عمر المقبل
New member
- إنضم
- 06/07/2003
- المشاركات
- 805
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
الغبن [1]في التوكل
لا يختلف اثنان على أن التوكل على الله([2]) من أجلّ العبادات القلبية، بل هو نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة، "فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة"([3]).
وليس المراد من هذه الأسطر بيان منزلة التوكل، فالكلام فيها مشهور ومبسوط، بل الغرض الإشارة إلى معنيين دقيقين في هذه العبادة العظيمة، قد يغفل عنهما بعض الناس:
المعنى الأول: أن من الناس من يستحضر التوكل في أمور يسيرة وينساه أو يتركه في أمور كبيرة، ومنهم من يستحضره في أمر دنياه فقط كالرزق والشفاء والزواج والولد، دون أمور الآخرة، ومنهم يكون توكله مقتصراً على خاصة نفسه، دون نفع الخلق.
وقد نبّه على هذه المعاني الدقيقة ابنُ القيم ـ رحمه الله ـ حيث قال: "وكثيرٌ من المتوكلين يكون مغبوناً في توكله! وقد توكل حقيقة التوكل وهو مغبون! كمن صرف توكله إلى حاجة جزئية استفرغ فيها قوة توكله، ويمكنه نيلها بأيسر شيء، وتفريغِ قلبِه للتوكلِ في زيادة الإيمان والعلم، ونصرةِ الدين، والتأثيرِ في العالم خيراً، فهذا توكلُ العاجزِ القاصرِ الهمة، كما يصرفُ بعضهم همتّه وتوكلَه، ودعاءَه إلى وجعٍ يمكن مداواته بأدنى شيء، أو جوعٍ يمكن زواله بنصف رغيف، أو نصف درهم، ويدع صرفه إلى نصرة الدين، وقمع المبتدعين، وزيادة الإيمان، ومصالح المسلمين"([4]).
وقال في موضع آخر: "فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان، ونصرة دينه، وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه، وفي محابه وتنفيذ أوامره.
ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في استقامته في نفسه، وحفظ حاله مع الله، فارغاً عن الناس.
ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في معلوم يناله منه، من رزق أو عافية، أو نصر على عدو، أو زوجة أو ولد، ونحو ذلك.
فأفضل التوكل، التوكل في الواجب - أعني واجب الحق، وواجب الخلق، وواجب النفس - وأوسعه وأنفعه التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية. أو في دفع مفسدة دينية، وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين في الأرض، وهذا توكل ورثتهم، ثم الناس بعد في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم، فمن متوكل على الله في حصول الملك، ومن متوكل في حصول رغيف"([5]).
المعنى الثاني: مع عِلْمِ أكثر المسلمين بأهمية التوكل على الله في حياته، إلا أنه ربما عزب عن بال بعضهم استحضار هذه العبادة، بسبب كثرة ما يسمع من مديحٍ وإطراء، أو لشدة انغماسه في الحياة المادية، أو لكثرة ما يرى من ترادف النعم في الدين والدنيا؛ ولذا كان من الدعاء النبوي المأثور الذي ينبغي للمسلم أن يقوله طرفي النهار : "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين"([6]) وكان مكحول ومالك ـ رحمهما الله ـ لا يفتيان حتى يقولا: لا حول ولا قوة إلا بالله([7]).
وإذا أردنا أن نخصص الحديث قليلاً، فإن بعض الدعاة قد يبلغ به حبُّ الدعوة إلى الله منتهاه حتى يخالط لحمه ودمه، أو يجد نشاطاً قوياً للطاعة والعبادة= فينسيه ذلك تَذَكُرَ هذه العبادة الجليلة، أو يضَعُفُ استحضاره لها، اعتماداً على ما قام في قلبه من حب الدعوة، والرغبة في هداية فلان من الناس، أو ما يجده من نشاط للطاعة بسبب الأحوال الزمانية أو المكانية المحيطة به، كما لو كان في رمضان أو الحج، أو كان في الحرمين الشريفين! وهذا مما ينبغي أن يتوقاه العابد والداعية إلى الله تعالى، وأن تكون هذه العبادة العظيمة حاضرة في قلبه قبل عبادته ودعوته وأثناءهما، وفي كل وقت وحين، وأن يعلم أنه لولا توفيق الله له ما استطاع أن ينطق بتسبيحه، وأنه لولا توفيق الله لما اهتدى أحد.
وتأمل في ربط الشريعة هذا المعنى بقلوب أتباعها في مواضع:
منها: قول الحوقلة عندما ينادي المنادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح! فيقولها حتى ولو كان جالساً في المسجد حين نودي للصلاة!
ومنها: في آيات سورة الفرقان التي تحدثت عن هذا المعنى بوضوح، وهي آيات جاءت في سياق الدعوة إلى الله، فقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 56 - 58]. والحديث عن ارتباط التوكل بالدعوة في القرآن الكريم، كثير وعجيب.
فبهذا يتقين العابد والداعية أنه لا حول ولا قوة ولا توفيق إلا بالله الذي بيده نواصي الخلق كلّهم، فيتبرأ من حوله وقوته، ويتعلق بواهب التوفيق والتسديد.
إن قيام التوكل على الله عند الملمات، قدرٌ مشترك بين الدعاة إلى الله تعالى، وعلى رأسهم الأنبياء والمرسلون، وما قصةُ إلقاءِ الخليل في النار، ووقوفِ موسى أمام البحر، وقصةِ الصحابة بعد أُحد ـ وغيرها كثير ـ إلا نماذج لمواقف كثيرة، لكن الدعاة والعُبّاد يتفاوتون في استحضار هذه العبادة في حال الرخاء، للأسباب التي ذكرتها آنفاً، والموفق من وفقّه الله ليكون قلبها معموراً بهذه العبادة أينما حلّ، وحيثما يمّم وجهه: عابداً أم داعياً، فاللهم أعذنا من الغبن في ذكرك وشكرك وعبادتك.
([1]) المراد بالغبن: النقص.
([2]) ومن أوضح التعريفات له: "هو الاعتماد على الله تعالى في حصول المطلوب، ودفع المكروه، مع الثقة به، وفعل الأسباب المأذون فيها" ينظر: القول المفيد على كتاب التوحيد (2/87).
([3]) مدارج السالكين (2/ 113).
([4]) مدارج السالكين (2/ 125).
([5]) مدارج السالكين (2/ 114).
([6]) سنن أبي داود (5090)، وصححه ابن حبان (970).
([7]) ينظر: شرح السنة للبغوي (1 / 306).
المصدر: الغبن في التوكل - الموقع الرسمي للدكتور/ عمر بن عبد الله المقبل