مروان الظفيري
New member
- إنضم
- 13/09/2006
- المشاركات
- 847
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
[align=center]العلامة واللغوي والنحويّ الأستاذ الدكتور مازن عبد القادر المبارك :[/align]
[align=center]البيئة العلمية للدكتور مازن المبارك :
نشأ الدكتور مازن المبارك في أسرة علم ونسب شريف ، فأهله من سادات الجزائر المعروفين ، الذين يتصل نسبهم بسيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما .
والعلامة محمد المبارك (توفي 1269هـ /1852م) هو جد هذه الأسرة الأكبر ، وهو العالم المرشد الذي ذاع صيته في الأقطار ، وتخرج به كثير من طلبة العلم في الجزائر ، وكان الشيخ المبارك عالما عاملا ومجاهدا في سبيل الله ، إذ نهض لمقاومة الاحتلال الفرنسي للجزائر ، حتى ظهرت فرنسة المحتلة على جموع المجاهدين ، فجمع الشيخ أهله وأقرباءه ، وهاجر بهم إلى دمشق ، في الهجرة الأولى ، سنة 1263هـ ، وهي المعروفة بهجرة العلماء .
واشتهر بعد الشيخ المبارك ابناه ، محمد الطيّب ، (توفي 1313هـ/1895م ) ومحمد المبارك (توفي 1330هـ/1912م) .
والسيد محمد المبارك هو والد العلامة اللغوي الأستاذ عبد القادر المبارك (توفي 1365هـ / 1945م ) ، والأستاذ عبد القادر هو والد الأساتذة المعروفين من آل مبارك ، وهم الأستاذ المرحوم محمد (توفي 1402هـ / 1981م) ، والأساتذة ممدوح وعدنان وهاني ومازن –أستاذنا الجليل- ، وعبد الهادي .
والأستاذ عبد القادر المبارك عالم كبير ، ولغوي ثقة ، تلقى الكثير من المعارف اللغوية والأدبية والدينية على شيوخ عصره ، كالشيخ أمين سويد ، والشيخ بدر الدين الحسني ، والشيخ عطا الكسم ، وكان الأستاذ المبارك راوية ، حافظا لكتب الأخبار والتراجم والتاريخ ، ولم يكن شأنه ، كما يقول نجله الأستاذ- محمد- مع اللغة العربية شأن عالم يدرسها أو يعلمها ، ولكنه كان معها في حياة وجدانية نفسية ، وكانت معاجم اللغة ولا سيما (لسان العرب) لابن منظور ، بيئة يعيش في جوها ومع أصحابها .
ولذلك كانت اللغة تجري منه مجرى السليقة والطبع حتى غلبت عليه في مجالسه الخاصة ، بل بين أهله وأولاده ، والأستاذ المبارك من تلامذة الشيخ بدر الدين الحسني المعروفين ، وكان من أكثر الناس قربا وخطوة عند الشيخ الحسني ، وكثيرا ما كان الأستاذ المبارك يجلس إلى الحسني ، ويسارّه في أمور المسلمين ، وأحوالهم ، إذ كان العلم والجهاد دأبهما معا ً ، ومعروفة تلك الصلات الإنسانية والعلمية التي كانت تربط بين آل المبارك وآل الحسني ، وقد أدرك أستاذنا الدكتور مازن الشيخ الحسني ونعم ببعض تلك الصلات التي ما زال يذكرها بالشوق والودّ والوفاء .
أما الأستاذ محمد المبارك توفي عام 1981م ، فقد كان الشقيق الأكبر للدكتور مازن حفظه الله ، وهو عالم لغوي ومربّ معروف ، تسنـّم العديد من المناصب العلمية والتعليمية والحكومية ، وقد قرأ –إضافة إلى علوم الدين واللغة والتاريخ والأدب- علوم الحساب والهندسة والجبر ، على الشيخ الحسني ، ثم قصد فرنسة، وتلقى فيها العلوم الحديثة والثقافة العصرية ، وعرف الأستاذ محمد – رحمه الله- بقربه من الشيخ الحسني ووفائه له ، على نحو ما عرف به والده الأستاذ عبد القادر – رحمه الله- ، وقد عني لذلك بالتأريخ للشيخ وسيرته ، وتلمذته له في مقالين مطوليّن .
ولا شك في أنّ البيئة التي نشأ فيها الدكتور مازن كانت تستوفي مناحي الحياة ، فاجتمع له منها ما لم يجتمع لغيره إلا نادرا ، فهناك الأسرة التي وضعنا لمحات من حياة روادها الذين عرفوا بالعلم والجهاد ومنفعة الناس ، وفيها الجدّ والأب والإخوة وسائر القربة .
وهناك المجتمع الذي عرف في الشام من مطلع القرن العشرين إلى منتصفه ، وهو مجتمع ناهض ، تصدى لمهام جسام ، لم تكن تشغله عن العلم والتحصيل على اختلاف مستوياته ، بل ربّما كانت حافزا له لامتلاك عناصر القوة التي بان أن ميزانها المادي ليس في صالح الوطن ، ولذلك استبسلت أسرة المبارك في التعليم وإنشاء المدارس ، حين كان ذلك مطلوبا وواردا ، وهناك إضافة إلى ما تقدم المجمع والجامعة ، وقد أسهم الأستاذ عبد القادر في عضويته ، وعمل في لجانه ، وحاضر في ملتقياته ، وكذلك أسهم الأستاذ محمد في عضوية المجمع وبذل فيه ما كان متاحا في عصره ، أما الجامعة فقد بدأت تخطو مع المجمع مقتصرة على الحقوق والطب بداية ، على حين كانت مدارس أخرى جامعة كالمدرسة السلطانية الأولى ، مكتب عنبر والمدرسة الحربية ، ومدرسة التجهيز ، ومدرسة الأدب العليا ، تغطي مناحي العلوم والمعارف العصرية ، وقد أسهم الأستاذان عبد القادر ونجله محمد في التدريس العالي وبلا جهودا ً كبرى في التأليف ، وإعداد المناهج الوطنية الملائمة للأجيال العربية ، ولا سيّما في مجال التربية الإسلامية واللغة العربية .
ولأجل ذلك كله امتاز أستاذنا الدكتور المبارك بالثقافة الواسعة والانكباب على العلم والتعليم والتصدي للتأليف والتسلح بالوعي ، وقد جمع بين ما تلقاه من أسرته وبيئته عفوا وقصدا ، وما حصّله من تدرجه في مستويات التعليم المنظم حتى اجتمع له ما لم يجتمع لأقرانه ، وهيهات أن تجتمع لمثقفي أيامنا هذه الثقافة الدينية الخالصة في علوم القرآن والحديث والفقه ، والمعارف العامة في التاريخ والتراجم والسير ، والمعارف اللغوية في النحو والمعجم والاشتقاق والتعريب ، إضافة إلى ولع بالأدب والشعر حفظا ودراسة ممّا قلّ نظيره .
كان الدكتور مازن ابن بيئته ومجتمعه وعصره ، أما بيئته فقد كان جوّه مفعما ً بالمعاني الإسلامية والثقافة العربية ، وهما المادّتان اللتان نبغ فيهما أبوه وأخوه .
وكان بيتا ً يؤمه أصدقاءه والده وتلاميذه ليفيدوا من الشيخ المبارك ومكتبته العامرة ، وكان بيتا ً لا يخلو من مجلس من مجالس المذاكرة والعلم ، وكان ذلك كله يجري على مرأى ومسمع من الطفل ، ثم الشاب الناشئ – الدكتور مازن- كما حدثنا الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي – رحمه الله- في مذكراته .
وأما المجتمع الذي تفتح فيه أستاذنا المبارك ، فهو مجتمع العلماء والمثقفين الذين عرفهم مع أبيه ، ثم مع أخيه في المجتمع العلمي وفي مجالس العلم ، التي كانوا يقصدونها ، والتي كثيرا ما سمعنا وصف بعضها وأسماء المشاركين فيها من أستاذنا الدكتور مازن حين ينطلق لسانه في جلساته الخاصة متحدثا عن ذكرياته المبكـّرة ، فيذكر من العلماء العارفين :
الشيخ بدر الدين الحسني ، والشيخ أحمد الحارون ، والشيخ أبا الخير الميداني ، والشيخ إبراهيم الغلاييني .
ومن رجال الثقافة والأدب :
الأستاذ كرد علي ، وخليل مردم بك ، وعز الدين التنوخي ، والشيخ بهجة البيطار ، والشيخ عبد القادر المغربي .
ومن الشباب – إذ ذاك- :
علي الطنطاوي ، وأنور العطار ، وأمين المصري ، وغيرهم .
وقد أدرك أستاذنا المبارك طائفة من علماء الأمة وأدبائها في دمشق ، ثم في القاهرة ، كانت له بهم صلة عادت عليه بالأثر الطيب ، كالأستاذ شفيق جبري ، والدكتور أمجد الطرابلسي ، والأستاذ سعيد الأفغاني في دمشق ، وكالعلامة الأستاذ محمود محمد شاكر ، والدكتور شوقي ضيف ، والدكتور عبد الحليم النجار ، وغيرهم .
لقد استقى الدكتور مازن من تلك الينابيع الثرّة وأضاف إليها ما حصلـّه بنشاطه ، ومطالعاته ، وقد كان معروفا بين زملائه بولعه العجيب بالقراءة والمطالعة وبشوقه ورغبته في حضور المحاضرات والمناقشات العلمية ومجالس العلم والأدب .
الأستاذ الدكتور مازن المبارك محققا ً :
أستاذنا الجليل الدكتور مازن المبارك – مدّ الله في عمره- متعدد جوانب الثقافة والنشاط وهو فيها كلها متقنٌ صَـنـَاع ، فهو محاضر من طراز رفيع ، وكاتب بحث بارع ، ومؤلف متمرّس مجتهد ، ومحاور لبق صاحب حجة ، ونحويّ مالكٌ لآفاق اختصاصه ، لكن لم يستبدًّ به النحو ، ولم يستطع أن يحجبه عن آفاق الثقافة المترامية الأطراف ، ومعظم جهوده العلمية بل كلها قاطبة متجهة ٌ إلى خدمة العربية ، وإعلاء شأنها ، والمنافحة عنها ، وإبراز عبقريتها ، وجمالها إنتاجه متقن غير مكثر ، بعيد كلّ البعد عن الادعاء ، يصون كل ما يكتبه وينشره كما يصون منبره الجامعي أيضا ً ، عن الابتذال والفضول .
ولا أستطيع هنا أن أوفي جوانبه العلمية حقها ، لأن مجال البحث هو جهوده في التحقيق وحدها ، والتحقيق جانب هام من جوانب اهتماماته العلمية .
والتحقيق كالتأليف يتطلب أول ما يتطلب أساساً أخلاقيا ً ينطلق منه ، وإليه يستند ، فهو أمانة والأمانة ثقيلة ، إلا على أولي العزم ، وهو أخلاق ، والأخلاق صعبة ٌ ، إلا على من راضَ نفسه على ممارستها ، وكبح أهواءه عن جماحها وأخضعها لمقتضاها ... والتحقيق أو لأقلْ : إتقان التحقيق صعب وطويل سلـّمه ...
لذلك كله نرى المحققين الأثبات لا يعبؤون بكثرة الأعمال ، ولا يطنبون في تعدادها... لأن تحقيق الكتاب ، قد يستغرق من المحقق من الوقت أضعاف ما قد يستغرقه تأليف مثله ، وذلك حسب طبيعة خطه ، وتسلسل أوراقه ، ولأن المحقق قد يوقف عمله في مرحلةٍ ما ، لينتظر وصول مخطوطة علم بها ، وانتظار المخطوطات ، والسعي لها معاناة لا يدركها إلا من عاناها ، ووقع في شباكها ...
وربما كان كثيرون قد انصرفوا عن التحقيق بسبب ٍ من صعوبة الوصول ، أو الحصول على المخطوط الذي به يرغبون ، وقد أخبرنا بعض المحققين في مقدماتهم عن جوانب من تلك المعاناة ، وإن صعوبة قراءة كلمة على وجهها ، قد توقفك عن متابعة العمل أسبوعا ً ، أو أكثر ، وتؤرق عليك ليلك وأنت بها تفكـّر ... وتستنفر حدسك وحواسك لاستجلاء قراءتها ، زد على ذلك أن بعض المعاجم قد لا تسعفك في مواضع ، والمراجع قد تخذلك في مواضع ... ثم بعد ذلك كله أو قبله كله أنت لا تعمل لنفسك في التحقيق ، إنما تعمل لغيرك .. فأنت تحرر نصا ً ليس لك ، وتبذل العمر ، ومعه العيون والراحة ، في إحياء أعمال ستحيا باسم مؤلفيها الذين رحلوا من مئات السنين ، لذلك كان التحقيق واستغراق العمر فيه ، يمثل ضربا ً من الإيثار ولا سيما في هذا العصر الذي كثر فيه المغيرون على أعمال غيرهم ، وأوضحت هذه الظاهرة من صوارف بعض المجدّين عن العمل في التحقيق ، ونشير هنا فقط إلى (رسالة الغفران) للمعرّي ، وقد سلخت فيه محققته بنت الشاطئ سنواتٍ من عمرها ، وسنوات أخر في الاستدراكات والتصحيحات ، ثم رأت بعد أن نشرته وشهرته غير ما واحدٍ يتنطع بأن حققه ونشره وهو يدعي أن النص للمعري وليس لها ، وله فيه من الحق مثل مالها ، وهو إنما سرق جهدها ولياليها وعلمها ...
وإذا كان من تحصيل الحاصل أن المحقق يجب أن يكون متضلعا من فنه علميا ً ، فإنه أيضا ً يجب أن يكون متقنا ً لآليات هذا الفن وتقنياته ، لذلك رأينا المستشرق برجستراسر (توفي 1933م) ، ومن بعده المرحوم عبد السلام محمد هارون (توفي 1988م) ، يؤلفان في فن تحقيق النصوص ، إضافة إلى ما نثاه في تضاعيف كتاباته العلامة المرحوم محمود محمد شاكر (توفي 1977م) ، في أصول هذا الفن ومستلزماته ، ولعل أهمّ هذه الأمور هو المحقق نفسه ومقدار ما يتمتع به من الفهم ، والحذق في قراءة النصوص وفهمها وتحليلها .
وقبل أن أنتقل إلى الكلام على الأعمال المحققة لأستاذنا المبارك لا بدّ أن أذكر أن التحقيق قد ينتقل إلى مجال الطبع الشخصي ، ويصبح صفة راسخة ً ملازمة ، فترى المحقق محققا تجاه كل فكرة وكل خبر ، وأنا أزعم أن الدكتور المبارك قد أصبح على هذا النحو ، فقد جلس يوما ً أمام الشاشة الصغيرة يراقب ندوة وكان المتحدث يقول : (إن المؤرخين ذكروا أنه اجتمع على حرب المسلمين مشركو قريش ، ومَنْ رافقهم من الأحابيش ، وهم من الحبشة وغيرها من العبيد والزنوج .. وكان بعضهم قد جاء من القارّة ) .
وكان هذا الكلام الذي سمعه الدكتور بداية رحلة تنقيب وبحث ومراجعة للسيرة النبوية ، ومعاجم اللغة ، وكتب الأنساب وكانت النتيجة أن بيّن بالدليل الناصع أن الأحابيش إنما هي نسبة إلى جبل (حُـبْـشيّ) ، وهو جبل بأسفل مكـّة بنعمان الأراك ، يقال به سُمّيت أحابيش قريش ، وذلك أنّ بني المصطلق ، وبني الهون بن خزيمة ، اجتمعوا عنده ، وحالفوا قريشا ً وتحالفوا بالله : (إنـّا ليد ٌواحدة ٌ على غيرنا ما سجا ليل ٌ ووضح نهار ، وما رسا حُـبْشيّ في مكانه) ، فسموا أحابيش قريش باسم الجبل ، وبينه وبين مكة ستة أميال) ، وخلص الدكتور المبارك إلى أنّ الأحابيش هم بنو الهون ، وبنو الحارث من كنانة وبنو المصطلق من خزاعة ، تحبّـشوا أي تجمعوا ، وتحالفوا عند جبل حبشيّ ، فسُموا الأحابيش ) .
أما (القارّة) وقد قرأها صاحب الندوة بتشديد الراء ، فصوابُها (القارَة) ، بتخفيف الراء وفتحها ، وهي قبيلة مشهورة بالرمي ، وهم عَـضَـل والدّيش ابنا الهون بن خزيمة بن مدركة ، سُمّوا (قارة) لاجتماعهم ، والتفافهم ، لمّا أراد ابن الشـّداخ أن يفرقهم في بني كنانة وقريش ، قال شاعرهم :
دَعُونا قارة ً لا تذعرونا=فنجفلَ مثل َ إجفال الظـَّليم
وهم رماة الحدق في الجاهلية ، وهم اليوم في اليمن ، ينسبون إلى أسد ، والنسبة إليهم : قاريّ ، وهم حلفاء بني زهرة) .
ما ذكرته كان ملخصا ً لبحث موثَّق مطوَّل كتبه الدكتور المبارك محققا ً ما سمعه في ندوة تلفزيونية ، ونشره في كتابه : (مقالات في العربية) ، وقد أشرت إلى هذا البحث لأدلّل على ما ذهبت إليه من أنّ التحقيق أضحى لدى المبارك صفة راسخة ً وطبعا ً متحكما ً حتى وهو يستمع إلى ندوة أو يكتب مقالاً .. إنه ببحثه المشار إليه لم يصحح خطأ وقع فيه أحد المشاركين في ندوةٍ عَرَضاً ، بل إنه لخطأ كثيرا ً ما سمعناه يتردد على ألسنة أناس في مواضع مختلفة ، وهم يتصدّون للتعليم أو للخطابة أو الوعظ والإرشاد ... يذهب بهم لفظ الأحابيش إلى الحبشة ، وتذهب بهم الحبشة إلى اللون الأسود .. فيبنون عليه ما يبنون ويفسرون ما يفسرون .
لقد عاصر الدكتور مازن في مُقتبل حياته العلمية في جامعة دمشق جمهرة من زملاء عمله – الذين كان بعضهم أستاذاً له ، وأستاذاً لجيلنا أيضاً ؛ وأتيح له أن يتعرف على أعلام جامعة دمشق ، وكلياتها المختلفة ؛ بأسباب كثيرة منها صلاته العلميّة ، والاجتماعية ، وموقعه في قسم اللغة العربية ...
وأتيح له أيضا أن يكون – بصفتيه الشخصية والرسمية – على صلة بقضايا اللغة العربيّة في مجال التعليم ، والتربية والثقافة والإعلام ، ولم يمض وقت بعيد حتى كان الدكتور مازن اسما ً مرموقا ً :
- في الهيئة التعليمية في قسم اللغة العربية .
- وفي إطار جامعة دمشق في كل مجال له صلة باللُّغة ، والمصطلح .
- وفي وجوه العلاقات التربوية التعليمية ، والثقافية والإعلامية .
- وبرز ؛ أيضا ؛ بصفة صاحب حضور إعلامي متميز في ندوات الأدب واللغة والثقافة والحضارة ...
لا يَصْعُب على دارس شخصية الدكتور مازن المبارك ، ومتابع نشاطه الفكري ، واللغوي ، والحضاري ، أن يتبيّن ملامح تلك الشخصية في جوانبها المختلفة ، فهو بمقدار ما له من الذاتية والخصوصية والرغبة في الالتفات إلى الذات والأهل والمكتبة الخاصة والاستقلالية ، يحبّ أن يكون في زورق كبير مكشوف للسماء ، لا غطاءَ ، في مجموعة من الناس ، ويفضّل أن يكون أولئك الناس من الأصحاب ، والأصدقاء ، والجيران ، والزملاء المقربين ...
- وهو - أيضا- بمقدار ما يحبّ أن يكون مع النخبة المُختارة التي يشعر معها بالانسجام والتوافق يستطيع أن يتلاءم مع الإطار الواسع والعدد الجمّ .
- إنها القدرة : على الائتلاف مع ظروف الحياة ، والمواءمة بين المطلوب والموجود ؛ وبين المتصوَّر والممكن .
- وهو ؛ بمقدار ما في طباعه من خصوصية ذات تميّز يعرفها أقاربه كما يعرفها أصحابُه ومريدوه : قادرٌ على الانفتاح على الآخرين ، وعلى تطويع النفس ، لقَبُول الناس على اختلاف طباعهم وأمزجتهم ، لزمانٍ محدود ، ولكنه – على كل حال- زمانٌ كافٍ لكي يتطبع في نفوس الناس عنه تلك المقدرة على التفافهم ، والتعّايش ، وتسيير الأمور في ظروفها المختلفة .
على أن قارئ الشخصية يلاحظ معالمها في ثلاثة اتجاهات : المعالم الخاصة ، والمعالم الجامعية ، والمعالم العامة .
في المعالم الخاصة ، التي يعبر عنها أيضاً بالمعالم الشخصية ، هي معالم تدور حول قوام الذات ، وخصائص النفس ، ومكوّنات الوُجدان ، وفي هذا كله ما يلوّن الإنسان بلونه ، ويطبعه بطابعه ، ويعطيه – عند نفسه وعند الناس- هويته الخاصة ، وقد اشتركت عوامل كثيرة في تكوين هذه المعالم الخاصة :
- فجانب ، أو جوانب ، يشترك فيها مع أبناء جيله مع أحداث عامة ، وظروف شاملة .
- وجانب أو جوانب ، يختص بها ، وتنبع من ذاته ، ويختلط الجانبان معاً ، يكونا الصورة ، والمزية ، والهويّة ، والذاتية ، والخصوصية .
وعاصر الدكتور مازن مثل أبناء جيله ، بعض زمان الحكم الفرنسي ، وعايش في شبابه الأوّل انتصار إرادة الشعب السوري ، وأدرك نضج ثمرات الثورة السورية التي ناصبت الاستعمار الفرنسي العداء ، وكان في أكثره مجاهدةً بالسّلاح :
سقط فيها الشهداء ، وأقلقت فيه راحة المستعمر المعتدي ، الذي قطع أوصال بلاد العرب ، وفرّق ما بين أبناء الأمة الواحدة .
ومع تشرّب ذلك الجيل بالحماسة الوطنية ، والروح الوثّابة كانوا واعين لمعركة البناء : وأهمّه بناء الفكر ، والوجدان .
ومن هنا كان اختياراً قاصدا ً أعان عليه كون التراجم له من أسرة علميّة مغموسة في الحركة العلميّة – الثقافيّة وكان اختيار طريق التعليم اختياراً يحقق في النفس الذات الداخلية ، ويواصل جهود الأسرة ، ممثلة في الأب العالم ، والأخ الباحث ، الذي مدّ يديه إلى جانبي الحياة : العلمية من جهة ، والعامّة من جهة أخرى .
وقد اتضحت في معالم مازن المبارك الخاصة :
- ملامح الذكاء : ولا أبالغ ، وأنا أصف ذكاءه بالّلمّاح .
- وعوامل النجاح : يستوي في ذلك جانبا العلم والعمل .
- وغزارة النشاط : فهو شعلة من الحيوية المتدفقة .
- ودقة النظام : فمن عرفه عن قُرب عرف تلك الدقة ومحافظته على مراسمها في حلّه وترحاله ؛ وعلى امتداد سنوات الشباب والكهولة ...
والمعالم الجامعية ، فقد كان المترجم له في جامعة دمشق أحد أعضاء هيئة التدريس البارزين ، وكان ذلك في عدد من الجامعات العربية ، التي انتقل إليها أستاذاً معاراً ، أو زائراً ، أو مقيما ً .
ولقد تكونت معالم شخصيته الجامعية في كليّة الآداب بجامعة دمشق ، وفي ظلال التقاليد الجامعية الأكاديمية المعروفة في جامعتنا ، ولئن كانت السنوات التي أظلت كلية الآداب في دمشق غير مديدة ؛ منذ نشأة الكلية وابتداء نشاط قسم اللغة العربية ، لقد ورث المعلمون والدارسون معاً تقاليد أصيلة عريقة في مدينة دمشق ، في مدارسها التقليدية القديمة ، ومساجدها التي أبرزت العلماء ، والفقهاء ، والأدباء ، ومجالس علمائها ، التي وصلت مؤلفاتهم ومحاضراتهم إلى أقطار البلاد العربية والإسلامية .
لقد أسهم الدكتور مازن في حركة التعليم الجامعي في القسم والكليّة ، وأسهم في إعطاء خريجي دمشق تلك السُّمعة العلميّة في تخصص اللغة العربية ، حيثما ذهبوا ، للاستزادة من طلب العلم ، أو العمل في أقطار العرب بكفاية عالية .
وظهرت المعالم الجامعية في شخصية الدكتور المبارك في رحاب العلم في جوانب :
- التدريس الجامعي .
- والتأليف والتحقيق .
- وتغطية الندوات المتخصصّة ، والملتقيات ، والمؤتمرات .
وكثيراً ما كان يتفاجئ الحاضرين في تلك الملتقيات بكونه ممثلاً لجامعة أخرى غير جامعته الأصلية : في أثناء لحاقه ببعض الأقطار العربية في إطار التعاون الجامعي بين دمشق وغيرها .
ومثلما تميّزت معالم الشخصية الخاصة ، والمعالم الجامعية ، تميّزت أيضا معالم الشخصية العامة .
ومظاهر الشخصية العامة ، إنما تستمدّ من الدائرتين الأوليين : الذاتية والجامعية فالرجل يظهر في المجتمع ، ويقدم حيثما يكون باعتباره المعلم الجامعي المتخصص ، الذي تُطيف به هالة الأستاذ ، المحاضر ، المتكلم ، الباحث ، المحاور ، والذي يَحْمِلُ اللغة على كاهله ، ويطوف بها حيث ما ذهب لتكون في مواقعها ومكانها ...
وإذا كانت شخصية المعلم ، شخصية اعتبارية تحظى بكل تقدير في المراحل الدراسية المختلفة ، فإن شخصية الجامعي – والبلاد حديثة عهد بالجامعيين الحاصلين على المؤهلات العليا – هي شخصية مرموقة :
- للحقيقة العلمية والأكاديمية التي تمثلها من جانب ؛
- وللهالة الاجتماعية التي ترافقها من جانب آخر .
وشخصية الدكتور مازن ، الذي يعرفه أصحابُه بكنيته :
أبي زاهر ، شخصية ٌ متميزة ، ظاهرة المعالم ، وهم يحسبون حساباً لهذه الشخصية ، في جدٍّ وهزل ، وفي محاورة ومباسطة ؛ وفي أخذٍ وردّ .
ومن مزايا هذه الشخصية القدرة على الجمع بين جوانب قد تبدو للمشاهد العابر متضادة ، أو متناقضة ، وهما عند التدقيق وجهان لعملة واحدة :
- فبالقدر الذي يُجيد فيه المُتَرْجَم له المجاملة ، والمداراة ، والمحاسنة ، والمسايرة إلى أبعد الحدود ، فإنه يتمتع أيضا ، وحين يكون الموقف في حاجة ، بالصَّراحة ، وهي صراحة واضحة ، ليس فيها مواربة ، ولا يمكن أن يكون لها تفسير آخر .[/align]
[align=center]البيئة العلمية للدكتور مازن المبارك :
نشأ الدكتور مازن المبارك في أسرة علم ونسب شريف ، فأهله من سادات الجزائر المعروفين ، الذين يتصل نسبهم بسيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما .
والعلامة محمد المبارك (توفي 1269هـ /1852م) هو جد هذه الأسرة الأكبر ، وهو العالم المرشد الذي ذاع صيته في الأقطار ، وتخرج به كثير من طلبة العلم في الجزائر ، وكان الشيخ المبارك عالما عاملا ومجاهدا في سبيل الله ، إذ نهض لمقاومة الاحتلال الفرنسي للجزائر ، حتى ظهرت فرنسة المحتلة على جموع المجاهدين ، فجمع الشيخ أهله وأقرباءه ، وهاجر بهم إلى دمشق ، في الهجرة الأولى ، سنة 1263هـ ، وهي المعروفة بهجرة العلماء .
واشتهر بعد الشيخ المبارك ابناه ، محمد الطيّب ، (توفي 1313هـ/1895م ) ومحمد المبارك (توفي 1330هـ/1912م) .
والسيد محمد المبارك هو والد العلامة اللغوي الأستاذ عبد القادر المبارك (توفي 1365هـ / 1945م ) ، والأستاذ عبد القادر هو والد الأساتذة المعروفين من آل مبارك ، وهم الأستاذ المرحوم محمد (توفي 1402هـ / 1981م) ، والأساتذة ممدوح وعدنان وهاني ومازن –أستاذنا الجليل- ، وعبد الهادي .
والأستاذ عبد القادر المبارك عالم كبير ، ولغوي ثقة ، تلقى الكثير من المعارف اللغوية والأدبية والدينية على شيوخ عصره ، كالشيخ أمين سويد ، والشيخ بدر الدين الحسني ، والشيخ عطا الكسم ، وكان الأستاذ المبارك راوية ، حافظا لكتب الأخبار والتراجم والتاريخ ، ولم يكن شأنه ، كما يقول نجله الأستاذ- محمد- مع اللغة العربية شأن عالم يدرسها أو يعلمها ، ولكنه كان معها في حياة وجدانية نفسية ، وكانت معاجم اللغة ولا سيما (لسان العرب) لابن منظور ، بيئة يعيش في جوها ومع أصحابها .
ولذلك كانت اللغة تجري منه مجرى السليقة والطبع حتى غلبت عليه في مجالسه الخاصة ، بل بين أهله وأولاده ، والأستاذ المبارك من تلامذة الشيخ بدر الدين الحسني المعروفين ، وكان من أكثر الناس قربا وخطوة عند الشيخ الحسني ، وكثيرا ما كان الأستاذ المبارك يجلس إلى الحسني ، ويسارّه في أمور المسلمين ، وأحوالهم ، إذ كان العلم والجهاد دأبهما معا ً ، ومعروفة تلك الصلات الإنسانية والعلمية التي كانت تربط بين آل المبارك وآل الحسني ، وقد أدرك أستاذنا الدكتور مازن الشيخ الحسني ونعم ببعض تلك الصلات التي ما زال يذكرها بالشوق والودّ والوفاء .
أما الأستاذ محمد المبارك توفي عام 1981م ، فقد كان الشقيق الأكبر للدكتور مازن حفظه الله ، وهو عالم لغوي ومربّ معروف ، تسنـّم العديد من المناصب العلمية والتعليمية والحكومية ، وقد قرأ –إضافة إلى علوم الدين واللغة والتاريخ والأدب- علوم الحساب والهندسة والجبر ، على الشيخ الحسني ، ثم قصد فرنسة، وتلقى فيها العلوم الحديثة والثقافة العصرية ، وعرف الأستاذ محمد – رحمه الله- بقربه من الشيخ الحسني ووفائه له ، على نحو ما عرف به والده الأستاذ عبد القادر – رحمه الله- ، وقد عني لذلك بالتأريخ للشيخ وسيرته ، وتلمذته له في مقالين مطوليّن .
ولا شك في أنّ البيئة التي نشأ فيها الدكتور مازن كانت تستوفي مناحي الحياة ، فاجتمع له منها ما لم يجتمع لغيره إلا نادرا ، فهناك الأسرة التي وضعنا لمحات من حياة روادها الذين عرفوا بالعلم والجهاد ومنفعة الناس ، وفيها الجدّ والأب والإخوة وسائر القربة .
وهناك المجتمع الذي عرف في الشام من مطلع القرن العشرين إلى منتصفه ، وهو مجتمع ناهض ، تصدى لمهام جسام ، لم تكن تشغله عن العلم والتحصيل على اختلاف مستوياته ، بل ربّما كانت حافزا له لامتلاك عناصر القوة التي بان أن ميزانها المادي ليس في صالح الوطن ، ولذلك استبسلت أسرة المبارك في التعليم وإنشاء المدارس ، حين كان ذلك مطلوبا وواردا ، وهناك إضافة إلى ما تقدم المجمع والجامعة ، وقد أسهم الأستاذ عبد القادر في عضويته ، وعمل في لجانه ، وحاضر في ملتقياته ، وكذلك أسهم الأستاذ محمد في عضوية المجمع وبذل فيه ما كان متاحا في عصره ، أما الجامعة فقد بدأت تخطو مع المجمع مقتصرة على الحقوق والطب بداية ، على حين كانت مدارس أخرى جامعة كالمدرسة السلطانية الأولى ، مكتب عنبر والمدرسة الحربية ، ومدرسة التجهيز ، ومدرسة الأدب العليا ، تغطي مناحي العلوم والمعارف العصرية ، وقد أسهم الأستاذان عبد القادر ونجله محمد في التدريس العالي وبلا جهودا ً كبرى في التأليف ، وإعداد المناهج الوطنية الملائمة للأجيال العربية ، ولا سيّما في مجال التربية الإسلامية واللغة العربية .
ولأجل ذلك كله امتاز أستاذنا الدكتور المبارك بالثقافة الواسعة والانكباب على العلم والتعليم والتصدي للتأليف والتسلح بالوعي ، وقد جمع بين ما تلقاه من أسرته وبيئته عفوا وقصدا ، وما حصّله من تدرجه في مستويات التعليم المنظم حتى اجتمع له ما لم يجتمع لأقرانه ، وهيهات أن تجتمع لمثقفي أيامنا هذه الثقافة الدينية الخالصة في علوم القرآن والحديث والفقه ، والمعارف العامة في التاريخ والتراجم والسير ، والمعارف اللغوية في النحو والمعجم والاشتقاق والتعريب ، إضافة إلى ولع بالأدب والشعر حفظا ودراسة ممّا قلّ نظيره .
كان الدكتور مازن ابن بيئته ومجتمعه وعصره ، أما بيئته فقد كان جوّه مفعما ً بالمعاني الإسلامية والثقافة العربية ، وهما المادّتان اللتان نبغ فيهما أبوه وأخوه .
وكان بيتا ً يؤمه أصدقاءه والده وتلاميذه ليفيدوا من الشيخ المبارك ومكتبته العامرة ، وكان بيتا ً لا يخلو من مجلس من مجالس المذاكرة والعلم ، وكان ذلك كله يجري على مرأى ومسمع من الطفل ، ثم الشاب الناشئ – الدكتور مازن- كما حدثنا الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي – رحمه الله- في مذكراته .
وأما المجتمع الذي تفتح فيه أستاذنا المبارك ، فهو مجتمع العلماء والمثقفين الذين عرفهم مع أبيه ، ثم مع أخيه في المجتمع العلمي وفي مجالس العلم ، التي كانوا يقصدونها ، والتي كثيرا ما سمعنا وصف بعضها وأسماء المشاركين فيها من أستاذنا الدكتور مازن حين ينطلق لسانه في جلساته الخاصة متحدثا عن ذكرياته المبكـّرة ، فيذكر من العلماء العارفين :
الشيخ بدر الدين الحسني ، والشيخ أحمد الحارون ، والشيخ أبا الخير الميداني ، والشيخ إبراهيم الغلاييني .
ومن رجال الثقافة والأدب :
الأستاذ كرد علي ، وخليل مردم بك ، وعز الدين التنوخي ، والشيخ بهجة البيطار ، والشيخ عبد القادر المغربي .
ومن الشباب – إذ ذاك- :
علي الطنطاوي ، وأنور العطار ، وأمين المصري ، وغيرهم .
وقد أدرك أستاذنا المبارك طائفة من علماء الأمة وأدبائها في دمشق ، ثم في القاهرة ، كانت له بهم صلة عادت عليه بالأثر الطيب ، كالأستاذ شفيق جبري ، والدكتور أمجد الطرابلسي ، والأستاذ سعيد الأفغاني في دمشق ، وكالعلامة الأستاذ محمود محمد شاكر ، والدكتور شوقي ضيف ، والدكتور عبد الحليم النجار ، وغيرهم .
لقد استقى الدكتور مازن من تلك الينابيع الثرّة وأضاف إليها ما حصلـّه بنشاطه ، ومطالعاته ، وقد كان معروفا بين زملائه بولعه العجيب بالقراءة والمطالعة وبشوقه ورغبته في حضور المحاضرات والمناقشات العلمية ومجالس العلم والأدب .
الأستاذ الدكتور مازن المبارك محققا ً :
أستاذنا الجليل الدكتور مازن المبارك – مدّ الله في عمره- متعدد جوانب الثقافة والنشاط وهو فيها كلها متقنٌ صَـنـَاع ، فهو محاضر من طراز رفيع ، وكاتب بحث بارع ، ومؤلف متمرّس مجتهد ، ومحاور لبق صاحب حجة ، ونحويّ مالكٌ لآفاق اختصاصه ، لكن لم يستبدًّ به النحو ، ولم يستطع أن يحجبه عن آفاق الثقافة المترامية الأطراف ، ومعظم جهوده العلمية بل كلها قاطبة متجهة ٌ إلى خدمة العربية ، وإعلاء شأنها ، والمنافحة عنها ، وإبراز عبقريتها ، وجمالها إنتاجه متقن غير مكثر ، بعيد كلّ البعد عن الادعاء ، يصون كل ما يكتبه وينشره كما يصون منبره الجامعي أيضا ً ، عن الابتذال والفضول .
ولا أستطيع هنا أن أوفي جوانبه العلمية حقها ، لأن مجال البحث هو جهوده في التحقيق وحدها ، والتحقيق جانب هام من جوانب اهتماماته العلمية .
والتحقيق كالتأليف يتطلب أول ما يتطلب أساساً أخلاقيا ً ينطلق منه ، وإليه يستند ، فهو أمانة والأمانة ثقيلة ، إلا على أولي العزم ، وهو أخلاق ، والأخلاق صعبة ٌ ، إلا على من راضَ نفسه على ممارستها ، وكبح أهواءه عن جماحها وأخضعها لمقتضاها ... والتحقيق أو لأقلْ : إتقان التحقيق صعب وطويل سلـّمه ...
لذلك كله نرى المحققين الأثبات لا يعبؤون بكثرة الأعمال ، ولا يطنبون في تعدادها... لأن تحقيق الكتاب ، قد يستغرق من المحقق من الوقت أضعاف ما قد يستغرقه تأليف مثله ، وذلك حسب طبيعة خطه ، وتسلسل أوراقه ، ولأن المحقق قد يوقف عمله في مرحلةٍ ما ، لينتظر وصول مخطوطة علم بها ، وانتظار المخطوطات ، والسعي لها معاناة لا يدركها إلا من عاناها ، ووقع في شباكها ...
وربما كان كثيرون قد انصرفوا عن التحقيق بسبب ٍ من صعوبة الوصول ، أو الحصول على المخطوط الذي به يرغبون ، وقد أخبرنا بعض المحققين في مقدماتهم عن جوانب من تلك المعاناة ، وإن صعوبة قراءة كلمة على وجهها ، قد توقفك عن متابعة العمل أسبوعا ً ، أو أكثر ، وتؤرق عليك ليلك وأنت بها تفكـّر ... وتستنفر حدسك وحواسك لاستجلاء قراءتها ، زد على ذلك أن بعض المعاجم قد لا تسعفك في مواضع ، والمراجع قد تخذلك في مواضع ... ثم بعد ذلك كله أو قبله كله أنت لا تعمل لنفسك في التحقيق ، إنما تعمل لغيرك .. فأنت تحرر نصا ً ليس لك ، وتبذل العمر ، ومعه العيون والراحة ، في إحياء أعمال ستحيا باسم مؤلفيها الذين رحلوا من مئات السنين ، لذلك كان التحقيق واستغراق العمر فيه ، يمثل ضربا ً من الإيثار ولا سيما في هذا العصر الذي كثر فيه المغيرون على أعمال غيرهم ، وأوضحت هذه الظاهرة من صوارف بعض المجدّين عن العمل في التحقيق ، ونشير هنا فقط إلى (رسالة الغفران) للمعرّي ، وقد سلخت فيه محققته بنت الشاطئ سنواتٍ من عمرها ، وسنوات أخر في الاستدراكات والتصحيحات ، ثم رأت بعد أن نشرته وشهرته غير ما واحدٍ يتنطع بأن حققه ونشره وهو يدعي أن النص للمعري وليس لها ، وله فيه من الحق مثل مالها ، وهو إنما سرق جهدها ولياليها وعلمها ...
وإذا كان من تحصيل الحاصل أن المحقق يجب أن يكون متضلعا من فنه علميا ً ، فإنه أيضا ً يجب أن يكون متقنا ً لآليات هذا الفن وتقنياته ، لذلك رأينا المستشرق برجستراسر (توفي 1933م) ، ومن بعده المرحوم عبد السلام محمد هارون (توفي 1988م) ، يؤلفان في فن تحقيق النصوص ، إضافة إلى ما نثاه في تضاعيف كتاباته العلامة المرحوم محمود محمد شاكر (توفي 1977م) ، في أصول هذا الفن ومستلزماته ، ولعل أهمّ هذه الأمور هو المحقق نفسه ومقدار ما يتمتع به من الفهم ، والحذق في قراءة النصوص وفهمها وتحليلها .
وقبل أن أنتقل إلى الكلام على الأعمال المحققة لأستاذنا المبارك لا بدّ أن أذكر أن التحقيق قد ينتقل إلى مجال الطبع الشخصي ، ويصبح صفة راسخة ً ملازمة ، فترى المحقق محققا تجاه كل فكرة وكل خبر ، وأنا أزعم أن الدكتور المبارك قد أصبح على هذا النحو ، فقد جلس يوما ً أمام الشاشة الصغيرة يراقب ندوة وكان المتحدث يقول : (إن المؤرخين ذكروا أنه اجتمع على حرب المسلمين مشركو قريش ، ومَنْ رافقهم من الأحابيش ، وهم من الحبشة وغيرها من العبيد والزنوج .. وكان بعضهم قد جاء من القارّة ) .
وكان هذا الكلام الذي سمعه الدكتور بداية رحلة تنقيب وبحث ومراجعة للسيرة النبوية ، ومعاجم اللغة ، وكتب الأنساب وكانت النتيجة أن بيّن بالدليل الناصع أن الأحابيش إنما هي نسبة إلى جبل (حُـبْـشيّ) ، وهو جبل بأسفل مكـّة بنعمان الأراك ، يقال به سُمّيت أحابيش قريش ، وذلك أنّ بني المصطلق ، وبني الهون بن خزيمة ، اجتمعوا عنده ، وحالفوا قريشا ً وتحالفوا بالله : (إنـّا ليد ٌواحدة ٌ على غيرنا ما سجا ليل ٌ ووضح نهار ، وما رسا حُـبْشيّ في مكانه) ، فسموا أحابيش قريش باسم الجبل ، وبينه وبين مكة ستة أميال) ، وخلص الدكتور المبارك إلى أنّ الأحابيش هم بنو الهون ، وبنو الحارث من كنانة وبنو المصطلق من خزاعة ، تحبّـشوا أي تجمعوا ، وتحالفوا عند جبل حبشيّ ، فسُموا الأحابيش ) .
أما (القارّة) وقد قرأها صاحب الندوة بتشديد الراء ، فصوابُها (القارَة) ، بتخفيف الراء وفتحها ، وهي قبيلة مشهورة بالرمي ، وهم عَـضَـل والدّيش ابنا الهون بن خزيمة بن مدركة ، سُمّوا (قارة) لاجتماعهم ، والتفافهم ، لمّا أراد ابن الشـّداخ أن يفرقهم في بني كنانة وقريش ، قال شاعرهم :
دَعُونا قارة ً لا تذعرونا=فنجفلَ مثل َ إجفال الظـَّليم
وهم رماة الحدق في الجاهلية ، وهم اليوم في اليمن ، ينسبون إلى أسد ، والنسبة إليهم : قاريّ ، وهم حلفاء بني زهرة) .
ما ذكرته كان ملخصا ً لبحث موثَّق مطوَّل كتبه الدكتور المبارك محققا ً ما سمعه في ندوة تلفزيونية ، ونشره في كتابه : (مقالات في العربية) ، وقد أشرت إلى هذا البحث لأدلّل على ما ذهبت إليه من أنّ التحقيق أضحى لدى المبارك صفة راسخة ً وطبعا ً متحكما ً حتى وهو يستمع إلى ندوة أو يكتب مقالاً .. إنه ببحثه المشار إليه لم يصحح خطأ وقع فيه أحد المشاركين في ندوةٍ عَرَضاً ، بل إنه لخطأ كثيرا ً ما سمعناه يتردد على ألسنة أناس في مواضع مختلفة ، وهم يتصدّون للتعليم أو للخطابة أو الوعظ والإرشاد ... يذهب بهم لفظ الأحابيش إلى الحبشة ، وتذهب بهم الحبشة إلى اللون الأسود .. فيبنون عليه ما يبنون ويفسرون ما يفسرون .
لقد عاصر الدكتور مازن في مُقتبل حياته العلمية في جامعة دمشق جمهرة من زملاء عمله – الذين كان بعضهم أستاذاً له ، وأستاذاً لجيلنا أيضاً ؛ وأتيح له أن يتعرف على أعلام جامعة دمشق ، وكلياتها المختلفة ؛ بأسباب كثيرة منها صلاته العلميّة ، والاجتماعية ، وموقعه في قسم اللغة العربية ...
وأتيح له أيضا أن يكون – بصفتيه الشخصية والرسمية – على صلة بقضايا اللغة العربيّة في مجال التعليم ، والتربية والثقافة والإعلام ، ولم يمض وقت بعيد حتى كان الدكتور مازن اسما ً مرموقا ً :
- في الهيئة التعليمية في قسم اللغة العربية .
- وفي إطار جامعة دمشق في كل مجال له صلة باللُّغة ، والمصطلح .
- وفي وجوه العلاقات التربوية التعليمية ، والثقافية والإعلامية .
- وبرز ؛ أيضا ؛ بصفة صاحب حضور إعلامي متميز في ندوات الأدب واللغة والثقافة والحضارة ...
لا يَصْعُب على دارس شخصية الدكتور مازن المبارك ، ومتابع نشاطه الفكري ، واللغوي ، والحضاري ، أن يتبيّن ملامح تلك الشخصية في جوانبها المختلفة ، فهو بمقدار ما له من الذاتية والخصوصية والرغبة في الالتفات إلى الذات والأهل والمكتبة الخاصة والاستقلالية ، يحبّ أن يكون في زورق كبير مكشوف للسماء ، لا غطاءَ ، في مجموعة من الناس ، ويفضّل أن يكون أولئك الناس من الأصحاب ، والأصدقاء ، والجيران ، والزملاء المقربين ...
- وهو - أيضا- بمقدار ما يحبّ أن يكون مع النخبة المُختارة التي يشعر معها بالانسجام والتوافق يستطيع أن يتلاءم مع الإطار الواسع والعدد الجمّ .
- إنها القدرة : على الائتلاف مع ظروف الحياة ، والمواءمة بين المطلوب والموجود ؛ وبين المتصوَّر والممكن .
- وهو ؛ بمقدار ما في طباعه من خصوصية ذات تميّز يعرفها أقاربه كما يعرفها أصحابُه ومريدوه : قادرٌ على الانفتاح على الآخرين ، وعلى تطويع النفس ، لقَبُول الناس على اختلاف طباعهم وأمزجتهم ، لزمانٍ محدود ، ولكنه – على كل حال- زمانٌ كافٍ لكي يتطبع في نفوس الناس عنه تلك المقدرة على التفافهم ، والتعّايش ، وتسيير الأمور في ظروفها المختلفة .
على أن قارئ الشخصية يلاحظ معالمها في ثلاثة اتجاهات : المعالم الخاصة ، والمعالم الجامعية ، والمعالم العامة .
في المعالم الخاصة ، التي يعبر عنها أيضاً بالمعالم الشخصية ، هي معالم تدور حول قوام الذات ، وخصائص النفس ، ومكوّنات الوُجدان ، وفي هذا كله ما يلوّن الإنسان بلونه ، ويطبعه بطابعه ، ويعطيه – عند نفسه وعند الناس- هويته الخاصة ، وقد اشتركت عوامل كثيرة في تكوين هذه المعالم الخاصة :
- فجانب ، أو جوانب ، يشترك فيها مع أبناء جيله مع أحداث عامة ، وظروف شاملة .
- وجانب أو جوانب ، يختص بها ، وتنبع من ذاته ، ويختلط الجانبان معاً ، يكونا الصورة ، والمزية ، والهويّة ، والذاتية ، والخصوصية .
وعاصر الدكتور مازن مثل أبناء جيله ، بعض زمان الحكم الفرنسي ، وعايش في شبابه الأوّل انتصار إرادة الشعب السوري ، وأدرك نضج ثمرات الثورة السورية التي ناصبت الاستعمار الفرنسي العداء ، وكان في أكثره مجاهدةً بالسّلاح :
سقط فيها الشهداء ، وأقلقت فيه راحة المستعمر المعتدي ، الذي قطع أوصال بلاد العرب ، وفرّق ما بين أبناء الأمة الواحدة .
ومع تشرّب ذلك الجيل بالحماسة الوطنية ، والروح الوثّابة كانوا واعين لمعركة البناء : وأهمّه بناء الفكر ، والوجدان .
ومن هنا كان اختياراً قاصدا ً أعان عليه كون التراجم له من أسرة علميّة مغموسة في الحركة العلميّة – الثقافيّة وكان اختيار طريق التعليم اختياراً يحقق في النفس الذات الداخلية ، ويواصل جهود الأسرة ، ممثلة في الأب العالم ، والأخ الباحث ، الذي مدّ يديه إلى جانبي الحياة : العلمية من جهة ، والعامّة من جهة أخرى .
وقد اتضحت في معالم مازن المبارك الخاصة :
- ملامح الذكاء : ولا أبالغ ، وأنا أصف ذكاءه بالّلمّاح .
- وعوامل النجاح : يستوي في ذلك جانبا العلم والعمل .
- وغزارة النشاط : فهو شعلة من الحيوية المتدفقة .
- ودقة النظام : فمن عرفه عن قُرب عرف تلك الدقة ومحافظته على مراسمها في حلّه وترحاله ؛ وعلى امتداد سنوات الشباب والكهولة ...
والمعالم الجامعية ، فقد كان المترجم له في جامعة دمشق أحد أعضاء هيئة التدريس البارزين ، وكان ذلك في عدد من الجامعات العربية ، التي انتقل إليها أستاذاً معاراً ، أو زائراً ، أو مقيما ً .
ولقد تكونت معالم شخصيته الجامعية في كليّة الآداب بجامعة دمشق ، وفي ظلال التقاليد الجامعية الأكاديمية المعروفة في جامعتنا ، ولئن كانت السنوات التي أظلت كلية الآداب في دمشق غير مديدة ؛ منذ نشأة الكلية وابتداء نشاط قسم اللغة العربية ، لقد ورث المعلمون والدارسون معاً تقاليد أصيلة عريقة في مدينة دمشق ، في مدارسها التقليدية القديمة ، ومساجدها التي أبرزت العلماء ، والفقهاء ، والأدباء ، ومجالس علمائها ، التي وصلت مؤلفاتهم ومحاضراتهم إلى أقطار البلاد العربية والإسلامية .
لقد أسهم الدكتور مازن في حركة التعليم الجامعي في القسم والكليّة ، وأسهم في إعطاء خريجي دمشق تلك السُّمعة العلميّة في تخصص اللغة العربية ، حيثما ذهبوا ، للاستزادة من طلب العلم ، أو العمل في أقطار العرب بكفاية عالية .
وظهرت المعالم الجامعية في شخصية الدكتور المبارك في رحاب العلم في جوانب :
- التدريس الجامعي .
- والتأليف والتحقيق .
- وتغطية الندوات المتخصصّة ، والملتقيات ، والمؤتمرات .
وكثيراً ما كان يتفاجئ الحاضرين في تلك الملتقيات بكونه ممثلاً لجامعة أخرى غير جامعته الأصلية : في أثناء لحاقه ببعض الأقطار العربية في إطار التعاون الجامعي بين دمشق وغيرها .
ومثلما تميّزت معالم الشخصية الخاصة ، والمعالم الجامعية ، تميّزت أيضا معالم الشخصية العامة .
ومظاهر الشخصية العامة ، إنما تستمدّ من الدائرتين الأوليين : الذاتية والجامعية فالرجل يظهر في المجتمع ، ويقدم حيثما يكون باعتباره المعلم الجامعي المتخصص ، الذي تُطيف به هالة الأستاذ ، المحاضر ، المتكلم ، الباحث ، المحاور ، والذي يَحْمِلُ اللغة على كاهله ، ويطوف بها حيث ما ذهب لتكون في مواقعها ومكانها ...
وإذا كانت شخصية المعلم ، شخصية اعتبارية تحظى بكل تقدير في المراحل الدراسية المختلفة ، فإن شخصية الجامعي – والبلاد حديثة عهد بالجامعيين الحاصلين على المؤهلات العليا – هي شخصية مرموقة :
- للحقيقة العلمية والأكاديمية التي تمثلها من جانب ؛
- وللهالة الاجتماعية التي ترافقها من جانب آخر .
وشخصية الدكتور مازن ، الذي يعرفه أصحابُه بكنيته :
أبي زاهر ، شخصية ٌ متميزة ، ظاهرة المعالم ، وهم يحسبون حساباً لهذه الشخصية ، في جدٍّ وهزل ، وفي محاورة ومباسطة ؛ وفي أخذٍ وردّ .
ومن مزايا هذه الشخصية القدرة على الجمع بين جوانب قد تبدو للمشاهد العابر متضادة ، أو متناقضة ، وهما عند التدقيق وجهان لعملة واحدة :
- فبالقدر الذي يُجيد فيه المُتَرْجَم له المجاملة ، والمداراة ، والمحاسنة ، والمسايرة إلى أبعد الحدود ، فإنه يتمتع أيضا ، وحين يكون الموقف في حاجة ، بالصَّراحة ، وهي صراحة واضحة ، ليس فيها مواربة ، ولا يمكن أن يكون لها تفسير آخر .[/align]