.
[align=justify]قمت بزيارة المسجد النبوي ليلة الخميس 13/5/ 1430 وبحثت عن الشيخ في الأماكن التي كنت أعهد اتخاذه منها مجلسا لدرسه ، فلما لم أجده سألت عنه فطفق الجميع يخبرني خبر مرضه من عشرين يوما ، فأجريت اتصالا هاتفيا بأحد أبنائه علمت منه أن وضع الشيخ أصبح صعبا ، توجهت إلى بيت الشيخ فألفيته مكتظا بمحبيه قد التف الجميع حوله ، فرأيته مضطجعا على شقه الأيمن مستقبلا القبلة ، لا يجري على لسانه غير ذكر الله والشهادتين على وجه الخصوص ، قد وفقه الله للزومها بلسان الحال والمقال ، قد اختلف لسانه ومشيرته في إعلانها ، فهو يعلن بتلك الأصبع وحدانية الله تعالى في جلال ومهابة لم تغادر الشيخ كما عهدها منه محبيه وطلابه ، مع رعشة علت بدن الشيخ من الكبر ووهن الجسد وضعف طرأ على عضلة القلب .
سلمت عليه وذكرته باسمي فلم يتذكر مع قرب العهد وقدم الصحبة وطولها إلا أنه الكبر والمرض ، فاستعنت بطرفة يعهدها الشيخ مني فتبسم ابتسامة هزت بدني ، وجرعتني من الأحزان ما لم أجد لها من بلسم غير الصبر والاحتساب .
سألت الشيخ عن حاله فأجاب بدعوة رجوت إجابتها ، فكررت السؤال فكرر الدعاء قائلا : أسأل الله أن يجمعنا وإياكم في دار كرامته ، فقرأت فيها جوابا عريضا كعرض عشرين عاما عرفت فيها الشيخ ، فأحببت مؤانسة الشيخ وإعانته على حسن الظن بالله وذكرته بسابق خدمته لكتابه ، فما أتم سماع حديثي بل واصل ما أشغل به حياته من ذكر الله ، ثم بدرت مني بادرة التذكر، فجرى على لساني مالاح في خاطري :
[poem=font="Simplified Arabic,5,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
تذكرت والذكرى تهيج على الفتى = ومن عادة المحزون أن يتذكرا[/poem]
فكأني هيجب من الشيخ ماهو معرض عنه ، وأجابني إجابة الأوقياء حين تختلط الذكرى بدموع الأتقياء ، فنهض أبنه عبدالله ومسح الدمع من عيني والده ، ورحم الله على ابن الجهم :
[poem=font="Simplified Arabic,5,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
وجربنا وجرب أولونا= فلا شئ أعز من الوفاء[/poem]
لم أستطع مواصلة الحديث مع الشيخ لضعفه عن الكلام أصلا ، ولضعفي عن مواصلته فصلا ، فدعوت للشيخ بمادعى به لنا وقبلته وانصرفت لا ألوي على شئ إلا قطع من الليل أدس فيه أحزاني ، ومفاوز من الصحراء أشتت فيها أشجاني ، حتى طرقت باب بيتي مع شروق الشمس ، وكنت قد قطعت قرابة الألف ألف من الأمتار .
كنت قد سألت ابنه عبدالله عند انصرافي عن تقديم أي عون أو مساعدة ، فأعلن شكره وأخبرنا بأن الشيخ قد رفض إخراجه من بيته لأي ظرف أو عارض يطرأ ، قال: فهو يرى أن هذا هو مرضه الذي سيودع معه الدنيا ، سيودع ثلاثون عاما تقضت ساعات ليلها ونهارها بين طلاب العلم في مسجد مشيع وجامعة الإمام من أرض الضباب والمروج الخضر، سيودع خمس عشرة سنة قضاها في أكناف المدينة النبوية معلما لكتاب الله قائما به قياما عجبا ، سيودع حياة امتدت قرابة التسعين عاما كلها حياة علم وسنة وإسلام وإيمان .
كذلك نحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحدا .
أقول هذا وانقله مع إيماني بأنها لا تدري نفس بأي أرض تموت ، وأن الله على كل شي قدير ، إلا أن علمنا عن سنن الله في الحياة والكون ، واستفاضة ما سمعنا من أخبار الصالحين من قومنا ومن حدثنا عنهم التاريخ بحديثهم عن دنو أجلهم ، يدعونا للتسليم دون الجزم بشئ من ذلك .
[poem=font="Simplified Arabic,5,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
فكم من صحيح مات من غير علة= وكم من سقيم عاش حينا من الدهر [/poem]
فمن أراد زيارة الشيخ ، أو كان يرى وجوب ذلك عليه ، فقد اطلع على ما كتبت ، وأمر الله من وراء كل أمر، وهو وحده القادر المتصرف في الحياة والموت ، فنسأله سبحانه أن يرزق الشيخ حسن الخاتمة ، وأن يجمعنا به في دار كرامته .
والحمد لله في البلاء حمدا لا يعدله إلا حمدنا له في السراء وسؤالنا له دوام العافية .
وهل يرثي الحي نفسه حين شعوره بدنو أجلها ، مالك بن الريب التميمي من أولئك فاسمعه وهو يبكي نفسه رحمه الله :
[poem=font="Simplified Arabic,6,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=1 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
ألا ليتَ شِعري هل أبيتنَّ ليلةً = بوادي الغضَى أُزجي الِقلاصَ النواجيا
فَليتَ الغضى لم يقطع الركبُ عرْضَه = وليت الغضى ماشى الرِّكاب لياليا
لقد كان في أهل الغضى لو دنا الغضى = مزارٌ ولكنَّ الغضى ليس دانيا
ألم ترَني بِعتُ الضلالةَ بالهدى = وأصبحتُ في جيش ابن عفّانَ غازيا
وأصبحتُ في أرض الأعاديَّ بعد ما = أرانيَ عن أرض الآعاديّ قاصِيا
أقول وقد حالتْ قُرى الكُردِ بيننا = جزى اللهُ عمراً خيرَ ما كان جازيا
إنِ اللهُ يُرجعني من الغزو لا أُرى = وإن قلَّ مالي طالِباً ما ورائيا
تقول ابنتيْ لمّا رأت طولَ رحلتي = سِفارُكَ هذا تاركي لا أبا ليا
لعمريْ لئن غالتْ خراسانُ هامتي = لقد كنتُ عن بابَي خراسان نائيا
فإن أنجُ من بابَي خراسان لا أعدْ =إليها وإن منَّيتُموني الأمانيا
فللهِ دّرِّي يوم أتركُ طائعاً = بَنيّ بأعلى الرَّقمتَينِ وماليا
ودرُّ الظبَّاء السانحات عشيةً = يُخَبّرنَ أنّي هالك مَنْ ورائيا
ودرُّ كبيريَّ اللذين كلاهما= عَليَّ شفيقٌ ناصح لو نَهانيا
ودرّ الرجال الشاهدين تَفتُُّكي =بأمريَ ألاّ يَقْصُروا من وَثاقِيا
ودرّ الهوى من حيث يدعو صحابتي = ودّرُّ لجاجاتي ودرّ انتِهائيا
تذكّرتُ مَنْ يبكي عليَّ فلم أجدْ = سوى السيفِ والرمح الرُّدينيِّ باكيا
وأشقرَ محبوكاً يجرُّ عِنانه = إلى الماء لم يترك له الموتُ ساقيا
ولكنْ بأطرف (السُّمَيْنَةِ) نسوةٌ = عزيزٌ عليهنَّ العشيةَ ما بيا
صريعٌ على أيدي الرجال بقفزة = يُسّوُّون لحدي حيث حُمَّ قضائيا
ولمّا تراءتْ عند مَروٍ منيتي = وخلَّ بها جسمي، وحانتْ وفاتيا
أقول لأصحابي ارفعوني فإنّه = يَقَرُّ بعينيْ أنْ (سُهَيْلٌ) بَدا لِيا
فيا صاحبَيْ رحلي دنا الموتُ فانزِلا = برابيةٍ إنّي مقيمٌ لياليا
أقيما عليَّ اليوم أو بعضَ ليلةٍ = ولا تُعجلاني قد تَبيَّن شانِيا
وقوما إذا ما استلَّ روحي فهيِّئا = لِيَ السِّدْرَ والأكفانَ عند فَنائيا
وخُطَّا بأطراف الأسنّة مضجَعي = ورُدّا على عينيَّ فَضْلَ رِدائيا
ولا تحسداني باركَ اللهُ فيكما = من الأرض ذات العرض أن تُوسِعا ليا
خذاني فجرّاني بثوبي إليكما = فقد كنتُ قبل اليوم صَعْباً قِياديا
وقد كنتُ عطَّافاً إذا الخيل أدبَرتْ = سريعاً لدى الهيجا إلى مَنْ دعانيا
وقد كنتُ صبّاراً على القِرْنِ في الوغى = وعن شَتْميَ ابنَ العَمِّ وَالجارِ وانيا
فَطَوْراً تَراني في ظِلالٍ ونَعْمَةٍ = وطوْراً تراني والعِتاقُ رِكابيا
ويوما تراني في رحاً مُستديرةٍ = تُخرِّقُ أطرافُ الرِّماح ثيابيا
وقوماً على بئر السُّمَينة أسمِعا =بها الغُرَّ والبيضَ الحِسان الرَّوانيا
بأنّكما خلفتُماني بقَفْرةٍ = تَهِيلُ عليّ الريحُ فيها السّوافيا
ولا تَنْسَيا عهدي خليليَّ بعد ما = تَقَطَّعُ أوصالي وتَبلى عِظاميا
ولن يَعدَمَ الوالُونَ بَثَّا يُصيبهم = ولن يَعدم الميراثُ مِنّي المواليا
يقولون: لا تَبْعَدْ وهم يَدْفِنونني = وأينَ مكانُ البُعدِ إلا مَكانيا
غداةَ غدٍ يا لهْفَ نفسي على غدٍ = إذا أدْلجُوا عنّي وأصبحتُ ثاويا
وأصبح مالي من طَريفٍ وتالدٍ = لغيري، وكان المالُ بالأمس ماليا
فيا ليتَ شِعري هل تغيَّرتِ الرَّحا = رحا المِثْلِ أو أمستْ بَفَلْوجٍ كما هيا
إذا الحيُّ حَلوها جميعاً وأنزلوا = بها بَقراً حُمّ العيون سواجيا
رَعَينَ وقد كادَ الظلام يُجِنُّها = يَسُفْنَ الخُزامى مَرةً والأقاحيا
وهل أترُكُ العِيسَ العَواليَ بالضُّحى =بِرُكبانِها تعلو المِتان الفيافيا
إذا عُصَبُ الرُكبانِ بينَ (عُنَيْزَةٍ) = و(بَوَلانَ) عاجوا المُبقياتِ النَّواجِيا
فيا ليتَ شعري هل بكتْ أمُّ مالكٍ = كما كنتُ لو عالَوا نَعِيَّكِ باكِيا
إذا مُتُّ فاعتادي القبورَ وسلِّمي = على الرمسِ أُسقيتِ السحابَ الغَواديا
على جَدَثٍ قد جرّتِ الريحُ فوقه = تُراباً كسَحْق المَرْنَبانيَّ هابيا
رَهينة أحجارٍ وتُرْبٍ تَضَمَّنتْ = قرارتُها منّي العِظامَ البَواليا
فيا صاحبا إما عرضتَ فبلِغاً = بني مازن والرَّيب أن لا تلاقيا
وعرِّ قَلوصي في الرِّكاب فإنها = سَتَفلِقُ أكباداً وتُبكي بواكيا
وأبصرتُ نارَ (المازنياتِ) مَوْهِناً =بعَلياءَ يُثنى دونَها الطَّرف رانيا
بِعودٍ أَلنْجوجٍ أضاءَ وَقُودُها = مَهاً في ظِلالِ السِّدر حُوراً جَوازيا
غريبٌ بعيدُ الدار ثاوٍ بقفزةٍ = يَدَ الدهر معروفاً بأنْ لا تدانيا
اقلبُ طرفي حول رحلي فلا أرى = به من عيون المُؤنساتِ مُراعيا
وبالرمل منّا نسوة لو شَهِدْنَني = بَكينَ وفَدَّين الطبيبَ المُداويا
فمنهنّ أمي وابنتايَ وخالتي = وباكيةٌ أخرى تَهيجُ البواكيا
وما كان عهدُ الرمل عندي وأهلِهِ =ذميماً ولا ودّعتُ بالرمل قالِيا [/poem][/align]