الطغاة والطغيان في القرآن الكريم

إنضم
06/08/2007
المشاركات
174
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
الرياض - حي الياسمين
الموقع الالكتروني
khfeef.blogspot.com
01.png

تميزت معالجة القرآن الكريم لموضوعاته بشمولية التناول وتنوعها حيث قد تختلف الظروف المحيطة بموضوع ما بحيث يكون له أثر على سير الأحداث والنتائج من باب أولى.
ومن هذه الموضوعات المهمة موضوع الطغاة والطغيان الذي كان محورا هاما في كتاب الله يوضح مفهوم الطغاة والتعريف بالطاغين وأنواعهم وصفاتهم وبواعث الطغيان لديهم وأساليبهم ومصائرهم.
المفهوم
مفهوم الطغيان في العربية:
قال ابن فارس: "الطاء والغين والحرف المعتل أصل صحيح منقاس، وهو مجاوزة الحد في العصيان"[1]، وكلّ شيء يجاوز الحد فقد طغى، مثلما طغى الماء على قوم نوح قال سبحانه إنا لما طغى الماء حملناكم الجارية.
الطغيان في الاستعمال القرآني:
وردت كلمة (طغى) ومشتقاتها في تسعة وثلاثين موضعاً من القرآن الكريم، وبصيغ وتصريفات مختلفة: (طغى، يطغى، أطغى، تطغوا، طغوا، أطغيته، طغيان، طغوى، طاغية، طاغوت، طاغين، طاغون).
ويمكن القول بأن هذه المعاني يجمعها شيء واحد وهو: المعني اللغوي: "مجاوزة الحد" لكلمة الطُّغيان، مع عدم إغفال السياق القرآني الذي يضفي معانٍ جديدة على الكلمات أثناء البحث والتحقيق .
وأما استعمالات القرآن لها، فقد ذكر ابن سلّام وغيره أنّ الطّغيان في القرآن الكريم على أربعة أوجه:[2]
1. الطّغيان بمعنى الضّلالة، وذلك كما في قوله تعالى: ﴿ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ (البقرة، 15).
2. الطّغيان بمعنى العصيان، وذلك كما في قوله تعالى: ﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ (طه، الآية 24).
3. الطّغيان بمعنى الارتفاع والتّكثّر، وذلك كما قوله تعالى: ﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ ﴾ (الحاقة، الآية 11).
4. الطّغيان بمعنى الظّلم، وذلك كما في قوله تعالى: ﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾ (النجم، الآية 17)، وقوله سبحانه: ﴿ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ﴾ (الرحمن، الآية 8).
أمّا الطّاغوت فقد أوردت له كتب الوجوه والنّظائر المعاني الآتية:
1. الطّاغوت يراد به الشّيطان، وذلك في قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ﴾ (سورة البقرة، الآية 256).
2. الطّاغوت يراد به الأوثان الّتي تعبد من دون اللّه، وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ (سورة النحل، الآية 36).
3. الطّاغوت يعنى به كعب بن الأشرف اليهوديّ وذلك في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ﴾ (سورة النساء، الآية 51).

أسباب الطغيان:
بالنظر إلى تناول القرآن لأحوال الطغاة وممارستهم للطغيان قديما وحديثا، يجد المرء أن لهذا الداء العضال أسبابا متعددة، كأي مرض آخر حسي أو معنوي، وهذا ما تشير إليه الدراسات والبحوث الحديثة التي أجريت عن نفسية الطغاة, والأسباب التي تجعل من الطاغية وحشا ضاريًا..
وقد أشار القرآن الكريم في معرض تناوله لأحوال الطغاة وإدانة أعمالهم، إلى تلك الأسباب؛ التي دفعت بأصحابها إلى ممارسة هذه الظاهرة القديمة الحديثة، وبالتدقيق في هذه الأسباب يُستخلص منها أنها تنقسم إلى قسمين: (داخلية وخارجية) ، ونعني بالداخلية: تلك الاشكالات النفسية التي غزت باطن هذا الطاغية، وأخذت بمجامع قلبه حتى أسوّد قلبه بدخانها؛ فدبّ إلى قلبه من سمومها وآفاتها ما دفعه إلى الطغيان.. وأما الخارجية فنعني بها: تلك الظروف والأجواء التي هيأت له المناخ المناسب لممارسة طغيانه وعتوّه، وساعدت في طول أمده وبقائه سيطرته ..
ويرجع إلى هذين النوعين معظم ممارسات الطغاة التي صنعت الطواغيت وأوجدتهم وهي في ذات الوقت القاسم المشترك والجامع لكل طاغية على وجه الأرض.
أسباب الطغيان الداخلية أو (الباطنية)
1. الكبر والعلوّ:
ويكاد يكون هذا السبب الجامع الرئيس بين الطغاة، ويصنف على رأس أوّليات أسباب الطغيان، وأبرز الشخصيات التي تمثلّ هذا السبب على الإطلاق شخصية الطاغية فرعون؛ الذي اجتمعت فيه كل أسباب الطغيان الداخلية والخارجية، ومارس كل صنوف الطغيان بحق قومه، قال الله سبحانه عن فرعون: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ) [القصص: 4] وقال تعالى: (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) [القصص : 39].
2. العجب والغرور:
وهذه آفة الطغاة في عتوهم وتجبرّهم وعدم قبولهم الحق والانصياع له، ولذلك قال الله عز وجل حاكياً حال قوم عاد لما طغوا وتكبروا على ربهم، ثم على نبيهم بقوله: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ [فصلت: 15]. ومن صور مباهاة الطاغية فرعون ومفاخراته أن جعل يستحقر الآخرين ويعيبهم عجبا وغرورا فقال عن موسى: ( أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ) [الزخرف: 52].
3. الحقد والحسد:
وهو الداء الذي يحرق قلب صاحبه إذا ما رأى لله على غيره منّة أو أسبغ عليه نعمة؛ فيدفعه ذلك إلى ممارسة الطغيان، وهذا كان سبب طغيان اليهود ورفضهم قبول رسالة النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه مكتوب عندهم في التوراة، فقد أنكر الله عليهم حسدهم لرسوله صلى الله عليه وسلم على الرسالة وحسدهم لأصحابه على الإيمان قال الله تعالى: " أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله" ولا شك أن ذلك ناتج عن الحقد والحسد لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال سبحانه: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً﴾ [المائدة: 64].
أسباب الطغيان الخارجية:
1. الملك والسلطة:
وهي من أعظم الأسباب الباعثة على الطغيان، وبالأخص منهم طغاة الحكم والسياسة، ولذلك ذكر الله في القرآن الملك النمرود الذي طغى وتجبر حتى وصل به الأمر أن ادعى الربوبية، وكان الباعث له على ذلك الملك والسلطة قال عزوجل ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ وهذا فرعون يبرر فجوره وعلوه في الأرض كما حكى القرآن عنه يقول : ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف:51].
2. المال والولد:
وذلك إذا ضعف من قلب صاحبه الإيمان والتقوى، وشعوره بفقره وحاجته إلى الله، يقول تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق:6-7] . والولد كذلك قد يؤدي بوالديه إلى الطغيان إن كان كافراً، وذلك بدافع حبهما له يقول تعالى: ﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ﴾ [الكهف:80] ، ولما كان المال مفضيا لما ذكرت من الطغيان فإن من دعاء موسى u قوله ﴿ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾[يونس:88].
3. غفلة الناس عن حقوقهم وقبولهم الظلم:
حيث إن الشعوب إذا استمرأت الظلم ورضيت بالهوان وغلب عليها الخوف؛ أعطت الطاغية فرصة وشجعته على الاستمرار والزيادة في البغي ولنلاحظ كيف بلغ الخوف بقوم موسى عليه السلام أعطاهم الله الملك ونجاهم من فرعون وكتب الله لهم الأرض المقدسة أنها لهم وطلب منهم مواجهة الجبارين فرفضوا فكيف سينتصرون إذن ﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ [المائدة 21-22] ولا شك أن غفلتهم وسكوتهم عن أعمال فرعون وقبولهم استبداده هو ما جرأه عليهم من قبل ولكنهم لم يتعظوا ( فاستخفّ قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين) [الزخرف:54]، وفي الوقت الذي كان موسى عليه السلام يحثهم الصبر والاستعانة بالله على فرعون وجنوده، كانوا يواجهونه بالاستكانة والاحباط والذل والهوان: ﴿ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعرف127-129]

صور الطغيان
إنّ للطغيان نماذج وصور متعددة، تتعدد وتتنوع: بحسب الزمان والمكان، ونفسية الطاغية وعناده وتكبره وهيمنته الاقتصادية، وقوته العسكرية.. وكذلك بحسب تقدم الزمن وتطور أساليب الطغيان .. لذا فإن صور الطغيان تختلف من طاغية لآخر؛ لكن يجمعهم: "انتكاسة الفكر، وانحراف الأخلاق، وانعدام الرحمة، وفقد الإحساس، والإمعان في الظلم والتعذيب.. مع ملاحظة اختلافهم في دقة تطبيق هذه الصور، ومدى تنفيذها، وشمول وعموم من تُمارس عليهم.. فمن هذه الصور:
الظلم والتجبّر والاستبداد:
يعد ظلم الناس، وتهميشهم، وهضم حقوقهم، وسلب مقدراتهم وإراداتهم؛ من أبرز صور الطغيان قديما وحديثا، وكم عانت الشعوب المستضعفة المقهورة من ظلم الطغاة وجورهم وتجبرّهم !!.
﴿ وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَاد * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاَد * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَاد * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَاب * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد﴾ وقال سبحانه ﴿ وإذا بطشتم بطشتم جبارين ﴾ وقال ﴿وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد﴾.
القتل والتعذيب والتنكيل:
وهذا من أشنع صور الطغيان وأقبحه وقد حكى الله عن فرعون قوله ﴿ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ [الأعرف:127] وقال عنه أيضا ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 4].
وفرعون الذي كان يذبح الأولاد خوفا من رؤيا رآها يكرس نموذجا للظالم الباغي الحريص على ملكه، والمشكلة أن الطغاة في كل عصر يمارسون صور الظلم نفسها وهذا يفسر تشابه قلوب الظالمين الأوائل والمعاصرين ففي سبيل الحكم يمكن أن يقتل شعبه ويجوعهم ويسلط عليهم المرتزقة من شرار الخلق.
وقصّ الله علينا سبحانه ما تعرّض له أصحاب الأخدود من صور القتل والإجرام: (قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود* وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله .. ).
فرض الرأي ومصادرة الحقوق والحريات:
فالطغاة – على مرّ التاريخ - يفرضون آرائهم وأهوائهم على أقوامهم، ويجعلونها عليهم قوانين إلزامية، ويقسرونهم على قبولها والانقياد لها قسرا، ويصادرون حرِّياتهم وحقوقهم المشْروعة في الاختيار والقبول والرَّفض؛ فعليهم ألا يعتقدوا ويعتنقوا إلا ما يعتقد ويعتنق, ومن سوّلت له نفسه أن يخالف أو يرفض يستخدمون معه أبشع أساليب القمع والتنكيل.. والعجيب أنهم يصورون أنفسهم كأنهم أصحاب الحق وأن غيرهم مفسد في الأرض، ولاحظ مقالة الملأ من أعوان فرعون ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ [الأعرف127]
ومنطق الطاغية واحد كما قال فرعون لقومه ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ وقال:﴿يَا أَيُّهَا المَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [الْقَصَصَ:38].
وقال لموسى عليه السلام: ﴿ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُوْنِيْنَ ﴾ [الْشُّعَرَاءُ:29].
وقال قوم شعيب له ولأتباعه: ﴿قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا﴾.

وسائل معالجة القرآن للطغيان

لقد عالج القرآن الكريم جريمة الطغيان؛ وقدم له جملةً من الحلول التي تمنع وقوعه أو تخفف أثره واستقصاءُ هذه الحلول وتتبعها يفضي بنا إلى التطويل؛ لكن نشير إلى أهم الوسائل في ذلك:
النهي الصريح عن الطغيان:
بكل صوره وأشكاله، وتقبيحه وذمّه وإدانته وأهله، سواء كان التعدي على الآخرين بالقتل أو ما دونه أو أكل أموال الناس وسائر الظلم والبغي والطغيان، قال تعالى: ﴿ كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى﴾ [طه: 81 ] وقوله:﴿ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير﴾ [هود:112]
الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك :
وتعد من أقوى موانع الطغيان، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ [النحل:36]، فالملاحظ من هذه الآية أن جل اهتمام الأنبياء والمرسلين وجهدهم، كان منصباً في الدرجة الأولى، على بناء العقيدة، وغرس معانيها في النفوس؛ لأن الإيمان بالله وعبادته بالمعنى الشامل، يؤديان إلى اجتناب الطغيان.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الوسائل لمنع الطغيان، ولذلك صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن التفريط بهذا الواجب، مؤد إلى ظهور الطغيان والتسلط في المجتمع، قال: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم، فلا يستجاب لهم" [3].
الحوار والجدال بالقول الليّن الحسن:
وهذه الوسيلة من أنفع الوسائل منعا للطغيان، إن صادفت محلا من قلب الطاغية وعقله، وقد أمر الله رسله باتخاذها وسيلة لمعالجة الطغيان؛ وإلا كانت لمزيد إقامة الحجة على الطاغية وإبراء الذمة في الإنكار عليه. قال تعالى مخاطباً موسى وهارون: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه:43-44].
الشجاعة والمبادرة في مواجهة الطغاة:
قال تعالى: ﴿ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة : 23]
وهذه وصية عظيمة قالها رجلان صالحان لقومهم وهذا يؤكد دور اهل الدين والصلاح في قيادة الأمة للوقوف في وجه الطغاة واقتحام الأبواب المغلقة من قِبَلهم .
إنهما "رجلان من الذين يخافون الله، ينشئ لهما الخوف من الله استهانة بالجبارين! ويرزقهما شجاعة في وجه الخطر الموهوم! وهما يشهدان بقولتهما هذه بقيمة الإيمان في ساعة الشدة وقيمة الخوف من الله في مواطن الخوف من الناس. فالله سبحانه لا يجمع في قلب واحد بين مخافتين: مخافته- جل جلاله- ومخافة الناس.. والذي يخاف الله لا يخاف أحداً بعده ولا يخاف شيئاً سواه ﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ. فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ ﴾ قاعدة في علم القلوب وفي علم الحروب .. أقدموا واقتحموا فمتى دخلتم على القوم في عقر دارهم انكسرت قلوبهم بقدر ما تقوى قلوبكم وشعروا بالهزيمة في أرواحهم وكتب لكم الغلب عليهم.."
"وتعتبر هذه الآية أصل في كسر جدار الذل والهوان والخوف الذي استسلم له كثير من الناس، وظنوا - إن لم يوقنوا - أنه لا سبيل للخلاص مما هم فيه من تسلط الطغاة والجبارين.
وهذا الشعور لا سبيل مع وجوده إلى نصر أو عزة وكرامة، ولا يمكن معه التفكير في المقاومة، فضلاً عن المهاجمة والمطالبة.
فلا بد من كسر ذلك الحاجز النفسي، والثورة على تلك النفس الراضية بالذل والهوان، وهو ما أرشدت إليه هذه الوصية الحكيمة، فهم لم يطلبوا من قومهم مواجهة الجبارين، بل اكتفوا بأمرهم بدخول الباب عليهم، وهذا الدخول يمثل كسر حالة الضعف والجبن والخور الذي وصلوا إليها، كما يدل على ذلك سياق الآيات الكريمة، فهم القائلون: ﴿ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُون﴾ [المائدة : 22] ﴿إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة : 24].
فلن ننتصر على أعدائنا حتى ننتصر على نفوسنا، ولن نتجرأ على الإنكار والاحتساب والإصلاح حتى نكسر أبواب الخوف والذل والهوان[4]

نهاية الطغاة والطغيان
سنة الله في الطاغين واحدة فقد أهلك الله كثيرا من الطغاة وجعلهم عبرة لغيرهم كما حصل لفرعون وجنوده : ﴿ ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر بالواد * وفرعون ذي الأوتاد * الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد ﴾ ولكن الطغاة لا يعتبرون بمصائر الطغاة قبلهم ﴿ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى * إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى ﴾.
لكن ثمت حالة متكررة يتصور بعض الناس أمامها أن الطاغية قد يفلت من العقاب لما يرونه من ميتة بعض الطغاة ميتة طبيعية. والأمر المؤكد الذي يجب أن يستقر في النفوس أن الطاغية لن ينجو من عقاب الله مهما تأخرت العقوبة، وقد يموت الطاغية موتا طبيعيا فهذا لا يعني نجاته لأن الله بين أن عاقبة الطاغين شر عاقبة قال سبحانه ﴿ هذا وإن للطاغين لشر مآب﴾ [ص:55] وقد ذكر الله سبحانه في سورة البروج قصة أصحاب الأخدود ونهايتهم المؤسفة على يد الطغاة ﴿قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ * وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [البروج:4-8] "في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان .. ولا تذكر الروايات التي وردت في هذا الحادث، كما لا تذكر النصوص القرآنية، أن الله قد أخذ أولئك الطغاة في الأرض بجريمتهم البشعة، كما أخذ قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وقوم لوط وفرعون وجنوده كما كان يأخذ المكذبين والطغاة .. ولكن الجزاء الأخير سيكون عنده سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ﴾ [البروج: 10-11] وقال سبحانه ﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ﴾ [إبراهيم : 42 - 43 ] .


* مقال نشر بمجلة البيان العدد 294 صفر 1433 هـ

______________________________

[1] مقاييس اللغة لابن فارس (3/ 412)
[2] أنظر: موسوعة نضرة النعيم .
[3] ضعفه الالباني في ضعيف الجامع 4650
[4] بيان: معالم قرآنية في الأحداث التي تمر بها الأمة الإسلامية
 
وفقك الله أخي الحبيب وشكر لك هذه المقالة الرائعة , ولي بعضُ الإضافات - من خطبة سابقة لي عن الطغيان في القرآن - أجزمُ أنَّكم تخفَّفتم منها اختصاراً إذ لا تخفاكُم:

@ من عواقب الطغيان في قصَّة ابنَـيْ آدمَ اللذيْن قتلَ أحدُهُما الآخَر ظلماً وطُغياناً لا ينقمُ منه إلا الإيمان ولا يدفعه لإزهاق روحه إلا الحسَد على فضل الله الذي آتاهُ إياه عاقبَ اللهُ ذلكَ الطَّاغية السفَّاح بأن جعلهُ من الخَاسرين مُباشرةً بعد قتل أخيه , وقد كَـانَ في فُسحة من أمره كما قال الله تعالى { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِين } وهذا الخَاسرُ هُو إمام القتَلة إلى قيام السَّـاعة لا تُزهَقُ روحٌ إلا تقاسم إثمَها مع القاتل وكان عليه كفلٌ من دمِها لقوله صلى الله عليه وسلم { لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْل } وهذه العُقوبة القرآنيةُ توكيدٌ على أن سافكي الدِّمَـاء لا ينتظرون إلا الخُسرانَ المُبينَ في الدنيا والآخرة , وأنَّهم إن علَـوا وظَهَر أمرُهم فهُو إلى حين وليأخُذَنَّـهم الله أخذاً يشفي به صُدور المؤمنين.

@ في قصَّـة قوم نوحٍ الفاسقينَ يتجسَّـدُ شكلٌ قبيحٌ من أشكَـال الطُّغيان وهُو الاستهزاء بوعد الله ووعيده واستعجال العقوبة واستنزال السخط واستبعاد انتصار الله لأوليائه المؤمنين وعموم عباده المظلومين فيقولون لنبي الله نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلامُ {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } وهذا القول الفجُّ نتيجةٌ طبيعيَّـة للتمادي في الجبروت والظلم مع إمهال الله وإملائه حتى يُزيِّن الشيطانُ للجبابرة سوء أعمالهم فينقلهم من محاربة أنفسهم ومحاربة النَّاس إلى مُحاربة الله وتحدِّيه يقولون لهُ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا يتمنَّون العذابَ ويستعجلونهُ وينسَون أن الله بالمرصاد , فأجابهم نوحٌ بجواب المؤمن الواثق العالم أنَّ الله سينتقمُ في السَّاعة التي يُريد وأنَّ الطُّغَـاة ولو أمهلوا ألفاً إلا خمسين ستنزل عليهم نقمة الله وما هم بمعجزين فأجابهم بقوله { إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِين } وما هي إلا أيَّـامٌ وليالٍ حتى حقَّت على قوم نوح كلمةُ العذاب فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ وأراهم الله ما كانوا يوعَدُون وعايَنوا ما كانوا يستعجلون , وهذا يجعَل المُسلمَ على حَذر دائم من دَعَوات المظلومين ومُعاداة الصالحين فإنَّ عُقوبتَها وإن أخَّرها الله لحكمةٍ فهي نازلةٌ بهم وما لها من الله من دافع , وكم يتعجَّب المرءُ اليوم من قصص حاضرة لأقوام يُخَوَّفون بالله ويُحَذَّرون من سهام الليل والتعلق بأستار الكعبة شكايةً منهُم فيقولون بلسان الحال مقالةَ الفاسقين العَمين {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } فهل ينتظر أولئك إلا { أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّف } , فالله الذي نصر نوحاً واستجاب لهُ ونجَّاهُ من الجَبابرة حيٌّ لا يمُوت , وهو الله الذي أغرى من بعدُ عبادَهُ المغلوبين بسلوك طريق الدُّعاء على الظلمة فقال { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ }.

@ كَما تبعثُ قوة الجَسد وكثرة المال وامتداد النفوذ وعُزلة الضعفاء على الطغيان , فإنَّ الأمنَ العامَّ والتقدُّم العمراني والاقتصادي والزراعي إذا لم يُنسب الفضل فيه إلى الله ويُشكَر الله عليه يكونُ سبباً مُباشراً لاستنبات الطغيان والعُتو في قلوب المنبهرين بالحضارة الماديَّة حتى يظُنَّ الجاهل استحالة تبدُّل هذه الأحوال , ولذلك قصَّ الله علينا خبر قوم صالح الذين قال لهم نبيهم { أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُون } فطلبوا آيةً تدل على صدق نبوته فكانت ناقة الله وسقياها آيةً ظاهرةً باهرة , فتمادوا وطغوا وبَغَوا واستعجلوا عذاب الله وَ {عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ }, فلم يُغن الأمنُ السابق ولا النخل ولا الزروع ولا الحصون شيئاً , لأنَّ من أراد الله إهلاكه فلن يجدَ ملجأً ولا ناصراً ولو تولاَّه عُمَّار السماوات والأرض { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ }.

@ إنَّ قبلةَ الظلمِ وكتابَ الإفساد وداعية الخَراب وإمام الجبابرة ومُقدَّم الطُّغَـاة وحامل لوائهم هو فرعونُ الأثيمُ , فقد قالَ وفعل ما لم يقلْهُ ويفعلْه أحدٌ من العالمين وقال { أنَا ربُّكُمُ الأَعْـلَى } تعالى الله وتقدَّس , وفرعَون لم يصل إلى هذه المرحلة إلا بعد سلسلَة من المخازي أجملها القرآنُ وبيَّنها فقد أخذته نشوة السلطان وسكرة الزعامة ونسي قدره الله وسلطانه عليه فنادى في قومه { قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي } و { عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ } {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } وسلَّط على النَّاس أجناده { الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ } وأرهب موسى وهدَّده بالسجن فقال { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } وأغرى السَّحرة بالمال وسخَّر الإعلامَ للصدِّ عن سبيل الله فأرسل في المدائن حاشرين وَقَالَ { ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيم } وعاقب السحرة على الإيمان واسترهبَهم بقوله { لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } وأنكر وجود الله واستهان بنصرته وقدرته فقال { ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } فلما أنفذ الله قضاءه أنزل به وبقومه عقوبةً لا يُمكن لأحد بعدَها أن يتردَّد في وجود الله وقهره وسلطانه { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ } ثمَّ أراد الله أن يعاقبه بالماء الذي كان يفخر بجريانه من تحته فصار هو وجنوده تحت الماء وكان الماءُ قاتلَهم { فَفَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} ولا ينبغي للمسلم البسيط أن يعتقد نقمةَ الله وقفاً على الزُّعماء والسَّادة الكبراء , فكما حكى الله خبر فرعون ففي القرآن تحذير لآحاد الناس وأفرادهم من أنَّ الذنوب والمعاصي التي تُقابل بها نعمُ الله من موجبات الأخذ والانتقام واقرؤوا إن شئتم قول الله { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِين } فهو إشارة جليةٌ في أنَّ استفحال المعاصي واستشراء الذنوب وتواطأ الناس عليها مدعاةٌ إلى الأخذ وتغير الأحوال وتبدل الأمن والسعة بالخوف والجوع , فليحذر الظَّلمة أجمعُون سهام الليل ويعلموا أن جنود الله لا تُعدُّ ولا تُحصى , وأنه ليس بينه وبين المظلومين حجاب , وليتذكَّروا وصية نبيهم الحريص عليهم يوم قال صلى الله عليه وسلم {وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ } ويومَ قال صلى الله عليه وسلم { تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَيَقُولُ الرَّبُّ وَعِزَّتِى لأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ } وهذا الحينُ هو الفاصلُ بين الظَّالم وبين قصم الله ظهرَه , وجعله آيةً وعظةً وعبرة { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } , وكم في البيوت والمتاجر والمدارس والمشافي والطرقات والمكاتب والبر والبحر من أقوام غافلين عن سهام الليل ينتظرون هذا الحينَ {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} .
 

بين طــغــــا و طـــــغــــى
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه : 24 اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه : 43
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى [طه : 45 اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [النازعات : 17 وقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى [النجم : 52
فأَمَّا مَن طَغَى [النازعات : 37 كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى [العلق : 6
طغى المكتوبة بالف مقصورة تعني أن هناك طغيانا في الحس وفي المعنى فمثلا فرعون طغى في الحس بالقتل = يقتل ابناءهم ويستحي نساءهم = وفي المعنى قال
" انا ربكم الاعلى " " ما علمت لكم من إله غيري"
إنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة : 11 الوحيدة المكتوبة بالآلف ممدودة
خاصة بالطوفان طغيانه في الحس بالهدم والقتل والتخريب
دون المعنى
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم : 17 هذه خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم معناه أن بصره لم يطغ وقد رأى من ايات ربه الكبرى كما انه ما أُمر ان يحكيه لقومه من أمر إسرائه ومعراجه حكاه وما امر بالسكوت عنه لم يبح به
 
بارك الله فيكما يا شيخ خالد ويا شيخ محمود
ولكنني أتساءل هل سيستكمل البحث في موضوع الطغيان وكيفية رفعه. وهل يتساوى جميع افراد الأمة في المسؤلية عن ازالة الاستبداد والطغيان. أم أن العلماء هم الذين تقع عليهم مسؤلية البدء في رفع الظلم وازالة الطغاة . وهل نفهم هذا المعنى من قوله عز وجل : (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الاثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون) . وماذا اذا تخلى العلماء عن دورهم ورضوا بالمناصب والألقاب وقعدوا عن أمر الطغاة بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وظنوا أن اكتفائهم بالدعاء على الطغاة في سرهم، والدعاء لهم في العلن قد يحلهم من مسؤلياتهم. هل سيزول الطغاة؟
 
عودة
أعلى