الفتح المبين

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر


قد خُصَّ شهر رمضان بوقعتين عظيمتين في تاريخ الإسلام ، بل في تاريخ البشرية : الأولى : غزوة بدر ، يوم الفرقان ، يوم فرق الله بين الحق والباطل ، بين : { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الْأَبْصَارِ } ( آل عمران : 13 ) .

والثانية : فتح مكة : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا } ( الفتح : 27 ) .

هذا الفتح العظيم الذي أنهى الله تعالى به الهجرة من مكة إلى المدينة ؛ لأنها صارت دار إسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا " متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها .

هذا الفتح الذي دخل بعده الناس في دين الله أفواجا ، فقد كانت العرب تنتظر ماذا تصنع قريش ، فلما أسلمت قريش بعد الفتح ، أسلم بعدها قبائل العرب .

قد كان في فتح مكة دروس عظيمة منها : رعاية حق أهل العهد ومن دخلوا في حلف المسلمين ، فكان من شروط صلح الحديبية أنه : من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم ، ومن أحب أن يدخل في صلح محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعهدهم . فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخلت بنو بكر في عهد قريش . وكان بينهما ثارات في الجاهلية ، ثم إن بني بكر استعانوا بقريش فأعانتهم برجال وسلاح فبيتوا خزاعة وهم آمنون عند بئر الوتير ؛ فقتلوا منهم عشرين رجلا . فكان ذلك نقضا للصلح الذي كان يوم الحديبية ، فعندئذ خرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبا يستنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنشده عمرو فكان مما قال :

يا رب إني ناشـدٌ محـمدا .... حـلفَ أبينا وأبيه الأتلدا

فانصر هداك الله نصرا عتدا .... وادع عباد الله يأتوا مددا

إن قريشا أخلفوك الموعـدا .... ونقضوا ميثاقك المؤكدا

وزعموا أن لست تدعو أحدا .... وهـم أذل وأقل عددا

هـم بيتونا بالوتير هجـدا .... وقتلونا ركعا وسـجدا

فخرج النبي صلى الله عليه وسلم يجر رداءه ويقول : " لا نصرت إن لم أنصر بني كعب " .

ثم إن قريشا ندمت على ما فعلت ، فخرج أبو سفيان إلى المدينة ليستديم العقد ويزيد في الصلح فرجع بغير حاجة .

ثم جهز النبي صلى الله عليه وسلم الجيش وأخفى أمره وقال : " اللهم خذ على أبصار قريش فلا يروني إلا بغتة " .

وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في عشرة ألاف ، وعسكروا في مر الظهران ( مكان بين مكة والمدينة ، وكانت قريش تتوقع أمرًا لما رجع أبو سفيان خائبًا ، فأرسلوا أبا سفيان وحكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء ليلتمسوا الخبر ، فلما رأوا نارا عظيمة وتساءلوا فيما بينهم واستبعدوا أن يكون ذلك جيش المسلمين ، إذا ببعض حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذونهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويستأمن العباس لأبي سفيان ، ويسلم أبو سفيان ، وجعل له النبي أن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل داره فهو آمن ، وانطلق أبو سفيان فأخبر الناس بذلك ، وقال لهم: إن محمدا جاءكم بجيش لا قبل لكم به. ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وهو يرجِّع سورة الفتح ، وإنه ليضع رأسه تواضعًا لله تعالى ... إنه دخول الفاتح العظيم الذي يعرف حق ربه ... وللحديث صلة .
 
إنه لشيء عظيم حقًّا ، أن تذكر الأمة أحداث تاريخها ، فتذكر يوم خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة مستخفيًا مهاجرًا إلى المدينة ، وخرج قبله وبعده أصحابه المستضعفون في الأرض تاركين المال والأهل والوطن لأجل أن يبقى لهم الدين :
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه ... فما فاته منها فليس بضائر
ها هم بعد بضع سنين قد رجعوا إلى الأرض والمال والأهل أعزة فاتحين ؛ وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا رضي الله عنه أن يؤذن فوق الكعبة وارتفع صوت بلال : الله أكبر الله أكبر . ذاك الصوت الذي كان يعلو يومًا تحت أسواط العذاب : أحد أحد ، ها هو يجلجل فوق الكعبة : أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله . والكل خاشع منصت .
إنه الإسلام الذي قال فيه ربنا جل وعلا : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } ( الصف : 8 ، 9 ) .
فهل تعي الأمة الدرس ؛ فيصبروا صبرهم ويتقوا ربهم ؟ فإنه قد قضى الله تعالى أنه يدفع عن المؤمنين بصبرهم وتقواهم كيد أعدائهم ، قال تعالى : { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } ( آل عمران : 120 ) . وقال تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } ( البقرة : 214 ) .
يا أمتي ، مع الصبر والتقوى ... نصر الله قريب .
 
عودة
أعلى