(وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب , أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليّ حكيم . وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا , ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان , ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا , وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض . ألا إلى الله تصير الأمور)
(الشورى)
ويقطع هذا النص بأنه ليس من شأن إنسان أن يكلمه الله مواجهة .
وقد روي عن عائشة رضى الله عنها:" من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية "
إنما يتم كلام الله للبشر بواحدة من ثلاث:
(وحيا)يلقى في النفس مباشرة فتعرف أنه من الله ,
(أو من وراء حجاب) كما كلم الله موسى - عليه السلام - وحين طلب الرؤية لم يجب إليها , ولم يطق تجلي الله على الجبل (وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال:سبحانك
تبت إليك وأنا أول المؤمنين). .
(أو يرسل رسولاً)وهو الملك (فيوحي بإذنه ما يشاء)
بالطرق التي وردت عن رسول الله - [ صلى الله عليه وسلم ] .
الأولى:
ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه كما قال [ صلى الله عليه وسلم ]:" إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها , فاتقوا الله وأجملوا في الطلب " . .
والثانية:
أنه كان [ صلى الله عليه وسلم ] يتمثل له الملك رجلاً , فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول .
والثالثة:
أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس , وكان أشده عليه , حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد , وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إن كان راكبها , ولقد جاء الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها .
والرابعة:
أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها , فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه . وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم .(1) عن زاد المعاد.
هذه صور الوحي وطرق الاتصال . . (إنه علي حكيم). .
يوحي من علو , ويوحي بحكمة إلى من يختار . .
وبعد(،،،)
فإنه ما من مرة وقفت أمام آية تذكر الوحي أو حديث , لأتأمل هذا الاتصال إلا أحسست له رجفة في أوصالي . . كيف ؟
كيف يكون هذا الاتصال بين الذات الأزلية الأبدية التي ليس لها حيز في المكان ولا حيز في الزمان , المحيطة بكل شيء , والتي ليس كمثلها شيء . كيف يكون هذا الاتصال بين هذه الذات العلية وذات إنسان متحيزة في المكان والزمان , محدودة بحدود المخلوقات , من أبناء الفناء ؟! ثم كيف يتمثل هذا الاتصال معاني وكلمات وعبارات ؟
وكيف تطيق ذات محدودة فانية أن تتلقى كلام الله الأزلي الأبدي الذي لا حيز له ولا حدود ؟ ولا شكل له معهود ؟
وكيف ؟ وكيف ؟ . .
ولكني أعود فأقول:
وما لك تسأل عن كيف ؟ وأنت لا تملك أن تتصور إلا في حدود ذاتك المتحيزة القاصرة الفانية ؟!
لقد وقعت هذه الحقيقة وتمثلت في صورة . وصار لها وجود هو الذي تملك أن تدركه من وجود .
ولكن الوهلة والرجفة والروعة لا تزول !
إن النبوة هذه أمر عظيم حقاً . وإن لحظة التلقي هذه لعظيمة حقاً .
تلقي الذات الإنسانية لوحي من الذات العلوية . .
أخي الذي تقرأ هذه الكلمات ,
أأنت معي في هذا التصور ؟!
أأنت معي تحاول أن تتصور ؟!
هذا الوحي الصادر من هناك .
أأقول:هناك ؟! كلا . إنه ليس هناك "هناك" !
الصادر من غير مكان ولا زمان , ولا حيز ولا حد ولا جهة ولا ظرف . الصادر من المطلق النهائي , الأزلي الأبدي ,
الصادر من الله ذي الجلال إلى إنسان . .
إنسان مهما يكن نبياً رسولاً , فإنه هو هذا الإنسان ذو الحدود والقيود . .
هذا الوحي . هذا الاتصال العجيب . المعجز . الذي لا يملك إلا الله أن يجعله واقعة تتحقق , ولا يعرف إلا الله كيف يقع ويتحقق . .
أخي الذي تقرأ هذه الكلمات . هل تحس ما أحس من وراء هذه العبارات المتقطعة التي أحاول أن أنقل بها ما يخالج كياني كله ؟
إنني لا أعرف ماذا أقول عما يخالج كياني كله من الروعة والرجفة وأنا أحاول أن أتصور ذلك الحدث العظيم العجيب الخارق في طبيعته , والخارق في صورته , الذي حدث مرات ومرات .
وأحس بحدوثه ناس رأوا مظاهره رأي العين , على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]
وهذه عائشة رضي الله عنها تشهد من هذه اللحظات العجيبة في تاريخ البشرية فتروي عن واحدة منها تقول:" قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]:" يا عائشة . هذا جبريل يقرئك السلام " قلت:وعليه السلام ورحمة الله . قالت:وهو يرى ما لا نرى " .
وهذا زيد بن ثابت - رضي الله عنه - يشهد مثل هذه اللحظة وفخذ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على فخذه , وقد جاءه الوحي فثقلت حتى كادت ترض فخذه .
وهؤلاء هم الصحابة - رضوان الله عليهم - في مرات كثيرة يشهدون هذا الحادث ويعرفونه في وجه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] فيدعونه للوحي حتى يسرى عنه , فيعود إليهم ويعودون إليه . . . .
ثم . . أية طبيعة .
طبيعة هذه النفس التي تتلقى ذلك الاتصال العلوي الكريم ؟
أي جوهر من جواهر الأرواح ذلك الذي يتصل بهذا الوحي , ويختلط بذلك العنصر , ويتسق مع طبيعته وفحواه ؟
إنها هي الأخرى مسألة !
إنها حقيقة . ولكنها تتراءى هنالك بعيداً على أفق عال ومرتقى صاعد , لا تكاد المدارك تتملاه .
روح هذا النبي [ صلى الله عليه وسلم ] روح هذا الإنسان . كيف يا ترى كانت تحس بهذه الصلة وهذا التلقي ؟ كيف كانت تتفتح ؟ كيف كان ينساب فيها ذلك الفيض ؟ كيف كانت تجد الوجود في هذه اللحظات العجيبة التي يتجلى فيها الله على الوجود ; والتي تتجاوب جنباته كلها بكلمات الله ؟
ثم . .
أية رعاية ؟ وأية رحمة ؟ وأية مكرمة . .
والله العلي الكبير يتلطف فيعنى بهذه الخليقة الضئيلة المسماة بالإنسان .
فيوحي إليها لإصلاح أمرها , وإنارة طريقها , ورد شاردها . . وهي أهون عليه من البعوضة على الإنسان , حين تقاس إلى ملكه الواسع العريض .
إنها حقيقة .
ولكنها أعلى وأرفع من أن يتصورها الإنسان إلا تطلعاً إلى الأفق السامق الوضيء:
(وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان . ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا . وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض . ألا إلى الله تصير الأمور).
(وكذلك).
بمثل هذه الطريقة , وبمثل هذا الاتصال .
(أوحينا إليك). .
فالوحي تم بالطريقة المعهودة , ولم يكن أمرك بدعا .
أوحينا إليك (روحاً من أمرنا). . فيه حياة , يبث الحياة ويدفعها ويحركها وينميها في القلوب وفي الواقع العملي المشهود .
(ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان). .
هكذا يصور نفس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو أعلم بها , قبل أن تتلقى هذا الوحي .
وقد سمع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عن الكتاب وسمع عن الإيمان , وكان معروفاً في الجزيرة العربية أن هناك أهل كتاب فيمن معهم , وأن لهم عقيدة , فليس هذا هو المقصود .
إنما المقصود هو اشتمال القلب على هذه الحقيقة والشعور بها والتأثر بوجودها في الضمير . وهذا ما لم يكن قبل هذا الروح من أمر الله الذي لابس قلب محمد - عليه صلوات الله .
(ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء). .
وهذه طبيعته الخالصة . طبيعة هذا الوحي . هذا الروح . هذا الكتاب . إنه نور . نور تخالط بشاشته القلوب التي يشاء لها الله أن تهتدي به , بما يعلمه من حقيقتها , ومن مخالطة هذا النور لها .
(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم). .
وهناك توكيد على تخصيص هذه المسألة , مسألة الهدى , بمشيئة الله سبحانه , وتجريدها من كل ملابسة , وتعليقها بالله وحده يقدرها لمن يشاء بعلمه الخاص , الذي لا يعرفه سواه ; والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] واسطة لتحقيق مشيئة الله , فهو لا ينشى ء الهدى في القلوب ; ولكن يبلغ الرسالة , فتقع مشيئة الله .
(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض). .
فهي الهداية إلى طريق الله , الذي تلتقي عنده المسالك . لأنه الطريق إلى المالك , الذي له ما في السماوات وما في الأرض ; فالذي يهتدي إلى طريقه يهتدي إلى ناموس السماوات والأرض , وقوى السماوات والأرض , ورزق السماوات والأرض , واتجاه السماوات والأرض إلى مالكها العظيم . الذي إليه تتجه , والذي إليه تصير:
(ألا إلى الله تصير الأمور). .
فكلها تنتهي إليه , وتلتقي عنده , وهو يقضي فيها بأمره .
وهذا النور يهدي إلى طريقه الذي اختار للعباد أن يسيروا فيه , ليصيروا إليه في النهاية مهتدين طائعين .
وهكذا تنتهي السورة التي بدأت بالحديث عن الوحي . وكان الوحي محورها الرئيسي .
وقد عالجت قصة الوحي منذ النبوات الأولى .
لتقرر وحدة الدين , ووحدة المنهج , ووحدة الطريق .
ولتعلن القيادة الجديدة للبشرية ممثلة في رسالة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وفي العصبة المؤمنة بهذه الرسالة .
ولتكل إلى هذه العصبة أمانة القيادة إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض .
ولتبين خصائص هذه العصبة وطابعها المميز , الذي تصلح به للقيادة , وتحمل به هذه الأمانة . الأمانة التي تنزلت من السماء إلى الأرض عن ذلك الطريق العجيب العظيم . .
(في ظلال القرآن)
(الشورى)
ويقطع هذا النص بأنه ليس من شأن إنسان أن يكلمه الله مواجهة .
وقد روي عن عائشة رضى الله عنها:" من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية "
إنما يتم كلام الله للبشر بواحدة من ثلاث:
(وحيا)يلقى في النفس مباشرة فتعرف أنه من الله ,
(أو من وراء حجاب) كما كلم الله موسى - عليه السلام - وحين طلب الرؤية لم يجب إليها , ولم يطق تجلي الله على الجبل (وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال:سبحانك
تبت إليك وأنا أول المؤمنين). .
(أو يرسل رسولاً)وهو الملك (فيوحي بإذنه ما يشاء)
بالطرق التي وردت عن رسول الله - [ صلى الله عليه وسلم ] .
الأولى:
ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه كما قال [ صلى الله عليه وسلم ]:" إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها , فاتقوا الله وأجملوا في الطلب " . .
والثانية:
أنه كان [ صلى الله عليه وسلم ] يتمثل له الملك رجلاً , فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول .
والثالثة:
أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس , وكان أشده عليه , حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد , وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إن كان راكبها , ولقد جاء الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها .
والرابعة:
أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها , فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه . وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم .(1) عن زاد المعاد.
هذه صور الوحي وطرق الاتصال . . (إنه علي حكيم). .
يوحي من علو , ويوحي بحكمة إلى من يختار . .
وبعد(،،،)
فإنه ما من مرة وقفت أمام آية تذكر الوحي أو حديث , لأتأمل هذا الاتصال إلا أحسست له رجفة في أوصالي . . كيف ؟
كيف يكون هذا الاتصال بين الذات الأزلية الأبدية التي ليس لها حيز في المكان ولا حيز في الزمان , المحيطة بكل شيء , والتي ليس كمثلها شيء . كيف يكون هذا الاتصال بين هذه الذات العلية وذات إنسان متحيزة في المكان والزمان , محدودة بحدود المخلوقات , من أبناء الفناء ؟! ثم كيف يتمثل هذا الاتصال معاني وكلمات وعبارات ؟
وكيف تطيق ذات محدودة فانية أن تتلقى كلام الله الأزلي الأبدي الذي لا حيز له ولا حدود ؟ ولا شكل له معهود ؟
وكيف ؟ وكيف ؟ . .
ولكني أعود فأقول:
وما لك تسأل عن كيف ؟ وأنت لا تملك أن تتصور إلا في حدود ذاتك المتحيزة القاصرة الفانية ؟!
لقد وقعت هذه الحقيقة وتمثلت في صورة . وصار لها وجود هو الذي تملك أن تدركه من وجود .
ولكن الوهلة والرجفة والروعة لا تزول !
إن النبوة هذه أمر عظيم حقاً . وإن لحظة التلقي هذه لعظيمة حقاً .
تلقي الذات الإنسانية لوحي من الذات العلوية . .
أخي الذي تقرأ هذه الكلمات ,
أأنت معي في هذا التصور ؟!
أأنت معي تحاول أن تتصور ؟!
هذا الوحي الصادر من هناك .
أأقول:هناك ؟! كلا . إنه ليس هناك "هناك" !
الصادر من غير مكان ولا زمان , ولا حيز ولا حد ولا جهة ولا ظرف . الصادر من المطلق النهائي , الأزلي الأبدي ,
الصادر من الله ذي الجلال إلى إنسان . .
إنسان مهما يكن نبياً رسولاً , فإنه هو هذا الإنسان ذو الحدود والقيود . .
هذا الوحي . هذا الاتصال العجيب . المعجز . الذي لا يملك إلا الله أن يجعله واقعة تتحقق , ولا يعرف إلا الله كيف يقع ويتحقق . .
أخي الذي تقرأ هذه الكلمات . هل تحس ما أحس من وراء هذه العبارات المتقطعة التي أحاول أن أنقل بها ما يخالج كياني كله ؟
إنني لا أعرف ماذا أقول عما يخالج كياني كله من الروعة والرجفة وأنا أحاول أن أتصور ذلك الحدث العظيم العجيب الخارق في طبيعته , والخارق في صورته , الذي حدث مرات ومرات .
وأحس بحدوثه ناس رأوا مظاهره رأي العين , على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]
وهذه عائشة رضي الله عنها تشهد من هذه اللحظات العجيبة في تاريخ البشرية فتروي عن واحدة منها تقول:" قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]:" يا عائشة . هذا جبريل يقرئك السلام " قلت:وعليه السلام ورحمة الله . قالت:وهو يرى ما لا نرى " .
وهذا زيد بن ثابت - رضي الله عنه - يشهد مثل هذه اللحظة وفخذ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على فخذه , وقد جاءه الوحي فثقلت حتى كادت ترض فخذه .
وهؤلاء هم الصحابة - رضوان الله عليهم - في مرات كثيرة يشهدون هذا الحادث ويعرفونه في وجه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] فيدعونه للوحي حتى يسرى عنه , فيعود إليهم ويعودون إليه . . . .
ثم . . أية طبيعة .
طبيعة هذه النفس التي تتلقى ذلك الاتصال العلوي الكريم ؟
أي جوهر من جواهر الأرواح ذلك الذي يتصل بهذا الوحي , ويختلط بذلك العنصر , ويتسق مع طبيعته وفحواه ؟
إنها هي الأخرى مسألة !
إنها حقيقة . ولكنها تتراءى هنالك بعيداً على أفق عال ومرتقى صاعد , لا تكاد المدارك تتملاه .
روح هذا النبي [ صلى الله عليه وسلم ] روح هذا الإنسان . كيف يا ترى كانت تحس بهذه الصلة وهذا التلقي ؟ كيف كانت تتفتح ؟ كيف كان ينساب فيها ذلك الفيض ؟ كيف كانت تجد الوجود في هذه اللحظات العجيبة التي يتجلى فيها الله على الوجود ; والتي تتجاوب جنباته كلها بكلمات الله ؟
ثم . .
أية رعاية ؟ وأية رحمة ؟ وأية مكرمة . .
والله العلي الكبير يتلطف فيعنى بهذه الخليقة الضئيلة المسماة بالإنسان .
فيوحي إليها لإصلاح أمرها , وإنارة طريقها , ورد شاردها . . وهي أهون عليه من البعوضة على الإنسان , حين تقاس إلى ملكه الواسع العريض .
إنها حقيقة .
ولكنها أعلى وأرفع من أن يتصورها الإنسان إلا تطلعاً إلى الأفق السامق الوضيء:
(وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان . ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا . وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض . ألا إلى الله تصير الأمور).
(وكذلك).
بمثل هذه الطريقة , وبمثل هذا الاتصال .
(أوحينا إليك). .
فالوحي تم بالطريقة المعهودة , ولم يكن أمرك بدعا .
أوحينا إليك (روحاً من أمرنا). . فيه حياة , يبث الحياة ويدفعها ويحركها وينميها في القلوب وفي الواقع العملي المشهود .
(ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان). .
هكذا يصور نفس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو أعلم بها , قبل أن تتلقى هذا الوحي .
وقد سمع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عن الكتاب وسمع عن الإيمان , وكان معروفاً في الجزيرة العربية أن هناك أهل كتاب فيمن معهم , وأن لهم عقيدة , فليس هذا هو المقصود .
إنما المقصود هو اشتمال القلب على هذه الحقيقة والشعور بها والتأثر بوجودها في الضمير . وهذا ما لم يكن قبل هذا الروح من أمر الله الذي لابس قلب محمد - عليه صلوات الله .
(ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء). .
وهذه طبيعته الخالصة . طبيعة هذا الوحي . هذا الروح . هذا الكتاب . إنه نور . نور تخالط بشاشته القلوب التي يشاء لها الله أن تهتدي به , بما يعلمه من حقيقتها , ومن مخالطة هذا النور لها .
(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم). .
وهناك توكيد على تخصيص هذه المسألة , مسألة الهدى , بمشيئة الله سبحانه , وتجريدها من كل ملابسة , وتعليقها بالله وحده يقدرها لمن يشاء بعلمه الخاص , الذي لا يعرفه سواه ; والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] واسطة لتحقيق مشيئة الله , فهو لا ينشى ء الهدى في القلوب ; ولكن يبلغ الرسالة , فتقع مشيئة الله .
(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض). .
فهي الهداية إلى طريق الله , الذي تلتقي عنده المسالك . لأنه الطريق إلى المالك , الذي له ما في السماوات وما في الأرض ; فالذي يهتدي إلى طريقه يهتدي إلى ناموس السماوات والأرض , وقوى السماوات والأرض , ورزق السماوات والأرض , واتجاه السماوات والأرض إلى مالكها العظيم . الذي إليه تتجه , والذي إليه تصير:
(ألا إلى الله تصير الأمور). .
فكلها تنتهي إليه , وتلتقي عنده , وهو يقضي فيها بأمره .
وهذا النور يهدي إلى طريقه الذي اختار للعباد أن يسيروا فيه , ليصيروا إليه في النهاية مهتدين طائعين .
وهكذا تنتهي السورة التي بدأت بالحديث عن الوحي . وكان الوحي محورها الرئيسي .
وقد عالجت قصة الوحي منذ النبوات الأولى .
لتقرر وحدة الدين , ووحدة المنهج , ووحدة الطريق .
ولتعلن القيادة الجديدة للبشرية ممثلة في رسالة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وفي العصبة المؤمنة بهذه الرسالة .
ولتكل إلى هذه العصبة أمانة القيادة إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض .
ولتبين خصائص هذه العصبة وطابعها المميز , الذي تصلح به للقيادة , وتحمل به هذه الأمانة . الأمانة التي تنزلت من السماء إلى الأرض عن ذلك الطريق العجيب العظيم . .
(في ظلال القرآن)