(55) ينظر تفسير أبي بكر الجزائري: 1/274، وكذا: تفسير القرطبي: 5/30.
(56) ينظر تفسير القرني: 77؛ فلعل الترتيب الذي ذكره يوحي لهذه المعاني والفروقات.
(57) تفسير القرطبي: 5/30.
(58) ينظر هذا المعنى في تفسير الطبري: 3/611. وهو مفاد أقوال: (ابن عباس، و قتادة, والسدي، و سعيد بن جبير، و الضحاك، و مجاهد رضي الله عنهم أجمعين) وانظر كذلك: تقريب وتهذيب الطبري: 2/515- 517.
(59) ينظر: الكشاف:1/ 238.
(60) ينظر: روح المعاني: 4/ 213.
(61) ينظر: مدارك التنزيل: 1/206.
(62) ينظر: التحرير والتنوير: م3/ج4/252، وقد اعتبر الضعفاء هم: (الصبيان والنساء).
(63) ينظر تيسير الكريم الرحمن: 132.
(64) ينظر تفسير الشعراوي: 4/2021.
(65) ينظر: أيسر التفاسير: 1/441.
(66) انظر التحرير والتنوير: م7/ج13/216.
(67) ينظر هذا المعنى في: تقريب وتهذيب الطبري: 2/147.
(68) ينظر: تفسير الطبري: 3/ 74، و تفسير البغوي:1/329، و تفسير القرطبي: 3/ 301، و تفسير البيضاوي:1/568، و تفسير أبي السعود:1/260، و تفسير النسفي:1/130.
(69) تنظر هذه القاعدة في: التطبيق النحوي: 118.
(70) شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك: 2/398، مرجع سابق، وانظر: الأصول في النحو لابن السراج:2/449 و 3/ 6.
(71) ينظر: معاني الأبنية في العربية للدكتور فاضل السامرائي:168،ساعدت جامعة بغداد على نشره،ط1(1981م).
(72) تفسير الطبري: 6/445.
(73) الكشاف:1/498.
(74) روح المعاني:10/158.
(75) تفسير الثعالبي: 2/ 148.
(76) زاد المسير: 3/ 484.
(77) التحرير والتوير: م6/ج10/294.
(78) التحرير والتنوير: م 6/ج 10/70 .
 
الـــخـــلاصـــة

تأبى لغة التنزيل أن تساوي بين الجمعين "ضِعَاف و ضُعَفَاء"، وقد تبين بعد الاستقصاء ما يلي:
أولاً: "ضِعَاف": جمع "ضَعِيف" على وزن "فِعَال"، فريدة من فرائد التعبير القرآني قصد بها: القُصَّر الذين لم يبلغوا سن الرشد؛ وبالتالي فاستخدمت في الأمور المعنوية فقط.

ثانياً: "ضُعَفَاءُ" جمع "ضَعِيف" على وزن "فُعَلاء": وقصد به الأمور المعنوية كضعف الرَّأْي أو النفس أو الحال. وكذا قصد به الأمور الحسية أي: الضُعف البدني كالهرم وغيره.


والله تعالى أعلم
شكر الله لك يا دكتور هذا المشاركة الطيبة والجميلة.
بالنسبة لكلمة "ضعاف"
لماذا لا تكون أيضا معبرة عن الضعف الحسي المادي أيضا ؟
ألا ترى أن اليتيم هو الصغير الذي لم يبلغ مرحلة الرشد وهذا قد يكون رضيعا وقد يكون ناهز الاحتلام
وهنا يصدق عليهم الضعف المادي والمعنوي ؟
 
شكر الله لك أخي الدكتور العمايرة على هذه الدراسة المجتهدة.
وأرجو أن نتدارس ما كتبه الدكتور فاضل السامرائي حول نفس الموضوع في كتابه " معاني الابنية ". وقد لخّص الدكتور حفظه الله طريقته في الوصول الى المعنى في مقدمة كتابه حيث قال : ( وقد حاولت الوصول الى المعنى على طريق النظر والموازنة بين النصوص في استعمال الصيغ).أي أنّ الدكتور يفرق بين " ضِعاف وضُعفاء " بناء على دراسة الفرق في معنى صيغتي جمع التكسير "فِعال وفُعلاء" . وفيما يلي نص ما كتبه الدكتور السامرائي :
( الذي يبدو لي أن "فُعلاء" يكاد يختص بالأمور المعنوية و"فِعالاً" بالأمور المادية، فالثقلاءلمن فيهم ثقل الروح، والثِّقال للثقل المادي قال تعالى (انفروا خِفافاً وثِقالاً) - التوبة: 41، وقال: (وينشئُ السحاب الثِقال) - الرعد: 12، وقال: (حتى اذا أقلَّت سحاباً ثِقالاً) -الأعراف:57 فاستخدم الثِقال للثقل المادي.
ومثله: الكبراء والكبار، فالكبراء هم السادة والرؤساء، والكبار هم كبار الأجسام والأعمار، قال تعالى: (انا أطعنا سادتنا وكبرائنا فاضلونا السبيلا) -الأحزاب:67 ولم يقل (كِبارنا) فليس المقصود بالكبراء كبار الأجسام أو الأعمار وانما الكبر هنا هو كبر معنوي. ومثل الكبراء الرؤساء والشفعاء والأمراء والنقباء والعرفاء ولم تجمع هذه على الفِعال كالرئاس والشفاع ونحوها لأنه ليس فيها جانب مادي بخلاف الكبراء والكبار .
ومثله الضعفاء والضِّعاف، فالضعفاء هم المستضعفون من الأتباع والعوام وهو من الضعف المعنوي، وأما الضِّعاف فللضعف المادي ومنه قوله تعال: (فقال الضعفاء للذين استكبروا انا كنا لكم تبعاً فهل انتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء) - ابراهيم:21 وقوله: (فيقول الضعفاء للذين استكبروا انا كنا لكم تبعا فهل انتم مغنون عنا نصيبا من النار) -غافر:47.
وقوله: ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج اذا نصحوا لله ورسوله) - التوبة:91.
وهذه كلها في الضعف المعنوي - كما ترى - فاذا اردت الضعف المادي قلت (ضِعاف) كقولك هم ضٍعاف الأجسام.
وقد تعترض بقوله تعالى: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضِعافاً) - النساء:9 فقد قال في موطن آخر:(وله ذرية ضعفاء) - البقرة:266 فما الفرق بينهما؟ وهل هناك ضعف مادي او معنوي في هاتين الآيتين؟
وبالتأمل في الآيتين يتضح الجواب،فان الآية الأولى هي (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديدا) - النساء:9.
والآية الثانية:( أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها اعصار فيه نار فاحترقت) - البقرة:266.
فانت ترى أن قوله:"ضِعافاً" يعني فيه الضعف المادي، أي محتاجين الى المال فقراء. وأما الثانية فليس المقصود بها الضعف المادي بل الضعف المعنوي، أي عدم القيام بالأمر بدليل أن أباهم له جنة فيها من كل الثمرات وانما هم ضعفاء الى مَن يقوم بأمرهم، فثمة فرق بين الحالتين.
ومثله: أشداء وشِداد، فالأشداء حمع الشديد من الشدة المعنوية، والشداد جمع شديد من الناحية المادية، قال تعالى في وصف المؤمنين :(أشداء على الكفار رحماء بينهم)- الفتح:29 فقابل بين الشدة والرحمة وهما امران معنويان .
وقال في وصفملائكة العذاب:(عليها ملائكة غلاظ شداد)-التحريم:6، والذي يبدو انهم شداد الأجسام ضِخامها كما قال تعالى: (وبنينا فوقكم سبعا شداد)-النبأ:12، أي محكمةقوية.
جاء في الكشاف في قوله تعالى : (عليها ملائكة غلاظ شداد) "في أجرامهم غلظة وشدة، أي جفاء وقوة، وفي افعالهمجفاء وخشونة لا تأخذهمرأفة في تنفيذأوامر الله والغضب له والانتقام من أعدائه"
والذي يبدو لي أن المعنى الأول مطلوب ان لم يكن هو المطلوب، أي : في أجرامهم غلظة وشدة لأن هذا معنى "فِعال" في الغالب والله أعلم.
ويبدو أن ما لم يجمع من (فعيل) على فِعال سببه أنه لم يكن فيه جانب مادي في الغالب كالبليد والسفيه والرحيم وااسديد والبصير والحليم والحكيم والفقيه والعليم والعفيف ونحوها فانها لا تجمع على (فِعال) لعدم وجود الجانب المادي فيها.
وما جمع من (فعيل) على فِعال ولم يجمع على فُعلاء فلأنه ليس فيه جانب معنوي في الغالب كالصَّبيح والمليح والسمين والدميم ونحوها .
ذكر سيبويه أن العرب: (قد يدعون فعلاء استغناء بغيرها نحو قولهم: صغير وصغار، ولا يقولون صُغراء، وسمين سمان ولا يقولون سمناء).
والذي أراه أن هذا ليس من باب الاستغناء وانما هولما ذكرت من أنها لا تكون للجانب المعنوي. وقد ورد صُغراء جميع صغير في الشعر، أنشد ابو عمرو:
وللكبراء أكل حيث شاؤوا وللصغراء أكل واقتثام
فقد جاء بمعنى الصغر النفسي لا الجسمي وهو من الصَّغار فقد جمعه على فعلاء، وأما الصِّغار فهو للصغر المادي. ومثله قصراء وقصار جمع قصير فالذي أحسه أن القصار انما هو للقصر المادي بمقابل الطوال، واما القصراء فللمعنوي، أي لا يستطيعون القيام بأمورهم وهكذا.
فالذي أراه أن الأصل في (فُعلاء) أن يكون للسجايا النفسية وأن (فِعالاً) للأوصاف المادية .)
- كتاب معاني الابنية للدكتور فاضل صالح السامرائي .
 
عودة
أعلى