د. أبو عائشة
New member
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]
[align=center]العدول في التعبير القرآني[/align]
لا يمكن تفهّم اختيار المفردة القرآنية إلا من خلال دراسة العدول إليها عن غيرها لزيادةٍ فيها أو خصيصةٍ بيانية يحتاجها السياق ، ويمكن تقسيم العدول إلى :
1 - [color=0000FF]العدول لأجل تحقيق الدقة في الوصف :[/color] قال تعالى : ( قُتِلَ الخراصون ) ( الذاريات : 10 ) فلو نظرنا إلى لفظة الـ ( خراصين ) ولماذا لم تجيء بدلها لفظة ( الكذابين ) مع أن من المفسرين من يفسرها بهذه ( قيل الخرص الكذب وقوله تعالى : ) إن هم إلا يخرصون (( الزخرف : 20 ) قيل معناه يكذبون وقوله تعالى : ( قتل الخراصون ) قيل لُعن الكذابون ) (( 1 )) على أن المراد هنا الإخبار عن الكذابين فقط فـ ( حقيقة ذلك أن كل قولٍ مقولٍ عن ظنٍ وتخمين يقال : خَرصٌ سواء كان مطابقاً للشيء أو مخالفاً له من حيث أن صاحبه لم يقله عن علمٍ ولا غلبة ظنٍ ولا سماع بل اعتمد على الظن والتخمين …. ) (( 2 )) لذلك قال الزمخشري ( الخراصون الكذابون المقدرون ) (( 3 )) ،وكذلك في قوله تعالى : ( قل هو الله أحد ) ( الإخلاص : 1 ) فقد عُدل عن ( واحد ) إلى ( أحد ) لـ ( أن الشيء قد يكون واحداً ولكنك إذا نظرت إلى تركيبه وجدته مركباً من أشياء فكلمة ( أحد ) تنفي ذلك التركيب ... ) فـ ( قد يكون الشيء في ذاته واحداً لا يوجد فردٌ ثانٍ مثله إنما لم يُنفَ عنه أنه هو في ذاته مركب ... ) (( 4 )).
2 - [color=0000FF]العدول مراعاة للأصل اللغوي :[/color] قال تعالى : ( إن الإنسان لربه لكنود ) ( العاديات : 6 ) الكنود الرجل ( الذي يأكل وحده ويمنع رفده ويجيع عبده ) (( 5 )) وقيل العاصي وقيل البخيل (( 6 )).
وقد أرجعت بنت الشاطي هذه المعاني إلى الأصل اللغوي : الأرض الكنود التي تعصي على الزارع فلا تنبت فهي عاصية وبخيلة .... (( 7 )) فالأصل في هذه المفردة الأرض التي لا تنبت شيئاً ، ( والمرأة الكنود التي تبخل بمودتها وهو نوع من التطور الدلالي ) (( 8 )) وبهذا العدول اكتسب السياق بُعداً إيجابياً من اصل المفردة اللغوي وكأن الكافر تحوّل إلى قطعةٍ صخرية من الأرض لا جدوى من زرعها لأنها لن تنبت شيئاً فهي كالمرأة التي رجاء في مودتها .
3 - [color=0000FF]العدول عن مطلب السياق القياسي لغاية تعبيرية :[/color] قال تعالى : ( هم العدو فآحذرهم ) ( المنافقون : 5 ) فجيء بلفظ ( العدو ) بدلاً من ( الأعداء ) مع أنها جاءت كذلك في سياقٍ آخر قال تعالى : ( إن يثقوفوكم يكونوا لكم أعداء .. ) ( الممتحنة : 2 ) فكان القياس في الأولى أن تأتي لفظة ( الأعداء ) لكن عُدِلَ عنها إلى لفظ ( العدو ) الذي يعني الأعداء (( 9 )) بالتأكيد ، فما الغاية من هذا العدول ؟ وهو ليس صوتياً لأن التعبير بالأعداء سيكون جميل الإيقاع أيضاً إذ سيكون على وزن ( مفاعيلن مفاعيلن ) وهذا وزن شعري جميل ( بحر الهزج ) .
فإذا لم يكن العامل الصوتي الأساس في هذا العدول فلا بد أن يكون للدلالة دورها في هذا السياق ، فلو قيل ( الأعداء ) لكان في هذا تكثير لشأنهم وأمرهم ، ولما كان السياق هنا يجردهم من كل صفات القوة والتأثير والنفع بدليل قوله تعالى قبل هذا : ( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم .... كأنهم خُشُبٌ مسنّدة يحسبون كلَّ صيحةٍ عليهم هم العدو فاحذرهم ... ) ( المنافقون : 4 ) فأخرجهم من الكثرة إلى القلة وكأنه يغري بهم ، كما في قوله تعالى : ( إذ يريكَهمُ الله في منامِكَ قليلاً ويقللكم في أعينهم ليقضيَ أمراً كان مفعولاً ) ( الأنفال : 43 ، 44 ) وكذلك فأنَّ استخدام ( العدو ) يدلل على اتفاق كلمتهم على العداوة ، لذلك جاء وصفهم بـ ( الأعداء ) عندما كان السياق موجهاً لتحذير المسلمين منهم ( إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء … ) ، ومن ذلك قوله تعالى : ( لا يُقاتلونكم جميعاً إلا في قُرىً محصنة أو من وراء جُدُر )( الحشر : 14 ) إذ اختيرت لفظة ( جُدُر ) جمع ( جدار ) دون ( جدران ) ، لتدل على أقصى الكثرة مع أن ( جدران ) هي الأكثر في الاستخدام ، إلا أنها أي صيغة ( فعلان ) استعملت في القرآن للقلة النسبية دائماً (( 10 )) في حين كان السياق يصور خواءهم وشدة خوفهم وحرصهم على الحياة ، فما كانـت زِنَة ( جدران ) لتناسب سياق الخوف والجبن ، من أجل ذاك عُدل إلى ( جُدر ) جمع جدار ، هذه الزِنة التي قال عنها سيبويه ( أما ما كان ( فِعالاً ) … فإذا أردت أكثر العدد بنيته على ( فُعُل ) وذلك : حِمارٌ و حُمُر وخِمارٌ وخُمُر وإزارٌ وأُزُر … )(( 11 )) فأريد بهذا تصوير خوفهم وشدته ، وكأنهم لهذا الخوف على حياتهم لا يقاتلونكم حتى يضعوا أكبر عددٍ ممكنٍ من الجدران ليقاتلوكم من خلفها ، وهذا مصداق قوله تعالى : ( ولتجدنهم أحرص الناسِ على حياةٍ ) ( البقرة : 96 ) أي أية حياة مهما كانت تافهة ، للتنكير في حياة وكلا الآيتين عن اليهود .
4 - [color=0000FF]العدول عن مفردةٍ لأخرى لعدم الملاءمة :[/color] فقد يُعدَل عن لفظةٍ إلى أخرى مع أن السياق يتطلب الأولى إلا أنها تترك ، ويؤتى بأخرى لعدم صلاحيتها لا من حيث تطلب السياق لها ، ولكن من حيث المؤدى الأدبي لها قال تعالى ) ليجزيَ الذين أساءوا بما عملوا ويجزيَ الذين أحسنوا بالحُسنى ( ( النجم : 31 ) مع ( أن صحة المقابلة في هذا النظم أن يقال : ليجزيَ الذين أساءوا بالإساءة حتى تصح مقابلته بقوله ( ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) لكن منع ذلك التزام الأدب مع الله - سبحانه - في إسناد فعل الإساءة إليه فَعُدِلَ عن لفظة الإساءة الخاص إلى لفظٍ عامٍ يدخل فيه ذلك الخاص فيحصل المعنى المراد .. ) (( 12 )) ومن هذا الباب قوله تعالى : ) يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل ( ( المنافقون : 8 ) فقد كان السياق يتطلب التعيين أي ذكر الخارج والمُخرج ولكن عُدل عن هذا ، وعُدِلَ أيضاً عن ( العزيز ، والذليل ) إلى ما جاءت الآية به ، وما ذلك إلا لعدم ملائمة هذه الألفاظ لأنها ستنسب الذلة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فجيء بـ ( الأعز والأذل ) ، وهذا ما يُعرف عند البلاغيين بالقول بالموجب فموجب هذا القول – كما يقول ابن أبي الاصبع – إخراج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) المنافقين منها لأنه الأعزُّ وهم الأذلون وقد كان ذلك ، والدليل على ذلك تعقيب الله سبحانه في نفس الآية بقوله : ) ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ( (( 13 )) والدليل على هذا القراءتان التي جاءت الآية عليهما وهما : ( لنخرجنَّ الأعزَّ منها الأذلَّ ) أي : لنخرجنّ الأعزَّ إخراج الذليل (( 14 )) فالأعز مفعول والأذل حال (( 15 )) ، و ( لَيُخْرَجنَّ الأعزَّ منها الأذلَّ ) كأنك قلت : ليخرجـــن العزيز منها ذليلاً ) (( 16 )) ، وعن الحسن أنه قال ( ليس بتيهٍ ولكنه عزَة وتلا هذه الآية .. ) (( 17 )) ، هذا كله دون أن يؤتى بلفظة تُسيء إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على الرغم من أنها حكاية قول .
وقد يعدل التعبير القرآني عن مفردةٍ لأخرى مع أن السياق يقتضي الأولى لأنها أدقُّ في الوصف غير أن الثانية أبلغ في التعبير كما في لفظتي ( زوج وامرأة ) قال تعالى ... أمرأة نوحٍ وامرأة لوطٍ كانتا تحت عبدين من عبادنا ... ) ( التحريم : 10 ) وقوله تعالى : ( امرأة فرعون ( ( التحريم : 11 ) فهي زوجه لكن عَدَلَ عن هذا اللفظ إلى امرأة ، فكلمة ( زوج ) تأتي - كما تقول بنت الشاطيء - حيث تكون الزوجة هي مناط الموقف حِكمةً وآية أو تشريعاً وحكماً ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمة ( ( الروم : 21 ) فإذا تعطلت آيتها من السكن والمودة والرحمة بخيانة أو تباين في العقيدة فامرأة لا زوج (( 18 )) فقد ألغيت صفة الزوجية هنا كما ألغيت في وصف المرأة ذات العقم ، لأنها ستكون معطلة عن هدف الزوجية وهو الإنجاب وهذه الملاحظة جديرة بالاهتمام وإن كانت غير مطردة في الاستخدام القرآني لتحقيق غايات تعبيرية أخرى غير هذه كما في قوله تعالى : ) إنّ من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم ( ( التغابن : 14 ) ، وهذا يُعيّن أن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم ... وهم من الكفار فاحذروهم فظهر أن هذه العداوة إنما للكفر .... ولا تكون بين المؤمنين فأزواجهم وأولادهم المؤمنون لا يكونون عدواً لهم ) (( 19 )) فقد تعني هنا استخدام لفظ ( أزواجكم ) بدلاً من ( نسائكم ) لأن القصد هنا الإخبار عن قرب العلاقة وشدة الوشيجة الرابطة كالتي تكون بين المرء وزوجه وابنه ، والدليل على هذا ذِكرُ لفظ ( أولادكم ) في حين نُزعت البنوة في قوله تعالى : ) قال ربِ إن ابني من أهلي .... قال إنه ليس من أهلك إنه عملٌ غير صالح ... (( هود : 46 ) .
[color=0000FF]الترادف :[/color] يقول العسكري : محالٌ أن يختلف اللفظان والمعنى واحد - في لفظة واحدة كما ظن كثيرٌ من النحويين واللغويين ، وإنما سمعوا العرب تتكلم بذلك على طباعها وما في نفوسها من معانيها المختلفة وعلى ما جرت به عادتها وتعارفها ولم يعرف السامعون تلك العلل والفروق وظنوا الذي ظنوه وتأولوا عليهم ما لا يجوز في الحكم (( 20 )) ، ومن هنا انطلقت السيدة بنت الشاطيء فإنها لا تشغل بالترادف إلا حين يقال بتعدد الألفاظ للمعنى الواحد دون أن يرجع هذا الترادف إلى تعدد اللغات ودون أن يكون بين الألفاظ المقول بترادفها قرابة صوتية (( 21 )) ، فقد تكون اللفظتان اسمين لمسمى واحد فيقال بترادفهما غير أنهما يتباينان بالصفات ، كما في ( الإنسان والبشر ) فإن الأول موضوع له باعتبار النسيان أو باعتبار أنه يؤنس والثاني باعتبار أنه بادي البشرة (( 22 )) ، وإذا كان هناك اختلاف كبير بين اللغويين والبيانيين حول الترادف نفياً وإثباتاً في اللغة فلا يجب أن يسحب هذا الخلاف إلى القرآن فالنص القرآني كان يستخدم المفردة استخداماً خاصاً متجاوزاً المعجمية مضيفاً إليها دلالةً جديدة من خلال الاستخدام الخاص ، فكل لفظة ( نعمة ) مثلاً إنما هي لنعم الدنيا في القرآن على اختلاف أنواعها يطرد ذلك ولا يتخلف في مواضع استعمالها مفرداً وجمعاً أما صيغة النعيم فقد استخدمت بدلالة إسلامية خاصة بنعيم الآخرة يطرد هذا أيضاً في القرآن ولا يتخلف في كل آيات النعيم (( 23 )) لذلك ذهب بعض الباحثين إلى أنه مهما أمكن إبعاد فكرة الترادف عن الكلمات القرآنية فهو الأحق بأن يكون هو المنهج لدى تدبر القرآن ، وهو الأقرب إلى الفهم الصحيح ولو كانت الكلمات داخلة في معنى كليَ واحد إلا أنه معنى عام وهو صالح لنِسب متفاوتة (( 24 )).
إذ يكمن في كل كلمة معنيان معنى مطابق ومعنى موحٍ ، فالمعنى المطابق هو ذاك المسجل في المعاجم وإن معنى المطابقة يجعل الكلمة عاجزة عن أداء الوظيفة التي تسندها إليها الجملة ولكن المعنى الإيحائي يحتلَ مكان ( معنى المطابقة ) المعطل (( 25 )) ؛ لذلك نجد ( المسدي ) يعرف الأسلوب بأنه مجموع الطاقات الإيحائية في الخطاب الأدبي ، من غير ما تفرقةٍ ما بين البنية والأسلوب (( 26 )) والقول بالترادف يُلغي الطاقات التعبيرية التي تمتلكها المفردة المختارة المعدول إليها عما يُسمى مرادفتها فلا مزية للاختيار عندئذٍ غير التفنن في أسلوب التعبير ، وهو ما لا وجود له في القرآن للاستخدام القرآني الدقيق للمفردات ولأن القول بالترادف سيعني إلغاء هذا الإيحاء النابع من :
1 - [color=0000CC]الجذر المعجمي :[/color] كما في إشارة السيوطي إلى الفرق بين ( الخوف والخشية ) التي لا يكاد اللغوي يفرّق بينهما - كما يقول ذاكراً : أن الخشية أعلى من الخوف فهي مأخوذة من قولهم شجرة خشية أي يابسة ، وهو فوات بالكلية ، أما الخوف فهو من ناقة خوفا (( 27 )) أي بها داء وهو نقص وليس بفوات ولذلك خُصت الخشية بالله في قوله تعالى : ( يخشون ربهم ويخافون سوءَ الحساب ... )(( 28 )) وفُرِّقَ بين اللفظتين أيضاً بأن الخشية قد تكون من قوي لأنها من عظمةِ المختشى ، أما الخوف فإنه من ضعف الخائف وإن كان المخوف أمراً يسيراً ، ويدلُّ على ذلك أن الخاء والشين والياء تدل في تقاليبها على العظمة نحو شيخ للسيد الكبير وخيش لما غلظ من اللباس ...(( 29 )) .
2 - [color=0000CC]الجرس الصوتي :[/color] وقد تقدم الكلام عن ( نضح ) و ( نضخ ) وقد فُرِّقَ بين اللفظتين لا تتغير فيهما إلا الحركة كما هو بين ( ذِلّ ، وذُلّ ) (( 30 )) ، وفرق ( أحمد مختار عمر ) بين ( أزّ وهزّ ) (( 31 )) ، وقد تقدم الكثير من هذا ... ولا أدعي أن كل ما يقال في الفرق ما بين المفردتين بالحركة أو الحرف صحيح .. ولكن إذا كان هناك فرقٌ كبيرٌ بين المفردتين المختلفتين في حركة أو صوت واحد فكيف يكون الأمر في التي تختلف عن مرادفتها بجميع أصواتها والعجيب أن ابن جني وهو أكثر من دافع عن فكرة تعلق المعنى بأصوات المفردة يقول بالترادف في اللغة (( 32 )) .
3 - [color=0000FF]المناسبة في الإضافة والوصف :[/color] فإذا كان ( مكر ) مرادفٌ لـ (احتال) فكيف يكون قوله تعالى : ) ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ( ( آل عمران : 54 ) وغيرها كثير ، من هنا يمكننا أن نفهم تأكيد اللغويين على وجود الترادف وإنكار البيانيين له لأن اللغويين ينظرون إلى المفردة ومعناها من غير كبير معالجة لها في سياقها كما يفعل البيانيون .
4 - [color=0000FF]يلغي التمايز في البنية :[/color] فصيغة ( فعول ) مثلاً تدلّ على المبالغة مثلما تدلٌّ عليها صيغة (فعّال) مثل صبور ، وصبّار ، فمن لا يتحقق المعاني يظن أن ذلك كله يفيد المبالغة فقط وليس الأمر كذلك بل هي مع إفادتها المبالغة تفيد أن الرجل إذا كان قوياً على الفعل قيل ( فعول ) مثل صبور وشكور ، وإذا فعل الفعل وقتاً بعد وقت قيل فعّال مثل علاّم وصبّار وإذا كان ذلك عادة له قيل مِفعال مثل مِعوان ومِعطاء (( 33 )) .
5 - [color=0000FF]الاستخدام الخاص :[/color] وقد تقدم كثيراً ، ومن ذلك ( المطر ) و ( الغيث ) فـ ( لقد فرقت لغة التنزيل بين المطر والغيث فكان المطر عذاباً وشراً ونذراً بالويل والثبور وكان الغيث رحمةً وخيراً ونعماً ) (( 34 )) ومن ذلك ( أشتات ، وشتى ) فمعنى الاختلاف المقابل للإتلاف هو ما يعطيه سياق شتى على حين يؤذن السياق بمعنى التفرق المقابل للتجمع في صيغة أشتات (( 35 )) .
6 - [color=0000FF]الترادف يُلغي الثنائية الضدية :[/color] إن القرآن الكريم كثيراً ما استخدم التقابل ما بين مفردتين تشكلان ثنائية ضدية كما في ( الليل والنهار ) كقوله تعالى : ) والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلّى )( الليل : 2 )(( 36 )) ... فهل ستبقى الدلالة التقابلية كما هي هنا لو استبدلنا مفردة ( الليل ) بـ ( الظلام ) مثلاً أو استبدلنا مفردة ( النهار ) بـ ( الصبح ) مثلاً ، إن هذا الاختلاف في دلالة السياق يحتم علينا رفض فكرة الاستبدال وبالتالي القول بالترادف ضمن السياق الواحد . فـ ( معرفة الإشارة لا تتم من خلال خصائصها الأساسية وإنما يتم ذلك من خلال تمايزها باختلافها عن سواها من الإشارات فكلمة ضلالة صارت ذات معنى ليس لشيء في ذاتها ولكن لوجود الهداية ، فبضدها تتميَّز الأشياء ولولا السواد ما عرفنا البياض ) (( 37 )) فالترادف سيشكل رفضاً للعلاقة الضدية ضمن علاقة التقابل الدلالي والتي تشكل جانباً مهماً في الاستخدام القرآني لم يستخدم على المستوى اللفظي فقط ، وإنما على مستوى التقابل العددي أيضاً .
وبهذا نستطيع أن نتقبل منهج بنت الشاطيء على الرغم من أنها اعترفت بقصورها عن لمح فروق الدلالة لبعض ألفاظٍ قرآنية تبدو مترادفة لتقول ( فليس لي إلا أن أقر بالعجز والجهل وأنا أتمثل بكلمة ابن الأعرابي ) (( 38 )) وكلمة ابن الأعرابي التي ذكرتها السيدة هي : إنّ ( كل حرفين أوقعتهما العرب على معنى واحد في كل منهما معنى ليس في صاحبه ربما عرفناه فأخبرنا به وربما غمض علينا فلم نُلزم العرب جهله ).
[color=336633]* الحواشي :[/color]
1) - المفردات 209 .
2) المفردات 209 .
3) الكشاف 4 / 15 ، وينظر : تفسير غريب القرآن 421 .
4) المختار 3 / 171 – 172 .
5) معجم غريب القرآن 278 .
6) ينظر : الكشاف 4 / 278 .
7) ينظر : الإعجاز البياني 376 ، والمفردات 664 .
8) دراسات قرآنية 32 .
9) ينظر : دقائق التصريف 81 .
10)ينظر : معاني الأبنية 158 .
11) الكتاب 3 / 601 .
12) بديع القرآن 162 .
13) بديع القرآن 315 .
14) ينظر : الكشاف 4 / 111 ، والبحر 8 / 274 ، ومعاني القرآن 3 / 160 .
15) ينظر : البحر 8 / 274 .
16) معاني القرآن 3 / 160 ، والبحر 8 / 274 .
17) ينظر : الكشاف 4 / 111 .
18) ينظر : الإعجاز البياني ومسائل ابن الأزرق 212 – 213 ، والصورة الفنية 249 .
19) تفسير الرازي 30 / 27 .
20) الفروق 12 .
21) ينظر : الإعجاز البياني 194 .
22) ينظر : تصحيح الفصيح 2 / 333 ، والصاحبي 96 – 97 ، والمزهر 1 / 403 ، والترادف في اللغة 198 – 200 .
23) ينظر : الإعجاز البياني 218 – 219 ، والمعجم المفهرس 707 – 708 .
24) ينظر : قواعد التدبر الأمثل 117 .
25) بنية اللغة الشعرية 201 – 202 .
26) الأسلوب والأسلوبية 90 ، 95 .
27) في البرهان ( خوفاء ) 4 / 78 .
2 ينظر الإتقان 1 / 332 – 333 ، والبرهان 4 / 78 – 79 .
29) ينظر الإتقان 1 / 332 – 333 ، والبرهان 4 / 78 – 79 .
30) الفروق 15 .
31) علم الدلالة 220 .
32) ينظر : الخصائص 2 / 113 – 133 .
33) ينظر : الفروق 15 ، والإعجاز البياني 215 .
34) من وحي القرآن 127 .
35) ينظر : الإعجاز البياني 216 .
36) ينظر : المعجم المفهرس 721 .
37) الخطيئة والتكفير 29 – 30 .
3 الإعجاز البياني 220 .
39) الفروق 65 ، والإعجاز البياني 220 .
[align=center]العدول في التعبير القرآني[/align]
لا يمكن تفهّم اختيار المفردة القرآنية إلا من خلال دراسة العدول إليها عن غيرها لزيادةٍ فيها أو خصيصةٍ بيانية يحتاجها السياق ، ويمكن تقسيم العدول إلى :
1 - [color=0000FF]العدول لأجل تحقيق الدقة في الوصف :[/color] قال تعالى : ( قُتِلَ الخراصون ) ( الذاريات : 10 ) فلو نظرنا إلى لفظة الـ ( خراصين ) ولماذا لم تجيء بدلها لفظة ( الكذابين ) مع أن من المفسرين من يفسرها بهذه ( قيل الخرص الكذب وقوله تعالى : ) إن هم إلا يخرصون (( الزخرف : 20 ) قيل معناه يكذبون وقوله تعالى : ( قتل الخراصون ) قيل لُعن الكذابون ) (( 1 )) على أن المراد هنا الإخبار عن الكذابين فقط فـ ( حقيقة ذلك أن كل قولٍ مقولٍ عن ظنٍ وتخمين يقال : خَرصٌ سواء كان مطابقاً للشيء أو مخالفاً له من حيث أن صاحبه لم يقله عن علمٍ ولا غلبة ظنٍ ولا سماع بل اعتمد على الظن والتخمين …. ) (( 2 )) لذلك قال الزمخشري ( الخراصون الكذابون المقدرون ) (( 3 )) ،وكذلك في قوله تعالى : ( قل هو الله أحد ) ( الإخلاص : 1 ) فقد عُدل عن ( واحد ) إلى ( أحد ) لـ ( أن الشيء قد يكون واحداً ولكنك إذا نظرت إلى تركيبه وجدته مركباً من أشياء فكلمة ( أحد ) تنفي ذلك التركيب ... ) فـ ( قد يكون الشيء في ذاته واحداً لا يوجد فردٌ ثانٍ مثله إنما لم يُنفَ عنه أنه هو في ذاته مركب ... ) (( 4 )).
2 - [color=0000FF]العدول مراعاة للأصل اللغوي :[/color] قال تعالى : ( إن الإنسان لربه لكنود ) ( العاديات : 6 ) الكنود الرجل ( الذي يأكل وحده ويمنع رفده ويجيع عبده ) (( 5 )) وقيل العاصي وقيل البخيل (( 6 )).
وقد أرجعت بنت الشاطي هذه المعاني إلى الأصل اللغوي : الأرض الكنود التي تعصي على الزارع فلا تنبت فهي عاصية وبخيلة .... (( 7 )) فالأصل في هذه المفردة الأرض التي لا تنبت شيئاً ، ( والمرأة الكنود التي تبخل بمودتها وهو نوع من التطور الدلالي ) (( 8 )) وبهذا العدول اكتسب السياق بُعداً إيجابياً من اصل المفردة اللغوي وكأن الكافر تحوّل إلى قطعةٍ صخرية من الأرض لا جدوى من زرعها لأنها لن تنبت شيئاً فهي كالمرأة التي رجاء في مودتها .
3 - [color=0000FF]العدول عن مطلب السياق القياسي لغاية تعبيرية :[/color] قال تعالى : ( هم العدو فآحذرهم ) ( المنافقون : 5 ) فجيء بلفظ ( العدو ) بدلاً من ( الأعداء ) مع أنها جاءت كذلك في سياقٍ آخر قال تعالى : ( إن يثقوفوكم يكونوا لكم أعداء .. ) ( الممتحنة : 2 ) فكان القياس في الأولى أن تأتي لفظة ( الأعداء ) لكن عُدِلَ عنها إلى لفظ ( العدو ) الذي يعني الأعداء (( 9 )) بالتأكيد ، فما الغاية من هذا العدول ؟ وهو ليس صوتياً لأن التعبير بالأعداء سيكون جميل الإيقاع أيضاً إذ سيكون على وزن ( مفاعيلن مفاعيلن ) وهذا وزن شعري جميل ( بحر الهزج ) .
فإذا لم يكن العامل الصوتي الأساس في هذا العدول فلا بد أن يكون للدلالة دورها في هذا السياق ، فلو قيل ( الأعداء ) لكان في هذا تكثير لشأنهم وأمرهم ، ولما كان السياق هنا يجردهم من كل صفات القوة والتأثير والنفع بدليل قوله تعالى قبل هذا : ( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم .... كأنهم خُشُبٌ مسنّدة يحسبون كلَّ صيحةٍ عليهم هم العدو فاحذرهم ... ) ( المنافقون : 4 ) فأخرجهم من الكثرة إلى القلة وكأنه يغري بهم ، كما في قوله تعالى : ( إذ يريكَهمُ الله في منامِكَ قليلاً ويقللكم في أعينهم ليقضيَ أمراً كان مفعولاً ) ( الأنفال : 43 ، 44 ) وكذلك فأنَّ استخدام ( العدو ) يدلل على اتفاق كلمتهم على العداوة ، لذلك جاء وصفهم بـ ( الأعداء ) عندما كان السياق موجهاً لتحذير المسلمين منهم ( إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء … ) ، ومن ذلك قوله تعالى : ( لا يُقاتلونكم جميعاً إلا في قُرىً محصنة أو من وراء جُدُر )( الحشر : 14 ) إذ اختيرت لفظة ( جُدُر ) جمع ( جدار ) دون ( جدران ) ، لتدل على أقصى الكثرة مع أن ( جدران ) هي الأكثر في الاستخدام ، إلا أنها أي صيغة ( فعلان ) استعملت في القرآن للقلة النسبية دائماً (( 10 )) في حين كان السياق يصور خواءهم وشدة خوفهم وحرصهم على الحياة ، فما كانـت زِنَة ( جدران ) لتناسب سياق الخوف والجبن ، من أجل ذاك عُدل إلى ( جُدر ) جمع جدار ، هذه الزِنة التي قال عنها سيبويه ( أما ما كان ( فِعالاً ) … فإذا أردت أكثر العدد بنيته على ( فُعُل ) وذلك : حِمارٌ و حُمُر وخِمارٌ وخُمُر وإزارٌ وأُزُر … )(( 11 )) فأريد بهذا تصوير خوفهم وشدته ، وكأنهم لهذا الخوف على حياتهم لا يقاتلونكم حتى يضعوا أكبر عددٍ ممكنٍ من الجدران ليقاتلوكم من خلفها ، وهذا مصداق قوله تعالى : ( ولتجدنهم أحرص الناسِ على حياةٍ ) ( البقرة : 96 ) أي أية حياة مهما كانت تافهة ، للتنكير في حياة وكلا الآيتين عن اليهود .
4 - [color=0000FF]العدول عن مفردةٍ لأخرى لعدم الملاءمة :[/color] فقد يُعدَل عن لفظةٍ إلى أخرى مع أن السياق يتطلب الأولى إلا أنها تترك ، ويؤتى بأخرى لعدم صلاحيتها لا من حيث تطلب السياق لها ، ولكن من حيث المؤدى الأدبي لها قال تعالى ) ليجزيَ الذين أساءوا بما عملوا ويجزيَ الذين أحسنوا بالحُسنى ( ( النجم : 31 ) مع ( أن صحة المقابلة في هذا النظم أن يقال : ليجزيَ الذين أساءوا بالإساءة حتى تصح مقابلته بقوله ( ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) لكن منع ذلك التزام الأدب مع الله - سبحانه - في إسناد فعل الإساءة إليه فَعُدِلَ عن لفظة الإساءة الخاص إلى لفظٍ عامٍ يدخل فيه ذلك الخاص فيحصل المعنى المراد .. ) (( 12 )) ومن هذا الباب قوله تعالى : ) يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل ( ( المنافقون : 8 ) فقد كان السياق يتطلب التعيين أي ذكر الخارج والمُخرج ولكن عُدل عن هذا ، وعُدِلَ أيضاً عن ( العزيز ، والذليل ) إلى ما جاءت الآية به ، وما ذلك إلا لعدم ملائمة هذه الألفاظ لأنها ستنسب الذلة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فجيء بـ ( الأعز والأذل ) ، وهذا ما يُعرف عند البلاغيين بالقول بالموجب فموجب هذا القول – كما يقول ابن أبي الاصبع – إخراج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) المنافقين منها لأنه الأعزُّ وهم الأذلون وقد كان ذلك ، والدليل على ذلك تعقيب الله سبحانه في نفس الآية بقوله : ) ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ( (( 13 )) والدليل على هذا القراءتان التي جاءت الآية عليهما وهما : ( لنخرجنَّ الأعزَّ منها الأذلَّ ) أي : لنخرجنّ الأعزَّ إخراج الذليل (( 14 )) فالأعز مفعول والأذل حال (( 15 )) ، و ( لَيُخْرَجنَّ الأعزَّ منها الأذلَّ ) كأنك قلت : ليخرجـــن العزيز منها ذليلاً ) (( 16 )) ، وعن الحسن أنه قال ( ليس بتيهٍ ولكنه عزَة وتلا هذه الآية .. ) (( 17 )) ، هذا كله دون أن يؤتى بلفظة تُسيء إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على الرغم من أنها حكاية قول .
وقد يعدل التعبير القرآني عن مفردةٍ لأخرى مع أن السياق يقتضي الأولى لأنها أدقُّ في الوصف غير أن الثانية أبلغ في التعبير كما في لفظتي ( زوج وامرأة ) قال تعالى ... أمرأة نوحٍ وامرأة لوطٍ كانتا تحت عبدين من عبادنا ... ) ( التحريم : 10 ) وقوله تعالى : ( امرأة فرعون ( ( التحريم : 11 ) فهي زوجه لكن عَدَلَ عن هذا اللفظ إلى امرأة ، فكلمة ( زوج ) تأتي - كما تقول بنت الشاطيء - حيث تكون الزوجة هي مناط الموقف حِكمةً وآية أو تشريعاً وحكماً ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمة ( ( الروم : 21 ) فإذا تعطلت آيتها من السكن والمودة والرحمة بخيانة أو تباين في العقيدة فامرأة لا زوج (( 18 )) فقد ألغيت صفة الزوجية هنا كما ألغيت في وصف المرأة ذات العقم ، لأنها ستكون معطلة عن هدف الزوجية وهو الإنجاب وهذه الملاحظة جديرة بالاهتمام وإن كانت غير مطردة في الاستخدام القرآني لتحقيق غايات تعبيرية أخرى غير هذه كما في قوله تعالى : ) إنّ من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم ( ( التغابن : 14 ) ، وهذا يُعيّن أن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم ... وهم من الكفار فاحذروهم فظهر أن هذه العداوة إنما للكفر .... ولا تكون بين المؤمنين فأزواجهم وأولادهم المؤمنون لا يكونون عدواً لهم ) (( 19 )) فقد تعني هنا استخدام لفظ ( أزواجكم ) بدلاً من ( نسائكم ) لأن القصد هنا الإخبار عن قرب العلاقة وشدة الوشيجة الرابطة كالتي تكون بين المرء وزوجه وابنه ، والدليل على هذا ذِكرُ لفظ ( أولادكم ) في حين نُزعت البنوة في قوله تعالى : ) قال ربِ إن ابني من أهلي .... قال إنه ليس من أهلك إنه عملٌ غير صالح ... (( هود : 46 ) .
[color=0000FF]الترادف :[/color] يقول العسكري : محالٌ أن يختلف اللفظان والمعنى واحد - في لفظة واحدة كما ظن كثيرٌ من النحويين واللغويين ، وإنما سمعوا العرب تتكلم بذلك على طباعها وما في نفوسها من معانيها المختلفة وعلى ما جرت به عادتها وتعارفها ولم يعرف السامعون تلك العلل والفروق وظنوا الذي ظنوه وتأولوا عليهم ما لا يجوز في الحكم (( 20 )) ، ومن هنا انطلقت السيدة بنت الشاطيء فإنها لا تشغل بالترادف إلا حين يقال بتعدد الألفاظ للمعنى الواحد دون أن يرجع هذا الترادف إلى تعدد اللغات ودون أن يكون بين الألفاظ المقول بترادفها قرابة صوتية (( 21 )) ، فقد تكون اللفظتان اسمين لمسمى واحد فيقال بترادفهما غير أنهما يتباينان بالصفات ، كما في ( الإنسان والبشر ) فإن الأول موضوع له باعتبار النسيان أو باعتبار أنه يؤنس والثاني باعتبار أنه بادي البشرة (( 22 )) ، وإذا كان هناك اختلاف كبير بين اللغويين والبيانيين حول الترادف نفياً وإثباتاً في اللغة فلا يجب أن يسحب هذا الخلاف إلى القرآن فالنص القرآني كان يستخدم المفردة استخداماً خاصاً متجاوزاً المعجمية مضيفاً إليها دلالةً جديدة من خلال الاستخدام الخاص ، فكل لفظة ( نعمة ) مثلاً إنما هي لنعم الدنيا في القرآن على اختلاف أنواعها يطرد ذلك ولا يتخلف في مواضع استعمالها مفرداً وجمعاً أما صيغة النعيم فقد استخدمت بدلالة إسلامية خاصة بنعيم الآخرة يطرد هذا أيضاً في القرآن ولا يتخلف في كل آيات النعيم (( 23 )) لذلك ذهب بعض الباحثين إلى أنه مهما أمكن إبعاد فكرة الترادف عن الكلمات القرآنية فهو الأحق بأن يكون هو المنهج لدى تدبر القرآن ، وهو الأقرب إلى الفهم الصحيح ولو كانت الكلمات داخلة في معنى كليَ واحد إلا أنه معنى عام وهو صالح لنِسب متفاوتة (( 24 )).
إذ يكمن في كل كلمة معنيان معنى مطابق ومعنى موحٍ ، فالمعنى المطابق هو ذاك المسجل في المعاجم وإن معنى المطابقة يجعل الكلمة عاجزة عن أداء الوظيفة التي تسندها إليها الجملة ولكن المعنى الإيحائي يحتلَ مكان ( معنى المطابقة ) المعطل (( 25 )) ؛ لذلك نجد ( المسدي ) يعرف الأسلوب بأنه مجموع الطاقات الإيحائية في الخطاب الأدبي ، من غير ما تفرقةٍ ما بين البنية والأسلوب (( 26 )) والقول بالترادف يُلغي الطاقات التعبيرية التي تمتلكها المفردة المختارة المعدول إليها عما يُسمى مرادفتها فلا مزية للاختيار عندئذٍ غير التفنن في أسلوب التعبير ، وهو ما لا وجود له في القرآن للاستخدام القرآني الدقيق للمفردات ولأن القول بالترادف سيعني إلغاء هذا الإيحاء النابع من :
1 - [color=0000CC]الجذر المعجمي :[/color] كما في إشارة السيوطي إلى الفرق بين ( الخوف والخشية ) التي لا يكاد اللغوي يفرّق بينهما - كما يقول ذاكراً : أن الخشية أعلى من الخوف فهي مأخوذة من قولهم شجرة خشية أي يابسة ، وهو فوات بالكلية ، أما الخوف فهو من ناقة خوفا (( 27 )) أي بها داء وهو نقص وليس بفوات ولذلك خُصت الخشية بالله في قوله تعالى : ( يخشون ربهم ويخافون سوءَ الحساب ... )(( 28 )) وفُرِّقَ بين اللفظتين أيضاً بأن الخشية قد تكون من قوي لأنها من عظمةِ المختشى ، أما الخوف فإنه من ضعف الخائف وإن كان المخوف أمراً يسيراً ، ويدلُّ على ذلك أن الخاء والشين والياء تدل في تقاليبها على العظمة نحو شيخ للسيد الكبير وخيش لما غلظ من اللباس ...(( 29 )) .
2 - [color=0000CC]الجرس الصوتي :[/color] وقد تقدم الكلام عن ( نضح ) و ( نضخ ) وقد فُرِّقَ بين اللفظتين لا تتغير فيهما إلا الحركة كما هو بين ( ذِلّ ، وذُلّ ) (( 30 )) ، وفرق ( أحمد مختار عمر ) بين ( أزّ وهزّ ) (( 31 )) ، وقد تقدم الكثير من هذا ... ولا أدعي أن كل ما يقال في الفرق ما بين المفردتين بالحركة أو الحرف صحيح .. ولكن إذا كان هناك فرقٌ كبيرٌ بين المفردتين المختلفتين في حركة أو صوت واحد فكيف يكون الأمر في التي تختلف عن مرادفتها بجميع أصواتها والعجيب أن ابن جني وهو أكثر من دافع عن فكرة تعلق المعنى بأصوات المفردة يقول بالترادف في اللغة (( 32 )) .
3 - [color=0000FF]المناسبة في الإضافة والوصف :[/color] فإذا كان ( مكر ) مرادفٌ لـ (احتال) فكيف يكون قوله تعالى : ) ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ( ( آل عمران : 54 ) وغيرها كثير ، من هنا يمكننا أن نفهم تأكيد اللغويين على وجود الترادف وإنكار البيانيين له لأن اللغويين ينظرون إلى المفردة ومعناها من غير كبير معالجة لها في سياقها كما يفعل البيانيون .
4 - [color=0000FF]يلغي التمايز في البنية :[/color] فصيغة ( فعول ) مثلاً تدلّ على المبالغة مثلما تدلٌّ عليها صيغة (فعّال) مثل صبور ، وصبّار ، فمن لا يتحقق المعاني يظن أن ذلك كله يفيد المبالغة فقط وليس الأمر كذلك بل هي مع إفادتها المبالغة تفيد أن الرجل إذا كان قوياً على الفعل قيل ( فعول ) مثل صبور وشكور ، وإذا فعل الفعل وقتاً بعد وقت قيل فعّال مثل علاّم وصبّار وإذا كان ذلك عادة له قيل مِفعال مثل مِعوان ومِعطاء (( 33 )) .
5 - [color=0000FF]الاستخدام الخاص :[/color] وقد تقدم كثيراً ، ومن ذلك ( المطر ) و ( الغيث ) فـ ( لقد فرقت لغة التنزيل بين المطر والغيث فكان المطر عذاباً وشراً ونذراً بالويل والثبور وكان الغيث رحمةً وخيراً ونعماً ) (( 34 )) ومن ذلك ( أشتات ، وشتى ) فمعنى الاختلاف المقابل للإتلاف هو ما يعطيه سياق شتى على حين يؤذن السياق بمعنى التفرق المقابل للتجمع في صيغة أشتات (( 35 )) .
6 - [color=0000FF]الترادف يُلغي الثنائية الضدية :[/color] إن القرآن الكريم كثيراً ما استخدم التقابل ما بين مفردتين تشكلان ثنائية ضدية كما في ( الليل والنهار ) كقوله تعالى : ) والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلّى )( الليل : 2 )(( 36 )) ... فهل ستبقى الدلالة التقابلية كما هي هنا لو استبدلنا مفردة ( الليل ) بـ ( الظلام ) مثلاً أو استبدلنا مفردة ( النهار ) بـ ( الصبح ) مثلاً ، إن هذا الاختلاف في دلالة السياق يحتم علينا رفض فكرة الاستبدال وبالتالي القول بالترادف ضمن السياق الواحد . فـ ( معرفة الإشارة لا تتم من خلال خصائصها الأساسية وإنما يتم ذلك من خلال تمايزها باختلافها عن سواها من الإشارات فكلمة ضلالة صارت ذات معنى ليس لشيء في ذاتها ولكن لوجود الهداية ، فبضدها تتميَّز الأشياء ولولا السواد ما عرفنا البياض ) (( 37 )) فالترادف سيشكل رفضاً للعلاقة الضدية ضمن علاقة التقابل الدلالي والتي تشكل جانباً مهماً في الاستخدام القرآني لم يستخدم على المستوى اللفظي فقط ، وإنما على مستوى التقابل العددي أيضاً .
وبهذا نستطيع أن نتقبل منهج بنت الشاطيء على الرغم من أنها اعترفت بقصورها عن لمح فروق الدلالة لبعض ألفاظٍ قرآنية تبدو مترادفة لتقول ( فليس لي إلا أن أقر بالعجز والجهل وأنا أتمثل بكلمة ابن الأعرابي ) (( 38 )) وكلمة ابن الأعرابي التي ذكرتها السيدة هي : إنّ ( كل حرفين أوقعتهما العرب على معنى واحد في كل منهما معنى ليس في صاحبه ربما عرفناه فأخبرنا به وربما غمض علينا فلم نُلزم العرب جهله ).
[color=336633]* الحواشي :[/color]
1) - المفردات 209 .
2) المفردات 209 .
3) الكشاف 4 / 15 ، وينظر : تفسير غريب القرآن 421 .
4) المختار 3 / 171 – 172 .
5) معجم غريب القرآن 278 .
6) ينظر : الكشاف 4 / 278 .
7) ينظر : الإعجاز البياني 376 ، والمفردات 664 .
8) دراسات قرآنية 32 .
9) ينظر : دقائق التصريف 81 .
10)ينظر : معاني الأبنية 158 .
11) الكتاب 3 / 601 .
12) بديع القرآن 162 .
13) بديع القرآن 315 .
14) ينظر : الكشاف 4 / 111 ، والبحر 8 / 274 ، ومعاني القرآن 3 / 160 .
15) ينظر : البحر 8 / 274 .
16) معاني القرآن 3 / 160 ، والبحر 8 / 274 .
17) ينظر : الكشاف 4 / 111 .
18) ينظر : الإعجاز البياني ومسائل ابن الأزرق 212 – 213 ، والصورة الفنية 249 .
19) تفسير الرازي 30 / 27 .
20) الفروق 12 .
21) ينظر : الإعجاز البياني 194 .
22) ينظر : تصحيح الفصيح 2 / 333 ، والصاحبي 96 – 97 ، والمزهر 1 / 403 ، والترادف في اللغة 198 – 200 .
23) ينظر : الإعجاز البياني 218 – 219 ، والمعجم المفهرس 707 – 708 .
24) ينظر : قواعد التدبر الأمثل 117 .
25) بنية اللغة الشعرية 201 – 202 .
26) الأسلوب والأسلوبية 90 ، 95 .
27) في البرهان ( خوفاء ) 4 / 78 .
2 ينظر الإتقان 1 / 332 – 333 ، والبرهان 4 / 78 – 79 .
29) ينظر الإتقان 1 / 332 – 333 ، والبرهان 4 / 78 – 79 .
30) الفروق 15 .
31) علم الدلالة 220 .
32) ينظر : الخصائص 2 / 113 – 133 .
33) ينظر : الفروق 15 ، والإعجاز البياني 215 .
34) من وحي القرآن 127 .
35) ينظر : الإعجاز البياني 216 .
36) ينظر : المعجم المفهرس 721 .
37) الخطيئة والتكفير 29 – 30 .
3 الإعجاز البياني 220 .
39) الفروق 65 ، والإعجاز البياني 220 .