د. محي الدين غازي
New member
العودة إلى مصدر الشريعة طريق لحمايتها
د. محي الدين غازي
عميد كلية القرآن في الجامعة الإسلامية في كيرلا، الهند
(إن تنفير الناس عن قانون الأحوال الشخصية الإسلامي ليس أقل خطرا من محاولة إلغاء ذلك القانون أو تبديل بنوده. وهذا المقال يدرس القضية من ذلك المنظور)
قانون الأحوال الشخصية للمسلمين في الهند يواجه تحديات كبيرة غير مسبوقة، تتمثل في محاولات معلنة لإلغاء القانون الإسلامي وإرغام المسلمين على التحاكم إلى القانون الموحد. وظهرت الخطوة الأولى في إقدام على تبديل بعض بنود القانون الإسلامي المطبق بحجة أن تلك البنود لاتتفق ومبدأ العدالة، وأن فيها إجحافا لحقوق المرأة. ولا عجب أن يتم الاحتجاج بالقوانين المطبقة في بعض الدول المسلمة، أو ببعض الآراء الموجودة في التراث الفقهي الإسلامي تعزيزا للموقف. ثم ولا غرابة في ظل الأوضاع الراهنة وضعف الوازع الديني العام أن يظهر في الإعلام من المسلمين من يؤيد تلك المحاولات ويراها في صالح الأقلية المسلمة.
هذا وترى قيادات جميع شرائح المسلمين في البلاد أن تبديل بعض البنود بغض النظر عن قوة الاستدلال أو ضعفه يشكل خطرا عظيما على استمرارية القانون بأسره. فإن فقهاء الشريعة هم المخولون بالنظر في قانون الأحوال الشخصية وما يدعو إليه تغير الأحوال والأزمان من النظر والاجتهاد في الأحكام التي فيها مجال للاجتهاد، وليس ذلك الأمر لمن لا ولاء لهم للإسلام ولا صلاحية النظر لديهم في القوانين الشرعية. كما ترى كافة القيادات المسلمة أن التهاون من قبل المسلمين تجاه تبديل بعض البنود سوف يفتح الطريق حتما لإلغاء القانون من أصله.
وهنا يجب التنبيه إلى أمر هام وهو أن القضاء على قانون سائر مطبق منذ قرون طويلة لا يمكن إلا بعد الاستحواذ على الرأي العام، وإلا عدّ ذلك انتهاكا سافرا لحق ثابت في الأعراف الديمقراطية. ولذلك وبغرض إقناع الرأي العام وكسب موافقتهم على ضرورة إلغاء القانون الإسلامي، يتم تنظيم حملات إعلامية شعواء ضد الشريعة الإسلامية تتهمها بأنها غير صالحة للتطبيق لما فيها -حسب دعواهم- ظلم وتطفيف وحيادية وإجحاف. فهي على حد تعبيرهم شريعة تحتوي على أحكام غير متوافقة مع ما حصل من تقدم في حقوق الإنسان والمرأة على وجه أخص. وهذه الحملات لما فيها من مكر ودهاء وشراسة غير مسبوقة تخلق النفور لدى غير المسلمين وربما تدخل الشكوك في عقول كثير من المسلمين، وخصوصا من بضاعتهم قليلة في العلم الشرعي والثقافة الإسلامية واستسلمت قواهم العقلية للغزو الفكري العلماني. ثم من مكر هؤلاء القوم أنهم يختارون لتلك الحملات عينات يأخذونها من نقاط الضعف، لكي تصلح للدعاية ضد الشريعة الإسلامية والسخرية منها؟
والحق أن الشريعة الإسلامية في صورتها الحقيقية الخالصة من شوائب ليس فيها نقطة ضعف على الإطلاق، وإنما تظهر نقاط ضعف حينما يتم الامتثال بها إفتاء وتطبيقا في صورة مختلفة عن الصورة الأصلية المطلوبة. فالخلل لا يعود إلى أصل الشريعة وإنما يعود إلى أصل الامتثال، وعلى قدر الخلل في الامتثال تبرز نقاط ضعف يتوهم الناظر أنها نقاط ضعف في التشريع الإلهي. والحق أن التشريع الإلهي تشريع محكم متين لا ترى فيه من فطور ولو رجعت البصر كرتين.
ومن الأمثلة على ذلك تعدد الزواج، فمن نظر إلى طريقة القرآن في تشريع الحكم، ونظر إلى تطبيق الرسول صلى الله عليه وسلم له، والذي عبر عنه القرآن بقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} [الأحزاب:51] لاقتنع أن مشروعية التعدد مما تقره العقول وترضى بها القلوب. فالزوج المعدد ينبغي أن يبذل جهده لتحقيق أن تقر أعين زوجاته ولا يحزن ويرضين كلهن بما يعطيهن من الحب والحنان والاهتمام كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل وقد قدّم نموذجا رائعا لمن يطبق الحكم من أمته. ولكن عندما يكون هناك ميلان ظاهر لطرف وإجحاف على مرأى من الناس في حق، فإن الصورة تتشوه.
ومثال آخر هو الطلاق الثلاث بلفظ واحد، حيث أن المغرضين يجدون في ممارسة صورة الطلاق هذه مجالا للتشكيك في مشروعية الطلاق نفسه، ومن ثم في الشريعة الإسلامية التي جاءت بمشروعية الطلاق. والحق أن العيب ليس في أصل الطلاق وإنما في من يطلق ثلاثا دفعة واحدة ومن غير اتخاذ إجراءات الإصلاح التي حث عليها القرآن الكريم، ويغلق على نفسه طريق العودة الكريمة حين الندم، فهذا هو الذي بتطبيقه الخاطئ يسيء إلى الشريعة الإسلامية ووجاهتها. ثم إذا أخذ القانون برأي جمهور الفقهاء في الطلاق الثلاث بأنها تقع ثلاثا، وبرأي بعض الفقهاء بانعقاد نكاح التحليل مع كراهيته الشديدة، فإن ذلك أيضا يزيد قبحا إلى قبح. فإن شناعة نكاح التحليل ظاهرة واشمئزاز النفوس منه معلوم لدى الطباع السليمة كلها. ولكن وللأسف الشديد قد غدا الطلاق الثلاث هو العرف السائد المشهور، ونكاح التحليل هو الطريق المعهود للعودة ونسي أغلب الناس أن الطلاق الواحد هو المشروع في الأصل.
ومن الأمثلة أيضا موضوع متاع المرأة المطلقة، فإن هناك أقوالا مختلفة للفقهاء، منهم من يوجب ومنهم من يكتفي بالندب، ومنهم من يعطي جميع المطلقات ومنهم من يعطي لبعضهن، ومنهم من يقدر له ثلاثة أثواب، ومنهم من يقدر له أكثر من ذلك أو أقل ومنهم أيضا من يفوض أمر تقدير المتاع إلى رأي الحاكم. هذا كله مذكور في كتب الفقه. ولكن الذي ينساه الكثيرون، هو أن هذه الأقوال كلها فيما إذا تخاصم الطرفان في موضوع المتاع إلى القاضي ودخل عامل الشح في الموضوع، فيحكم القاضي في مال الرجل المطلق ما يدفعه للمرأة المطلقة. ولكن القرآن يهدينا للتي هي أقوم، إن القرآن لا يرضى من مؤمن ولا مؤمنة أن يصدر منهم الشح والطمع، بل يأمر أمرا مؤكدا ومكررا أن يكون من الرجل عطاء ووفاء وسخاء، وأن يكون من المرأة عفو إن كان الرجل لا يطيق. فينبغي أن يكون التسريح بمعروف بل أن يكون بإحسان، وأن يكون الرجل كريما شهما جوادا، لا يحمل وساوس الفقر ولا يخضع لنداء الشح، فهنا اختبار الرجولة والمروؤة. وتاريخنا المجيد يحمل نماذج رائعة في تعامل الزوج مع زوجته المطلقة وإحسانه إليها. ولكن الآن وقد طغى الشح الوضيع على القيم السامية ، وذهلت أمة القرآن عن رسالة القرآن في حياتها، قلما تجد نموذجا جميلا يعبر عن عظمة الإسلام، وإنما أكثرها صور قبيحة تشمئز منها النفوس والشرع منها بريء.
وتدعو الضرورة هنا إلى بيان حقيقة هامة غفل عنها الكثيرون، وهي أن الأحكام الفقهية لا تعبر بالضرورة عن المستوى المثالي لتطبيق الأحكام، وإنما تتناول أحيانا أدنى مستويات الأحكام من حيث الجواز، وأحيانا تذكر أقل المطلوب الذي يخرج الفرد من الملامة أو الذي يجب الحكم به من قبل الحاكم وتنفيذه رضي الطرف المحكوم عليه بذلك أم أبى. أما المستوى المثالي المطلوب فقد لا نجده في بطون كتب الفقه، والمصدر الأصلي له الذي ينبغي أن يرجع الفرد إليه هو القرآن الكريم، فهو المرجع الحقيقي لمعرفة مراد الله تعالى من جميع أحكام الشريعة الإسلامية. فالصلاة المذكورة في كتب الفقه تعبر فقط عن الفريضة التي تبرأ بها ذمة المكلف، ولكن الصلاة المثالية المطلوبة قد لا نجدها هناك، ولكن نجد ملامحها كلها بكل وضوح في القرآن الكريم. كذلك لا نجد في كتب الفقه كيف يكرم الرجل المطلقة زوجته المطلقة عند الطلاق، ولكننا نجد في القرآن الكريم صورة واضحة جدا وجميلة جدا لأرقى سلوك يمكن للإنسان أن يختاره في تلك الظروف.
طريقة القرآن الكريم في التشريع فريدة مختلفة عن التشريعات البشرية، فهو يذكر حكما ثم يحيط الحكم ذاته بتوجيهات سامية، ويربط بين امتثال الحكم بأحسن صورة وبين الجزاء الحسنى في الدنيا والآخرة، وكل ذلك لكي يتم تطبيق الحكم الشرعي بطريقة تحقق المصالح العظيمة ويوافق مراد الله تعالى منه. بينما التراث الفقهي يمثل طريقة تدوين الأحكام الشرعية مجردة. وغدت المشكلة الكبرى في واقعنا الراهن هي غياب التوجيهات القرآنية من حياة المسلمين وبقاء الأحكام الفقهية فقط. والثقافة الدينية لدى المسلمين لا تتجاوز الحلول الفقهية، وهي تبقى في معزل عن التوجيهات القرآنية حلولا ناقصة وأنصاف حلول.
إن القراءة الدقيقة في أحوال المسلمين ومستوى ثقافتهم الدينية ومدى امتثالهم لروح الأحكام الشرعية تكشف عن حقائق مؤلمة، فهناك انقلاب الموازين في امتثال الأحكام، حيث في كثير من القضايا غاب الحكم الأصلي تماما وأصبح الخروج عن الأصل هو الأصل الغالب المعروف. فكم يتعجب الإنسان عندما يرى أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد غدا هو العرف الشرعي السائد بين المسلمين، فلا يعرفون من الطلاق ولا يطبقون عند لزوم الأمر إلا ذلك، ويحسبون أن الطلاق الواحد لا يكفي للفصل النهائي بين الزوجين، وكأن الطلاق الواحد هو ثلث طلاق وليس طلاقا واحدا كاملا يفي بغرض الطلاق وهو إنهاء العلاقة بين الزوجين. وكذلك نكاح التحليل كان ينبغي أن يكون حدثا استثنائيا فصار طريقا سالكا، لعدم توافر طرق أخرى للعودة إلى لم شمل الأسرة بعد إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد. وهذه كلها طامات تشوه صورة شريعة الرحمن وتسيء إلى سمعة الإسلام.
ومن انقلاب الموازين أيضا شيوع العمل بأقل الواجب والذهول عن طريق المحسنين، ثم عدم التفرقة بين ما قد يصدر عن القاضي في حال الخصام والمشاحة، وبين ما ينبغي أن يعمد إليه طرف المعاملة من الإحسان واستباق الخيرات. فمتاع المطلقة المذكور في كتب الفقه من أنه لا يجب متاع لمن استحقت المهر، وأن المتاع ثلاثة أثواب وأنه لا يحسن أن يزيد المتاع على نصف مهر المثل إلى غير ذلك من تحديدات وتقييدات، فإن ذلك كله يتعلق بحال الخصام وحال التحاكم إلى القاضي، وأما طرف المعاملة وهو الزوج فينبغي له أن يكون كريما قدر المستطاع، فيعطيها الكثير حسب وضعه المادي. ولكنه قد شاع بين الناس إعطاء أقل المتاع وغابت مظاهر الكرم والإحسان. ثم القصور أيضا من المفتين الذين دأبوا على الإفتاء بأقل الواجب. ولماذا يوجه المسلم إلى أقل الواجب فحسب، ولماذا لا يتم إرشاده إلى منازل الإحسان ومدارج الخيرات؟؟
إن الوقوف ضد محاولات تبديل أو إلغاء قانون الأحوال الشخصية للمسلمين يتطلب توحيد كلمة المسلمين ورفع صوت موحد قوي لا تستطيع جهة أن تتجاهل ذلك الصوت. كما أن الوقوف في وجه محاولات تشويه القانون الشرعي الإسلامي وتنفير الرأي العام عنه يتطلب مراجعة جادة في سلوك المسلمين وواقع امتثالهم لأحكام الشريعة، وتصحيح الأخطاء، ومعالجة الخلل. وتعديل الموازين وبتعبير دقيق هو العودة إلى المصدر الأصلي للشريعة الإسلامية وهو القرآن الكريم وتوجيهاته إلى جانب أحكامه. وحينئذ سوف يظهر الشرع في ثوبه الحقيقي الجميل الذي يمنح القلوب رضا وقناعة. والله غالب على أمره.
د. محي الدين غازي
عميد كلية القرآن في الجامعة الإسلامية في كيرلا، الهند
(إن تنفير الناس عن قانون الأحوال الشخصية الإسلامي ليس أقل خطرا من محاولة إلغاء ذلك القانون أو تبديل بنوده. وهذا المقال يدرس القضية من ذلك المنظور)
قانون الأحوال الشخصية للمسلمين في الهند يواجه تحديات كبيرة غير مسبوقة، تتمثل في محاولات معلنة لإلغاء القانون الإسلامي وإرغام المسلمين على التحاكم إلى القانون الموحد. وظهرت الخطوة الأولى في إقدام على تبديل بعض بنود القانون الإسلامي المطبق بحجة أن تلك البنود لاتتفق ومبدأ العدالة، وأن فيها إجحافا لحقوق المرأة. ولا عجب أن يتم الاحتجاج بالقوانين المطبقة في بعض الدول المسلمة، أو ببعض الآراء الموجودة في التراث الفقهي الإسلامي تعزيزا للموقف. ثم ولا غرابة في ظل الأوضاع الراهنة وضعف الوازع الديني العام أن يظهر في الإعلام من المسلمين من يؤيد تلك المحاولات ويراها في صالح الأقلية المسلمة.
هذا وترى قيادات جميع شرائح المسلمين في البلاد أن تبديل بعض البنود بغض النظر عن قوة الاستدلال أو ضعفه يشكل خطرا عظيما على استمرارية القانون بأسره. فإن فقهاء الشريعة هم المخولون بالنظر في قانون الأحوال الشخصية وما يدعو إليه تغير الأحوال والأزمان من النظر والاجتهاد في الأحكام التي فيها مجال للاجتهاد، وليس ذلك الأمر لمن لا ولاء لهم للإسلام ولا صلاحية النظر لديهم في القوانين الشرعية. كما ترى كافة القيادات المسلمة أن التهاون من قبل المسلمين تجاه تبديل بعض البنود سوف يفتح الطريق حتما لإلغاء القانون من أصله.
وهنا يجب التنبيه إلى أمر هام وهو أن القضاء على قانون سائر مطبق منذ قرون طويلة لا يمكن إلا بعد الاستحواذ على الرأي العام، وإلا عدّ ذلك انتهاكا سافرا لحق ثابت في الأعراف الديمقراطية. ولذلك وبغرض إقناع الرأي العام وكسب موافقتهم على ضرورة إلغاء القانون الإسلامي، يتم تنظيم حملات إعلامية شعواء ضد الشريعة الإسلامية تتهمها بأنها غير صالحة للتطبيق لما فيها -حسب دعواهم- ظلم وتطفيف وحيادية وإجحاف. فهي على حد تعبيرهم شريعة تحتوي على أحكام غير متوافقة مع ما حصل من تقدم في حقوق الإنسان والمرأة على وجه أخص. وهذه الحملات لما فيها من مكر ودهاء وشراسة غير مسبوقة تخلق النفور لدى غير المسلمين وربما تدخل الشكوك في عقول كثير من المسلمين، وخصوصا من بضاعتهم قليلة في العلم الشرعي والثقافة الإسلامية واستسلمت قواهم العقلية للغزو الفكري العلماني. ثم من مكر هؤلاء القوم أنهم يختارون لتلك الحملات عينات يأخذونها من نقاط الضعف، لكي تصلح للدعاية ضد الشريعة الإسلامية والسخرية منها؟
والحق أن الشريعة الإسلامية في صورتها الحقيقية الخالصة من شوائب ليس فيها نقطة ضعف على الإطلاق، وإنما تظهر نقاط ضعف حينما يتم الامتثال بها إفتاء وتطبيقا في صورة مختلفة عن الصورة الأصلية المطلوبة. فالخلل لا يعود إلى أصل الشريعة وإنما يعود إلى أصل الامتثال، وعلى قدر الخلل في الامتثال تبرز نقاط ضعف يتوهم الناظر أنها نقاط ضعف في التشريع الإلهي. والحق أن التشريع الإلهي تشريع محكم متين لا ترى فيه من فطور ولو رجعت البصر كرتين.
ومن الأمثلة على ذلك تعدد الزواج، فمن نظر إلى طريقة القرآن في تشريع الحكم، ونظر إلى تطبيق الرسول صلى الله عليه وسلم له، والذي عبر عنه القرآن بقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} [الأحزاب:51] لاقتنع أن مشروعية التعدد مما تقره العقول وترضى بها القلوب. فالزوج المعدد ينبغي أن يبذل جهده لتحقيق أن تقر أعين زوجاته ولا يحزن ويرضين كلهن بما يعطيهن من الحب والحنان والاهتمام كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل وقد قدّم نموذجا رائعا لمن يطبق الحكم من أمته. ولكن عندما يكون هناك ميلان ظاهر لطرف وإجحاف على مرأى من الناس في حق، فإن الصورة تتشوه.
ومثال آخر هو الطلاق الثلاث بلفظ واحد، حيث أن المغرضين يجدون في ممارسة صورة الطلاق هذه مجالا للتشكيك في مشروعية الطلاق نفسه، ومن ثم في الشريعة الإسلامية التي جاءت بمشروعية الطلاق. والحق أن العيب ليس في أصل الطلاق وإنما في من يطلق ثلاثا دفعة واحدة ومن غير اتخاذ إجراءات الإصلاح التي حث عليها القرآن الكريم، ويغلق على نفسه طريق العودة الكريمة حين الندم، فهذا هو الذي بتطبيقه الخاطئ يسيء إلى الشريعة الإسلامية ووجاهتها. ثم إذا أخذ القانون برأي جمهور الفقهاء في الطلاق الثلاث بأنها تقع ثلاثا، وبرأي بعض الفقهاء بانعقاد نكاح التحليل مع كراهيته الشديدة، فإن ذلك أيضا يزيد قبحا إلى قبح. فإن شناعة نكاح التحليل ظاهرة واشمئزاز النفوس منه معلوم لدى الطباع السليمة كلها. ولكن وللأسف الشديد قد غدا الطلاق الثلاث هو العرف السائد المشهور، ونكاح التحليل هو الطريق المعهود للعودة ونسي أغلب الناس أن الطلاق الواحد هو المشروع في الأصل.
ومن الأمثلة أيضا موضوع متاع المرأة المطلقة، فإن هناك أقوالا مختلفة للفقهاء، منهم من يوجب ومنهم من يكتفي بالندب، ومنهم من يعطي جميع المطلقات ومنهم من يعطي لبعضهن، ومنهم من يقدر له ثلاثة أثواب، ومنهم من يقدر له أكثر من ذلك أو أقل ومنهم أيضا من يفوض أمر تقدير المتاع إلى رأي الحاكم. هذا كله مذكور في كتب الفقه. ولكن الذي ينساه الكثيرون، هو أن هذه الأقوال كلها فيما إذا تخاصم الطرفان في موضوع المتاع إلى القاضي ودخل عامل الشح في الموضوع، فيحكم القاضي في مال الرجل المطلق ما يدفعه للمرأة المطلقة. ولكن القرآن يهدينا للتي هي أقوم، إن القرآن لا يرضى من مؤمن ولا مؤمنة أن يصدر منهم الشح والطمع، بل يأمر أمرا مؤكدا ومكررا أن يكون من الرجل عطاء ووفاء وسخاء، وأن يكون من المرأة عفو إن كان الرجل لا يطيق. فينبغي أن يكون التسريح بمعروف بل أن يكون بإحسان، وأن يكون الرجل كريما شهما جوادا، لا يحمل وساوس الفقر ولا يخضع لنداء الشح، فهنا اختبار الرجولة والمروؤة. وتاريخنا المجيد يحمل نماذج رائعة في تعامل الزوج مع زوجته المطلقة وإحسانه إليها. ولكن الآن وقد طغى الشح الوضيع على القيم السامية ، وذهلت أمة القرآن عن رسالة القرآن في حياتها، قلما تجد نموذجا جميلا يعبر عن عظمة الإسلام، وإنما أكثرها صور قبيحة تشمئز منها النفوس والشرع منها بريء.
وتدعو الضرورة هنا إلى بيان حقيقة هامة غفل عنها الكثيرون، وهي أن الأحكام الفقهية لا تعبر بالضرورة عن المستوى المثالي لتطبيق الأحكام، وإنما تتناول أحيانا أدنى مستويات الأحكام من حيث الجواز، وأحيانا تذكر أقل المطلوب الذي يخرج الفرد من الملامة أو الذي يجب الحكم به من قبل الحاكم وتنفيذه رضي الطرف المحكوم عليه بذلك أم أبى. أما المستوى المثالي المطلوب فقد لا نجده في بطون كتب الفقه، والمصدر الأصلي له الذي ينبغي أن يرجع الفرد إليه هو القرآن الكريم، فهو المرجع الحقيقي لمعرفة مراد الله تعالى من جميع أحكام الشريعة الإسلامية. فالصلاة المذكورة في كتب الفقه تعبر فقط عن الفريضة التي تبرأ بها ذمة المكلف، ولكن الصلاة المثالية المطلوبة قد لا نجدها هناك، ولكن نجد ملامحها كلها بكل وضوح في القرآن الكريم. كذلك لا نجد في كتب الفقه كيف يكرم الرجل المطلقة زوجته المطلقة عند الطلاق، ولكننا نجد في القرآن الكريم صورة واضحة جدا وجميلة جدا لأرقى سلوك يمكن للإنسان أن يختاره في تلك الظروف.
طريقة القرآن الكريم في التشريع فريدة مختلفة عن التشريعات البشرية، فهو يذكر حكما ثم يحيط الحكم ذاته بتوجيهات سامية، ويربط بين امتثال الحكم بأحسن صورة وبين الجزاء الحسنى في الدنيا والآخرة، وكل ذلك لكي يتم تطبيق الحكم الشرعي بطريقة تحقق المصالح العظيمة ويوافق مراد الله تعالى منه. بينما التراث الفقهي يمثل طريقة تدوين الأحكام الشرعية مجردة. وغدت المشكلة الكبرى في واقعنا الراهن هي غياب التوجيهات القرآنية من حياة المسلمين وبقاء الأحكام الفقهية فقط. والثقافة الدينية لدى المسلمين لا تتجاوز الحلول الفقهية، وهي تبقى في معزل عن التوجيهات القرآنية حلولا ناقصة وأنصاف حلول.
إن القراءة الدقيقة في أحوال المسلمين ومستوى ثقافتهم الدينية ومدى امتثالهم لروح الأحكام الشرعية تكشف عن حقائق مؤلمة، فهناك انقلاب الموازين في امتثال الأحكام، حيث في كثير من القضايا غاب الحكم الأصلي تماما وأصبح الخروج عن الأصل هو الأصل الغالب المعروف. فكم يتعجب الإنسان عندما يرى أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد غدا هو العرف الشرعي السائد بين المسلمين، فلا يعرفون من الطلاق ولا يطبقون عند لزوم الأمر إلا ذلك، ويحسبون أن الطلاق الواحد لا يكفي للفصل النهائي بين الزوجين، وكأن الطلاق الواحد هو ثلث طلاق وليس طلاقا واحدا كاملا يفي بغرض الطلاق وهو إنهاء العلاقة بين الزوجين. وكذلك نكاح التحليل كان ينبغي أن يكون حدثا استثنائيا فصار طريقا سالكا، لعدم توافر طرق أخرى للعودة إلى لم شمل الأسرة بعد إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد. وهذه كلها طامات تشوه صورة شريعة الرحمن وتسيء إلى سمعة الإسلام.
ومن انقلاب الموازين أيضا شيوع العمل بأقل الواجب والذهول عن طريق المحسنين، ثم عدم التفرقة بين ما قد يصدر عن القاضي في حال الخصام والمشاحة، وبين ما ينبغي أن يعمد إليه طرف المعاملة من الإحسان واستباق الخيرات. فمتاع المطلقة المذكور في كتب الفقه من أنه لا يجب متاع لمن استحقت المهر، وأن المتاع ثلاثة أثواب وأنه لا يحسن أن يزيد المتاع على نصف مهر المثل إلى غير ذلك من تحديدات وتقييدات، فإن ذلك كله يتعلق بحال الخصام وحال التحاكم إلى القاضي، وأما طرف المعاملة وهو الزوج فينبغي له أن يكون كريما قدر المستطاع، فيعطيها الكثير حسب وضعه المادي. ولكنه قد شاع بين الناس إعطاء أقل المتاع وغابت مظاهر الكرم والإحسان. ثم القصور أيضا من المفتين الذين دأبوا على الإفتاء بأقل الواجب. ولماذا يوجه المسلم إلى أقل الواجب فحسب، ولماذا لا يتم إرشاده إلى منازل الإحسان ومدارج الخيرات؟؟
إن الوقوف ضد محاولات تبديل أو إلغاء قانون الأحوال الشخصية للمسلمين يتطلب توحيد كلمة المسلمين ورفع صوت موحد قوي لا تستطيع جهة أن تتجاهل ذلك الصوت. كما أن الوقوف في وجه محاولات تشويه القانون الشرعي الإسلامي وتنفير الرأي العام عنه يتطلب مراجعة جادة في سلوك المسلمين وواقع امتثالهم لأحكام الشريعة، وتصحيح الأخطاء، ومعالجة الخلل. وتعديل الموازين وبتعبير دقيق هو العودة إلى المصدر الأصلي للشريعة الإسلامية وهو القرآن الكريم وتوجيهاته إلى جانب أحكامه. وحينئذ سوف يظهر الشرع في ثوبه الحقيقي الجميل الذي يمنح القلوب رضا وقناعة. والله غالب على أمره.