عيسى السعدي
New member
بسم الله الرحمن الرحيم
أنست الأيام الفائتة بملازمة الرسائل العقدية للعلامة المحقق عبدالرحمن المعلمي ( ت 1386 ) رحمه الله، وقد بهرني نفَس التحقيق والتأصيل الذي ينفثه قلم هذا الإمام، وأسفت أن قراءتي لبحوثه العقدية تأخرت لهذا الزمان؛ رغم علمي المجمل بمنـزلته العلمية من كتابه المشهور: التنكيل، وما تضمنه القسم العقدي منه: "القائد إلى تصحيح العقائد"، إلا أني لم أتنبه من قبل للمستوى الباهر الذي يتناول به هذا المحقق دراساته العقدية؛ وظننت أن إمامته وتميزه ربما اقتصرت على الجانب الحديثي الذي اشتهر به من خلال دفاعه عن السنة النبوية المشرفة.
إن الذي يثير الإعجاب في كتابات المعلمي رحمه الله، هو ذلك المنهج الاستدلالي المتين، الذي يأخذ بلب القارئ وروحه، فيملأهما طمأنينة بأن الكلام يسير على درب الإنصاف والتجرد، والبحث عن الحقيقة المنشودة، دون تصورات مسبقةٍ يعز على المحقق ألا يؤدي إليها تحقيقُه!.
تقرأ للمعلمي تحقيقاتٍ في مسائل شائكة، تنعطف حولها المذاهب العقدية، فتتوقع مما ألِفْت من الرسائل العقدية التقليدية، أنك بصدد استقواء بقول فلان وفلان، من ذوي الألقاب المؤثرة في القراء، ربما أكثر من الأدلة نفسها! فيفْجؤك المعلمي بأنه بمعزلٍ عن هذا تماما، لا يكاد ينقل نصا لمحقق سابق، إلا على سبيل التنبيه والتوجيه، والنقد والتمحيص، أما الاستقواء، فأبعد ما يكون منه.
في بحثه العقدي يردك المعلمي مباشرة إلى الأصول، ويأخذ بيدك فيضعها مباشرة على معاقد الاستدلال، ولا يخبئ عنك أبدا واردا من الواردات، التي قد توهن الاستدلال، أو توهم ذلك، فيغوص بك في مناقشته وحله، أو التسليم بأثره في إضعاف المسألة، ولو كانت مما ظننتَه محسوما مستيقنا، فلا يُبقي في نفسك مسوغا لمكابرة أو تعصب، إلا أن تغشى ذلك وأنت تعلمه من نفسك.
وتلك لعمرو الحق مزية وأي مزية، أحسب أنها لو سرت في البحوث المعنية بخلافيات العقائد، لفتحت أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا. فكم صدّت أسماء المشاهير، وأقوال فلان وفلان، التي يحشدها كثير من المؤلفين في العقائد؛ تأيدا وركونا، ولياذا من تهمة سوء الفهم وضعف الاستدلال، كم صدت عن قبول الصواب، بله عن قراءته، بسبب الانتماءات المذهبية لهذه الأسماء، وكم عبر التقوي بها عن عدم ثقة الكاتب بأدلته وفهمه.
ومزية أخرى تجدها وأنت تقرأ للمعلمي بحثا عقديا: أنه أبعد ما يكون عن استعمال القسوة والتشنيع على المخالفين، يكتب بقلم الناصح المشفق، وكأنه يستحضر وهو يكتب أن قارئه أمضى حقبة على الخطأ الذي سيستدركه في كتابته، وأن هذا القارئ المخالف ماثل أمامه، أو جالس بجواره، يستمع إلى أدلته، ويتأمل في عبارته، أفتراه سيسفهه أو يعنفه! أم يسبه ويوبخه!؟ إنه يأخذه باللين والرفق، والحيدة العلمية العجيبة، وكأنه خالي الذهن تماما من مسألة الخلاف، سيبدأ بحثها من الصفر، فلا يلبث أن يتسلل بأسلوبه هذا إلى قلب قارئه مهما كان مخالفا له، فإن لم يقنعه حدّ من تعصبه، وهزّ قناعته المألوفة، المبنيةَ على تقليد مجرد.
وتلك المزية التي قلما تجدها في هذا النوع من المسائل والبحوث: خلافيات العقائد، ذات الحساسية المذهبية: أن يكتب الباحث بلغة تناسب مخالفة، بقلم التألّف وإحسان الظن، ومراعاة الأتباع والمحايدين، ممن لم يتبنوا رأيا بعدُ حيال المسألة، كما لو كان في مجلس جدل بالحسنى، أو حوار ومناظرة.
لا أن يكتب للموافقين؛ بقلم البراءة والتنفير، والتشويه والتعيير، فيصدق عليه المثل: أوسعتهم شتما وراحوا بالإبل.
لقد أدرك المعلمي –رحمه الله- أثر ذلك كله في فتح قلوب قرائه لآرائه، بل رأى أن هذا المسلك هو موجَب العدل والإنصاف، ونُشدان الحق بدليله دون تعصب مسبق، فاتخذه منهاجا لكتاباته جميعها، فحق له أن يكون قدوة للباحثين، وأن تكون كتاباته مدرسة للمؤلفين، ومأدبة للمختلفين، والحمد لله رب العالمين.
كتبه / د. سعود العَريفي
أستاذ العقيدة المشارك بجامعة أم القرى
الجمعة 7/1/1433
أستاذ العقيدة المشارك بجامعة أم القرى
الجمعة 7/1/1433