الفردوس المستعار و الفردوس المستعاد- للدكتور أحمد خيري العمري

إنضم
22/02/2006
المشاركات
65
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
عرض الشيخ معاذ الخطيب الحلقة الاولى

أمام إلحاح أطفالي نقعت في الماء بعض بذور البطيخ الأصفر (الشمام) والذي له طعم مثل العسل! وقد أخذت البذور من (بطيخة) نادرة الطعم زكية الرائحة، ثم زرعناها في وعاء خاص ، وبعدها ظهرت وريقات صغيرة استحالت إلى نبات فتي يملأ العين خضرة وبهاء! وبقينا ننتظر الأزهار التي تعقبها الثمار الشهية ، ولكن عبثاً! ومنذ أيام ودعنا آخر عرق أخضر فقد ماتت نبتتنا! ومع ذلك الوداع أدركت جهلي! فذلك النبات أميركي! وصممت بذوره خصيصاً لتنبت مرة واحدة، وواحدة فقط ، وإلا فكيف سندفع (كأمة) كل سنة مئات ملايين الدولارات ثمناً لبذور جديدة !

أمتعني جداً (بقدر ما أقلقني) كتاب ممتاز ألفه الكاتب المفكر والطبيب أحمد خيري العمري ، وسماه (الفردوس المستعار والفردوس المستعاد) وقد تفضل مشكوراً بإهدائي نسخة منه، ومن ذلك الكتاب علمت لماذا لاتنبت البذور مرتين!

يذكر الأستاذ العمري أنه في عام 1915 حصل ماغير وجه العالم ، فقد حصل إفراط في الإنتاج ، وتكدست البضائع ، فقلت أرباح الرأسماليين الذين التجئوا إلى هنري فورد (1863-1947) فأحال الأمر إلى قسم الدراسات الاجتماعية ، وبعد مداولات عاصفة خرجت مؤسسة فورد باقتراحين مذهلين : الأول : تقليل ساعات العمل من 60 ساعة في الأسبوع إلى 48ساعة! وزيادة الأجور!! وبالتأكيد لم تكن مؤسسة فورد غبية بل في غاية المكر والدهاء!

كان الهدف هو إيجاد وقت للراحة والترف! وبالتأكيد فيجب أن تكون الجيوب ممتلئة! وإذا وجد الفراغ والمال فشيطان التسوق هو ثالثهما من دون جدال. [منذ فترة افتتح عندنا في الشام مركز تجاري ضخم لم يجد أصحابه إلا عبارة في غاية السماجة والعامية للدعاية له وهي: ( كتير كتير تسوق) مع صور غريبة تناسب سكان مونت كارلو ونيس (الأتقياء) في الستينات!].

كان فورد عدواً لدوداً للحركات العمالية، ولكنه كان أدهى منها بكثير ، فأوقع الكل في فخ الاستهلاك ، وببعض الدعاية المغرية كالتخفيضات الموسمية والتقسيط المريح استطاع فورد وخلفاؤه انتزاع بقية المدخرات التي وفرها العمال المساكين.

عدت لأنظر في كتاب الفردوس المستعار والفردوس المستعاد فوجدت أنه قائم على ثلاثة محاور أساسية: أولها يتحدث كيف أن المواجهة مع المنظومة الأميركية ليست مواجهة عسكرية بل إن هناك ديناً أميركاً لم يبدأ عمله عند سقوط بغداد بل هو سرطان متغلغل في كثيرين ، والصراع العسكري وجه واحد لصراع حضاري وقيمي يطرح نفسه كدين بالمعنى العميق وهذا كله في مواجه فرد مقموع ومهزوم ومكبوت في طاقته الإنسانية كلها [جزى الله الحكام ماهم أهله]، ولم يعد الدين (الأميركي) حكراً على أميركيين وطنيين حتى العظم! بل أصبح له ملايين الأتباع الذين يحملونه حتى وإن لم يدركوا ذلك! ومادام لكل دين إعجازه فقد كانت معجزة الدين الأميركي منبعثة من روحه (أي حسية صرفة) تقدم إبهاراً تقنياً يشل قدرات الفرد ويقضي على أي جدال أورفض .

يرسل إلينا الدين الأميركي كل يوم ملايين الرسائل عبر الإعلام والتحليلات والتربية والثقافة والأجهزة التقنية، والتقدم العلمي والمخترعات ووسائل الاتصال والتعبير والمؤسسات والخدمات والترفيه وحل المشاكل ... وهو دين لايصطدم مع أحد ولا يحارب العقائد مباشرة ولكنه يزحف ببطء مخيف مكتسباً مواقع ثابته يصعب جداً إعادة التمكن منها ، والأمكر أنه لايعارض العبادة ولا يمنع أحداً من مزاولة ما يعتقد ، بل يهنئ ويفتح الأبواب ويبارك ويصافح بينما يفرغ القيم الأساسية ليضع قيمه هو ومبادئه ونظرته وعقليته بل يسكب روحه سكبا في كل مفصل فيناً.

لب هذ الدين قائم على فكرة الحلم الأميركي من الرفاهية والترف والعيش في جنة السلع الأرضية.

وكما أفرغ فورد جيوب العمال المساكين ، فقد أفرغ الدين الأميركي الأرض من قيمها ، فأوحى لها أن التقدم إلى الفردوس (المستعار والوهمي والمزيف) رهن بخلاصها من الفردوس الآخر (وهو القديم والموروث والممل ).

[إن النزهة القصيرة التي قرر الدين الأميركي ومنظومته العسكرية أن يقوم بها لمدة أسبوعين في بغداد! لتحريرها من الطغيان البعثي كانت فردوساً مزيفاً ، ولم يدرك سدنة الدين الأميركي أن هناك فردوساً آخر استطاع الذين يريدون استعادته أن يبقوا القوات الأميركية تغرق في الوحل العراقي خمس سنوات عجاف ولا يعلم إلا الله عواقب ما ستأتي به الأيام].

فردوسنا الذي فقدناه (أخلاقاً وديناً وعادات وترابطاً اجتماعياً ومروءة وإنسانية) يضع الدين الأميركي بديلاً عنه فردوساً مستعاراً ، خلفه أعلى معدلات الاغتصاب في العالم وأكثر نسب الاعتداء على المحارم ،وأعلى نسبة طلاق وأكبر نسبة جريمة وإدمان مخدرات وكحول وسرقة وقتل وعيادات نفسية وتفكك عائلي ومآوي عجزة وتفكك اجتماعي وخواء روحي ...) .

بعد ذلك يتحدث الكاتب عن أن الخروج من الجنة (والذي تتفق عليه أدبيات الأديان الكبرى) قد اعتراه التشويش ، وقامت هوليود بتحويل الأمر إلى موضوع جنسي! بينما كان الأمر حداً يتأدب به البشر وتتدرب به النفس فلا تجمح نحو تدمير ذاتها، ومن آدم إلى إبراهيم إلى محمد صلى الله عليهم جميعاً كانت هناك دائماً ضوابط للتوازن وإخراج من الحضيض وإعادة توجيه نحو الفردوس الحقيقي الذي لا يجوز أن نتوه عنه.

وكما لكل دين ثوابته وأركانه فللدين الأميركي أركانه أيضاً! وهي : المادية والفردية والاقتصاد الحر والاستهلاك والعيش (الغرق) في الحاضر!

الركن الأول قديم قَوي في القرن الخامس الميلادي ثم خفت بانتشار المسيحية، وعيب الدين الأميركي أنه لا يجعل المادة مكوناً من المكونات الحضارية وفقط ، بل أنه يندر قيام حضارة ارتكزت على عنصر واحد مثلما فعلت الحضارة الأميركية [وهو ماسيجعلها تتآكل ذاتياً في المستقبل] وكل الأسئلة جوابها : المادة والطاقة، أوقل : الحواس الخمس! فهي الرؤية الأكثر تبسيطاً لأكثر الأمور تعقيداً! ، إنهم بالضبط كما يقول تعالى : (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) (الروم:30/7)، ويشير الكاتب إلى أمر خطير ، وهو أننا نقول أن هناك توازناً في الإسلام بين المادة والروح ، فنجعلهما قسيمين، والأمر ليس كذلك فعالم المادة جزء ظاهر من عالم غير مرئي وأرحب بكثير ، وهو عالم الغيب ، فلا تناقض ولا تصادم ولاتوازن ولا تعادل ولا تساوٍ ، إنما جزء صغير ظاهر من جزء أعظم غير ظاهر ، فهل نؤمن بالأول لأننا نراه وننكر الآخر لأننا لا نراه (مادياً).

مع أن ألأميركيين ليسوا هم الذين اخترعوا الفلسفة المادية لكنهم عاشوها ومضوا إلى أعمق غور فيها! وهنا برزت النفعية (البراجماتية) كفلسفة ميزت أميركة وهي أهم إضافة سلبية قدمها الأميركان إلى الحضارة عندما شطبوا كل الأديان والمذاهب والفلسفات ووضعوا معياراً جديداً ، فكل شيء ليست له قيمة مالم تكن له نتيجة عملية على أرض واقع مؤلف من بعدين وحواس خمس فقط! [انتبه : لعلك تحمل هذا الوهم طيلة حياتك وأنت لاتدري].

ليس المهم الصواب والخطأ ، الخير والشر ، الحرام والحلال ، الألم والشقاء ، المهم فقط المنفعة المادية الآنية! [ومن أجل ذلك فبدهي أن تباد حضارة الهنود الحمر ويقتل عشرات الملايين ، وأن يستعبد ملايين الأفارقة بعد خطفهم من أفريقية ، وأن تدمر هيروشسيما وناغازاكي بالقنابل النووية ، وأن يكذب بقصة الأسلحة النووية العراقية سنوات بعد حصار ظالم لشعب العراق استمر عشر سنوات وحصد مئات الألوف من الأطفال الأبرياء وسبب من الويلات والنكبات مالا يحصيه عد ، وبدهي أن تنزل القوات الأميركية في أفغانستان ثم العراق وغداً دارفور وربما بعده لبنان أو سورية (لاسمح الله) وإدارتهم تكذب وتكذب وتكذب وتتحدث عن الإرهاب وهي ترمق النفط وتتحدث عن الديمقراطية وهي تريد ضمان الاستقرار لحليفتها التوراتية (إسرائيل) ، وتتحدث عن الاستقرار ، وقد سفكت في شعوب الأرض كلها الملايين من الدم البرئ الحرام].

[دهشت جداً منذ أيام لطالب غربي أتى يسألني عن بعض الأمور في الإسلام ، فقلت له : هل أنت تبحث عن الأمر لأهداف أكاديمية أم شخصية؟ فأجابني ببراءة : سأخبرك عن تفكيري حول الدين : إنني لست أتبع أي دين فإذا قال الناس أن هناك خالقاً وجنة وناراً ويوماً آخر فأنا أقول بذلك ، وإذا هم أنكروا كل ذلك فأنا معهم!! وهو مثال سافر عن البراجماتية العجيبة].

وهناك من سيقول (متفلسفاً) : إن الله تعالى يقول أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، وسيطرب أتباع الدين الأميركي لهذا الاكتشاف! غافلين عن الفرق الأساسي بين النفع الشرعي الذي هو للناس ، والنفع الأميركي الذي هو للذات (وهذا له علاقة وثيقة بموضوع أخطر إذ لايوجد متبع للدين الأميركي إلا ويحمل جراثيمه، وهو عبادة الذات! مما سنركز عليه لاحقاً)].

[من النتائج الطبيعية للدين الأميركي وبراجماتيته أن ينظر الأفراد على مصالحهم التجارية فيرفضون المقاومة ضد الاحتلال لأنها لا تعين على الاستقرار الاقتصادي ، ويقبلون الاحتلال لأن الخسائر – ضمن الحواس الخمس- أقل من خسائر المواجهة] .

أعان على الفلسفة النفعية رواد مثل سبنسر (منتصف القرن التاسع عشر) وخلاصة نظريته الماكرة جداً (وهي داروينية اجتماعية سابقة للداروينية البيئية التي أتى بها دارون) أن القوي يأكل الضعيف في البيولوجيا ، والغني يأكل الفقير في عالم الأفراد ، وتغيير ذلك سيؤخر تطور البشرية [ضمن رؤية سبنسر للبشرية] ، [من النتائج العملية أن إبادة شعوب بكاملها إنما هي عملية تنظيف ، لذلك لم يستطع الرئيس كلينتون إلا الاعتراف بتقصير الإدارة الأميركية الشديد في إيقاف مذابح التوتسي والهوتو والتي ذهب ضحيتها أكثر من مليون إنسان ذبحوا بالسيوف والفؤوس! فلا نفط عندهم ولا مصالح اقتصادية ، وموتهم سيخفف بعض الجهد عن كاهل البشرية-الأميركية- ، ونستطيع بسهولة أن نرى تلك المعاني في الأفلام الأميركية ، والتي عمادها القتل والجريمة ، فبعد انتهاء مهمة العميل يمحق ويقتل مثل حشرة فقد انتهت مهمته ، ولم يعد منه نفع حتى لولم يكن خائناً ، فقد أدى وظيفته ، ونفعه –ضمن الحواس الخمس- وليس له أي كرامة كإنسان ، ويمكن للإنسان أن يكون عطوفاً على والديه إلى حد معين ، وبعدها فدور العجزة هي المكان الطبيعي للوالدين ، إذ لا يوجد في الدين الأميركي أي شيء يمت إلى العمل لوجه الله أو الأجر الأخروي ، أو الحسنات والثواب ، والتوفيق في الحياة بسبب بر الوالدين].

[هناك أمر حيرني ، وهو أن كثيراً ممن يعيشون في تلك المجتمعات يحبون الخير ، وهناك من يدفع الملايين لتلك الأعمال ، وهذا حق لأن الفطرة البشرية لاتموت بهذه السهولة ، ولكن حاول أن ترى ذلك السخاء في حالة الضيق والقحط ، فهل ستجد أمة ممن قال الله فيهم : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة! أبداً فحالة البحبوحة والرغد هي التي تدفع لأعمال الخير إرضاء للنزعة الذاتية وفي أحيان أخرى بقصد المباهاة ، أما عند المحنة فتزول الطبقة البسيطة من الفطرة ، ويستيقظ وحش البراجماتية ، وليس أدل على ذلك ما حصل عندما انقطعت الكهرباء في نيويورك لبضعة ساعات فقط ، فقد حصل من السرقات والنهب والاعتداء على أملاك الناس مالم يسبق في تاريخ البشر (ومثله ماحصا في إعصار فلوريدا السنة الماضية الذي نهبت فيه بعض المدن بشكل غير مسبوق)، أما في بلادنا المتخلفة فمازلت أرى الناس في الأسواق القديمة يضعون غطاء بسيطاً على بضائعهم وأحياناً مجرد عصا صغيرة ، تعلن أن صاحب المحل ذهب إلى الصلاة والبيع متوقف الآن ، ولا أحد يسرق ولا أحد يمد يده رغم كثرة الفقر والحاجة، أما عندما تحصل نكبة أو مصيبة ، فمشاعر المؤازرة والمساندة والبذل في بلادنا تبدأ من الأقل مالاً فما زالت فيهم النخوة التي لا يوجد لها مرادف عند الاستهلاكيين ، وبالمناسبة فيوجد بيننا آلاف البراجماتيين –أتباع الديانة الأميركية- وهم لايحسون بما هم فيه ، ويذكرني حالهم بشكوى لأحدهم عن قسوة قلبه ، وبعدما سمعه أحد الحكماء قال له: سل الله أن يمن عليك بقلب فإنه لا قلب لك!]

الركن أو الثابت الثاني في الدين الأميركي هو : الفردية :

مبدأ الفردية تشكل إطاره النظري عبر ثلاثة مفكرين : رالف والد إيمرسون (1803-1882) وهنري ديفيد ثورو (1817-1862) وألكس دي توكفل (1805-1859).

لقد هاجم الأولان كل النظم الدينية التي تدعو إلى غير الفردية ، وركزوا على أن الفرد هو القيمة الأولى والأهم في المجتمع ، وهو ينتمي لنفسه أولاً وأخيراً ، وليس من حق المجتمع أن يملي عليه تصرفاته وأفكاره ، ومن حق هذا الفرد أن يسلك أي سلوك يجلب له السعادة مهما كان مخالفا لتصور الآخرين في السعادة [ليست الانتحارات المشتركة والجنس والتحشيش الجماعي والاعتداء على المحارم واغتصاب الأطفال وتعذيبهم ، وإطلاق النار من المراهقين على أساتذتهم وزملائهم سوى مفردات بسيطة لهذا الفكر].

في كل إنسان نزعة فردية ولكن بالتربية والإيمان تصقل لتتحول إلى عامل إيجابي أو تبقى ضمن إطار لايؤدي إلى أضرار واسعة الطيف ، أما الفلسفة الفردية فهي منهج خطير ليس قائماً على إدراك دور الفرد بل يؤله الفرد ، فترى الفردية أن معيار الأخلاق والمبادئ يمر عبر الفرد ، وليس من واجبه أن يضحي من أجل غيره ، فالمجتمع صمم من أجل خدمتة ، والفردية لاتدعو للعزلة بل هي تنظيم جديد للعلاقة بين الناس قائمة على فرد مع فرد وليس علاقة فرد بمجتمع، [عند عقد الزواج الإسلامي يذكر العلماء أن العلاقة الزوجية ليست علاقة فرد بفرد ، بل مجتمع بآخر].

وماذا عن الفرد الضعيف؟ يقول إيمرسون: لايقل لي أحد أن لدي التزاماً تجاه الفقراء ، إنهم ليسوا فقرائي! [إن مايجري من أعمال الخير في المجتمعات الغربية قائم على الفردية أساساً ويبني عليها ، ولم يكن يوماً قائماً على العقد الاجتماعي ، أو الواجب الديني ، كما هو نظام الزكاة في الإسلام الذي يفرض على الأغنياء فرضاً إخراج الزكاة كي لايكون المال دولة في أيدي الأغنياء].

حققت الفردية دوراً إيجابياً في البناء الحضاري الأميركي بإطلاق طاقة الفرد [ولو على حساب أمور أخرى]. وانبثق منها مفهوم الحرية الشخصية التي كانت طعماً ساذجاً وقناعاً لممارسة الفردية ، وعندما يصبح الفرد مشرعاً لنفسه فمعنى هذا أن أكبر عدد من الأفراد إذا اتفقوا على شيء واحد فسيملكون حق التشريع للمجتمع بغض النظر عن أي شيء آخر! [أباحت إحدى الدول الأوربية للشاذين جنسياً تبني الأطفال!! لأن مجموع المصوتين في البرلمان مع القرار أكثر من المعارضين] وتهمس لك الفردية: أنت أهم شيء ، واقبل نفسك ، وباختصار كُن ذاتك ، فلا داعي لتعديل أي شيء في حياتك إلا مايوافقك [خرجت مظاهرة في نيويورك مرة تضم عشرات آلاف الشواذ وهي تنكر على الحكومة الأميركية تقصيرها في إيجاد الأدوية التي تسمح للشاذين باستمرار سلوكهم دونه أن يضطروا للوقوع تحت وطأة الإشكالات الصحية].

كرست الفردية نوعاً من افتتان المرء بذاته ، وبنت فيه نرجسية فائقة ، ومع الوقت نمت هذه الخصلة لتتحول إلى عبادة الذات، ويصبح الفرد هو مركز الكون! [وهذا الأمر في غاية الخطورة من الناحية الشرعية]: (أفرأيتَ من اتخذ إلههُ هواهُ وأضله الله على علم) (الجاثية45/23) ، وعندما تستقر تلك العبادة ستبدأ بإخراج الوثن الذي ستقود به جماهير السذج والمغفلين!

[نتوقف عند مثال واحد ، وهو هنا فني ولكن له نسخ تجارية وعلمية وسياسية] : تُسلط أضواء الأعلام ليلاً ونهاراً على بعض النجوم الذين هم دائماً في غاية الأناقة والوسامة والجاذبية والذين هم يمثلون النجاح الفردي الكاسح والعصامية في شق الطريق! والولع الموجه لهم هو ترميز لعبادة الذات [التي ينبغي للكل أن يتوجه إليها] ، وكل فرد في الجمهور يرى في النجم ذاته ، فهو يتقرب ويعبد ذاته من خلال الرمز النجومي الذي هو محض وثن يحرض عبادة الذات في النفس!

لابد من ربط الجمهور بأدق تفاصيل حياة ذلك النجم من نوع الصابون وكيف يحلق وكيف يحب وماذا يأكل [ليس لأنه قدوة صالحة ومعلم خير ، بل فقط لأنه فرد يوقظ في النفس وثنية الذات إلى أبعد حد] ، ثم تقام بعدها تصفيات للنجوم تهدر فيها حياة أولئك [الأفراد الخاسرين ، فهو مذبح وثني قديم تفترس السباع فيه العبيد ، ولا يحزن أحد على العبيد الضعفاء مادامت السادية والذات قد اشتفت بمنظر التوحش الكامن فيها ووحده المنتصر يحوز البطولة ، ويمكن لمن يهمه الموضوع أن يتابع مسيرة الحياة للنجوم الذين لا يستطيعون المتابعة كيف ينهار أكثرهم نفسياً بعد النجومية المتداعية أو ينتحرون أو يعيشون في وضع لا يحسدون عليه].

من آلاف المتقدمين يحصل انتقاء تدريجي يقوم به الجمهور مختاراً من يجسد نفسه [ أي ذاتيته و وثنه الداخلي] فلا منطق هنا ولا معيار ولا مُحدد إلا الذات والذات فقط وماتهوى ، ويزداد الحماس ويشارك في التصويت ملايين قد لا تشارك في انتخابات الرئاسة الأميركية نفسها، وكلما اشتد السباق تحول الأمر إلى هستيريا ليبقى اثنان في النهايةلابد أن يُصرع أحدهما [ضمن الطريقة المعاصرة لصراع الأسود والعبيد] ، وتقدم البرامج الأميركية ، والتي من أشهرها برنامج (الوثن الأميركي : American Idol) الذي يستقطب الملايين ، وسيصل الوثن الأخير الذي سيكون المعبود الحقيقي الذي يعبر عن حلم الملايين ومشاعرهم وآمالهم ، وسيكون حتى شكل حلاقته وثيابه وعطره بل وحتى مجونه المثل الأعلى لملايين الشباب في الأرض ، وستحلم بمثله ملايين المراهقات ، وسيكون مادة عبادة تتعبد لها الجماهير الغافلة وهي تقصد عبادة ذاتها!

هذا البرنامج الوثني لابد له من نسخة عربية ، [وربما عجب بعض أفاضل الدعاة والعلماء للشعبية الكاسحة لبرامج مثل (ستار ) وملايين المكالمات التي كانت تشارك في التصويت ] وربما بكى بعضهم واستنفر بسبب العري ، والوقت المهدور في أمة مذبوحة وللجيل المائع والتفاهة ، ولوعلموا الحقيقة الكامنة لعلموا أن الأمر أخطر بكثير فهو إقامة صرح ومعبد للوثنية التي تقوم على عبادة الذات والفردية التي هي ركن أساسي في قيم الفردوس الزائف المستعار.

[من نافلة القول أن كثيراً من البرامج التي انصبت فجأة مثل المطرعلى العالم العربي مثل البرمجة اللغوية العصبية وتطوير الذات وبقية تلك الكليشات البراقة ، إنماتحمل في أعماقها وبكل صراحة (الفكر الوثني الأميركي وعبادة الذات وفقط عبادة الذات) ورغم أننا ندعو إلى أخذ ماقد يكون فيها من بعض النقاط الإيجابية ، إلا أننا ندعو إلى الانتباه إلى الروح الكامنة فيها ، وخصوصاً في مجتمعات ممحوقة ثقافياً ونهمة وجائعة إلى كل جديد مهما كان فيه بسبب تعطيشها الطويل ، كما تعشعشع فيها النظم الشمولية التي يوافقها تماما نمو الذات لا لتتحد كقوة اجتماعية بل لتنمو بشكل فردي يزيد من تجذير الانفراد ، ويقضي على البقية الباقية من الجماعية التي تنحت النظم فيها ليلاً نهاراً لمصادرتها لصالحها وسحب أي تكتل جماعي ، ومنذ فترة قريبة جداً ذكر أحد كبار المشتغلين بحقوق الإنسان أنه تلقى تحذيراً من بعض الجهات الصديقة التي نصحته أن لايواصل النضال في وجه أحد الأنظمة الشمولية! لأن الولايات المتحدة ورغم العداء الظاهر مع حكومة ذلك البلد الديكتاتورية إلا أنها راضية في الأعماق عن ذلك النظام تماماً بسبب أنه لم يتوفر قط في المنطقة نظام استطاع أن يفكك البنية الجماعية لشعبه مثلما فعل ذلك النظام الشمولي! فتأمل يرحمك الله].

نعود إلى ماذكره مفكرنا النبيه الدكتور العمري ، لنرى التوجه القرآني حول الفردية والذاتية ، فنسمع نداء زكريا عليه السلام (رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين) (الأنبياء21/89) ، إنه يريد كسر حاجز الفردية والانطلاق نحو الجماعة: (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رَغَباً ورَهَباً وكانوا لنا خاشعين) (الأنبياء 21/90) ، والقرآن لم يلغ الفرد بل أثبته ليكون الجزء الصالح من جماعة ، وليس وثناً مزيفاً ، كما نقف عند سؤال مؤثر في سورة البلد يخاطب الفرد (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد) (90/5) لقد تصور المسكين ذلك فلم ير أبعد من ذلك ، وبقي في أسر حواسه (يقول أهلكت مالاً لبداً) (البلد90/6) ، [مازالت هناك طاقة جبارة في العالم الإسلامي يحتار الغرب في القضاء عليها وهي العمل لوجه الله والبذل والتعب لهذا الدين ، والعمل الطوعي الذي لا يبتغي الإنسان من وراءه جزاء ولا شكورا إلا رضا الله تعالى ، ويتحدث أستاذنا الدكتور عبد الكريم بكار عما تحييه ثقافة التطوع في النفس من أبعاد مهمة جدا، وضرورة استمرار تلك الثقافة بنيتنا الإسلامية -وهي بالتأكيد ليست ثقافة التطوع التي يركض إليها البعض ووراءها مؤسسات تنصيرية أو تغريبية تدعمها الأموال الهائلة من الخلف لتنشر فكراً تطوعياً غريباً غايته إرضاء( أي عبادة الذات) وليس العمل الخالص لوجه الله ] .

المال والمال وحده هو المحرك عند الفردي وعابد الذات ، الأرباح والخسائر ، ورغم أن الله قد جعل له عينين ولساناً وشفتين ، إلا أنه ظنها آخر المطاف ولم ينزع بها إلى ماوراء ظاهريتها المحدودة ولم يتجاوز العقبة التي كان يفترض بجوارحه أن تنهض إليها (فلا اقتحم العقبة) (البلد90/11) ، والذي هو (فكُّ رقبة* أو إطعام في يوم ذي مسغبة* يتيماً ذا مقربة* أو مسكيناً ذا متربة) (البلد 90/13-16) ، إنه العطاء والخروج من الذات والفردية القاتلة ، ليصبح جزءاً من الجماعة الصالحة ، ويكف عن فرديته التي ملأته فلم ير غيرها (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) (البلد90/17) ، لقد خرج من أسر الذات وانتمى إلى الجماعة عندما اقتحم العقبة.

لقد وصف القرآن الكريم الفرد بأنه ظلوم ، كفور ، وعجول ،وأكثر شيء جدلاً ، وهلوعاً ، و يطغى وهو كنود ، ويفجُر أمامه وهو في خسر ...

الإنسان ظلوم كفرد ولكن صلته مع الآخر ستوجهه نحو العدل

الإنسان عجول كفرد والجماعة تكبح عجلته

الإنسان كفور كفرد ولكن انتماءه للآخرين قد يجعله شكوراً

وهو جهول ينظر من زاوية ضيقة فإذا انتمى إلى الجماعة صار إدراكه أوسع

.... شيء واحد يجعله يخرج من أسر حواسه الخمسة ، ألا وهو البصيرة! قال تعالى : (بل الإنسان على نفسه بصيرة). (القيامة75/14) [يحضرني هنا عبارة للإمام سفيان الثوري رحمه الله يقول فيها : بصر العينين من الدنيا وبصر القلب من الآخرة وإن الرجل ليبصر بعينيه فلا ينتفع ببصره فإذا أبصر بالقلب انتفع].

البصيرة تخرج الفرد من أسر حواسه الخمسة التي لا ترى إلا الطعام والشراب والمال والنكاح والمصالح الضئيلة.

والمرهب في الأمر أن الله تعالى قد أحصى الناس (لقد أحصاهم وعدهم عداً) (مريم 19/94) ، وهم سيتابعون تلك الفردية (وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً) (19/95).

وبينما تشكل الفردية جوهر الوثنية الحديثة ، تشكل الجماعة محور الحياة الصالحة ، [وواضح أن الضمير الجماعي هو معقد التوجه في تلك الحياة الصالحة ، وإذا أدركنا ذلك فهمنا لماذا يحرص الإسلام على عدم الوقوع في المعاصي لأن الأمر ليس خياراً فردياً ، والذي لا يكون فيه عقوق الوالدين سوء أدب وقلة اهتمام من ولد عاق بل بداية تفكك اجتماعي ، و لايكون الزنا حادثة إدخال عضلة متصلبة في تجويف عضلي آخر ، بل انهيار النظام الأسري وطغيان العلاقات الحسية بين البشر قفزاً فوق كل ماهو معنوي وإنساني وروحي وجمالي وجماعي! وليس شرب الخمر استدعاء لنشوة فردية ، بل أول طريق إهدار كرامة بن آدم وغيبوبة عقله [ومن يعلم آفات الكحول في المجتمعات الغربية يعلم عمق مانقول]..

ما أسكر قليله فكثيره حرام! ومايضر المجتمع كله –في البداية أو النهاية- فهو حرام.

وثقب السفينة الصغير يودي بها إلى أعمق قاع. لذلك يرفض المسلمين الفردية التي تمس الجماعة.

أما الصلاة فهي عالم أعظم من كل وصف حيث العروج إلى الملأ الأعلى و اندماج الأنا مع الجماعة ، بداية بالشهادة الفردية للحقيقة المطلقة الكبرى: أشهد ألا إله إلا الله .. يتلوها: الله أكبر ، وعندها تندغم الأنا في الكل : ( إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم) ، وسواء أصليت معها في الحرم الشريف أم في الربع الخالي فأنت جزء من جماعة المؤمنين المصلين ، وتجتمع في صلاتك مع النداء الإبراهيمي الأول : (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين) ، فتسير وراء إبراهيم ويصبح الفرد أمة(إن إبراهيم كان أمة) (النحل 16/120). فهو منهج يعاكس عبادة الذات ولا يفتت الأمة إلى ذوات وأفراد بل يجعل الفرد أمة ، والكل يمشي في الصراط المستقيم.

ليست أميركا ملحدة أيها الإخوة والأخوات (وشعبها متدين وفيه فطرة عظيمة) ولكن عبادة الذات تفسدها وتفسد على العالم إيمانه لذا فلننتبه كي لا نصبح من أتباع ذلك الدين الفردي ، الذي لن يمنعك من صلاة المسلمين الظاهرة لكنه سيسلبك روحها ، وسيجعلك تصلي صلاة فردية ولوكنت في الحرم ليلة القدر.


وسنتابع في المقالة القادمة بإذن الله تتمة الحديث عن أركان الدين الأميركي الجديد .
 
bsmlah.gif


SVfl16bar.gif




حياك الله اخي الفاضل عزام عز الدين

جزاك الله خيرا وجعله في ميزان حسناتك يوم القيامة

ما تنقله لنا من معلومات قيمة في جمعك لنا هذه القالات وطرحها لنا


بارك الله فيك ووفقك لما فيه الخير والصالح لا يحرمنا من جديدك القادم

وبانتظار المقالة

ودمت بحفظ الله ورعايته


SVfl16bar.gif
 
سؤال

سؤال

أين ذاتية الأمريكي في إنفاق مبالغ طائلة لفرق التنصير التي يرجون ثمارها بعد مدة صاحب المال يكون ما فيها ؟
 
الاخ الكريم..
اذا كنت فهمت سؤالك بشكل صحيح - فالفرد الامريكي ليس من يتبرع هنا - بل المؤسسات الكنسية التي تاخذ الاموال من الفرد
و هي مؤسسات لها دور مهم و لكنها في الوقت نفسه لا تلعب دورا كالذي يلعبه الاعلام مثلا
الفرد الامريكي يذهب الى الكنسية- بنسب عالية مقارنة باوروبا- مثلا لكن ذلك لا يؤثر على نمط حياته
 
نعم فهمت سؤالي

نعم فهمت سؤالي

نعم حضرتك فهمت سؤالي وإن كنت أنا لا أدري بالضبط النظام الحادث هناك .
والذي أقصده أنه مع الذاتية هو يَخْرج من جيبه مالاً ينفق لشيء لا يعود على ذاته وإنما لعقيدته .
وهي التي أظن أنه لا ينبغي أن تسقط من الاعتبار لعلو ذاته عند نفسه ، فهو أيضًا له عقيدة وينفق لها ولا يستعجل رؤية نتيجتها .
وسؤالي سؤال متعلم فقط جمع بين رؤية لأستاذ وشيء في صدره فسأل .
وجزاكم الله خيرًا على اتساع الصدر
والسلام عليكم
 
اشكرك لمتابعتك اخي الكريم و لست سوى شخص ينقل لكم بعض ما قرأ
ارجو ان اتمكن من نقل مقتبسات من كتاب"الفردوس المستعار" لتوضيح الفكرة اكثر
 
من كتاب "الفردوس المستعار و الفردوس المستعاد"للدكتورأحمد خيري العمري دار الفكر دمشق2006-
الثابت الثاني- الفردية
لكن الفردوس المستعار، ليس مجرد ثابت واحد وحجر واحد، إنه مجموعة ثوابت، وبناء ضخم، أقر أن كل أحجار بناءه وأركانه مرتبطة بالثابت الأول، وبحجر "الأساس".
لكن الأمر أعقد من مجرد "إيمان بالمادة".

*****************

فلنرجع الآن الى تلك السفينة التي عبرت المحيط بإتجاه ذلك الفردوس الجديد، الذي تصورت أنه سيكون بديلاً عن "الفردوس القديم".
لنرجع الى ذلك الآدم الجديد، الآدم الأمريكي، الذي خاض مغامرة عبور المحيط من أجل تشكيل العالم الجديد- لقد تشكل هذا العالم عبر هذا الآدم، وشكل هذا الآدم عبر هذا العالم، كل منهما شكل الآخر، وكل منهما كان إنعكاساً للآخر..
.. لقد عرفنا أن دوافع هذا الآدم كانت "مادية جداً"، وهو أمر مفهوم ولا أتصور أن أحداً سيجادل فيه. أن موجة البرد التي ضربت محصول البطاطا في إيرلندا هي التي دفعت أكبر موجة للمهاجرين منها عبر المحيط، إنه الحلم بمناجم الذهب، وبالأرض الخصبة الخام.. وبذلك المناخ المعتدل الذي يساعد على الإنتاج الزراعي الوفير.
نعم، كانت تلك الدوافع الأولى مادية جداً- وقد إنعكست هذه الدوافع، بشكل أو بآخر، فلسفياً وفكرياً، على الإيمان بالمادة كالثابت الأول أو بإعتبارها "الرقم واحد" في سلم الأولويات..، وإتضح ذلك أيضاً في أدلجة السلوك النفعي المرتبط بالمصلحة المادية المباشرة (كما حدث مع البرغماتية، الأمريكية 100%)،.. وإتضح أكثر في أدلجة مجتمع الغابة وإعطاء الشرعية لإلتهام القوي للضعيف عبر مفهوم "البقاء للأصلح" (كما حدث مع الدارونية الإجتماعية).
نعم، النزعة المادية، ستظل في المرتبة الأولى..
لكن ليس هذا كل شيء.
فالآدم الأمريكي، الذي خاض المحيط من أجل الوصول الى أرض أحلامه، كانت لديه شيء أكثر من مجرد "النزعة المادية"..، وليس كل من ضربه البرد أو الجفاف ركب البحر و هاجرالى امريكا..
لكن هذا الآدم كانت لديه صفة أخرى.. أعمق، وأكثر تعقيداً، ربما لم تكن ظاهرة في البداية، لكنها بالتدريج، صعدت على السطح، وأصبحت أكثر بروزاً وهيمنة.
كان لديه، إحساساً عميقاً بنفسه، إحساساً عميقاً بتميزه.
روح المغامرة التي جعلته يعبر المحيط – هي في حقيقتها- إحساساً عميقاً بفرديته.. إحساساً عميقاً بكونه "فرد" مختلف و متمايز ومنفصل عن المجتمع..
وهذا الشيء سهل عليه أمر تلك المغامرة. إنه لم يشعر بأن جذوره عميقة في المجتمع وراءه، ولذلك فهو "فرد"، وهو لم يهاجر من أجل مجتمعه، أو من أجل تحسين ظروف مجتمعه الأصلي، إنه فرد- وهجرته كانت من أجل تحسين ظروف هذا الفرد حصراً، حتى لو إصطحب عائلته معه، فالأمر هنا يتعلق بعائلة الفرد، إثنان أو ثلاثة أو عشرة "أفراد" ملتحقين.. لكن ليس المجتمع خلفه..
كان هذا الآدم الأمريكي ينظر الى نفسه "كفرد" –لا أكثر، ولكن ايضا لا أقل –يبدء العالم عنده من حدود حاجاته، وينتهي أيضاً عند حدود إشباعها.. لكنه يظل "فرداً"- -ليس جزءً من مجتمع- ولم يهاجر ويخوض المخاطر من أجل شعارات كبيرة وقيم من نوع تغيير العالم، أو إصلاحه، أو إعادة بنائه على اسس جديدة (رغم أن شيء من هذا حصل لاحقاً).. لكن هذا لم يكن في باله..
إنه "الفرد" – ولا شيء بعد ذلك!.. لم ينظر هذا الآدم الأمريكي الى نفسه الا على اساس أنه فرد، فرد وحيد في مواجهة الطبيعة وتحدياتها، فرد وحيد في مواجهة الأعداء المتوحشين،إنه مرة يكون ذلك الكاوبوي الذي يجوب الصحراء وحيداً ويخلص المدينة الصغيرة من عصابة الأوغاد ثم يعود أدراجه وحيداً من جديد..
ومرة يكون "السوبرمان" – وملابسه باللونين الأزرق والأحمر كرمز للعلم الأمريكي.. وقد ترك كوكب كريبتون و اختار حضارة الفردوس المستعار ليستقر فيها,كفرد ..
ومرة يكون "رامبو" وحيد ومنفرد ومفتول العضلات ويقتل الأشرار كما لو كان يهش ذباباً..، وأخرى يكون باتمان المتخفي وحقيقته هي خفاش فرد بعيد عن الآخرين.
وهكذا دواليك في عشرات الرموز السينمائية التي تعبر عن اسطورة الفرد تمد وتجزر عبر تكرار الصور، وتتغير التفاصيل، لكن كل ذلك لم يكن إلا رمزاً متكراً لمعنى واحد.. لذلك الآدم الأمريكي الفرد الذي صار ركناً من أركان الفردوس المستعار.
************************
إنها الفردية، ثاني ثوابت حضارة الفردوس المستعار..
*********************
الفردية في كل مكان..
عندما أبدأ بالدخول في هذا الموضوع، فإني مدرك تماماً أن فكرة الفردية دون إسمها وأيدلوجيتها وفلسفتها، منتشرة وسائدة عندنا كما في كل مكان آخر في العالم، مثلها البيبسي كولا والهامبركر ومنتجات الأديداس، لكن بينما تلك السلع تكون واضحة وجلية للعيان المادي.. فأن الفردية تسير بشكل خفي، تجري مجرى الدم، تصير بديهة، تصير أمراً واقعاً لم يشك فيه أحد... إنها، مع التكريس والتقادم، يكاد ينظر إليها على أنها جزء من الفطرة الإنسانية..
لكن سيؤسفني أن أخيب آمالكم وأقول شيئاً عكس التيار الى حد بعيد..

لم تكن الفردية في يوم ما جزء من الفطرة الإنسانية.
بل إنها لم تكن إصلاً جزءً من تاريخ الإنسانية.. الى أن حدث ذلك الخطأ الحسابي الذي قاد كولمبوس الىإكتشاف قارة أمريكا..
لم تكن الفردية يوماً ما سوى شيئاً ذميماً.. الى ان جاءت حضارة الفردوس المستعار.
ولست أنا يقول هذا!
*****************
عالم جديد يولد ، و "الفردية" مرت من هناك..
يحدد إلكس دي توكفيل Alexis de Tocqueville مبدأ "الفردية" بإنه الحد الفاصل بين العالم القديم، والعالم الجديد..
ويندر جداً أن يتفق المفكرين والمنظرين سواء كانوا مدافعين أو مهاجمين – كما إتفقوا على أن مبدأ "الفردية individualism" كان من اهم مميزات الحضارة الأمريكية، إن لم يكن أهمها على الإطلاق برأي البعض .
لم يكن المبدأ مهماً فقط لنشوء الحضارة الأمريكية، بل كان مميزاً لها عن غيرها من الحضارات. لقد كان مذهب الفردية غريباً وهجيناً على كل النظم الحضارية السابقة لولادة الفردوس المستعار، وكان ينظر للفردية على أنها خطر كامن على المجتمع وقيمه ودوام إستمراريته. وكثيراً ما كانت تقمع وبقوة مبالغ بها من قبل بعض النظم الحضارية... لكن هذا الأمر إختلف في أمريكا، فبدلاً من أن يصير "خطراً كامناً" على المجتمع، إذا به يصير "دعامة أساسية" من دعامات المجتمع، ودلاً من ان يكون قيمة سالبة إجتماعية ومنبوذة إذا به يصير من أهم القيم الإيجابية في المجتمع..
(ومن هناك، تم تسويق هذا المبدأ الى العالم كله، بحيث صار يبدو كما لو أنه ملاصق لإنسانية جمعاء، وحقيقة أصله ومنشأة هي أمريكية 100%).
ولنرَ ما هي هذه "الفردية"...
****************
ثلاثة في واحد
تشكل الإطار النظري والأيدلوجي لمذهب الفردية عبر ثلاثة مفكرين، تركوا أكثر من مجرد بصمة على الفكر الأمريكي وعلى الأفق المعرفي الذي إزدهرت من خلاله طريقة الحياة الأمريكية..
هؤلاء المفكرين هم رالف والدو إيمرسونRalph Waldo Emerson(1803-1882) وهنري ديفيد ثورو 1817-1862 Henry David Thoreau، وألكس دي توكفل- ( 1859Alexis de Tocqueville (1805- .
كان إيمرسون، وتلميذه ثورو، من أوائل المفكرين الذين روجوا للفردية، وهاجموا بشدة كل النظم الدينية الثقافية التي كرست مفاهيم الغير فردية- وكان هدف هذا الهجوم هو "جعل الناس يشعرون أنهم اهم من كل شيء".
عرّف إيمرسون المجتمع "غير الفردي" – بأنه الحاجز Barrier ضد فردية كل الأشخاص الذي فيه، وعرّفه أيضاً بأنه عبارة عن شركة احتكارية يتخلى فيه الأفراد عن حقوقهم الشخصية من أجل قوت يومهم هم لا أكثر.
الحل حسب المبدأ الفردي هو أن يعاد تأسيس المجتمع على أساس جديد. على اساس أن الفرد هو القيمة الأولى والأهم في المجتمع. وهذا الفرد ينتمي لنفسه أولاً وأخيراً. ليس من حق المجتمع أن يملي عليه أفكاره أو تصرفاته. بل من حق المجتمع عليه أن يحمي حقه في تفرد أرائه وسلوكه- من حق هذا الفرد أن يسلك –بأي سلوك يجلب له السعادة، مهما كانت مخالفة لتصور الأفراد الآخرين عن السعادة.
حسب إيمرسون، الناس يجب أن يكونوا "أفراداً أولاً- ومن ثم مواطنين".
والإلتزام الوحيد المعترف حسب مذهب الفردية، هو إلتزام الفرد تجاه فرديته، تجاه نفسه، ومن ثم عائلته (الصغيرة على الأغلب)، وحلقة صغيرة أخرى من أصدقاء يختارهم بحيث أن فرديتهم تتوافق وفرديته..
هذا هو إلتزام هذا الفرد. لا شيء تجاه مجتمع أكبر. تجاه قيم تتجاوز حدود الفرد نحو جماعة أكبر منه. الفرد هو النهاية هنا. هو الهدف، إنه ليس (عبداً) لأهداف المجتمع. ولا وسيلة لها. الفردية لا ترى معياراً للأخلاق أو المباديء إلا من خلال الفرد. إنها تضعه كمعيار نهائي ومقياس مطلق للصواب أو الخطأ. الفرد هو الحقيقة الوحيدة الواقعية. كل ما يخص حقائق عليا مثل مجتمع أو أنه هو حقائق غير واقعية، وتقع في أبعاد لا تؤمن بها الفردية.
وهي بهذا لا تلغي المجتمع، ولا تقصي الفرد عنه، لكنها لا تعتبر أن المجتمع هو (فوق) الفرد، إنما تعده الحاصل النهائي لمجموع أفراد يتكون منهم المجتمع. ليس من حكم مسبق يمارسه المجتمع على هؤلاء, وإنما الأفراد هم الذين يحددون قيم هذا المجتمع ونمط الحياة فيه.
بالنسبة لمذهب الفردية، الأفراد يخدمون أنفسهم فقط، وليس من واجبهم أن يضحوا من أجل غيرهم أو من أجل قيم عليا كالمجتمع أو الأخلاق إنما المجتمع هو الذي صمم من أجل خدمتهم.
والفردية، لا تدعو للعزلة والإقصاء عن الآخرين، إنما هي نمط جديد من العلاقة بين الأفراد، إنما هي تنظيم جديد للعلاقة بين الناس كعلاقة (فرد لفرد)، وليس كعلاقة فرد بمجتمع..
الفردية ترى الفرد كوحدة بناء إجتماعي متكاملة بحد ذاتها.
إنها تراه كهدف نهائي. ويتحقق هذا الهدف من خلال الإنجاز الفردي الذي يحقق الفرد. وبينما تقر هي أن هذا (الإنجاز) قد ينفع آخرين، إلا إنها تصر على الطابع الفردي للنجاح الشخصي المتحقق في هذا الإنجاز.. ..
نعم، إنها الفردية، تجعل من الفرد معياراً أعلى لكل شيء.
*********************
حسناً، ماذا عن الآخرين؟.
ماذا عنهم، إنهم أفراد أيضاً، يعيشون فرديتهم كما يريدون من خلال مجتمع مصمم ليحمي هذه الفردية.
ماذا عن الفقراء؟ ماذا عن التكافل الإجتماعي؟ ماذا عن مساعدة الآخرين الذين يحتاجون الى المساعدة؟
هنا لن نجد لفاً ولا دوراناً، ولا كذباً، ولا إدعاءً فارغاً بالمشاعر الرقيقة. لقد تأدلج الأمر ولا داعي الآن للكذب..
(.. وهذه نقطة إيجابية على الأقل).
يقول ايمرسون، مؤسس المذهب، في واحدة من أكثر مقولاته شهرةً وإنتشاراً "فلا يقل أحد لي أن لدي إلتزاماً تجاه الفقراء، إنهم ليسوا (فقرائي) For they are not my poor.
هكذا إذن؟. نعم، بلا مواربة ولا إدعاء. •
*****************
]ذروها ذميمة
هل هناك من يقول أن الأمر ليس جديداً، وأن الإنسانية طالما فعلت ذلك بشكل أو بآخر؟..
هذه حقيقة لا داعي لإنكارها. لقد حدث ذلك كنزعة سلوكية بشرية منذ أن عرف البشر السلوك. ولن أدعي هنا أن أمريكا إخترعت هذا..
لكني اقر في الوقت نفسه، أن أمريكا أدلجت الأمر، مرة أخرى، وشرعنته..
لقد كان ذلك السلوك ذميماً عبر العصور التي تشكلت فيها الحضارة الإنسانية بمختلف أطيافها.. رغم وجود إختلاف كبير في مقومات كل حضارة على حدة، إلا إن علاقة الفرد بالمجتمع كانت سمة مميزة مشتركة لمختلف الحضارات...، وكانت قيم الإيثار ونكران الذات ومساعدة الغير تحتل مكانة القيم الإجتماعية العليا، والتي ينظر إليها على أنها القيم الأكثر كسباً للإحترام، والتي يحوز الشخص الذي يحققها على مكانة أكبر إجتماعياً تتحق فيها (ذاته) من خلال منحه للآخرين..
نعم، كانت علاقة الفرد بالمجتمع تتحدد من خلال خدمته هو لهذا المجتمع- ولن أدعي أن تلك القيمة كانت تتحقق سلوكياً عند المجتمع كله، لكن الضد من هذا كان دوماً يذم ويحقر ويلصق به أبشع الملصقات: مثل الأنانية والبخل والجشع والذاتية..
وظل الأمر كذلك، الى أن جاءت أمريكا.. وصارت الصفة التي كانت مذمومة ومرفوضة، صارت قيمة إيجابية عليا..يرتكز عليها مجتمع بأكمله و تتسرب الى اعماق الشخصية الامريكية و جزءا من العادات المتأصة في عمق الشخصية الامريكية و ترتكز عليها مفاهيم حضارة بأكملها..
وتغير إسمها، من الأنانية، الى الفردية.
***************
]الفردية و دور الداينمو في مجتمع الغابة الداروينية]
على أني هنا، علي أن أعترف مرة أخرى، أن الفردية، بهذا المفهوم، لعبت دوراً (إيجابياً )-بمقاييس الفردوس المستعار -في البناء الحضاري الأمريكي..
لقد كانت الفردية، بمثابة الداينمو التي حركت الآدم الأمريكي، ملئته بالدوافع والحوافز، وصار الإنجاز وتحقيقه حلماً لكل فرد، لا يحقق ذاته إلا من خلال الإنجاز الفردي..و لا يكون "امريكيا" الا من خلاله..
لقد منحت (الفردية)، بهذا المفهوم للطموح أرضاً خصباً، ومنحت النظرية الفكرية الصلبة لما كان مجرد سلوكاً بشرياً ذميما..
***********************
وفي الوقت نفسه، أنبه الى أن الفردية، ثاني ثوابت الفردوس المستعار نشأت في حضن الثابت الأول-حجر الاساس-، المادة.
ولقد دمغ هذا الشيء كل ثوابت الفردوس المستعار المتتالية..
فالفرد، الذي تكون من خلال الفردية، هو فرد مادي، يؤمن بالمادة، كحل لمشاكله .. وهذا يطبع بالذات كل طموحاته وإنجازاته – التي سيحقق ذاته من خلال تحقيقها- بطابع مادي بحت.. لا شيء خلف المادة ذات الأبعاد المحددة والحواس الخمسة..
وينسجم ذلك، مع فكرة (الإيمان بالمادة) نفسها، فالفرد نفسه هو (المادة) هنا، له أبعاد محددة، وله طابع حسي متوافق مع فكرة المادة..، وسيحقق له هذا إطاراً يمكن له من خلاله أن يحقق فيه ومن داخله إيمانه بالمادة..
**********************
.. وينسجم ذلك مع ما فهمناه عن الطابع البرغماتي للقيم الأمريكية. فالنفع الذي تقدسه البرغماتية هو ذلك النفع المادي المباشر المرتبط بمصلحة الأفراد – كأفراد- وليس كفرد هو جزء من مجتمع..
ولقد رأينا كيف أن ما يراه الفرد هو الصواب يغض النظر عن النتائج الإجتماعية اللاحقة، فالفرد هو الهدف، وما يراه نافعاً له، هو الصواب بغض النظر عن النتائج النهائية للأمر، التي قد لا تلحق الفرد نفسه بضرر، بل قد تلحقه بأفراد آخرين- ربما تشكلوا وخلقوا أصلاً نتيجة لما تصور أنه منفعته الخاصة.. (كما الأمر في الأطفال خارج نطاق الزواج)..
نعم، إرتبطت المادية بالفردية إرتباطاً كاثوليكياً لا إنفصال فيه عبر مفهوم البرغماتية .. وصار الفرد، من خلال هذا المفهوم، رغم كونه عابر ومحدود العمر، هو المعيار الأول للقيم الإجتماعية..
******************
وينسجم هذا المفهوم أكثر، مع مفهوم "البقاء للأصلح" بالرؤية الداروينية. فالعلاقة الأساسية بين أفراد المجتمع حسب سبنسر هي "المنافسة" في الصراع من أجل البقاء حيث القوي يأكل الضعيف والضعيف يأكل الأضعف منه..
نعم، إن الفردية تستخدم المنافسة، والمنافسة ستتحفز بالفردية، وكونك فرد ولا تؤمن بشيء خارج حدود ذاتك سيجعلك تمضي في سباق البقاء للأصلح بشكل أيسر، وأكثر تخففاً من أعباء الضمير ومساعدة الآخرين.. وكل ما الى ذلك من أثقال..
مع الإيمان بالفردية، المنافسة في السباق أوضح، و"البقاء للأصلح" يصير هدفاً شخصياً، يصير طموحاً ينجز من خلال تحقيقه كينونة الفرد نفسه..
تتطور الفردية دوما بهذا الاتجاه،بأتجاه عزل "الفرد"اكثر فأكثر عن الاخرين من حوله..الى ان يصير حبيسا تماما داخل ذاته.
**************************

انت حر !!
وتنبثق من مفهوم الفردية، قيمة مهمة هي: الحرية الشخصية، بل لعلها نفسها، ولكنها غلفت وعلبت وأطلق عليها إسم الحرية الشخصية، تحولت لتصير قيمة سلوكية تشكل ربما السمة الأهم والأبرز للحياة الغربية..
بالتأكيد، الفردية هي مصدر هذه الحرية الشخصية. مبدأ أنك فرد وهذا هو الشيء أهم شيء يستوجب أن تكون حراً في تصرفاتك، وأن يكون الآخرون أحراراً أيضاً. ذلك جزء من تفردهم عنك ومن تفردك عنهم، وتلك الحرية الشخصية ستجعل منافستك لهم ومنافستهم لك أكثر سخونة، وستجعل من صراع البقاء أكثر حيوية وتدافعاً، وهذا كله سيسرع من عملية الإنتقاء الإجتماعي التي ستنتج مجتمعاً أفضل وأكثر كفاءة وأصلح (من الناحية البرغماتية..).
تشكل الحرية الشخصية بهذا المنظور ضمانة إستمرار مذهب الفردية متكرساً ومتجذراً وعميقاً في نفسه، الفرد الذي تطبع بحضارة الفردوس المستعار..
(أذكر الآن كم كنا سذجاً ونحن نبتلع طعم "الحرية الشخصية".. عبر وسائل الإعلام والأدب والأقلام. أنا حر، أنا حرة، أنا حر، أنا حرة. كررنا ذلك حتى صدقناه. ونظرنا إليهم بإعجاب خفي أو معلن وهم يمارسون حريتهم "الشخصية". ولم نعلم أنهم يمارسون "فرديتهم"! يمارسون مذهباً كان يعد بغيضاً وذميماً وظل يعتبر أنه وسيلة لهدم المجتمع لقرون طويلة.. إلى إن جاءت أمريكا..).
( و يرتبط مفهوم الفردية مباشرة بمفهوم الديمقراطية الذي ازدهر في عموم الغرب –و الربط واضح فأن يصبح الفرد مشرعا لنفسه يعني ان اكبر عدد من الافراد يتفقون على شئ واحد سيملكون حق التشريع للمجتمع بغض النظر عن اي شئ آخر )
(... وأتأمل في الفرق الكبير بين مفهوم "الحرية الشخصية" النابع من مذهب الفردية، وبين مفهوم "الحرية الإنسانية" في الحضارة الإسلامية النابع من الجدل حول مسؤولية الإنسان عن أعماله..).
**********************
انت اهم شخص في حياتك....!
تقول لك الفردية، دون أن تقول، تهمس في أذنيك، وأحياناً تصرخ فيهما، تقول لك" ليس لك إنتماء في هذا العالم، سوى لذاتك. ليس من إنتماء لمجتمع، أو لأمة، أو لقيم، ليس لك إلا ذاتك، تنتمي لها. وتحقق ذاتك من خلال تحقيقها، تنغمس فيها، إنها عالمك الحقيقي- عالمك الواقعي- الذي ليس هناك حيقيقة واقعة خارج حدوده."
"أنت أهم شخص في حياتك “You are the most important person in your life” يقول لك علماء النفس وأطباؤها ومعالجوها، يقنعونك بذلك.
فأنت أصلاً، كأنسان، لديك هذه النزعة،نزعة "الانا"، وهم سيتكفلون بتنميتها وتأصيلها وتكريسها أكثر فأكثر: كن نفسك Be yourself، حقق المزيد من إحترام لذاتك Improve your self esteem، إقبل بنفسك Accept yourself.
وسيكون كل ذلك معناه شيئاً واحداً، سواء تحقق عبر وسائل الإعلام، أو عبر جلسات العلاج النفسي.. شيئاً واحداً هو أن تقبل ذاتك دون أي تغيير. إقبل نفسك كما هي. لن يكون للعلاج هدفاً في التغيير أو التحوير. فأنت هو أنت. وكل ما يجب أن يحدثه العلاج هو أن يساعدك بقبول ذاتك كما هي. لا داعي للتغيير، لا داعي للعلاج، أن تكون شاذاً (مثلياً أو فيتشياً أو مازوشياً أو سادياً)، شيء لا يستوجب التغيير.. إنه أنت!.. وما عليك سوى أن تنظر الى نفسك كما هي، وتقبل حقيقة أنك أهم شخص في حياتك..
إنها مذهب الفردية، ذلك الثابت والركن الثاني في حضارة الفردوس المستعار، تلك النزعة الأساسية عند ذلك الآدم الأمريكي، الآدم الجديد،.. وتحولت مع الوقت لتصير جزءً من نمط الحياة اليومية ومن الوصايا العشر للحضارة الأمريكية!! Live and let live.
****************
النرجسية المغلفة
..
تكرس هذه الفردية أيضاً سواء شعرنا بذلك أو لم نشعر، نوعاً من إفتتان المرء بذاته، نوعاً من الهوس المرضي يمارسه كل فرد تجاه تفاصيل تتعلق بمظهره وكل ما يتعلق بشخصه وحياته الخاصة..
يتحول الأمر الى نرجسية ينزلق إليها الفرد، نوع من الوله المبالغ به يوجهه الشخص الى ذاته, ومن خلال هذا الوله والإفتتان تنتظم كل علاقات هذا الفرد بالآخرين. العلاقة التي ستصب في إزدياد هذا الإفتتان بالذات، سيتقبلها الفرد ويحتويها، بالعكس من أي علاقة تعكر صفو هذا الإفتتان.
نعم،حضارة الفردية الامريكية ستتحول بالتدريج الى حضارة النرجسية و ستروج لأفتتان الفرد بذاته كنوع وحيد من علاقة الفرد الصحية بذاته.
****************
يتبع
...من كتاب"الفردوس المستعار و الفردوس المستعاد"
 
الفردوس المستعار - الحلقة الثانية- عرض الشيخ معاذ الخطيب
فتش عن المال

[ربما لن يتصور أحدنا أن يكون وراء السلوك الذي يتصرفه عالم كامل من الأفكار والرؤى والسلوكيات ، بل دين يستولي عليه ويسكن روحه دون أن يحس ، وفي كلمة هذا الشهر نتابع الحديث عن كتاب الفردوس المستعار والفردوس المستعاد للطبيب المفكر الأستاذ أحمد خيري العمري ، وقد سبق في كلمة الشهر الماضي (انظرها في الأرشيف لطفاً) أن تحدثنا عن ركني المادية والفردية في الدين الأميركي ، واليوم نتحدث عن الركن الثالث وهو رأس المال].


من الطبيعي إذا التقت المادية مع الفردية أن يبرز الركن الثالث من الدين الأميركي وهو(رأس المال) وقد تعودنا على التعامل معه كمواجه للشيوعية المقبورة ، دون أن نفكر أننا سنواجه إعصاراً هائلاً لم نكن مستعدين له وكنا نبشر بأجزاء منه دون أن نعلم خطورته وقصة ولادته.

كان الفكر الاقتصادي مقيداً بكنز الذهب والفضة ، ولما كانت تلك الثروات محدودة مهما كبرت ، فقد نشبت النزاعات ، وكان سبب اكتشاف أميركا الأول البحث عن المزيد من الذهب ، وازداد مخزون اسبانية منه [كما برز رصيدها من التوحش والهمجية والتدمير للحضارات بشكل غير مسبوق وهو الشيء الذي ستتممه الحضارة الأميركية لاحقاً] وازداد التضخم فانتهت اسبانية كقوة اقتصادية ثم عسكرية.

وجاء آدم الاقتصادي الجديد الذي قلب كل المفاهيم الاقتصادية السائدة ، وهو آدم سميث الاسكوتلندي المولود عام 1703 صاحب كتاب (ثروة الأمم) ، وكان رأيه أنه يجب ترك السوق حرة وهي ستنظم نفسها تلقائياً لوسمح للأفراد أن يعملوا لمصلحتهم الخاصة دون عوائق ، كما أن وسائل الإنتاج سواء كانت أراض أو ثروات طبيعية أو مصانع يجب أن يمتلكها الأفراد! وبالتالي فإن مصلحتهم الخاصة هي المحرك لهم والربح ثم الربح هو عمود المسألة كلها.

الأرباح الخاصة ستعود على المجتمع بالنفع أيضاً ، وبدأ البساط يسحب من تحت أقدام الإقطاعيين ومُلاك الأراضي ليصبح السيد فيها أصحاب البنوك والمصانع والسياسيين البورجوازيين.

واجهت نظرية سميث تحديات كبيرة ولكنها صمدت ثم كانت لها الغلبة وأصبح الجميع (يسار ويمين ووسط) يتحدثون عن فضائل اقتصاد السوق.

تتحدث الرأسمالية [وبمكر] عن عدم التدخل في السوق عندما تربح ، وتتخلى عن عدم التدخل جزئياً إذا كان الأمر سيزيد من أرباحها في المرحلة التالية.

أعجب أمر في كتاب سميث [الاقتصادي الصرف] أن يتحدث عن عالم الغيب عندما قال أن هناك يداً خفية! (invisible hand) تقوم بتنظيم أحوال السوق ... وتلك اليد الخفية تقوم بتحويل عمل الأفراد الذين يهدفون إلى مصلحتهم الذاتية فحسب ، إلى مصلحة المجتمع! ولم تكن تلك الكلمة شطحة فقد كررها مرات ، وصار هناك من يكتبها بالأحرف الكبيرة أي (Invisible hand) ولم يكن مصادفة أن بعض الموسوعات العلمية تشير إلى آدم سميث على أنه نبي الرأسمالية!![ انظر على سبيل المثال: Adam Smith;capitalism\\\\\\\\\\\\\\\'s prophet by Robert L.Formanini (RePEc:fib:feddei:y:2002:n:v:7no1) ].

قد يُظن أن الدين في حضارة الفردوس المستعار ليس سوى أمر مادي ، ولكن لا بد من شيء ما غيبي المصدر فالعقيدة و(الإيديولوجيا) وحدها لاتصنع ديناً وإلا لصارت الشيوعية أو الديمقراطية ديناً!

ويبدو أن الحد الفاصل بين (الإيديولوجيا) والدين هو عالم الغيب ...شيء خفي ، تماما مثل اليد الخفية! وتلك اليد الخفية والغيبية جعلت من الرأسمالية ديناً ، وله مسميات أخرى [وكما نقول عن الإسلام أنه دين الفطرة ودين التوحيد] فإن للدين الرأسمالي مرادفات مثل : دين الاقتصاد ، ودين السوق!

رغم أن معتنق الرأسمالية ينظر إليها كما ينظر إلى قوانين الفيزياء أو [الرياضيات] أي أنها تفسر الوجود ولا تبتدعه من العدم ، وهي حيادية ، ولم تقدم نفسها كفكر إيديولوجي ، لذا فإن أهم مبدأ عند آدم شميث هو الحيادية ، أي ترك الباب مفتوحاً ، وباختصار: عدم التدخل! لتجري القوانين في سياقها الطبعي من دون تدخل [أي حماقة نرتكبها مثلاً إذا حاولنا إعاقة الطيف المغناطيسي الموجود والذي نقوم نحن فقط بالاستفادة من آثاره] فالتدخل أمر ضد الطبيعة ، وعواقب التدخل كارثية مهما كانت عواقب عدم التدخل مؤلمة!

إن العقيدة تقوم على التغيير وهو يتطلب التدخل لإعلاء ما يعتقد أصحابه أنه حق وأفضل وأطهر ، أما مبدأ عدم التدخل فيقوم على شيء آخر [في غاية الخطورة] وهو وجه [لدين ماكر جداً] نستطيع أن نقول عنه وبراحة للضمير أنه الخضوع والاستسلام والانصياع [بل والعبودية] لليد الخفية!! [هل أدركت خطورة الأمر أخي القارئ!].

إن قوانين الكهرباء لم تتحرك يوماً لتعطينا رؤانا وقيمنا ونمط حياتنا ومنظوماتنا الأخلاقية ، [وحلالنا وحرامنا] وأبعاد تفكيرنا وتصورنا للوجود ، ولكن الرأسمالية[الحيادية والقائمة على عدم التدخل!!!] تفعل ذلك !

الرأسمالية منظومة كاملة عقدية وأخلاقية وسلوكية [ بل ووجدانية أيضاً] شعرنا أم لم نشعر ، أقررنا أم أنكرنا! وهي تزودنا بمنظار ذو لون خاص نرى الوجود كله من خلاله! ونبحث في منظوماتنا الشرعية عن مؤيدات له ، [فالشيوعية كفر محض والرأسمالية تتقاطع مع إسلامنا في كثير بل الأكثر من جوانبه!] وباختصار فلنقم بالطقس الأساسي لذلك الدين الأميركي وهو الخضوع ، [ولنحمل عقيدة وفكر وسلوك ووجدان مبدأ عدم التدخل] ، ولنتأله لمعبود ما [وإن لم ندرك ونفهم ] ، [ولا يهم ماذا تسمي ذلك المعبود بعدها] : هل تسميه السوق! أم نقول لك أنها اليد الخفية الذي بشر بها [نبي الرأسمالية] سميث. [هل تتذكر ذلك المثل العامي البشع : سوق حسب السوق ... أو ضع رأسك بين الرؤوس وقل ياقطَّاع الرؤوس ... وهل تستطيع أن تفطن إلى كم ألف مرة ضاع فيها الحق وظهر الباطل من وراء مبدأ عدم التدخل والانصياع الذي استثمر إلى حد مرعب في تحويل مجتمعات كاملة إلى مجرد سوائم للعلف والتسمين لتذبح!! وبقية القطيع يتفرج ثم يعود إلى الاجترار والاستهلاك للعلف!].

كم يبدو الأمر رومانسياً عندما كانوا يقولون: فتش عن المرأة! ففي الرأسمالية فتش عن المال [وهي منظومة مغايرة لنا مهما بدا أن لها بعض تقاطعات ظاهرة لن نعدم من يفتي بتطابقها مع الإسلام]. وكل ماجرى ويجري وماسيأتي سببه المال ثم الزيادة من المال!

الرأسمالية تزعم أنها لم تبتدع الأمر بل وضحته ، فالمال هو الذي يجعل العالم يتحرك في طواف مذهل وضمن عالم شكلت أخلاقياته وقيمه الرأسمالية.

الأديان التقليدية وجدت نفسها في مواجهة خاسرة مع الوحش الكاسر فانسحبت مؤثرة أن تقوم بدور المواسي الروحي! للضحايا ، [لعل ذلك الوحش يبقي لها بعض الفتات أوالمواقع التجميلية و الاستثمارية في ساحته الطاحنة ، والتي تعيد الرأسمالية الاستفادة منها في إلقاء الوهم في النفوس أنها لا تمس القيم والأخلاق بشيء فهي قائمة على عدم التدخل!!!!!].

وانسحبت المفاهيم الدينية والأخلاقية ، فصارت الساحة خالية ، وكنتيجة طبيعية كانت الرأسمالية هي البديل الذي لا بديل غيره بحال بعد أن التفت على الجميع ومكرت بهم مذ زعمت أنها تفسر الموجود فقط ولا تبتدعه ، ومع الوقت استبدلت الرأسمالية [دينها وبكل منظوماته] بالأخلاق والقيم التقليدية ، ومع عجز [كثير من] المؤسسات الدينية وفسادها [وارتباطها التلاحمي مع السياسيين والظالمين] صارت الرأسمالية هي دين هذا العصر بلا منافسة ولا نزاع!!

وكما أن بعض المتدينين مثلاً يقولون وبصدق أن الإسلام هو الحل دون أن يكون عند كثيرين منهم تصور عميق لذلك ، فكذلك أتباع الدين الجديد يبشرون بأن الاقتصاد هو الحل [وهو الذي سيوفر كل الضمانات ويحل كل المشاكل ، وهناك دول عديدة انهمكت أنظمتها بعمليات تجميل (اقتصادية) ظانة أن ذلك سينسي شعوبها حرمانها من أبسط حقوق الإنسان ومن الضمانات القانونية وسيلغي من ذاكرتها الجماعية كل الاضطهاد والسجن والتعذيب والمذابح والنهب والسلب والظلم الذي قامت به تلك الأنظمة ، والتي توهم الشعوب أن الأمر كان مجرد خطأ فني يمكن تعويضه بسهولة عن طريق نثر بعض النقود (المنهوبة أصلاً) فوق رؤوس الخارجين (كمجتمع أو أفراد) للتو من حمامات الرعب والدم والاضطهاد ، ويمكن للشعب الذي ترك منظومته الأخلاقية لصالح الدين الاقتصادي الجديد أن يستسلم بسهولة مثل ..... تبيع نفسها وتنسى أنها بيعت في سوق النخاسة بمجرد التلويح لها بالنقود ، أما الشعوب ذات المنظومة الدينية والأخلاقية والقيمية المغايرة ، فهي رقم صعب ومتعب وتذليله يحتاج إلى جهد طويل وقد لا ينجح في النهاية].

[ليس الدين الرأسمالي شيئاً سهلاً وإن تظاهر بالليونة وعدم التدخل بل هو ماكر ويتدخل في كل شيء ، و يزرع فيروساته في كل جزء حي ، بحيث لا ترجى له العافية بعد ذلك ، منتهكاً بل ومغتصباً قيماً وأخلاقاً كثيرة في طريقه] ولعله أكثر الأديان أتباعاً وأوسعها انتشاراً ، فالمليارات من البشر يدينون به ، مع أنهم يظنون أنفسهم مسيحيين أو بوذيين أو حتى مسلمين .. أو لادينيين ..[ فالفيروس سكن في كل خلية منهم وإن لم يدركوا ذلك].

في الدين الرأسمالي وسائل الانتاج يجب أن تكون ملكاً لأفراد ، ودور الحكومات ينحصر في حماية الأفراد وهم يتنافسون على المزيد من الأرباح.

الربح و[قداسة] الفرد وعدم التدخل هي الأقانيم الأساسية لدين الرأسمالية! هل تشعر أن ذلك لايكفي ! وهل مازلت تحس أن الدين يحتاج إلى خضوع واستسلام لقوة عظمى ... وبحيث لايكون الأمر مقصوراً فقط على مصطلح اليد الخفية بل يضم عقيدة دينية مذهلة تابع تسللها معي إذا سمحت.

[هل أنت عالم ، مفكر ، مخترع ، طبيب ، داعية ، كنز مخفي ... كل ذلك لايهم] فالحقيقة أنه إذا كان معك قرش فأنت (بتسوى) قرش .... لاغير .

الخضوع ليس تابعاً لمجرد الفكرة [الغامضة] بل لآثارها! ومنها : ازدياد الهوة بين الفقراء والأغنياء ، ودمار البيئة ، واحتكار الأغنياء لمصادر الثروة ، والحروب الطاحنة والقلاقل الاجتماعية ، والأمراض القاتلة [لاحظ أن هناك من يعتقد أن مرض الإيدز ، وربما جنون البقر ، وحتى حمى الطيور إنما سببها تجارب جرثومية قامت بها الولايات المتحدة ثم أفلت الزمام من يدها ...] والتدخل لإيقاف نهب الشعوب ، ولمنع الحروب ، ولإسقاط الأنظمة الديكتاتورية كله وإيقاف جنون التسلح .. ومنع الدول التوسعية من العدوان ، والإصرار على اتفاقيات حماية البيئة ، وغير ذلك ... كله هرطقة وكفر بالدين الرأسمالي وهو ضد مبدأه الأساسي (عدم التدخل) اللهم إلا إذا قررت (اليد الخفية) التدخل فذلك ممكن ولو أدى إلى نهب ثروات الأرض ، أو ابتلاع الشركات الاحتكارية العالمية لآلاف الشركات الأصغر ، وازدياد معدلات الفقر والبطالة ، وإشعال الحرب بين العراق وإيران (لتأكل أكثر من مليون شاب إيراني وأقل منهم بقليل من العراقيين) ، أوذبح أكثر من مليون أفريقي من التوتسي والهوتو ، أو احتلال جزر الفوكلند ، أو أفغانستان بحجة وجود دولة إرهابية ، أو العراق بحجة أسلحة الدمار الشامل (والجارة (إسرائيل) تملك من أسلحة الدمار الشامل مايفني العالم العربي كله ، بل إنها قصفت المفاعل النووي العراقي وهددت بضرب الباكستاني - قبل أن يتاح لها حاكم شديد الإخلاص والانصياع فيفكك برنامج بلاده النووي بالمجان - ولولا الخشية من انفجار المنطقة لما ترددت بضرب المفاعل الإيراني) ... وكذلك المجازر في فلسطين ولبنان فيجب فيها عدم التدخل التزاماً بمبادئ الدين الماكر الجديد] .

يجب عدم التدخل لأن مصالح الأفراد! [نعم ياسيدي الأفراد] مصونة ويجب على الجميع حمايتها ولو وصل العالم إلى الفناء الأكيد!

مليارات البشر يضعون نصب أعينهم الفردوس المستعار ، فردوس النمو والرفاهية ، ولابد لكل دين من إيمان وتضحية لذا لابد أولاً من الخضوع لليد الخفية التي تحرك السوق فهي الأدرى والأبعد نظراً ، وثانياً : لابد من الصبر والتحمل لمشاق الطريق [أعرف أخاً هاجر إلى الولايات المتحدة منذ ثلاثين عاماً وكان لديه نقود يمكن أن يبدأ بها مشروعاً متواضعاً يكفيه هنا ، ولكنه ذهب يبحث عن الفردوس، ولم تبق مهنة لم يزاولها ، وهو الآن شحاذ تماماً ، وطالما قلت له لايوجد ضرورة لسفرك ، وأن تعمل في كناسة القمامة في بلدك خير لك من أن تعيش شحاذاً في وطن غريب عنك فلم يلتفت إلى ذلك وسمعت أنه يفكر بالرجوع بعدما فنيت حياته هناك في غسل الصحون .... وهناك آخرون صاروا أصحاب ملايين وشهادات ، ولكنهم خسروا أولادهم ... وآخرون خسروا أنفسهم! وقال لي احدهم : هل تحرم السفر؟ فقلت له: إذا استجمعتَ ظروفه الشرعية فسافر! فقال: وماهي؟ فقلت له: أن يكون لك دين حقيقي تعيشه في كيانك وروحك ثم في حياتك ما استطعت ، فهو الضمان الوحيد لبقائك ، وإلا التهمك الدين الجديد حتى دون أن تدري!!).

وثالثاً : ينبغي القبول بما يجري لأن الرأسمالية قانون كوني [قدر] لا سبيل لتغييره ! ومن يعترض فهناك محاكم تفتيش جاهزة التهم ، بداية من الاعتداء على الحق الخاص وانتهاء بالأصولية والإرهاب!

مفهوم الحرية الشخصية انتهى منذ أصبحت بضعة شركات احتكارية هي المشرع الحقيقي للقوانين الأميركية ، ثم صارت مبادئ تلك الشركات هي مبادئ أميركة كلها ، وعبر محامين قديرين فإن حرية تلك الشركات الاحتكارية المرعبة هي بعينها الحرية الفردية التي يكفلها الدستور [ويقدسها كل مواطن أميركي صالح].

الملاحظ أنه كلما كان هناك تدخل اقتصادي أصيب النمو بالتراجع ، وكلما ازدهر عدم التدخل ازداد النمو الاقتصادي.

ولكن ما شأني أنا وما شأن مؤلفنا الفاضل الدكتور العمري ، فإن للقوم كامل الحرية في اعتقاد مايريدون و ((لا إكراه في الدين)) .. ما شأننا نحن؟ ولماذا التدخل؟

[سؤال مهم جداً! وتدخل سافر لولا أمر أساسي! وهو أن القوم لا يوجد عندهم ((لا إكراه في الدين)) كما عندنا (مهما كانت غلظة بعض دعاتنا وغلط تصورهم لبعض الأمور) ، وهم يعتبرون أن دينهم يجب أن يسود الأرض بالإكراه ، سواء في كورية الشمالية أو إيران أو أفغانستان أو العراق أو جورجية أو دارفور أو جنوب لبنان ، وهم لهذا مستعدون للتدخل حتى النهاية ، أما ما يحصل للشعوب من مآس ودمار وويلات فمبدأ عدم التدخل مبرر كاف للتفسير!].

[الفوضى الخلاقة مصطلح مرعب استخدمته الإدارة الأميركية ، لأنها حقاً تريد وبالإكراه نشر دينها (وهو ليس النصرانية بالتأكيد لا السهلة ولا الأصولية بل الرأسمالية) وهي تريد نشر الديمقراطية على طريقتها والحرية على طريقتها والعدالة على طريقتها ، وهي تقول وبفم ملآن أنها تريد الإكراه في الدين، وذلك بزرع الفوضى الخلاقة التي قالها البعض وعلى وجوههم إمارات نشوة سادية لا ترى إلا في أفلام مصاصي الدماء المرعبة] .

فلنكن عاقلين بل في منتهى الحكمة ونحن ندرس ذلك الدين الجديد لنرى نهاية (السيناريو) المرسوم لنا ، لعل فيه بعض الخير فنستفيد منه! أو أنه عين الهلاك فنرفضه رفضاً قائماً على دراية وبصيرة ، لأنه ينقض الإسلام عروة عروة من لم يعرف الجاهلية كما يقول الفاروق رضي الله عنه].

لن نركز على الاستغلال الموجود في العالم ، ولن نحمل الدين الأميركي تبعته ، سنذهب إلى الفردوس المستعار المليء بالشعارات والمطلي بألوان زاهية ، وسنزيل القشرة تلو القشرة عن تلك الجنة الأرضية لنرى حقيقتها [ سنقدم المعلومات والأرقام هنا باختصار ، ومن شاء فليرجع إلى الكتاب الأصلي للأستاذ العمري والذي وثق فيه كل المعلومات المذكورة من مراجعها الأميركية].

عندما ازداد معدل الدخل العائلي بين عامي 1979-1992 فإن 98% من هذه الزيادة ذهبت إلى 20% من العائلات الأميركية الأكثر ثراء ، وبقي فقط 2% لتتقاسمها ال 80% من العائلات الأفقر.

أغنى 20% من الأميركيين يسيطرون على 83% من مصادر الثروة .

من نسبة العشرين بالمائة الأغنياء هناك 1% فقط يمتلك 40 – 60% من كل مصادر الدخل (الأميركي الهائل).

لوركزنا فقط على وسائل الإنتاج وغدارة الأعمال فإن نخبة من 1% فقط ستحصل على 90-95% من كل مصادر الدخل!

العشرة بالمائة الأغنى سيحصلون على (ومنهم النخبة الأولى 1%) يحصلون على 99% من مصادر الدخل!!

كل من في الفردوس الأرضي الآخرون لهم فقط [وفقط] 1% واحد بالمائة من كل مصادر الدخل!

الزيادة في الدخل القومي الأميركي GNP بين عامي 1983-1998 ذهبت كلها لطبقة 1% حصرياً والتي تمتعت بزيادة صافية قدرها 17% بينما باقي ال99% جميعاً هبط دخلهم بنسب متفاوتة.

يبدو أنه ليست هناك يد خفية بل قبضة حديدية ، قبضة ال1% ، والتي تجعل 12.5% من الأميركيين يعيشون تحت خط الفقر الفيدرالي الرسمي (أي حوالي 36 مليون شخص).

الخط الرسمي ليس هو الحقيقي فكلفة النقل في مجتمع لايمتلك وسائل نقل عامة كافية والضمان الصحي وغير ذلك يجعل خط الفقر الحقيقي أعلى ، حيث تذكر بعض الدراسات أنه يشمل 30% من السكان جلهم من الأطفال والنساء والسود!

أليست هناك أرض الفردوس ومنابع الثروة وبلاد من جد وجد ....

نعم ذاك زعمهم ولكن الأرقام تشير إلى أن 70-80% من الثروة مركوز في يد 10-20% الأغنى طوال التاريخ الأميركي ، وظلت تلك النسبة تتقلص باستمرار إلى أن تركزت الثروة في يد طبقة الواحد بالمائة (ذوي اليد الخفية).

كانت الرأسمالية تروج إلى أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء هي مرحلة عابرة من التطور وسينتهي الأمر برخاء عميم ، أما اليوم فالأدبيات الرأسمالية تروج لإبقاء الفجوة لأن ذلك مفيد للاقتصاد ، ولكن كيف يسكت الناس والملايين عن ذلك الوضع؟

يجب أن نفهم الوضع الطبقي للمجتمع الأميركي! ففيه ثلاث طبقات :

الطبقة الأولى: هي الطبقة التي لا تعمل لأنها لا تستطيع أن تعمل ومكونة من المشردين والمعاقين الفقراء والمنبوذين والذين ليست لهم بيوت ، ويقدر عددهم بما يقارب ثلاثة ملايين إنسان ، هم ال1% الأفقر.

الطبقة الثانية : وفيها أربع فئات أولاها العمال اليدويون غير المهرة ولهم حد أدنى من الأجور بالكاد يبقيهم على الرمق ولهم أقل الضمانات ، والفئة الثانية هي العمال اليدويون المهرة (أصحاب الياقات الزرقاء) وأجورهم منخفضة ويكافحون لعدم السقوط إلى الفئة الأولى! أما الفئة الثالثة فهم الأشخاص الذين يستخدمون عقولهم وليس أيديهم (أصحاب الياقات البيضاء) ومنهم الصحفيون والأساتذة والأكاديميون ويحاولون الصعود إلى المرتبة الأعلى! والفئة الرابعة تستخدم أفواهها كالموظفين الكبار والسياسيين والمحامون والأطباء الكبار ورجال الأعمال المستقلون ... وعادة يتخيلون أنهم يقودون العالم ويقفون على قمته ، وفي الحقيقة فهم يعملون عند الطبقة التالية ، طبقة العاطلين عن العمل!

الطبقة الثالثة: هذه الطبقة لاتعمل لأنها لا تحتاج إلى العمل! ولكنها تحصل على أموال طائلة ، إنها طبقة الواحد بالمائة الأغنى ، صاحبة اليد الخفية، وهي التي تحوز على أرباح الطبقات كلها ، وقد يكون لبعضهم وظائف ولكنها مجرد طقس شكلي فالدخل الشخصي ليس من العمل نفسه بل من استثمارات رأسمالية ضخمة!

قد تتداخل بعض الطبقات ولكن بحدود ضيقة ، وكما في بعض الديانات الشرقية فالطبقة التي تلدك فيها أمك هي طبقتك النهائية بشكل عام ، ماعدا استثناء مدهش وأخاذ! وهو أن أصحاب المرتبة الثالثة (وهم أصحاب الشهادات العليا عموماً) يمكن لهم أن يتحولوا إلى المرتبة الرابعة [مع ملاحظة أن المرتبتين الثالثة والرابعة تقعان في الفئة الثانية].

هذه الإمكانية في الصعود تفسر كل السكوت على الاحتكار الذي تمارسه نخبة [اليد الخفية] والتي لاتتجاوز 1%.

إنه الوعد بالصعود والحلم بالثراء المدهش انتقالاً إلى المرتبة الأعلى ومع وجود عقيدة الفردية [أو عبادة الذات إن شئت] التي يستنشق الجميع وجودهم من خلالها يصبح قبول ذلك الظلم شرطاً من شروط اللعبة ، فلا بأس أن يحتكر الواحد بالمائة من الأفراد تسعين بالمائة من المقدرات مادام هناك احتمال [ولو وهمي] أن يصبح من نخبة [اليد الخفية].

اللعبة الذكية هو أن الواقفين عند المرتبتين الثالثة والرابعة هم الطبقة التي تصنع الرأي العام ، وستبقى تنقل قواعد اللعبة وتعممها على كل الطبقات

هناك استثناء آخر [واسع الطيف عمودياً شديد الضيق أفقياً] ، وهو الانتقال من الحضيض إلى القمة لبعض الفنانين أو الرياضيين ، ولكنه محدود جداً ولأصحاب مواهب خاصة [ويبقون مهما ارتفعوا غير ذي جذور مثل الطبقة العليا].

النجوم الذين يمكنهم الانطلاق بسرعة الصاروخ إلى القمة تسوقهم آلة الإعلام الجبارة كأيقونات وثنية ، ورموز تعين الوثنية الفردية على زيادة التجذر في النفس ، [فهم عملياً مجرد أدوات فنية لترسيخ الفكر الفردي أحد أركان الدين الجديد!].

تابع معي عزيزي القارئ هذه المعلومة المدهشة: إذا تأملنا قائمة فوربس Forbes list التي تشمل أغنى 400 شخص في أميركة لوجدنا أن 43.4 % من الأسماء ولدت أساساً في القائمة ، عبر إرث وثروات لم تبذل أي جهد للحصول عليها.

14% ولدوا قريبين جداً من القائمة ، و6% ورثوا ثروات ضخمة، ولكنها أقل من ثروات الأوائل .

7% بدؤوا من ثروة تفوق خمسين مليون دولار .

الباقون [الذين صنعوا أنفسهم] ولدوا غالباً في الشريحة التي تمثل أغنى 20% من الأشخاص ، وحصلوا على تعليم متميز مبكر جداً [أحد تلاميذي تباهى يوماً بأن مدرسته تخرج العباقرة ، وهي من أغلى المدارس رسوماً وقتها وهو منحدر من عائلة غنية ومحفوف بالعناية الدراسية والرفاهية في الحياة ، فقلت له ثق تماماً لو أننا أحضرنا من سوق الخضار صبياً عادياً ووضعنا له من الإمكانيات مثلما وضع لك لفاقك وكل رفاقك العباقرة ، ولو أننا جعلناك محله وحرمناك من زهرة الحياة الدنيا التي تنعم بها لكنت أكثر منه جهلاً وقد يصعب عليك أن تفرق الشمال من اليمين].

وهناك نسبة قليلة من الفنانين والرياضيين والذين لولا دعم المؤسسات الضخمة لهم لم يصلوا إلى ماهم فيه.

بيل غيتس غني العالم الأكبر العصامي المكافح الذي رُوج له [بل روج للدين الذي يستثمره] بأنه بدأ من مرآب منزله المتقدمين ، وأنه مثال عظيم للمكافحين العصاميين ، هذا العبقري لم يذكر للناس انتماؤه الطبقي! فوالده من أهم المحامين في ولاية سياتل ، ووالدته مديرة بنك مهم ، أما جد أبيه فكان حاكم الولاية! أما جد أمه فهو مؤسس أحد أهم البنوك الأميركية ، وغيتس نفسه الذي درس في أغلى الجامعات (جامعة هارفرد) كان قد درس في ثانوية كلفتها أكثر من كلفة الجامعة نفسها!! [ياللعصامي المسكين].

قد تحصل تغييرات طفيفة إلى الأعلى قليلاً أو إلى الأسفل ولكن (تداول الثروة) لايكون إلا بين الأغنياء والأغنياء فقط!

وهذا الأمر معاكس تماماً للتوجيه القرآني الذي يأمر بالإنفاق والبذل والجماعية ((كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم)) الحشر: 59/7.

هل نزلت هذه الآية للأميركان أم للمسلمين؟ إن الدين أساساً للعالمين ، ولكن فوق ذلك فنحن تحت خطر القصف الرأسمالي الذي ينشر جراثيمه أينما تحرك ، وهو أعلن صراحة (نظرياً وعملياً) أن الإكراه في الدين مبدأ رئيس يعمل من خلاله!

عندما وجدت زيادة كبيرة في الدخل حدد القرآن إلى أين يذهب المال ، إنه يذهب إلى الطبقات الأفقر ((كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم)) ، ومايلي تلك العبارة واضح تماماً ... تماماً ... بلا أي لبس : ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)) الحشر 59/7.

تتمة الآية استثمرتها المؤسسة الدينية التقليدية في جوانب ضيقة ، وقد يكون الحرص على اللحية عند البعض وعدم نتف حواجب النساء عند آخرين أكثر خطورة من تصدع الأمة ، ويقول الأستاذ العمري أنه لم يحصل ولا حتى مرة واحدة أن تحدث أحد عن تداول الثروة واحتكار الأغنياء لها [تحدث عن الأمر بطرق مختلفة أشخاص (قد لايكونون من التقليديين) مثل سيد في العدالة الاجتماعية والإمام الغزالي –المعاصر- في كثير من كتبه، والأستاذ راشد الغنوشي في كتابه الحريات العامة في الدولة الإسلامية ، والدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه الإسلام والوعي الحضاري ، والعلامة القرضاوي في سفره العظيم عن فقه الزكاة ، وآخرون ... كما أعرف خطيباً كان يؤكد على تلك المعاني في كثير من خطبه يوم الجمعة قبل أن يعزله الظالمون ... ولكن ينبغي الإقرار أن كل ذلك الحديث شيء بسيط جداً أمام مرارة المأساة].

لماذا تنتصر الهوامش على المتون ، وهل ارتبطت المؤسسة التقليدية بالسلطة [السياسية أو المالية] فآثرت إغراق الناس في التفاصيل كي تلفت الأنظار عن احتكار السلطة أو المال [مقابل فتات وطموح الصعود إلى فئة أعلى وعدت به اليد الخفية!!] أم الأمر مجرد خطأ فني .... لايهم فالنتيجة واحدة!

إن الإسلام لا يترك مسألة توزيع الثروة والتوازن الاقتصادي والعدالة الاجتماعية من دون تدخل!

[إن الإسلام أيها الناس يتدخل ، نعم يتدخل في توزيع المال] ، ((كي لايكون دولة بين الأغنياء منكم)).

الإسلام يتدخل لإيجاد توازن اجتماعي ويقلص الفجوة بين الأغنياء والفقراء ...شاء آدم سميث أم أبى ... فالتدخل من أركان الإسلام وليست الزكاة التي يطلبها الإسلام من الغني ويعطيها الفقير هي 2.5% أو العشر أو نصف العشر .. الزكاة هي نقطة التوازن وهي حق معلوم وشعيرة عبادة ويد ظاهرة في إقامة الحق ، وعندما تتخلف الزكاة لسبب ما ، فإن في المال حقاً سوى الزكاة ، والتي تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم كما جاء عن النبي الهادي صلى الله عليه وآله وسلم.

لايمنع الإسلام الملكية الفردية بل يصونها [وإلى حد الأمر بقطع يد من يعتدي عليها] ، ولكنه لا يجعلها وحشاً كاسراً يلتهم كل مافي طريقه ، ولا يضع الإسلام حداً أعلى للملكية الفردية ولكنه لايسمح أبداً بالهبوط في الحاجات الأساسية حتى لأفقر العباد [...(فما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جواره وهو يعلم) وهي ليست فلسفة خيالية بل بعدٌ تنفيذي صارم حريص على حقوق المستضعفين : (فمن أعطى الزكاة مؤتجراً فله أجره ومن منعها فإنا آخذوها وشطر مال ، عزمة من عزمات ربنا لايحل منها لآل محمد شيء) ..كما ورد عن النبي الهادي].

ليست الزكاة فضلاً من الغني بل واجباً شرعياً ، وليس لأحد مال فالمال مال الله ونحن مستخلفون فيه ، والزكاة صمام أمام ، وتسديد لدين المجتمع على كل فرد منا ، والأنا في الإسلام تبرز بقوة لتندغم في الجماعة لا لتلتهمها ، فالفرد للجماعة والجماعة للفرد والكل للإسلام!

نمو الرأسمالية يتجه نحو المال ، ونماء الإسلام يتجه لما هو أكرم ، يتجه إلى الإنسان ، ولن يكون في مجتمع الإسلام طبقة 1% تلتهم كل شيء ، لأن الكل يتدخل: الغني والفقير فيحصل التوازن في الأرض قبل أن تحويه جنة السماء.

فردوسنا أيها المسلمون مضمون على الله ((إن لك ألا تجوع فيها ولاتعرى * وأنك لاتظمأ فيها ولا تضحى)) طه:20/118-119. وليس ذلك فقط في الفردوس الأخير بل بدايته الفر دوس الأرضي الذي تظلله التقوى ويحفه الإيمان.
 
عودة
أعلى