عزام عز الدين
New member
- إنضم
- 22/02/2006
- المشاركات
- 65
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 6
عرض الشيخ معاذ الخطيب الحلقة الاولى
أمام إلحاح أطفالي نقعت في الماء بعض بذور البطيخ الأصفر (الشمام) والذي له طعم مثل العسل! وقد أخذت البذور من (بطيخة) نادرة الطعم زكية الرائحة، ثم زرعناها في وعاء خاص ، وبعدها ظهرت وريقات صغيرة استحالت إلى نبات فتي يملأ العين خضرة وبهاء! وبقينا ننتظر الأزهار التي تعقبها الثمار الشهية ، ولكن عبثاً! ومنذ أيام ودعنا آخر عرق أخضر فقد ماتت نبتتنا! ومع ذلك الوداع أدركت جهلي! فذلك النبات أميركي! وصممت بذوره خصيصاً لتنبت مرة واحدة، وواحدة فقط ، وإلا فكيف سندفع (كأمة) كل سنة مئات ملايين الدولارات ثمناً لبذور جديدة !
أمتعني جداً (بقدر ما أقلقني) كتاب ممتاز ألفه الكاتب المفكر والطبيب أحمد خيري العمري ، وسماه (الفردوس المستعار والفردوس المستعاد) وقد تفضل مشكوراً بإهدائي نسخة منه، ومن ذلك الكتاب علمت لماذا لاتنبت البذور مرتين!
يذكر الأستاذ العمري أنه في عام 1915 حصل ماغير وجه العالم ، فقد حصل إفراط في الإنتاج ، وتكدست البضائع ، فقلت أرباح الرأسماليين الذين التجئوا إلى هنري فورد (1863-1947) فأحال الأمر إلى قسم الدراسات الاجتماعية ، وبعد مداولات عاصفة خرجت مؤسسة فورد باقتراحين مذهلين : الأول : تقليل ساعات العمل من 60 ساعة في الأسبوع إلى 48ساعة! وزيادة الأجور!! وبالتأكيد لم تكن مؤسسة فورد غبية بل في غاية المكر والدهاء!
كان الهدف هو إيجاد وقت للراحة والترف! وبالتأكيد فيجب أن تكون الجيوب ممتلئة! وإذا وجد الفراغ والمال فشيطان التسوق هو ثالثهما من دون جدال. [منذ فترة افتتح عندنا في الشام مركز تجاري ضخم لم يجد أصحابه إلا عبارة في غاية السماجة والعامية للدعاية له وهي: ( كتير كتير تسوق) مع صور غريبة تناسب سكان مونت كارلو ونيس (الأتقياء) في الستينات!].
كان فورد عدواً لدوداً للحركات العمالية، ولكنه كان أدهى منها بكثير ، فأوقع الكل في فخ الاستهلاك ، وببعض الدعاية المغرية كالتخفيضات الموسمية والتقسيط المريح استطاع فورد وخلفاؤه انتزاع بقية المدخرات التي وفرها العمال المساكين.
عدت لأنظر في كتاب الفردوس المستعار والفردوس المستعاد فوجدت أنه قائم على ثلاثة محاور أساسية: أولها يتحدث كيف أن المواجهة مع المنظومة الأميركية ليست مواجهة عسكرية بل إن هناك ديناً أميركاً لم يبدأ عمله عند سقوط بغداد بل هو سرطان متغلغل في كثيرين ، والصراع العسكري وجه واحد لصراع حضاري وقيمي يطرح نفسه كدين بالمعنى العميق وهذا كله في مواجه فرد مقموع ومهزوم ومكبوت في طاقته الإنسانية كلها [جزى الله الحكام ماهم أهله]، ولم يعد الدين (الأميركي) حكراً على أميركيين وطنيين حتى العظم! بل أصبح له ملايين الأتباع الذين يحملونه حتى وإن لم يدركوا ذلك! ومادام لكل دين إعجازه فقد كانت معجزة الدين الأميركي منبعثة من روحه (أي حسية صرفة) تقدم إبهاراً تقنياً يشل قدرات الفرد ويقضي على أي جدال أورفض .
يرسل إلينا الدين الأميركي كل يوم ملايين الرسائل عبر الإعلام والتحليلات والتربية والثقافة والأجهزة التقنية، والتقدم العلمي والمخترعات ووسائل الاتصال والتعبير والمؤسسات والخدمات والترفيه وحل المشاكل ... وهو دين لايصطدم مع أحد ولا يحارب العقائد مباشرة ولكنه يزحف ببطء مخيف مكتسباً مواقع ثابته يصعب جداً إعادة التمكن منها ، والأمكر أنه لايعارض العبادة ولا يمنع أحداً من مزاولة ما يعتقد ، بل يهنئ ويفتح الأبواب ويبارك ويصافح بينما يفرغ القيم الأساسية ليضع قيمه هو ومبادئه ونظرته وعقليته بل يسكب روحه سكبا في كل مفصل فيناً.
لب هذ الدين قائم على فكرة الحلم الأميركي من الرفاهية والترف والعيش في جنة السلع الأرضية.
وكما أفرغ فورد جيوب العمال المساكين ، فقد أفرغ الدين الأميركي الأرض من قيمها ، فأوحى لها أن التقدم إلى الفردوس (المستعار والوهمي والمزيف) رهن بخلاصها من الفردوس الآخر (وهو القديم والموروث والممل ).
[إن النزهة القصيرة التي قرر الدين الأميركي ومنظومته العسكرية أن يقوم بها لمدة أسبوعين في بغداد! لتحريرها من الطغيان البعثي كانت فردوساً مزيفاً ، ولم يدرك سدنة الدين الأميركي أن هناك فردوساً آخر استطاع الذين يريدون استعادته أن يبقوا القوات الأميركية تغرق في الوحل العراقي خمس سنوات عجاف ولا يعلم إلا الله عواقب ما ستأتي به الأيام].
فردوسنا الذي فقدناه (أخلاقاً وديناً وعادات وترابطاً اجتماعياً ومروءة وإنسانية) يضع الدين الأميركي بديلاً عنه فردوساً مستعاراً ، خلفه أعلى معدلات الاغتصاب في العالم وأكثر نسب الاعتداء على المحارم ،وأعلى نسبة طلاق وأكبر نسبة جريمة وإدمان مخدرات وكحول وسرقة وقتل وعيادات نفسية وتفكك عائلي ومآوي عجزة وتفكك اجتماعي وخواء روحي ...) .
بعد ذلك يتحدث الكاتب عن أن الخروج من الجنة (والذي تتفق عليه أدبيات الأديان الكبرى) قد اعتراه التشويش ، وقامت هوليود بتحويل الأمر إلى موضوع جنسي! بينما كان الأمر حداً يتأدب به البشر وتتدرب به النفس فلا تجمح نحو تدمير ذاتها، ومن آدم إلى إبراهيم إلى محمد صلى الله عليهم جميعاً كانت هناك دائماً ضوابط للتوازن وإخراج من الحضيض وإعادة توجيه نحو الفردوس الحقيقي الذي لا يجوز أن نتوه عنه.
وكما لكل دين ثوابته وأركانه فللدين الأميركي أركانه أيضاً! وهي : المادية والفردية والاقتصاد الحر والاستهلاك والعيش (الغرق) في الحاضر!
الركن الأول قديم قَوي في القرن الخامس الميلادي ثم خفت بانتشار المسيحية، وعيب الدين الأميركي أنه لا يجعل المادة مكوناً من المكونات الحضارية وفقط ، بل أنه يندر قيام حضارة ارتكزت على عنصر واحد مثلما فعلت الحضارة الأميركية [وهو ماسيجعلها تتآكل ذاتياً في المستقبل] وكل الأسئلة جوابها : المادة والطاقة، أوقل : الحواس الخمس! فهي الرؤية الأكثر تبسيطاً لأكثر الأمور تعقيداً! ، إنهم بالضبط كما يقول تعالى : (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) (الروم:30/7)، ويشير الكاتب إلى أمر خطير ، وهو أننا نقول أن هناك توازناً في الإسلام بين المادة والروح ، فنجعلهما قسيمين، والأمر ليس كذلك فعالم المادة جزء ظاهر من عالم غير مرئي وأرحب بكثير ، وهو عالم الغيب ، فلا تناقض ولا تصادم ولاتوازن ولا تعادل ولا تساوٍ ، إنما جزء صغير ظاهر من جزء أعظم غير ظاهر ، فهل نؤمن بالأول لأننا نراه وننكر الآخر لأننا لا نراه (مادياً).
مع أن ألأميركيين ليسوا هم الذين اخترعوا الفلسفة المادية لكنهم عاشوها ومضوا إلى أعمق غور فيها! وهنا برزت النفعية (البراجماتية) كفلسفة ميزت أميركة وهي أهم إضافة سلبية قدمها الأميركان إلى الحضارة عندما شطبوا كل الأديان والمذاهب والفلسفات ووضعوا معياراً جديداً ، فكل شيء ليست له قيمة مالم تكن له نتيجة عملية على أرض واقع مؤلف من بعدين وحواس خمس فقط! [انتبه : لعلك تحمل هذا الوهم طيلة حياتك وأنت لاتدري].
ليس المهم الصواب والخطأ ، الخير والشر ، الحرام والحلال ، الألم والشقاء ، المهم فقط المنفعة المادية الآنية! [ومن أجل ذلك فبدهي أن تباد حضارة الهنود الحمر ويقتل عشرات الملايين ، وأن يستعبد ملايين الأفارقة بعد خطفهم من أفريقية ، وأن تدمر هيروشسيما وناغازاكي بالقنابل النووية ، وأن يكذب بقصة الأسلحة النووية العراقية سنوات بعد حصار ظالم لشعب العراق استمر عشر سنوات وحصد مئات الألوف من الأطفال الأبرياء وسبب من الويلات والنكبات مالا يحصيه عد ، وبدهي أن تنزل القوات الأميركية في أفغانستان ثم العراق وغداً دارفور وربما بعده لبنان أو سورية (لاسمح الله) وإدارتهم تكذب وتكذب وتكذب وتتحدث عن الإرهاب وهي ترمق النفط وتتحدث عن الديمقراطية وهي تريد ضمان الاستقرار لحليفتها التوراتية (إسرائيل) ، وتتحدث عن الاستقرار ، وقد سفكت في شعوب الأرض كلها الملايين من الدم البرئ الحرام].
[دهشت جداً منذ أيام لطالب غربي أتى يسألني عن بعض الأمور في الإسلام ، فقلت له : هل أنت تبحث عن الأمر لأهداف أكاديمية أم شخصية؟ فأجابني ببراءة : سأخبرك عن تفكيري حول الدين : إنني لست أتبع أي دين فإذا قال الناس أن هناك خالقاً وجنة وناراً ويوماً آخر فأنا أقول بذلك ، وإذا هم أنكروا كل ذلك فأنا معهم!! وهو مثال سافر عن البراجماتية العجيبة].
وهناك من سيقول (متفلسفاً) : إن الله تعالى يقول أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، وسيطرب أتباع الدين الأميركي لهذا الاكتشاف! غافلين عن الفرق الأساسي بين النفع الشرعي الذي هو للناس ، والنفع الأميركي الذي هو للذات (وهذا له علاقة وثيقة بموضوع أخطر إذ لايوجد متبع للدين الأميركي إلا ويحمل جراثيمه، وهو عبادة الذات! مما سنركز عليه لاحقاً)].
[من النتائج الطبيعية للدين الأميركي وبراجماتيته أن ينظر الأفراد على مصالحهم التجارية فيرفضون المقاومة ضد الاحتلال لأنها لا تعين على الاستقرار الاقتصادي ، ويقبلون الاحتلال لأن الخسائر – ضمن الحواس الخمس- أقل من خسائر المواجهة] .
أعان على الفلسفة النفعية رواد مثل سبنسر (منتصف القرن التاسع عشر) وخلاصة نظريته الماكرة جداً (وهي داروينية اجتماعية سابقة للداروينية البيئية التي أتى بها دارون) أن القوي يأكل الضعيف في البيولوجيا ، والغني يأكل الفقير في عالم الأفراد ، وتغيير ذلك سيؤخر تطور البشرية [ضمن رؤية سبنسر للبشرية] ، [من النتائج العملية أن إبادة شعوب بكاملها إنما هي عملية تنظيف ، لذلك لم يستطع الرئيس كلينتون إلا الاعتراف بتقصير الإدارة الأميركية الشديد في إيقاف مذابح التوتسي والهوتو والتي ذهب ضحيتها أكثر من مليون إنسان ذبحوا بالسيوف والفؤوس! فلا نفط عندهم ولا مصالح اقتصادية ، وموتهم سيخفف بعض الجهد عن كاهل البشرية-الأميركية- ، ونستطيع بسهولة أن نرى تلك المعاني في الأفلام الأميركية ، والتي عمادها القتل والجريمة ، فبعد انتهاء مهمة العميل يمحق ويقتل مثل حشرة فقد انتهت مهمته ، ولم يعد منه نفع حتى لولم يكن خائناً ، فقد أدى وظيفته ، ونفعه –ضمن الحواس الخمس- وليس له أي كرامة كإنسان ، ويمكن للإنسان أن يكون عطوفاً على والديه إلى حد معين ، وبعدها فدور العجزة هي المكان الطبيعي للوالدين ، إذ لا يوجد في الدين الأميركي أي شيء يمت إلى العمل لوجه الله أو الأجر الأخروي ، أو الحسنات والثواب ، والتوفيق في الحياة بسبب بر الوالدين].
[هناك أمر حيرني ، وهو أن كثيراً ممن يعيشون في تلك المجتمعات يحبون الخير ، وهناك من يدفع الملايين لتلك الأعمال ، وهذا حق لأن الفطرة البشرية لاتموت بهذه السهولة ، ولكن حاول أن ترى ذلك السخاء في حالة الضيق والقحط ، فهل ستجد أمة ممن قال الله فيهم : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة! أبداً فحالة البحبوحة والرغد هي التي تدفع لأعمال الخير إرضاء للنزعة الذاتية وفي أحيان أخرى بقصد المباهاة ، أما عند المحنة فتزول الطبقة البسيطة من الفطرة ، ويستيقظ وحش البراجماتية ، وليس أدل على ذلك ما حصل عندما انقطعت الكهرباء في نيويورك لبضعة ساعات فقط ، فقد حصل من السرقات والنهب والاعتداء على أملاك الناس مالم يسبق في تاريخ البشر (ومثله ماحصا في إعصار فلوريدا السنة الماضية الذي نهبت فيه بعض المدن بشكل غير مسبوق)، أما في بلادنا المتخلفة فمازلت أرى الناس في الأسواق القديمة يضعون غطاء بسيطاً على بضائعهم وأحياناً مجرد عصا صغيرة ، تعلن أن صاحب المحل ذهب إلى الصلاة والبيع متوقف الآن ، ولا أحد يسرق ولا أحد يمد يده رغم كثرة الفقر والحاجة، أما عندما تحصل نكبة أو مصيبة ، فمشاعر المؤازرة والمساندة والبذل في بلادنا تبدأ من الأقل مالاً فما زالت فيهم النخوة التي لا يوجد لها مرادف عند الاستهلاكيين ، وبالمناسبة فيوجد بيننا آلاف البراجماتيين –أتباع الديانة الأميركية- وهم لايحسون بما هم فيه ، ويذكرني حالهم بشكوى لأحدهم عن قسوة قلبه ، وبعدما سمعه أحد الحكماء قال له: سل الله أن يمن عليك بقلب فإنه لا قلب لك!]
الركن أو الثابت الثاني في الدين الأميركي هو : الفردية :
مبدأ الفردية تشكل إطاره النظري عبر ثلاثة مفكرين : رالف والد إيمرسون (1803-1882) وهنري ديفيد ثورو (1817-1862) وألكس دي توكفل (1805-1859).
لقد هاجم الأولان كل النظم الدينية التي تدعو إلى غير الفردية ، وركزوا على أن الفرد هو القيمة الأولى والأهم في المجتمع ، وهو ينتمي لنفسه أولاً وأخيراً ، وليس من حق المجتمع أن يملي عليه تصرفاته وأفكاره ، ومن حق هذا الفرد أن يسلك أي سلوك يجلب له السعادة مهما كان مخالفا لتصور الآخرين في السعادة [ليست الانتحارات المشتركة والجنس والتحشيش الجماعي والاعتداء على المحارم واغتصاب الأطفال وتعذيبهم ، وإطلاق النار من المراهقين على أساتذتهم وزملائهم سوى مفردات بسيطة لهذا الفكر].
في كل إنسان نزعة فردية ولكن بالتربية والإيمان تصقل لتتحول إلى عامل إيجابي أو تبقى ضمن إطار لايؤدي إلى أضرار واسعة الطيف ، أما الفلسفة الفردية فهي منهج خطير ليس قائماً على إدراك دور الفرد بل يؤله الفرد ، فترى الفردية أن معيار الأخلاق والمبادئ يمر عبر الفرد ، وليس من واجبه أن يضحي من أجل غيره ، فالمجتمع صمم من أجل خدمتة ، والفردية لاتدعو للعزلة بل هي تنظيم جديد للعلاقة بين الناس قائمة على فرد مع فرد وليس علاقة فرد بمجتمع، [عند عقد الزواج الإسلامي يذكر العلماء أن العلاقة الزوجية ليست علاقة فرد بفرد ، بل مجتمع بآخر].
وماذا عن الفرد الضعيف؟ يقول إيمرسون: لايقل لي أحد أن لدي التزاماً تجاه الفقراء ، إنهم ليسوا فقرائي! [إن مايجري من أعمال الخير في المجتمعات الغربية قائم على الفردية أساساً ويبني عليها ، ولم يكن يوماً قائماً على العقد الاجتماعي ، أو الواجب الديني ، كما هو نظام الزكاة في الإسلام الذي يفرض على الأغنياء فرضاً إخراج الزكاة كي لايكون المال دولة في أيدي الأغنياء].
حققت الفردية دوراً إيجابياً في البناء الحضاري الأميركي بإطلاق طاقة الفرد [ولو على حساب أمور أخرى]. وانبثق منها مفهوم الحرية الشخصية التي كانت طعماً ساذجاً وقناعاً لممارسة الفردية ، وعندما يصبح الفرد مشرعاً لنفسه فمعنى هذا أن أكبر عدد من الأفراد إذا اتفقوا على شيء واحد فسيملكون حق التشريع للمجتمع بغض النظر عن أي شيء آخر! [أباحت إحدى الدول الأوربية للشاذين جنسياً تبني الأطفال!! لأن مجموع المصوتين في البرلمان مع القرار أكثر من المعارضين] وتهمس لك الفردية: أنت أهم شيء ، واقبل نفسك ، وباختصار كُن ذاتك ، فلا داعي لتعديل أي شيء في حياتك إلا مايوافقك [خرجت مظاهرة في نيويورك مرة تضم عشرات آلاف الشواذ وهي تنكر على الحكومة الأميركية تقصيرها في إيجاد الأدوية التي تسمح للشاذين باستمرار سلوكهم دونه أن يضطروا للوقوع تحت وطأة الإشكالات الصحية].
كرست الفردية نوعاً من افتتان المرء بذاته ، وبنت فيه نرجسية فائقة ، ومع الوقت نمت هذه الخصلة لتتحول إلى عبادة الذات، ويصبح الفرد هو مركز الكون! [وهذا الأمر في غاية الخطورة من الناحية الشرعية]: (أفرأيتَ من اتخذ إلههُ هواهُ وأضله الله على علم) (الجاثية45/23) ، وعندما تستقر تلك العبادة ستبدأ بإخراج الوثن الذي ستقود به جماهير السذج والمغفلين!
[نتوقف عند مثال واحد ، وهو هنا فني ولكن له نسخ تجارية وعلمية وسياسية] : تُسلط أضواء الأعلام ليلاً ونهاراً على بعض النجوم الذين هم دائماً في غاية الأناقة والوسامة والجاذبية والذين هم يمثلون النجاح الفردي الكاسح والعصامية في شق الطريق! والولع الموجه لهم هو ترميز لعبادة الذات [التي ينبغي للكل أن يتوجه إليها] ، وكل فرد في الجمهور يرى في النجم ذاته ، فهو يتقرب ويعبد ذاته من خلال الرمز النجومي الذي هو محض وثن يحرض عبادة الذات في النفس!
لابد من ربط الجمهور بأدق تفاصيل حياة ذلك النجم من نوع الصابون وكيف يحلق وكيف يحب وماذا يأكل [ليس لأنه قدوة صالحة ومعلم خير ، بل فقط لأنه فرد يوقظ في النفس وثنية الذات إلى أبعد حد] ، ثم تقام بعدها تصفيات للنجوم تهدر فيها حياة أولئك [الأفراد الخاسرين ، فهو مذبح وثني قديم تفترس السباع فيه العبيد ، ولا يحزن أحد على العبيد الضعفاء مادامت السادية والذات قد اشتفت بمنظر التوحش الكامن فيها ووحده المنتصر يحوز البطولة ، ويمكن لمن يهمه الموضوع أن يتابع مسيرة الحياة للنجوم الذين لا يستطيعون المتابعة كيف ينهار أكثرهم نفسياً بعد النجومية المتداعية أو ينتحرون أو يعيشون في وضع لا يحسدون عليه].
من آلاف المتقدمين يحصل انتقاء تدريجي يقوم به الجمهور مختاراً من يجسد نفسه [ أي ذاتيته و وثنه الداخلي] فلا منطق هنا ولا معيار ولا مُحدد إلا الذات والذات فقط وماتهوى ، ويزداد الحماس ويشارك في التصويت ملايين قد لا تشارك في انتخابات الرئاسة الأميركية نفسها، وكلما اشتد السباق تحول الأمر إلى هستيريا ليبقى اثنان في النهايةلابد أن يُصرع أحدهما [ضمن الطريقة المعاصرة لصراع الأسود والعبيد] ، وتقدم البرامج الأميركية ، والتي من أشهرها برنامج (الوثن الأميركي : American Idol) الذي يستقطب الملايين ، وسيصل الوثن الأخير الذي سيكون المعبود الحقيقي الذي يعبر عن حلم الملايين ومشاعرهم وآمالهم ، وسيكون حتى شكل حلاقته وثيابه وعطره بل وحتى مجونه المثل الأعلى لملايين الشباب في الأرض ، وستحلم بمثله ملايين المراهقات ، وسيكون مادة عبادة تتعبد لها الجماهير الغافلة وهي تقصد عبادة ذاتها!
هذا البرنامج الوثني لابد له من نسخة عربية ، [وربما عجب بعض أفاضل الدعاة والعلماء للشعبية الكاسحة لبرامج مثل (ستار ) وملايين المكالمات التي كانت تشارك في التصويت ] وربما بكى بعضهم واستنفر بسبب العري ، والوقت المهدور في أمة مذبوحة وللجيل المائع والتفاهة ، ولوعلموا الحقيقة الكامنة لعلموا أن الأمر أخطر بكثير فهو إقامة صرح ومعبد للوثنية التي تقوم على عبادة الذات والفردية التي هي ركن أساسي في قيم الفردوس الزائف المستعار.
[من نافلة القول أن كثيراً من البرامج التي انصبت فجأة مثل المطرعلى العالم العربي مثل البرمجة اللغوية العصبية وتطوير الذات وبقية تلك الكليشات البراقة ، إنماتحمل في أعماقها وبكل صراحة (الفكر الوثني الأميركي وعبادة الذات وفقط عبادة الذات) ورغم أننا ندعو إلى أخذ ماقد يكون فيها من بعض النقاط الإيجابية ، إلا أننا ندعو إلى الانتباه إلى الروح الكامنة فيها ، وخصوصاً في مجتمعات ممحوقة ثقافياً ونهمة وجائعة إلى كل جديد مهما كان فيه بسبب تعطيشها الطويل ، كما تعشعشع فيها النظم الشمولية التي يوافقها تماما نمو الذات لا لتتحد كقوة اجتماعية بل لتنمو بشكل فردي يزيد من تجذير الانفراد ، ويقضي على البقية الباقية من الجماعية التي تنحت النظم فيها ليلاً نهاراً لمصادرتها لصالحها وسحب أي تكتل جماعي ، ومنذ فترة قريبة جداً ذكر أحد كبار المشتغلين بحقوق الإنسان أنه تلقى تحذيراً من بعض الجهات الصديقة التي نصحته أن لايواصل النضال في وجه أحد الأنظمة الشمولية! لأن الولايات المتحدة ورغم العداء الظاهر مع حكومة ذلك البلد الديكتاتورية إلا أنها راضية في الأعماق عن ذلك النظام تماماً بسبب أنه لم يتوفر قط في المنطقة نظام استطاع أن يفكك البنية الجماعية لشعبه مثلما فعل ذلك النظام الشمولي! فتأمل يرحمك الله].
نعود إلى ماذكره مفكرنا النبيه الدكتور العمري ، لنرى التوجه القرآني حول الفردية والذاتية ، فنسمع نداء زكريا عليه السلام (رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين) (الأنبياء21/89) ، إنه يريد كسر حاجز الفردية والانطلاق نحو الجماعة: (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رَغَباً ورَهَباً وكانوا لنا خاشعين) (الأنبياء 21/90) ، والقرآن لم يلغ الفرد بل أثبته ليكون الجزء الصالح من جماعة ، وليس وثناً مزيفاً ، كما نقف عند سؤال مؤثر في سورة البلد يخاطب الفرد (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد) (90/5) لقد تصور المسكين ذلك فلم ير أبعد من ذلك ، وبقي في أسر حواسه (يقول أهلكت مالاً لبداً) (البلد90/6) ، [مازالت هناك طاقة جبارة في العالم الإسلامي يحتار الغرب في القضاء عليها وهي العمل لوجه الله والبذل والتعب لهذا الدين ، والعمل الطوعي الذي لا يبتغي الإنسان من وراءه جزاء ولا شكورا إلا رضا الله تعالى ، ويتحدث أستاذنا الدكتور عبد الكريم بكار عما تحييه ثقافة التطوع في النفس من أبعاد مهمة جدا، وضرورة استمرار تلك الثقافة بنيتنا الإسلامية -وهي بالتأكيد ليست ثقافة التطوع التي يركض إليها البعض ووراءها مؤسسات تنصيرية أو تغريبية تدعمها الأموال الهائلة من الخلف لتنشر فكراً تطوعياً غريباً غايته إرضاء( أي عبادة الذات) وليس العمل الخالص لوجه الله ] .
المال والمال وحده هو المحرك عند الفردي وعابد الذات ، الأرباح والخسائر ، ورغم أن الله قد جعل له عينين ولساناً وشفتين ، إلا أنه ظنها آخر المطاف ولم ينزع بها إلى ماوراء ظاهريتها المحدودة ولم يتجاوز العقبة التي كان يفترض بجوارحه أن تنهض إليها (فلا اقتحم العقبة) (البلد90/11) ، والذي هو (فكُّ رقبة* أو إطعام في يوم ذي مسغبة* يتيماً ذا مقربة* أو مسكيناً ذا متربة) (البلد 90/13-16) ، إنه العطاء والخروج من الذات والفردية القاتلة ، ليصبح جزءاً من الجماعة الصالحة ، ويكف عن فرديته التي ملأته فلم ير غيرها (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) (البلد90/17) ، لقد خرج من أسر الذات وانتمى إلى الجماعة عندما اقتحم العقبة.
لقد وصف القرآن الكريم الفرد بأنه ظلوم ، كفور ، وعجول ،وأكثر شيء جدلاً ، وهلوعاً ، و يطغى وهو كنود ، ويفجُر أمامه وهو في خسر ...
الإنسان ظلوم كفرد ولكن صلته مع الآخر ستوجهه نحو العدل
الإنسان عجول كفرد والجماعة تكبح عجلته
الإنسان كفور كفرد ولكن انتماءه للآخرين قد يجعله شكوراً
وهو جهول ينظر من زاوية ضيقة فإذا انتمى إلى الجماعة صار إدراكه أوسع
.... شيء واحد يجعله يخرج من أسر حواسه الخمسة ، ألا وهو البصيرة! قال تعالى : (بل الإنسان على نفسه بصيرة). (القيامة75/14) [يحضرني هنا عبارة للإمام سفيان الثوري رحمه الله يقول فيها : بصر العينين من الدنيا وبصر القلب من الآخرة وإن الرجل ليبصر بعينيه فلا ينتفع ببصره فإذا أبصر بالقلب انتفع].
البصيرة تخرج الفرد من أسر حواسه الخمسة التي لا ترى إلا الطعام والشراب والمال والنكاح والمصالح الضئيلة.
والمرهب في الأمر أن الله تعالى قد أحصى الناس (لقد أحصاهم وعدهم عداً) (مريم 19/94) ، وهم سيتابعون تلك الفردية (وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً) (19/95).
وبينما تشكل الفردية جوهر الوثنية الحديثة ، تشكل الجماعة محور الحياة الصالحة ، [وواضح أن الضمير الجماعي هو معقد التوجه في تلك الحياة الصالحة ، وإذا أدركنا ذلك فهمنا لماذا يحرص الإسلام على عدم الوقوع في المعاصي لأن الأمر ليس خياراً فردياً ، والذي لا يكون فيه عقوق الوالدين سوء أدب وقلة اهتمام من ولد عاق بل بداية تفكك اجتماعي ، و لايكون الزنا حادثة إدخال عضلة متصلبة في تجويف عضلي آخر ، بل انهيار النظام الأسري وطغيان العلاقات الحسية بين البشر قفزاً فوق كل ماهو معنوي وإنساني وروحي وجمالي وجماعي! وليس شرب الخمر استدعاء لنشوة فردية ، بل أول طريق إهدار كرامة بن آدم وغيبوبة عقله [ومن يعلم آفات الكحول في المجتمعات الغربية يعلم عمق مانقول]..
ما أسكر قليله فكثيره حرام! ومايضر المجتمع كله –في البداية أو النهاية- فهو حرام.
وثقب السفينة الصغير يودي بها إلى أعمق قاع. لذلك يرفض المسلمين الفردية التي تمس الجماعة.
أما الصلاة فهي عالم أعظم من كل وصف حيث العروج إلى الملأ الأعلى و اندماج الأنا مع الجماعة ، بداية بالشهادة الفردية للحقيقة المطلقة الكبرى: أشهد ألا إله إلا الله .. يتلوها: الله أكبر ، وعندها تندغم الأنا في الكل : ( إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم) ، وسواء أصليت معها في الحرم الشريف أم في الربع الخالي فأنت جزء من جماعة المؤمنين المصلين ، وتجتمع في صلاتك مع النداء الإبراهيمي الأول : (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين) ، فتسير وراء إبراهيم ويصبح الفرد أمة(إن إبراهيم كان أمة) (النحل 16/120). فهو منهج يعاكس عبادة الذات ولا يفتت الأمة إلى ذوات وأفراد بل يجعل الفرد أمة ، والكل يمشي في الصراط المستقيم.
ليست أميركا ملحدة أيها الإخوة والأخوات (وشعبها متدين وفيه فطرة عظيمة) ولكن عبادة الذات تفسدها وتفسد على العالم إيمانه لذا فلننتبه كي لا نصبح من أتباع ذلك الدين الفردي ، الذي لن يمنعك من صلاة المسلمين الظاهرة لكنه سيسلبك روحها ، وسيجعلك تصلي صلاة فردية ولوكنت في الحرم ليلة القدر.
وسنتابع في المقالة القادمة بإذن الله تتمة الحديث عن أركان الدين الأميركي الجديد .
أمام إلحاح أطفالي نقعت في الماء بعض بذور البطيخ الأصفر (الشمام) والذي له طعم مثل العسل! وقد أخذت البذور من (بطيخة) نادرة الطعم زكية الرائحة، ثم زرعناها في وعاء خاص ، وبعدها ظهرت وريقات صغيرة استحالت إلى نبات فتي يملأ العين خضرة وبهاء! وبقينا ننتظر الأزهار التي تعقبها الثمار الشهية ، ولكن عبثاً! ومنذ أيام ودعنا آخر عرق أخضر فقد ماتت نبتتنا! ومع ذلك الوداع أدركت جهلي! فذلك النبات أميركي! وصممت بذوره خصيصاً لتنبت مرة واحدة، وواحدة فقط ، وإلا فكيف سندفع (كأمة) كل سنة مئات ملايين الدولارات ثمناً لبذور جديدة !
أمتعني جداً (بقدر ما أقلقني) كتاب ممتاز ألفه الكاتب المفكر والطبيب أحمد خيري العمري ، وسماه (الفردوس المستعار والفردوس المستعاد) وقد تفضل مشكوراً بإهدائي نسخة منه، ومن ذلك الكتاب علمت لماذا لاتنبت البذور مرتين!
يذكر الأستاذ العمري أنه في عام 1915 حصل ماغير وجه العالم ، فقد حصل إفراط في الإنتاج ، وتكدست البضائع ، فقلت أرباح الرأسماليين الذين التجئوا إلى هنري فورد (1863-1947) فأحال الأمر إلى قسم الدراسات الاجتماعية ، وبعد مداولات عاصفة خرجت مؤسسة فورد باقتراحين مذهلين : الأول : تقليل ساعات العمل من 60 ساعة في الأسبوع إلى 48ساعة! وزيادة الأجور!! وبالتأكيد لم تكن مؤسسة فورد غبية بل في غاية المكر والدهاء!
كان الهدف هو إيجاد وقت للراحة والترف! وبالتأكيد فيجب أن تكون الجيوب ممتلئة! وإذا وجد الفراغ والمال فشيطان التسوق هو ثالثهما من دون جدال. [منذ فترة افتتح عندنا في الشام مركز تجاري ضخم لم يجد أصحابه إلا عبارة في غاية السماجة والعامية للدعاية له وهي: ( كتير كتير تسوق) مع صور غريبة تناسب سكان مونت كارلو ونيس (الأتقياء) في الستينات!].
كان فورد عدواً لدوداً للحركات العمالية، ولكنه كان أدهى منها بكثير ، فأوقع الكل في فخ الاستهلاك ، وببعض الدعاية المغرية كالتخفيضات الموسمية والتقسيط المريح استطاع فورد وخلفاؤه انتزاع بقية المدخرات التي وفرها العمال المساكين.
عدت لأنظر في كتاب الفردوس المستعار والفردوس المستعاد فوجدت أنه قائم على ثلاثة محاور أساسية: أولها يتحدث كيف أن المواجهة مع المنظومة الأميركية ليست مواجهة عسكرية بل إن هناك ديناً أميركاً لم يبدأ عمله عند سقوط بغداد بل هو سرطان متغلغل في كثيرين ، والصراع العسكري وجه واحد لصراع حضاري وقيمي يطرح نفسه كدين بالمعنى العميق وهذا كله في مواجه فرد مقموع ومهزوم ومكبوت في طاقته الإنسانية كلها [جزى الله الحكام ماهم أهله]، ولم يعد الدين (الأميركي) حكراً على أميركيين وطنيين حتى العظم! بل أصبح له ملايين الأتباع الذين يحملونه حتى وإن لم يدركوا ذلك! ومادام لكل دين إعجازه فقد كانت معجزة الدين الأميركي منبعثة من روحه (أي حسية صرفة) تقدم إبهاراً تقنياً يشل قدرات الفرد ويقضي على أي جدال أورفض .
يرسل إلينا الدين الأميركي كل يوم ملايين الرسائل عبر الإعلام والتحليلات والتربية والثقافة والأجهزة التقنية، والتقدم العلمي والمخترعات ووسائل الاتصال والتعبير والمؤسسات والخدمات والترفيه وحل المشاكل ... وهو دين لايصطدم مع أحد ولا يحارب العقائد مباشرة ولكنه يزحف ببطء مخيف مكتسباً مواقع ثابته يصعب جداً إعادة التمكن منها ، والأمكر أنه لايعارض العبادة ولا يمنع أحداً من مزاولة ما يعتقد ، بل يهنئ ويفتح الأبواب ويبارك ويصافح بينما يفرغ القيم الأساسية ليضع قيمه هو ومبادئه ونظرته وعقليته بل يسكب روحه سكبا في كل مفصل فيناً.
لب هذ الدين قائم على فكرة الحلم الأميركي من الرفاهية والترف والعيش في جنة السلع الأرضية.
وكما أفرغ فورد جيوب العمال المساكين ، فقد أفرغ الدين الأميركي الأرض من قيمها ، فأوحى لها أن التقدم إلى الفردوس (المستعار والوهمي والمزيف) رهن بخلاصها من الفردوس الآخر (وهو القديم والموروث والممل ).
[إن النزهة القصيرة التي قرر الدين الأميركي ومنظومته العسكرية أن يقوم بها لمدة أسبوعين في بغداد! لتحريرها من الطغيان البعثي كانت فردوساً مزيفاً ، ولم يدرك سدنة الدين الأميركي أن هناك فردوساً آخر استطاع الذين يريدون استعادته أن يبقوا القوات الأميركية تغرق في الوحل العراقي خمس سنوات عجاف ولا يعلم إلا الله عواقب ما ستأتي به الأيام].
فردوسنا الذي فقدناه (أخلاقاً وديناً وعادات وترابطاً اجتماعياً ومروءة وإنسانية) يضع الدين الأميركي بديلاً عنه فردوساً مستعاراً ، خلفه أعلى معدلات الاغتصاب في العالم وأكثر نسب الاعتداء على المحارم ،وأعلى نسبة طلاق وأكبر نسبة جريمة وإدمان مخدرات وكحول وسرقة وقتل وعيادات نفسية وتفكك عائلي ومآوي عجزة وتفكك اجتماعي وخواء روحي ...) .
بعد ذلك يتحدث الكاتب عن أن الخروج من الجنة (والذي تتفق عليه أدبيات الأديان الكبرى) قد اعتراه التشويش ، وقامت هوليود بتحويل الأمر إلى موضوع جنسي! بينما كان الأمر حداً يتأدب به البشر وتتدرب به النفس فلا تجمح نحو تدمير ذاتها، ومن آدم إلى إبراهيم إلى محمد صلى الله عليهم جميعاً كانت هناك دائماً ضوابط للتوازن وإخراج من الحضيض وإعادة توجيه نحو الفردوس الحقيقي الذي لا يجوز أن نتوه عنه.
وكما لكل دين ثوابته وأركانه فللدين الأميركي أركانه أيضاً! وهي : المادية والفردية والاقتصاد الحر والاستهلاك والعيش (الغرق) في الحاضر!
الركن الأول قديم قَوي في القرن الخامس الميلادي ثم خفت بانتشار المسيحية، وعيب الدين الأميركي أنه لا يجعل المادة مكوناً من المكونات الحضارية وفقط ، بل أنه يندر قيام حضارة ارتكزت على عنصر واحد مثلما فعلت الحضارة الأميركية [وهو ماسيجعلها تتآكل ذاتياً في المستقبل] وكل الأسئلة جوابها : المادة والطاقة، أوقل : الحواس الخمس! فهي الرؤية الأكثر تبسيطاً لأكثر الأمور تعقيداً! ، إنهم بالضبط كما يقول تعالى : (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) (الروم:30/7)، ويشير الكاتب إلى أمر خطير ، وهو أننا نقول أن هناك توازناً في الإسلام بين المادة والروح ، فنجعلهما قسيمين، والأمر ليس كذلك فعالم المادة جزء ظاهر من عالم غير مرئي وأرحب بكثير ، وهو عالم الغيب ، فلا تناقض ولا تصادم ولاتوازن ولا تعادل ولا تساوٍ ، إنما جزء صغير ظاهر من جزء أعظم غير ظاهر ، فهل نؤمن بالأول لأننا نراه وننكر الآخر لأننا لا نراه (مادياً).
مع أن ألأميركيين ليسوا هم الذين اخترعوا الفلسفة المادية لكنهم عاشوها ومضوا إلى أعمق غور فيها! وهنا برزت النفعية (البراجماتية) كفلسفة ميزت أميركة وهي أهم إضافة سلبية قدمها الأميركان إلى الحضارة عندما شطبوا كل الأديان والمذاهب والفلسفات ووضعوا معياراً جديداً ، فكل شيء ليست له قيمة مالم تكن له نتيجة عملية على أرض واقع مؤلف من بعدين وحواس خمس فقط! [انتبه : لعلك تحمل هذا الوهم طيلة حياتك وأنت لاتدري].
ليس المهم الصواب والخطأ ، الخير والشر ، الحرام والحلال ، الألم والشقاء ، المهم فقط المنفعة المادية الآنية! [ومن أجل ذلك فبدهي أن تباد حضارة الهنود الحمر ويقتل عشرات الملايين ، وأن يستعبد ملايين الأفارقة بعد خطفهم من أفريقية ، وأن تدمر هيروشسيما وناغازاكي بالقنابل النووية ، وأن يكذب بقصة الأسلحة النووية العراقية سنوات بعد حصار ظالم لشعب العراق استمر عشر سنوات وحصد مئات الألوف من الأطفال الأبرياء وسبب من الويلات والنكبات مالا يحصيه عد ، وبدهي أن تنزل القوات الأميركية في أفغانستان ثم العراق وغداً دارفور وربما بعده لبنان أو سورية (لاسمح الله) وإدارتهم تكذب وتكذب وتكذب وتتحدث عن الإرهاب وهي ترمق النفط وتتحدث عن الديمقراطية وهي تريد ضمان الاستقرار لحليفتها التوراتية (إسرائيل) ، وتتحدث عن الاستقرار ، وقد سفكت في شعوب الأرض كلها الملايين من الدم البرئ الحرام].
[دهشت جداً منذ أيام لطالب غربي أتى يسألني عن بعض الأمور في الإسلام ، فقلت له : هل أنت تبحث عن الأمر لأهداف أكاديمية أم شخصية؟ فأجابني ببراءة : سأخبرك عن تفكيري حول الدين : إنني لست أتبع أي دين فإذا قال الناس أن هناك خالقاً وجنة وناراً ويوماً آخر فأنا أقول بذلك ، وإذا هم أنكروا كل ذلك فأنا معهم!! وهو مثال سافر عن البراجماتية العجيبة].
وهناك من سيقول (متفلسفاً) : إن الله تعالى يقول أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، وسيطرب أتباع الدين الأميركي لهذا الاكتشاف! غافلين عن الفرق الأساسي بين النفع الشرعي الذي هو للناس ، والنفع الأميركي الذي هو للذات (وهذا له علاقة وثيقة بموضوع أخطر إذ لايوجد متبع للدين الأميركي إلا ويحمل جراثيمه، وهو عبادة الذات! مما سنركز عليه لاحقاً)].
[من النتائج الطبيعية للدين الأميركي وبراجماتيته أن ينظر الأفراد على مصالحهم التجارية فيرفضون المقاومة ضد الاحتلال لأنها لا تعين على الاستقرار الاقتصادي ، ويقبلون الاحتلال لأن الخسائر – ضمن الحواس الخمس- أقل من خسائر المواجهة] .
أعان على الفلسفة النفعية رواد مثل سبنسر (منتصف القرن التاسع عشر) وخلاصة نظريته الماكرة جداً (وهي داروينية اجتماعية سابقة للداروينية البيئية التي أتى بها دارون) أن القوي يأكل الضعيف في البيولوجيا ، والغني يأكل الفقير في عالم الأفراد ، وتغيير ذلك سيؤخر تطور البشرية [ضمن رؤية سبنسر للبشرية] ، [من النتائج العملية أن إبادة شعوب بكاملها إنما هي عملية تنظيف ، لذلك لم يستطع الرئيس كلينتون إلا الاعتراف بتقصير الإدارة الأميركية الشديد في إيقاف مذابح التوتسي والهوتو والتي ذهب ضحيتها أكثر من مليون إنسان ذبحوا بالسيوف والفؤوس! فلا نفط عندهم ولا مصالح اقتصادية ، وموتهم سيخفف بعض الجهد عن كاهل البشرية-الأميركية- ، ونستطيع بسهولة أن نرى تلك المعاني في الأفلام الأميركية ، والتي عمادها القتل والجريمة ، فبعد انتهاء مهمة العميل يمحق ويقتل مثل حشرة فقد انتهت مهمته ، ولم يعد منه نفع حتى لولم يكن خائناً ، فقد أدى وظيفته ، ونفعه –ضمن الحواس الخمس- وليس له أي كرامة كإنسان ، ويمكن للإنسان أن يكون عطوفاً على والديه إلى حد معين ، وبعدها فدور العجزة هي المكان الطبيعي للوالدين ، إذ لا يوجد في الدين الأميركي أي شيء يمت إلى العمل لوجه الله أو الأجر الأخروي ، أو الحسنات والثواب ، والتوفيق في الحياة بسبب بر الوالدين].
[هناك أمر حيرني ، وهو أن كثيراً ممن يعيشون في تلك المجتمعات يحبون الخير ، وهناك من يدفع الملايين لتلك الأعمال ، وهذا حق لأن الفطرة البشرية لاتموت بهذه السهولة ، ولكن حاول أن ترى ذلك السخاء في حالة الضيق والقحط ، فهل ستجد أمة ممن قال الله فيهم : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة! أبداً فحالة البحبوحة والرغد هي التي تدفع لأعمال الخير إرضاء للنزعة الذاتية وفي أحيان أخرى بقصد المباهاة ، أما عند المحنة فتزول الطبقة البسيطة من الفطرة ، ويستيقظ وحش البراجماتية ، وليس أدل على ذلك ما حصل عندما انقطعت الكهرباء في نيويورك لبضعة ساعات فقط ، فقد حصل من السرقات والنهب والاعتداء على أملاك الناس مالم يسبق في تاريخ البشر (ومثله ماحصا في إعصار فلوريدا السنة الماضية الذي نهبت فيه بعض المدن بشكل غير مسبوق)، أما في بلادنا المتخلفة فمازلت أرى الناس في الأسواق القديمة يضعون غطاء بسيطاً على بضائعهم وأحياناً مجرد عصا صغيرة ، تعلن أن صاحب المحل ذهب إلى الصلاة والبيع متوقف الآن ، ولا أحد يسرق ولا أحد يمد يده رغم كثرة الفقر والحاجة، أما عندما تحصل نكبة أو مصيبة ، فمشاعر المؤازرة والمساندة والبذل في بلادنا تبدأ من الأقل مالاً فما زالت فيهم النخوة التي لا يوجد لها مرادف عند الاستهلاكيين ، وبالمناسبة فيوجد بيننا آلاف البراجماتيين –أتباع الديانة الأميركية- وهم لايحسون بما هم فيه ، ويذكرني حالهم بشكوى لأحدهم عن قسوة قلبه ، وبعدما سمعه أحد الحكماء قال له: سل الله أن يمن عليك بقلب فإنه لا قلب لك!]
الركن أو الثابت الثاني في الدين الأميركي هو : الفردية :
مبدأ الفردية تشكل إطاره النظري عبر ثلاثة مفكرين : رالف والد إيمرسون (1803-1882) وهنري ديفيد ثورو (1817-1862) وألكس دي توكفل (1805-1859).
لقد هاجم الأولان كل النظم الدينية التي تدعو إلى غير الفردية ، وركزوا على أن الفرد هو القيمة الأولى والأهم في المجتمع ، وهو ينتمي لنفسه أولاً وأخيراً ، وليس من حق المجتمع أن يملي عليه تصرفاته وأفكاره ، ومن حق هذا الفرد أن يسلك أي سلوك يجلب له السعادة مهما كان مخالفا لتصور الآخرين في السعادة [ليست الانتحارات المشتركة والجنس والتحشيش الجماعي والاعتداء على المحارم واغتصاب الأطفال وتعذيبهم ، وإطلاق النار من المراهقين على أساتذتهم وزملائهم سوى مفردات بسيطة لهذا الفكر].
في كل إنسان نزعة فردية ولكن بالتربية والإيمان تصقل لتتحول إلى عامل إيجابي أو تبقى ضمن إطار لايؤدي إلى أضرار واسعة الطيف ، أما الفلسفة الفردية فهي منهج خطير ليس قائماً على إدراك دور الفرد بل يؤله الفرد ، فترى الفردية أن معيار الأخلاق والمبادئ يمر عبر الفرد ، وليس من واجبه أن يضحي من أجل غيره ، فالمجتمع صمم من أجل خدمتة ، والفردية لاتدعو للعزلة بل هي تنظيم جديد للعلاقة بين الناس قائمة على فرد مع فرد وليس علاقة فرد بمجتمع، [عند عقد الزواج الإسلامي يذكر العلماء أن العلاقة الزوجية ليست علاقة فرد بفرد ، بل مجتمع بآخر].
وماذا عن الفرد الضعيف؟ يقول إيمرسون: لايقل لي أحد أن لدي التزاماً تجاه الفقراء ، إنهم ليسوا فقرائي! [إن مايجري من أعمال الخير في المجتمعات الغربية قائم على الفردية أساساً ويبني عليها ، ولم يكن يوماً قائماً على العقد الاجتماعي ، أو الواجب الديني ، كما هو نظام الزكاة في الإسلام الذي يفرض على الأغنياء فرضاً إخراج الزكاة كي لايكون المال دولة في أيدي الأغنياء].
حققت الفردية دوراً إيجابياً في البناء الحضاري الأميركي بإطلاق طاقة الفرد [ولو على حساب أمور أخرى]. وانبثق منها مفهوم الحرية الشخصية التي كانت طعماً ساذجاً وقناعاً لممارسة الفردية ، وعندما يصبح الفرد مشرعاً لنفسه فمعنى هذا أن أكبر عدد من الأفراد إذا اتفقوا على شيء واحد فسيملكون حق التشريع للمجتمع بغض النظر عن أي شيء آخر! [أباحت إحدى الدول الأوربية للشاذين جنسياً تبني الأطفال!! لأن مجموع المصوتين في البرلمان مع القرار أكثر من المعارضين] وتهمس لك الفردية: أنت أهم شيء ، واقبل نفسك ، وباختصار كُن ذاتك ، فلا داعي لتعديل أي شيء في حياتك إلا مايوافقك [خرجت مظاهرة في نيويورك مرة تضم عشرات آلاف الشواذ وهي تنكر على الحكومة الأميركية تقصيرها في إيجاد الأدوية التي تسمح للشاذين باستمرار سلوكهم دونه أن يضطروا للوقوع تحت وطأة الإشكالات الصحية].
كرست الفردية نوعاً من افتتان المرء بذاته ، وبنت فيه نرجسية فائقة ، ومع الوقت نمت هذه الخصلة لتتحول إلى عبادة الذات، ويصبح الفرد هو مركز الكون! [وهذا الأمر في غاية الخطورة من الناحية الشرعية]: (أفرأيتَ من اتخذ إلههُ هواهُ وأضله الله على علم) (الجاثية45/23) ، وعندما تستقر تلك العبادة ستبدأ بإخراج الوثن الذي ستقود به جماهير السذج والمغفلين!
[نتوقف عند مثال واحد ، وهو هنا فني ولكن له نسخ تجارية وعلمية وسياسية] : تُسلط أضواء الأعلام ليلاً ونهاراً على بعض النجوم الذين هم دائماً في غاية الأناقة والوسامة والجاذبية والذين هم يمثلون النجاح الفردي الكاسح والعصامية في شق الطريق! والولع الموجه لهم هو ترميز لعبادة الذات [التي ينبغي للكل أن يتوجه إليها] ، وكل فرد في الجمهور يرى في النجم ذاته ، فهو يتقرب ويعبد ذاته من خلال الرمز النجومي الذي هو محض وثن يحرض عبادة الذات في النفس!
لابد من ربط الجمهور بأدق تفاصيل حياة ذلك النجم من نوع الصابون وكيف يحلق وكيف يحب وماذا يأكل [ليس لأنه قدوة صالحة ومعلم خير ، بل فقط لأنه فرد يوقظ في النفس وثنية الذات إلى أبعد حد] ، ثم تقام بعدها تصفيات للنجوم تهدر فيها حياة أولئك [الأفراد الخاسرين ، فهو مذبح وثني قديم تفترس السباع فيه العبيد ، ولا يحزن أحد على العبيد الضعفاء مادامت السادية والذات قد اشتفت بمنظر التوحش الكامن فيها ووحده المنتصر يحوز البطولة ، ويمكن لمن يهمه الموضوع أن يتابع مسيرة الحياة للنجوم الذين لا يستطيعون المتابعة كيف ينهار أكثرهم نفسياً بعد النجومية المتداعية أو ينتحرون أو يعيشون في وضع لا يحسدون عليه].
من آلاف المتقدمين يحصل انتقاء تدريجي يقوم به الجمهور مختاراً من يجسد نفسه [ أي ذاتيته و وثنه الداخلي] فلا منطق هنا ولا معيار ولا مُحدد إلا الذات والذات فقط وماتهوى ، ويزداد الحماس ويشارك في التصويت ملايين قد لا تشارك في انتخابات الرئاسة الأميركية نفسها، وكلما اشتد السباق تحول الأمر إلى هستيريا ليبقى اثنان في النهايةلابد أن يُصرع أحدهما [ضمن الطريقة المعاصرة لصراع الأسود والعبيد] ، وتقدم البرامج الأميركية ، والتي من أشهرها برنامج (الوثن الأميركي : American Idol) الذي يستقطب الملايين ، وسيصل الوثن الأخير الذي سيكون المعبود الحقيقي الذي يعبر عن حلم الملايين ومشاعرهم وآمالهم ، وسيكون حتى شكل حلاقته وثيابه وعطره بل وحتى مجونه المثل الأعلى لملايين الشباب في الأرض ، وستحلم بمثله ملايين المراهقات ، وسيكون مادة عبادة تتعبد لها الجماهير الغافلة وهي تقصد عبادة ذاتها!
هذا البرنامج الوثني لابد له من نسخة عربية ، [وربما عجب بعض أفاضل الدعاة والعلماء للشعبية الكاسحة لبرامج مثل (ستار ) وملايين المكالمات التي كانت تشارك في التصويت ] وربما بكى بعضهم واستنفر بسبب العري ، والوقت المهدور في أمة مذبوحة وللجيل المائع والتفاهة ، ولوعلموا الحقيقة الكامنة لعلموا أن الأمر أخطر بكثير فهو إقامة صرح ومعبد للوثنية التي تقوم على عبادة الذات والفردية التي هي ركن أساسي في قيم الفردوس الزائف المستعار.
[من نافلة القول أن كثيراً من البرامج التي انصبت فجأة مثل المطرعلى العالم العربي مثل البرمجة اللغوية العصبية وتطوير الذات وبقية تلك الكليشات البراقة ، إنماتحمل في أعماقها وبكل صراحة (الفكر الوثني الأميركي وعبادة الذات وفقط عبادة الذات) ورغم أننا ندعو إلى أخذ ماقد يكون فيها من بعض النقاط الإيجابية ، إلا أننا ندعو إلى الانتباه إلى الروح الكامنة فيها ، وخصوصاً في مجتمعات ممحوقة ثقافياً ونهمة وجائعة إلى كل جديد مهما كان فيه بسبب تعطيشها الطويل ، كما تعشعشع فيها النظم الشمولية التي يوافقها تماما نمو الذات لا لتتحد كقوة اجتماعية بل لتنمو بشكل فردي يزيد من تجذير الانفراد ، ويقضي على البقية الباقية من الجماعية التي تنحت النظم فيها ليلاً نهاراً لمصادرتها لصالحها وسحب أي تكتل جماعي ، ومنذ فترة قريبة جداً ذكر أحد كبار المشتغلين بحقوق الإنسان أنه تلقى تحذيراً من بعض الجهات الصديقة التي نصحته أن لايواصل النضال في وجه أحد الأنظمة الشمولية! لأن الولايات المتحدة ورغم العداء الظاهر مع حكومة ذلك البلد الديكتاتورية إلا أنها راضية في الأعماق عن ذلك النظام تماماً بسبب أنه لم يتوفر قط في المنطقة نظام استطاع أن يفكك البنية الجماعية لشعبه مثلما فعل ذلك النظام الشمولي! فتأمل يرحمك الله].
نعود إلى ماذكره مفكرنا النبيه الدكتور العمري ، لنرى التوجه القرآني حول الفردية والذاتية ، فنسمع نداء زكريا عليه السلام (رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين) (الأنبياء21/89) ، إنه يريد كسر حاجز الفردية والانطلاق نحو الجماعة: (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رَغَباً ورَهَباً وكانوا لنا خاشعين) (الأنبياء 21/90) ، والقرآن لم يلغ الفرد بل أثبته ليكون الجزء الصالح من جماعة ، وليس وثناً مزيفاً ، كما نقف عند سؤال مؤثر في سورة البلد يخاطب الفرد (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد) (90/5) لقد تصور المسكين ذلك فلم ير أبعد من ذلك ، وبقي في أسر حواسه (يقول أهلكت مالاً لبداً) (البلد90/6) ، [مازالت هناك طاقة جبارة في العالم الإسلامي يحتار الغرب في القضاء عليها وهي العمل لوجه الله والبذل والتعب لهذا الدين ، والعمل الطوعي الذي لا يبتغي الإنسان من وراءه جزاء ولا شكورا إلا رضا الله تعالى ، ويتحدث أستاذنا الدكتور عبد الكريم بكار عما تحييه ثقافة التطوع في النفس من أبعاد مهمة جدا، وضرورة استمرار تلك الثقافة بنيتنا الإسلامية -وهي بالتأكيد ليست ثقافة التطوع التي يركض إليها البعض ووراءها مؤسسات تنصيرية أو تغريبية تدعمها الأموال الهائلة من الخلف لتنشر فكراً تطوعياً غريباً غايته إرضاء( أي عبادة الذات) وليس العمل الخالص لوجه الله ] .
المال والمال وحده هو المحرك عند الفردي وعابد الذات ، الأرباح والخسائر ، ورغم أن الله قد جعل له عينين ولساناً وشفتين ، إلا أنه ظنها آخر المطاف ولم ينزع بها إلى ماوراء ظاهريتها المحدودة ولم يتجاوز العقبة التي كان يفترض بجوارحه أن تنهض إليها (فلا اقتحم العقبة) (البلد90/11) ، والذي هو (فكُّ رقبة* أو إطعام في يوم ذي مسغبة* يتيماً ذا مقربة* أو مسكيناً ذا متربة) (البلد 90/13-16) ، إنه العطاء والخروج من الذات والفردية القاتلة ، ليصبح جزءاً من الجماعة الصالحة ، ويكف عن فرديته التي ملأته فلم ير غيرها (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) (البلد90/17) ، لقد خرج من أسر الذات وانتمى إلى الجماعة عندما اقتحم العقبة.
لقد وصف القرآن الكريم الفرد بأنه ظلوم ، كفور ، وعجول ،وأكثر شيء جدلاً ، وهلوعاً ، و يطغى وهو كنود ، ويفجُر أمامه وهو في خسر ...
الإنسان ظلوم كفرد ولكن صلته مع الآخر ستوجهه نحو العدل
الإنسان عجول كفرد والجماعة تكبح عجلته
الإنسان كفور كفرد ولكن انتماءه للآخرين قد يجعله شكوراً
وهو جهول ينظر من زاوية ضيقة فإذا انتمى إلى الجماعة صار إدراكه أوسع
.... شيء واحد يجعله يخرج من أسر حواسه الخمسة ، ألا وهو البصيرة! قال تعالى : (بل الإنسان على نفسه بصيرة). (القيامة75/14) [يحضرني هنا عبارة للإمام سفيان الثوري رحمه الله يقول فيها : بصر العينين من الدنيا وبصر القلب من الآخرة وإن الرجل ليبصر بعينيه فلا ينتفع ببصره فإذا أبصر بالقلب انتفع].
البصيرة تخرج الفرد من أسر حواسه الخمسة التي لا ترى إلا الطعام والشراب والمال والنكاح والمصالح الضئيلة.
والمرهب في الأمر أن الله تعالى قد أحصى الناس (لقد أحصاهم وعدهم عداً) (مريم 19/94) ، وهم سيتابعون تلك الفردية (وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً) (19/95).
وبينما تشكل الفردية جوهر الوثنية الحديثة ، تشكل الجماعة محور الحياة الصالحة ، [وواضح أن الضمير الجماعي هو معقد التوجه في تلك الحياة الصالحة ، وإذا أدركنا ذلك فهمنا لماذا يحرص الإسلام على عدم الوقوع في المعاصي لأن الأمر ليس خياراً فردياً ، والذي لا يكون فيه عقوق الوالدين سوء أدب وقلة اهتمام من ولد عاق بل بداية تفكك اجتماعي ، و لايكون الزنا حادثة إدخال عضلة متصلبة في تجويف عضلي آخر ، بل انهيار النظام الأسري وطغيان العلاقات الحسية بين البشر قفزاً فوق كل ماهو معنوي وإنساني وروحي وجمالي وجماعي! وليس شرب الخمر استدعاء لنشوة فردية ، بل أول طريق إهدار كرامة بن آدم وغيبوبة عقله [ومن يعلم آفات الكحول في المجتمعات الغربية يعلم عمق مانقول]..
ما أسكر قليله فكثيره حرام! ومايضر المجتمع كله –في البداية أو النهاية- فهو حرام.
وثقب السفينة الصغير يودي بها إلى أعمق قاع. لذلك يرفض المسلمين الفردية التي تمس الجماعة.
أما الصلاة فهي عالم أعظم من كل وصف حيث العروج إلى الملأ الأعلى و اندماج الأنا مع الجماعة ، بداية بالشهادة الفردية للحقيقة المطلقة الكبرى: أشهد ألا إله إلا الله .. يتلوها: الله أكبر ، وعندها تندغم الأنا في الكل : ( إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم) ، وسواء أصليت معها في الحرم الشريف أم في الربع الخالي فأنت جزء من جماعة المؤمنين المصلين ، وتجتمع في صلاتك مع النداء الإبراهيمي الأول : (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين) ، فتسير وراء إبراهيم ويصبح الفرد أمة(إن إبراهيم كان أمة) (النحل 16/120). فهو منهج يعاكس عبادة الذات ولا يفتت الأمة إلى ذوات وأفراد بل يجعل الفرد أمة ، والكل يمشي في الصراط المستقيم.
ليست أميركا ملحدة أيها الإخوة والأخوات (وشعبها متدين وفيه فطرة عظيمة) ولكن عبادة الذات تفسدها وتفسد على العالم إيمانه لذا فلننتبه كي لا نصبح من أتباع ذلك الدين الفردي ، الذي لن يمنعك من صلاة المسلمين الظاهرة لكنه سيسلبك روحها ، وسيجعلك تصلي صلاة فردية ولوكنت في الحرم ليلة القدر.
وسنتابع في المقالة القادمة بإذن الله تتمة الحديث عن أركان الدين الأميركي الجديد .