تمهيــد:
تجمع كلّ الدراسات بأنّ أواخر القرن الثالث للهجرة وبداية القرن الرابع مرحلة أساسيّة في بروز ملامح التفسير كعلم، وذلك مع ظهور تفسير الطبري، حيث جاء بين مرحلتين هامّتين نزع فيها علم التفسير نزعا من ثنايا كتب الحديث. وأشار الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور أنّ تفسير الطبري ساهم في إرساء أسس النظر الفكري في الموروثات والآثار التي يعتمدها التفسير بالمأثور، وتبعا لهذا المجهود بدأت أسس اعتماد التفسير بالرأي تتّسع وتتعاظم، و هو ما ساهم في إلى انقسام أهل التفسير إلى شعبتين، إحداهما تتمسّك بالتفسير بالمأثور، وتتحرّى الأخرى من التزام به.
1-التعريف بالطبري:
محمد بن جرير الطبري: وهو محمد بن جرير بن يزيد كثير الآملي الطبري، ولد بآمل طبرستان سنة أربع و عشرين ومائتين للهجرة(224هـ) و توفي سنة عشر و ثلاثمائة للهجرة(310هـ) (1). صاحب التصانيف المشهور، استوطن بغداد و أقام بها إلى حين وفاته. يعتبر من أشهر المفسرين على الإطلاق، جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظا للقرآن الكريم بصيرا بالمعاني، فقيها في أحكامه، عالما بالسن و بالرجال من الصحابة و التابعين، و بالتاريخ من أيام النّاس و أخبارهم.
2- نشأته و تكوينه العلمي:
تنحصر نشأته العلميّة في مرحلتين أساسيتين : المرحلة الأولى بطبرستان حفظ فيها القرآن الكريم و الحديث النبوي الشريف، ثم بدأ رحلاته العلميّة من أقصى المشرق الإسلامي إلى مغربه ، ثمّ المرحلة الثانية التي رحل فيها إلى بغداد رغبة في سماع الحديث عن أحمد بن حنبل، و إنتقل إلى واسط ثمّ إلى الكوفة حيث أخذ القراءات عن سليمان الطلحي، و الحديث عن جماعة من أبرزهم أبو كريب محمد ابن العلا الهمداني أحد كبار علماء الحديث، و أخذ عن أعلامها علوم اللّغة. جمع الطبري نواح متعدّدة من فنون العلوم و بلوغ فيها جميعا درجة متسارعة من الإمامة. استطاع حفظ القرآن الكريم في سنّ مبكّرة، و حذق تجويده و قراءاته، فكان عالما بالقراءات و اختلافاتها، حاذقا لأساليب اللّغة العربية و فنونها وهو ما ساعده على الخوض في العديد من القضايا اللـّغوية و مباحثها، خاصة بين الكوفيين والبصريين، وهو ما بدا أثره واضحا في تفسيره الذي استعرض فيه بعض المسائل بين اللّغويين، و كثيرا ما كان ينتصر لما أجمع عليه أهل اللّغة أو لما يجاري المنطق و يعضده العقل (2)، نابغا في الحديث وعلومه، له شخصيّة فقهيّة بارزة، استقلّ الطبري بمذهب أسّسه بعد بحث طويل و وجد له أتباعا و مقلّدين، وممّا عرف عنه أنّه كان في بداية أمره شافعّيا و أفتى بالمذهب الشافعي في بغداد عشر سنين، ثمّ انفرد بعد اتساع دائرة فهمه و قدرته الفائقة على الاجتهاد بمذهب مستقل وأقاويل و اختيارات. ترك كتبا كثيرة في الأصول و الفروع، ككتاب البيان عن أصول الأحكام(3).
اعتبر الطبري أبا للتفسير كما أعتبر أبا للتاريخ الإسلامي (4)، حيث ترك كتابا ضخما في التاريخ، يعرب عن رسوخ قدمه و تضلّعه فيه، وهو المعروف بكتاب «تاريخ الأمم و الملوك»، والظاهر حسب ما ورد في هذا الأثر أنّه ألفه بعد التفسير. كل ذلك ساهم في تكوين شخصيّة علميّة مميّزة كانت قادرة على تفسير القرآن الكريم، كما انعكست ملامح شخصيته في ما خلّفه من تآليف كثيرة و متنوّعة تعبّر بجلاء عن قيمته العلميّة ومدى اتّساع مداركه. وكان تفسيره علامة على نضجه العلمي و اتساع معارفه، حيث أشاد به الكثير من العلماء و الباحثين .
3- تفسيره: جامع البيان عن تأويل آي القرآن:
يعتبر تفسير الطبري أقدم التفاسير أشهرها، فقد نّوّه به العلماء قديما و حديثا، لما اجتمع فيه من تفسير بالمأثور و حسن الاستنباط وسعة الثقافة والمقدرة على الترجيح، فهو أوّل التفاسير بالاعتبار(5) . ولعلّ الأهميّة التاريخيّة والصناعيّة لهذا التفسير جعل العلماء يختلفون في عدّه من التفسير بالمأثور أم بالرأي. شهد فيه ابن تيمية قائلا: « التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها، تفسير محمد بن جرير الطبري، فإنّه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة ،و ليس فيه بدعة و لا ينقل عن المتّهمين» (6)، و قال فيه أبو حامد الاسفراييني الفقيه« لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل تفسير محمد بن جرير لم يكن كثيرا» (7). يقع تفسير ابن جرير في ثلاثين جزءا من الحجم الكبير « كان من عهد قريب يكاد يعتبر مفقودا... إلى أن وجدت في حيازة أمير حمودة ابن الأمير عبد الرشيد من أمراء نجد، نسخة مخطوطة كاملة من هذا الكتاب، طبع عليها الكتاب من زمن بعـيد» (8).
عرف الكتاب كثيرا بأنّه «جامع البيان في تفسير القرآن»، عوضا عن العنوان الذي ذكره مؤلّفه في كتـاب« تاريخ الملوك» عنـد تعرّضه لقصة خلق آدم عليه السلام: « و قيل أقوال كثيرة في ذلك حكينا منها جملا في كتابنا المسمى جامع البيان عن تأويل آي القرآن» (9).
طبع جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الطبعة الأولى في المطبعة الأميرية في بولاق بمصر و بهامشها تفسير النيسابوري سنة 1235هـ/1819م، وطبعة الثانية بمطبعة دار المعارف بمصر سنة 1374هـ/1954م، بتحقيق و تعليق الأستاذ المحقّق محمود محمد شاكر و مراجعة الأستاذ أحمد محمد شاكر(10). كتب لهذا التفسير الذيوع و الشهرة بين أهل العلم، فقد كان عمدة أصحاب التفاسير بالمأثور و ربماّ عدّ النواة و المرجع لأصحاب التفاسير بالمعقول، لما تميّز به الطبري من الاستنباط والترجيح ونقده للآثار، ذكره الذهبي قائلا: «بأنّه التفسير الذي له الأولويّة بين كتب التفسير، أولويّة زمنيّة و أولويّة من ناحية الفنّ و الصناعة» (11). بهذا عدّ تفسير الطبري من الموسوعات التي جمعت التطور المعرفي و المنهجي الذي حصل في تاريخ الثقافة العربية و الإسلامية بصفة عامّة، و التفسير بصفة أخص لما استبطنه متنه من ملامح العصر بجوانبه الفكريّة و الاجتماعيّة و السياسيّة، جمع فيه الطبري المرويات عن الرسول صلّى الله عليه و سلمّ و عن صحابته رضي الله تعالى عنهم و عن تابعيهم، كما خاض في مسائل فكريّة و تاريخيّة و اجتهاديّة فقهيّة و عقدية الكلامية.
4- منهجه في التفسير:
أثار المنهج الذي اعتمده الطبري في تفسيره خلافا بين العلماء في تصنيفه بين المفسرين بالمأثور أم بالمعقول، و حاول بعضهم التدليل على أن ّ تفسير الطبري إنّما هو في الحقيقة جمع بين الاثنين و لا تناقض بينهما (12). حدّد الطبري في مقدمة تفسيره المنهج العام الذي اعتمده في تأويل آي القرآن الكريم ،جاء ذلك تحت عنوان: القول في الوجوه التي من قبلها يوصل إلى معرفة تأويل القرآن، و هي عند ه ثلاثة وجوه. الوجه الأول: لا يجوز القول فيه إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه و سلم بتأويله بنصّ عليه، أو بدلالة قد نصبها دالة أمثلة على تأويله. الوجه الثاني: ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار، و ذلك ما فيه من الخبر عن آجال حادثة، وأوقات آتية، كوقت الساعة، و النّفخ في الصور، و نزول عيسى ابن مريم و ما أشبه ذلك. الوجه الثالث: ما يعلم تأويله كّل ذي علم باللّسان الذي نزل به القرآن، و ذلك بإقامة إعرابه و معرفة المسمّيات باسمها غير المشترك فيها، و الموصوفات بصفاتها الخاصّة دون ما سواها، فإنّ ذلك لا يجهله أحد منهم (13). و عليه فإنّ الوجه الأول والثالث هما اللّذان يمكن أن يكونا مجالا للتأويل.
الوجه الأول: اعتمد فيه أصلين رئيسيين:
1- ما أثر عن الرسول صلّى الله عليه و سلّم (14)، وكان لهذا الجانب الأولويّة المطلقة بالرغم من ظهور الوضع و الكذب عليه صلى الله عليه و سلم، و هو ما قد يثقل كاهل الأخذ بهذا المنهج في تفحص و تتبع صحة الأسانيد و تعقبها بالجرح و التعديل.
2- 2- ما أثر عن السلف(15) الاعتماد على مأثور السلف : يعتبر المأثور من الأصول المعتمدة في منهجه العلمي في التفسير وهو ما تقتضيه أيضا أوضاع البيان القرآني نفسه وخصائصه من الكليّة والعموم والإطلاق(16). وبيان ذلك أنّ منهج القرآن الكريم في بيانه للأحكام قد جاء على نحو كليّ غالبا والمراد بالكليّة هو الإجمال دون بيان للكيفيّات والأسباب وللأركان والشروط والموانع، لأنّ هذا ما تكفّلت به السنّة النبويّة التي وصلت إلينا عن طريق النقل والرّواية. إنّ المجمل من حيث هو لا يقع به تكليف المخاطب كما حقّقه أبو إسحاق الشاطبي.
أمّا الوجه الثاني اعتمد فيه على:
أ- الاجتهاد بالرأي: يبرز هذا المجال بجلاء ملامح الشخصيّة العلميّة عند الطبري و أهمّ مميّزاتها، فلئن كان في المجال الأول يعتمد أساسا على المأثور و المجهود المبذول في أقصى الحالات هو تفحص صحة الروايات من عدمها، فإنّ في المجال الثاني اعتمد أساسا على النظر و الاجتهاد في استنباط المعاني ونقد الآثار والترجيح بينها.
ب- اللّغة العربية (17) و منها: الاحتكام إلى المعروف من كلام العرب و رجوعه إلى الشعر الجاهلي يعود الطبري كثيرا إلى الشعر الجاهلي و ذلك تأكيـدا لما جاء في مقدمة تفسيره: « و هذا القرآن نزل بلغة العرب، فواجب لمن أراد أن يعلم تأويله أن يكون بأشعارهم عالما و للغتهم مدركا و لأسرار كلامهم متقنا، »(18) (19). فالمعرفة باللّغة من العلوم الضروريّة لفهم المراد من كلام الله تعالى. لذلك اتّخذ الطبري اللغة بمباحثها منهجا أساسا في تفسيره: حيث يجعل النحو أو الإعراب خادما للمعنى القرآني ،ووظّف اللّغة ومباحثها لخدمة المعنى المستنبط من الآية وهو ما دفعه في كثير من المواضيع إلى أن يعتمد المنطق اللّغوي بما يتبادر منه من المعاني الظاهرة الأولى باعتبار أنّ هذا المنطق هو الأرضيّة الصلبة والأساس المكين الذي ينطلق منه إلى التعمّق في معاني الآيات، ودفعته عنايته بالمباحث اللّغويّة إلى استعراض ثقافته الشعريّة.
ت- القراءات: كانت عناية الطبري بالقراءات بالغة الأهميّة عكست عمق اطّلاعه في هذا الفنّ من العلوم، و لا يخفى ما لاختلاف وجوه القراءات المشهورة من أثر في توجيه معاني آيات القرآن الكريم(20).
ث- الإجماع: وهو المصدر الثالث من مصادر التشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم و السنة النبويّة المطهّرة، لذلك حظي بمنزلة هامّة في تفسيره، فكثيرا ما يستند إليه ويجعله سلطانا كبيرا في اختيار الأقوال و ترجيحها(21)، واعتمده أيضا في الفصل بين العديد من المسائل اللّغويّة.
يعتبر التأويل عماد الاجتهاد عند الطبري، ولذلك عدّ أصلا منهجّيـا في تفسيـره، و أشار الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور إلى منهج الطبري في إيجاز، مركّزا بأنّه ممّن يتمسكون بدلالة المفردات اللّغويةّ على المعاني، التي هي مستعملة فيها بيان المعنى الأصلي للمفرد و المعنى المنقول إليه مع بيان مناسبة النقل، والاستشهاد بالشعر العربي و يضيف الشيخ محمد الفاضل في بيان استعمال الطبري للتأويل:« و يؤيّد القول المتّفق عليه بقوله: «و مثل الذي قلنا قال أهل التأويل، و إذا كان المعنى غير متفق عليه يقول و بما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل»». ومن أمثلة اعتنائه بالمأثور عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. جاء في تفسيره لقوله تعالى:? لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ?(22) « والصواب من القول في ذلك عندنا، ما تضافرت عليه الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال « سترون ربّكم يوم القيامة كمـا ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب، فالمؤمنون يرونه والكافرون عنه يومئذ محجوبون» (23) كما قال جلّ ثناؤه ? كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ? (24) (25). وبعد استعراضه للأقوال الواردة فيها يعلّق بأنّ أولى القولين في ذلك بالصحّة: « القول الذي ذكرناه عن الحسن وعكرمة، من أنّ معنى ذلك تنظر إلى خالقها، وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « أنّ أدنى أهل الجنّة منزلة، لمن ينظر في ملكه ألفي سنة، قال وإنّ أفضلهم منزلة لمن ينظر في وجه الله كلّ يوم مرّتين، قال ثمّ تلا ? وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ?قال بالبياض والصفاء، قال إلى ربّها ناظــرة، قال تنظر كـلّ يوم فـي وجه الله عزّ وجلّ » (26) » (27). ومن أمثلة اعتنائه بالقراءات: جاء في تفسيره لقوله تعالى:? حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ? (28) الاختلاف الواقع بين القرّاء في قراءة قوله: « حَتَّى إِذَا جَاءَنَا » قرأته: عامّة قرّاء الحجاز سوى ابن محيص و بعض الكوفيّين وبعض الشاميّيـن(حتى إذا جاءنا)على التثنية، و معنى ذلك حتى إذا جاءنا هذا الذي غشي عن ذكر الرحمـان و قرينه و الذي قيّض له من الشياطين(29). وقرأته عامّة قرّاء الكوفة و البصرة و ابن محيص (حتى إذا جاءنا)بمعنى:حتى إذا جاءنا هذا الغاشي من بني أدم عن ذكر الرحمان(30).
ويرى الطبري أنّ القراءتان جائزتان و متقاربتان لأنّهما: «قراءتان متقـارباتا المعـــنى و ذلك أنّ خبر الله تبارك وتعالى عن حال أحد الفريقين، عند مقدمه عليه فيما أقرّنا في الدنيا الكفاية للسامع عن خبر الأخر،إذ كان لخبر عن حال أحدهما معلوما به خبر حال الآخر، و هما مع ذلك قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار فبأيّتهما قرأ القارئ فمصيب» (31). وفي قوله تعالى:? وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ? (32) يجمع بين القراءتين مادامتا تؤديان نفس المعنى فيقول: « والصواب من القول في ذلك عندي، أنّهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار و متقاربتا المعنى، فبأيّتهما قرأ القارئ فمصيب» (33). ويذكر في قوله تعالى:? فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ?(34) الاختلاف الحاصل بين القرّاء في القراءة: قرأته عامّة قرّاء أهل المدينة و الحجاز و البصرة: بضمّ الصاد... فالمعنى أضممهنّ إليك ووجههنّ نحوك (35). وقرأته جماعة من أهل الكوفة بالكسر بمعنى فصرهنّ... ففيما ذكرنا من أقوال من روينا قوله في تأويل قوله ? فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ? أنّه بمعنى قطعهنّ، إليـك دلالة واضحــة على صحّة ما قلنا في ذلك و فساد قول من خالفنا فيه. و إن كان ذلك كذلك فسواء قرأ القارئ ذلك بضمّ الصاد فصـُرهن إليك، أو كسرها فصرهنّ إن كانت اللّغتان معروفتين بمعنى واحد، غير أنّ الأمر و إن كان كذلك فإنّ أحبّهما إليّ أقرأ به فصـُرهنّ إليك بضمّ الصاد، لأنّهمــا أعلـــى اللّغتين و أشهرهما في أحياء العرب (36) . أمّا في قوله تعالى ? لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ? (37) يبيّن الطبري الاختلاف في القراءة بين قرّاء الحجاز وعامّة قرّاء العراق، ويرى الصواب فيها أن يوفّق بينهما في المعنى بأن يقرأ جميعا على مذهب ما لم يتمّ فاعله، أو على مذهب ما يسمّى فاعله، يذكر ذلك قائلا : «فأمّا أن يقرأ أحدهما على مذهب ما لم يتمّ فاعله والآخر على وجه ما قد يسمّى فــاعله من غير معنى ألجأه علــى ذلك، فاختيار خارج عن الفصيح من كلام العرب» (38).
ومن أمثلة اعتنائه باللّغة: يستعرض الخلاف القائم بين أهل اللّغة في وجه نصب قوله تعالى:? إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ? (39) بعض نحاة البصرة: نصب كل شيء في لغة من قال: «عبد الله ضربته.... و هي في كلام العرب كثيرة... فجعل خلقناه من صفة الشيء». غيره: إنّما نصب كلّ لأنّ قوله: خلقناه فعل لقوله « أنا » و هو أولى بالتقديم إليه من المفعول، فلذلك اختير النصب. ويرى أنّ: «القول الثاني أولى بالصواب عندنا من الأول(40) » . و في قوله تعالى:? مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ? (41) يقول الطبري: «إنّ الآثار دلّت على السماوات في تصدّعها و تشقّقها لربّها و أطاعت له في أمره إيّاها- و يستشهد بالمأثور في ذلك عن العرب- والعرب تقول: إذن لك في الأمر إذنا بمعنى استمـع لك، و منه الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه و سلم « ما أذن الله لشيء كإذنه لنبيّ يتغنّـــى بالقرآن» يعني بذلك ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبييّ يتغنّى بالقرآن» (42)، و منه قول الشاعـر:« صم إذا سمـعوا خيرا ذكرت به و إن ذكرت بسوء عدهم أذن »(43)، و في قوله تعـالى: ? وَحُقَّتْ?: حققّ الله عليها الاستماع بالانشقاق و الانتهاء إلى طاعته في ذلك» (44).
الخاتمة:
يعكس تفسير الطبري عن خصائص الشخصيّة العلميّة والصناعيّة للطبري التي أثّرت في العديد من التفاسير اللاحقة عنه، فكان مفسّرا استوعب في تفسيره معارف عصره وآثار أسلافه وحاول توظيفها في استجلاء معاني القرآن الكريم،كما ساهم في استقلاليّة التفسير عن الحديث ، وبذلك اعتبر إماما في التفسير كان له فيه السبق التاريخي والصناعي.
الهوامش:
(1) الداوودي: الحافظ شمس الدين محمد علي بن أحمد: طبقات المفسرين: دار الكتب العلمية بيروت - لبنان ط 1، 1403هـ /1983م ج 2ص 114.
(2) مصطفى الضاوي: مناهج في التفسير الناشر منشأة العارف بالإسكندريّة د.ت . ص 396.
(3)الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن دار الفكر 1408هـ/1988م مج2 ج2ص 494.
(4) الذهبي محمد حسين: التفسير و المفسرون دار إحياء التراث العربي لبنان ط 2 1396هـ/ 1976م.ج 1 ص 206.
(5)صالح صبحي: مباحث في علوم القرآن، دار العلم للملايين بيروت ط 6 تشرين الأول 1969م ص 298.
(6)ابن تيمية نقي الدين: مجموع فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق عبد الرحمان بن قاسم النجدي و ولده محمد، المملكة العربية السعودية 1381هـ -1386هـ ج 13 ص 385.
(7) ابن العماد: أبو الفلاح عبد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، منشورات دار الآفاق الجديدة بيروت مج 1 ج 2 ص 206.
(8)زهير جولد: المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن الكريم، تعريب على حسن عبد القادر دار العلوم 1944م ج 1 ص 86.
(9) الطبري محمد بن جرير: تاريخ الملوك دار الفكر للطباعة و النشر و التوزيع 1399هـ/1979م ج 1 ص 45.
(10) دراسات وبحوث في الفكر الاسلامي المعاصر، دار قتيبة للطباعة والنشر والتوزيع بيروت ط 1، 1408هـ / 1988م.ج 1 ص 145.
(11) الذهبي محمد حسين: التفسير و المفسرون ج 1 ص 209.
(12) الدريني فتحي: دراسات و بحوث في الفكر الإسلامي المعاصر ج 1 ص 145.
(13)الطبري محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن مج 1 ج1 ص 32-33. (14) الدريني فتحي : دراسات و بحوث في الفكر الإسلامي المعاصر ج 1 ص 165. (15)ن م ص 193.
(16) ن م ص 168-169.
(17) ن م ص233.
(18) الذهبي محمد حسين: التفسير و المفسرون ج 1 ص 217.
(19) الطبري محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن مج 7 ج12 ص 25.
(20) الدريني فتحي: دراسات و بحوث في الفكر الإسلامي المعاصر ج 1 ص 219-220.
(21) الذهبي محمد حسين: التفسير و المفسرون ج 1 ص 213. (22) ) الأنعام:6/103.
(23) البخاري : كتاب الآذان باب 129، تفسير سورة المائدة باب 8، كتاب التوحيد باب 24، وكذلك مسلم كتاب الإيمان 299-300-302، وأبو داود السنّة 19.
(24) المطفّفين 83/15. (25) الطبري: محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن مج 5 ج 7 ص 303.
(26)أحمد ابن حنبل : المسند موسوعة كتب السنّة وشروحها ط 2 الناشران دار الدعوة استنبول ودار سحنون 1413هـ/1992م مج 2 ص 13.
(27)الطبري: محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن مج 14 ج 29 ص 194. (28) الزخرف: 43/38.
(29) الطبري محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن مج 3 ج 4 ص 99-100.
(30) ن م مج 13 ج 25 ص 72. (31) ن م مج 13 ج 25 ص 73. (32) النمل 27/88. (33) الطبري محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن مج 11 ج 20 ص 21.
(34)الطبري محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن مج 3 ج 3 ص 50.
(35) البقرة:2/260.
(36) الطبري محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن مج 3 ج 3 ص 53-56.
(37) آل عمران 3/181.
(38)الطبري: محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن مج 5 ج 7 ص 214.
(39) القمر: 54/49.
(40) الطبري: محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن مج 13 ج 27 ص 110.
(41) الأحزاب:33/38.
(42) البخاري:صحيح البخاري:كتاب التوحيد باب 32 مج 1، كتاب فضائل القرآن باب 19 مج 1.
(43) الطبري محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن مج 15 ج 30 ص112.
(44) ن م مج 15 ج 30ص 112.
المصدر : ملتقى الإبداع الفكري .
تجمع كلّ الدراسات بأنّ أواخر القرن الثالث للهجرة وبداية القرن الرابع مرحلة أساسيّة في بروز ملامح التفسير كعلم، وذلك مع ظهور تفسير الطبري، حيث جاء بين مرحلتين هامّتين نزع فيها علم التفسير نزعا من ثنايا كتب الحديث. وأشار الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور أنّ تفسير الطبري ساهم في إرساء أسس النظر الفكري في الموروثات والآثار التي يعتمدها التفسير بالمأثور، وتبعا لهذا المجهود بدأت أسس اعتماد التفسير بالرأي تتّسع وتتعاظم، و هو ما ساهم في إلى انقسام أهل التفسير إلى شعبتين، إحداهما تتمسّك بالتفسير بالمأثور، وتتحرّى الأخرى من التزام به.
1-التعريف بالطبري:
محمد بن جرير الطبري: وهو محمد بن جرير بن يزيد كثير الآملي الطبري، ولد بآمل طبرستان سنة أربع و عشرين ومائتين للهجرة(224هـ) و توفي سنة عشر و ثلاثمائة للهجرة(310هـ) (1). صاحب التصانيف المشهور، استوطن بغداد و أقام بها إلى حين وفاته. يعتبر من أشهر المفسرين على الإطلاق، جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظا للقرآن الكريم بصيرا بالمعاني، فقيها في أحكامه، عالما بالسن و بالرجال من الصحابة و التابعين، و بالتاريخ من أيام النّاس و أخبارهم.
2- نشأته و تكوينه العلمي:
تنحصر نشأته العلميّة في مرحلتين أساسيتين : المرحلة الأولى بطبرستان حفظ فيها القرآن الكريم و الحديث النبوي الشريف، ثم بدأ رحلاته العلميّة من أقصى المشرق الإسلامي إلى مغربه ، ثمّ المرحلة الثانية التي رحل فيها إلى بغداد رغبة في سماع الحديث عن أحمد بن حنبل، و إنتقل إلى واسط ثمّ إلى الكوفة حيث أخذ القراءات عن سليمان الطلحي، و الحديث عن جماعة من أبرزهم أبو كريب محمد ابن العلا الهمداني أحد كبار علماء الحديث، و أخذ عن أعلامها علوم اللّغة. جمع الطبري نواح متعدّدة من فنون العلوم و بلوغ فيها جميعا درجة متسارعة من الإمامة. استطاع حفظ القرآن الكريم في سنّ مبكّرة، و حذق تجويده و قراءاته، فكان عالما بالقراءات و اختلافاتها، حاذقا لأساليب اللّغة العربية و فنونها وهو ما ساعده على الخوض في العديد من القضايا اللـّغوية و مباحثها، خاصة بين الكوفيين والبصريين، وهو ما بدا أثره واضحا في تفسيره الذي استعرض فيه بعض المسائل بين اللّغويين، و كثيرا ما كان ينتصر لما أجمع عليه أهل اللّغة أو لما يجاري المنطق و يعضده العقل (2)، نابغا في الحديث وعلومه، له شخصيّة فقهيّة بارزة، استقلّ الطبري بمذهب أسّسه بعد بحث طويل و وجد له أتباعا و مقلّدين، وممّا عرف عنه أنّه كان في بداية أمره شافعّيا و أفتى بالمذهب الشافعي في بغداد عشر سنين، ثمّ انفرد بعد اتساع دائرة فهمه و قدرته الفائقة على الاجتهاد بمذهب مستقل وأقاويل و اختيارات. ترك كتبا كثيرة في الأصول و الفروع، ككتاب البيان عن أصول الأحكام(3).
اعتبر الطبري أبا للتفسير كما أعتبر أبا للتاريخ الإسلامي (4)، حيث ترك كتابا ضخما في التاريخ، يعرب عن رسوخ قدمه و تضلّعه فيه، وهو المعروف بكتاب «تاريخ الأمم و الملوك»، والظاهر حسب ما ورد في هذا الأثر أنّه ألفه بعد التفسير. كل ذلك ساهم في تكوين شخصيّة علميّة مميّزة كانت قادرة على تفسير القرآن الكريم، كما انعكست ملامح شخصيته في ما خلّفه من تآليف كثيرة و متنوّعة تعبّر بجلاء عن قيمته العلميّة ومدى اتّساع مداركه. وكان تفسيره علامة على نضجه العلمي و اتساع معارفه، حيث أشاد به الكثير من العلماء و الباحثين .
3- تفسيره: جامع البيان عن تأويل آي القرآن:
يعتبر تفسير الطبري أقدم التفاسير أشهرها، فقد نّوّه به العلماء قديما و حديثا، لما اجتمع فيه من تفسير بالمأثور و حسن الاستنباط وسعة الثقافة والمقدرة على الترجيح، فهو أوّل التفاسير بالاعتبار(5) . ولعلّ الأهميّة التاريخيّة والصناعيّة لهذا التفسير جعل العلماء يختلفون في عدّه من التفسير بالمأثور أم بالرأي. شهد فيه ابن تيمية قائلا: « التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها، تفسير محمد بن جرير الطبري، فإنّه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة ،و ليس فيه بدعة و لا ينقل عن المتّهمين» (6)، و قال فيه أبو حامد الاسفراييني الفقيه« لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل تفسير محمد بن جرير لم يكن كثيرا» (7). يقع تفسير ابن جرير في ثلاثين جزءا من الحجم الكبير « كان من عهد قريب يكاد يعتبر مفقودا... إلى أن وجدت في حيازة أمير حمودة ابن الأمير عبد الرشيد من أمراء نجد، نسخة مخطوطة كاملة من هذا الكتاب، طبع عليها الكتاب من زمن بعـيد» (8).
عرف الكتاب كثيرا بأنّه «جامع البيان في تفسير القرآن»، عوضا عن العنوان الذي ذكره مؤلّفه في كتـاب« تاريخ الملوك» عنـد تعرّضه لقصة خلق آدم عليه السلام: « و قيل أقوال كثيرة في ذلك حكينا منها جملا في كتابنا المسمى جامع البيان عن تأويل آي القرآن» (9).
طبع جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الطبعة الأولى في المطبعة الأميرية في بولاق بمصر و بهامشها تفسير النيسابوري سنة 1235هـ/1819م، وطبعة الثانية بمطبعة دار المعارف بمصر سنة 1374هـ/1954م، بتحقيق و تعليق الأستاذ المحقّق محمود محمد شاكر و مراجعة الأستاذ أحمد محمد شاكر(10). كتب لهذا التفسير الذيوع و الشهرة بين أهل العلم، فقد كان عمدة أصحاب التفاسير بالمأثور و ربماّ عدّ النواة و المرجع لأصحاب التفاسير بالمعقول، لما تميّز به الطبري من الاستنباط والترجيح ونقده للآثار، ذكره الذهبي قائلا: «بأنّه التفسير الذي له الأولويّة بين كتب التفسير، أولويّة زمنيّة و أولويّة من ناحية الفنّ و الصناعة» (11). بهذا عدّ تفسير الطبري من الموسوعات التي جمعت التطور المعرفي و المنهجي الذي حصل في تاريخ الثقافة العربية و الإسلامية بصفة عامّة، و التفسير بصفة أخص لما استبطنه متنه من ملامح العصر بجوانبه الفكريّة و الاجتماعيّة و السياسيّة، جمع فيه الطبري المرويات عن الرسول صلّى الله عليه و سلمّ و عن صحابته رضي الله تعالى عنهم و عن تابعيهم، كما خاض في مسائل فكريّة و تاريخيّة و اجتهاديّة فقهيّة و عقدية الكلامية.
4- منهجه في التفسير:
أثار المنهج الذي اعتمده الطبري في تفسيره خلافا بين العلماء في تصنيفه بين المفسرين بالمأثور أم بالمعقول، و حاول بعضهم التدليل على أن ّ تفسير الطبري إنّما هو في الحقيقة جمع بين الاثنين و لا تناقض بينهما (12). حدّد الطبري في مقدمة تفسيره المنهج العام الذي اعتمده في تأويل آي القرآن الكريم ،جاء ذلك تحت عنوان: القول في الوجوه التي من قبلها يوصل إلى معرفة تأويل القرآن، و هي عند ه ثلاثة وجوه. الوجه الأول: لا يجوز القول فيه إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه و سلم بتأويله بنصّ عليه، أو بدلالة قد نصبها دالة أمثلة على تأويله. الوجه الثاني: ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار، و ذلك ما فيه من الخبر عن آجال حادثة، وأوقات آتية، كوقت الساعة، و النّفخ في الصور، و نزول عيسى ابن مريم و ما أشبه ذلك. الوجه الثالث: ما يعلم تأويله كّل ذي علم باللّسان الذي نزل به القرآن، و ذلك بإقامة إعرابه و معرفة المسمّيات باسمها غير المشترك فيها، و الموصوفات بصفاتها الخاصّة دون ما سواها، فإنّ ذلك لا يجهله أحد منهم (13). و عليه فإنّ الوجه الأول والثالث هما اللّذان يمكن أن يكونا مجالا للتأويل.
الوجه الأول: اعتمد فيه أصلين رئيسيين:
1- ما أثر عن الرسول صلّى الله عليه و سلّم (14)، وكان لهذا الجانب الأولويّة المطلقة بالرغم من ظهور الوضع و الكذب عليه صلى الله عليه و سلم، و هو ما قد يثقل كاهل الأخذ بهذا المنهج في تفحص و تتبع صحة الأسانيد و تعقبها بالجرح و التعديل.
2- 2- ما أثر عن السلف(15) الاعتماد على مأثور السلف : يعتبر المأثور من الأصول المعتمدة في منهجه العلمي في التفسير وهو ما تقتضيه أيضا أوضاع البيان القرآني نفسه وخصائصه من الكليّة والعموم والإطلاق(16). وبيان ذلك أنّ منهج القرآن الكريم في بيانه للأحكام قد جاء على نحو كليّ غالبا والمراد بالكليّة هو الإجمال دون بيان للكيفيّات والأسباب وللأركان والشروط والموانع، لأنّ هذا ما تكفّلت به السنّة النبويّة التي وصلت إلينا عن طريق النقل والرّواية. إنّ المجمل من حيث هو لا يقع به تكليف المخاطب كما حقّقه أبو إسحاق الشاطبي.
أمّا الوجه الثاني اعتمد فيه على:
أ- الاجتهاد بالرأي: يبرز هذا المجال بجلاء ملامح الشخصيّة العلميّة عند الطبري و أهمّ مميّزاتها، فلئن كان في المجال الأول يعتمد أساسا على المأثور و المجهود المبذول في أقصى الحالات هو تفحص صحة الروايات من عدمها، فإنّ في المجال الثاني اعتمد أساسا على النظر و الاجتهاد في استنباط المعاني ونقد الآثار والترجيح بينها.
ب- اللّغة العربية (17) و منها: الاحتكام إلى المعروف من كلام العرب و رجوعه إلى الشعر الجاهلي يعود الطبري كثيرا إلى الشعر الجاهلي و ذلك تأكيـدا لما جاء في مقدمة تفسيره: « و هذا القرآن نزل بلغة العرب، فواجب لمن أراد أن يعلم تأويله أن يكون بأشعارهم عالما و للغتهم مدركا و لأسرار كلامهم متقنا، »(18) (19). فالمعرفة باللّغة من العلوم الضروريّة لفهم المراد من كلام الله تعالى. لذلك اتّخذ الطبري اللغة بمباحثها منهجا أساسا في تفسيره: حيث يجعل النحو أو الإعراب خادما للمعنى القرآني ،ووظّف اللّغة ومباحثها لخدمة المعنى المستنبط من الآية وهو ما دفعه في كثير من المواضيع إلى أن يعتمد المنطق اللّغوي بما يتبادر منه من المعاني الظاهرة الأولى باعتبار أنّ هذا المنطق هو الأرضيّة الصلبة والأساس المكين الذي ينطلق منه إلى التعمّق في معاني الآيات، ودفعته عنايته بالمباحث اللّغويّة إلى استعراض ثقافته الشعريّة.
ت- القراءات: كانت عناية الطبري بالقراءات بالغة الأهميّة عكست عمق اطّلاعه في هذا الفنّ من العلوم، و لا يخفى ما لاختلاف وجوه القراءات المشهورة من أثر في توجيه معاني آيات القرآن الكريم(20).
ث- الإجماع: وهو المصدر الثالث من مصادر التشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم و السنة النبويّة المطهّرة، لذلك حظي بمنزلة هامّة في تفسيره، فكثيرا ما يستند إليه ويجعله سلطانا كبيرا في اختيار الأقوال و ترجيحها(21)، واعتمده أيضا في الفصل بين العديد من المسائل اللّغويّة.
يعتبر التأويل عماد الاجتهاد عند الطبري، ولذلك عدّ أصلا منهجّيـا في تفسيـره، و أشار الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور إلى منهج الطبري في إيجاز، مركّزا بأنّه ممّن يتمسكون بدلالة المفردات اللّغويةّ على المعاني، التي هي مستعملة فيها بيان المعنى الأصلي للمفرد و المعنى المنقول إليه مع بيان مناسبة النقل، والاستشهاد بالشعر العربي و يضيف الشيخ محمد الفاضل في بيان استعمال الطبري للتأويل:« و يؤيّد القول المتّفق عليه بقوله: «و مثل الذي قلنا قال أهل التأويل، و إذا كان المعنى غير متفق عليه يقول و بما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل»». ومن أمثلة اعتنائه بالمأثور عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. جاء في تفسيره لقوله تعالى:? لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ?(22) « والصواب من القول في ذلك عندنا، ما تضافرت عليه الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال « سترون ربّكم يوم القيامة كمـا ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب، فالمؤمنون يرونه والكافرون عنه يومئذ محجوبون» (23) كما قال جلّ ثناؤه ? كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ? (24) (25). وبعد استعراضه للأقوال الواردة فيها يعلّق بأنّ أولى القولين في ذلك بالصحّة: « القول الذي ذكرناه عن الحسن وعكرمة، من أنّ معنى ذلك تنظر إلى خالقها، وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « أنّ أدنى أهل الجنّة منزلة، لمن ينظر في ملكه ألفي سنة، قال وإنّ أفضلهم منزلة لمن ينظر في وجه الله كلّ يوم مرّتين، قال ثمّ تلا ? وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ?قال بالبياض والصفاء، قال إلى ربّها ناظــرة، قال تنظر كـلّ يوم فـي وجه الله عزّ وجلّ » (26) » (27). ومن أمثلة اعتنائه بالقراءات: جاء في تفسيره لقوله تعالى:? حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ? (28) الاختلاف الواقع بين القرّاء في قراءة قوله: « حَتَّى إِذَا جَاءَنَا » قرأته: عامّة قرّاء الحجاز سوى ابن محيص و بعض الكوفيّين وبعض الشاميّيـن(حتى إذا جاءنا)على التثنية، و معنى ذلك حتى إذا جاءنا هذا الذي غشي عن ذكر الرحمـان و قرينه و الذي قيّض له من الشياطين(29). وقرأته عامّة قرّاء الكوفة و البصرة و ابن محيص (حتى إذا جاءنا)بمعنى:حتى إذا جاءنا هذا الغاشي من بني أدم عن ذكر الرحمان(30).
ويرى الطبري أنّ القراءتان جائزتان و متقاربتان لأنّهما: «قراءتان متقـارباتا المعـــنى و ذلك أنّ خبر الله تبارك وتعالى عن حال أحد الفريقين، عند مقدمه عليه فيما أقرّنا في الدنيا الكفاية للسامع عن خبر الأخر،إذ كان لخبر عن حال أحدهما معلوما به خبر حال الآخر، و هما مع ذلك قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار فبأيّتهما قرأ القارئ فمصيب» (31). وفي قوله تعالى:? وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ? (32) يجمع بين القراءتين مادامتا تؤديان نفس المعنى فيقول: « والصواب من القول في ذلك عندي، أنّهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار و متقاربتا المعنى، فبأيّتهما قرأ القارئ فمصيب» (33). ويذكر في قوله تعالى:? فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ?(34) الاختلاف الحاصل بين القرّاء في القراءة: قرأته عامّة قرّاء أهل المدينة و الحجاز و البصرة: بضمّ الصاد... فالمعنى أضممهنّ إليك ووجههنّ نحوك (35). وقرأته جماعة من أهل الكوفة بالكسر بمعنى فصرهنّ... ففيما ذكرنا من أقوال من روينا قوله في تأويل قوله ? فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ? أنّه بمعنى قطعهنّ، إليـك دلالة واضحــة على صحّة ما قلنا في ذلك و فساد قول من خالفنا فيه. و إن كان ذلك كذلك فسواء قرأ القارئ ذلك بضمّ الصاد فصـُرهن إليك، أو كسرها فصرهنّ إن كانت اللّغتان معروفتين بمعنى واحد، غير أنّ الأمر و إن كان كذلك فإنّ أحبّهما إليّ أقرأ به فصـُرهنّ إليك بضمّ الصاد، لأنّهمــا أعلـــى اللّغتين و أشهرهما في أحياء العرب (36) . أمّا في قوله تعالى ? لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ? (37) يبيّن الطبري الاختلاف في القراءة بين قرّاء الحجاز وعامّة قرّاء العراق، ويرى الصواب فيها أن يوفّق بينهما في المعنى بأن يقرأ جميعا على مذهب ما لم يتمّ فاعله، أو على مذهب ما يسمّى فاعله، يذكر ذلك قائلا : «فأمّا أن يقرأ أحدهما على مذهب ما لم يتمّ فاعله والآخر على وجه ما قد يسمّى فــاعله من غير معنى ألجأه علــى ذلك، فاختيار خارج عن الفصيح من كلام العرب» (38).
ومن أمثلة اعتنائه باللّغة: يستعرض الخلاف القائم بين أهل اللّغة في وجه نصب قوله تعالى:? إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ? (39) بعض نحاة البصرة: نصب كل شيء في لغة من قال: «عبد الله ضربته.... و هي في كلام العرب كثيرة... فجعل خلقناه من صفة الشيء». غيره: إنّما نصب كلّ لأنّ قوله: خلقناه فعل لقوله « أنا » و هو أولى بالتقديم إليه من المفعول، فلذلك اختير النصب. ويرى أنّ: «القول الثاني أولى بالصواب عندنا من الأول(40) » . و في قوله تعالى:? مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ? (41) يقول الطبري: «إنّ الآثار دلّت على السماوات في تصدّعها و تشقّقها لربّها و أطاعت له في أمره إيّاها- و يستشهد بالمأثور في ذلك عن العرب- والعرب تقول: إذن لك في الأمر إذنا بمعنى استمـع لك، و منه الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه و سلم « ما أذن الله لشيء كإذنه لنبيّ يتغنّـــى بالقرآن» يعني بذلك ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبييّ يتغنّى بالقرآن» (42)، و منه قول الشاعـر:« صم إذا سمـعوا خيرا ذكرت به و إن ذكرت بسوء عدهم أذن »(43)، و في قوله تعـالى: ? وَحُقَّتْ?: حققّ الله عليها الاستماع بالانشقاق و الانتهاء إلى طاعته في ذلك» (44).
الخاتمة:
يعكس تفسير الطبري عن خصائص الشخصيّة العلميّة والصناعيّة للطبري التي أثّرت في العديد من التفاسير اللاحقة عنه، فكان مفسّرا استوعب في تفسيره معارف عصره وآثار أسلافه وحاول توظيفها في استجلاء معاني القرآن الكريم،كما ساهم في استقلاليّة التفسير عن الحديث ، وبذلك اعتبر إماما في التفسير كان له فيه السبق التاريخي والصناعي.
الهوامش:
(1) الداوودي: الحافظ شمس الدين محمد علي بن أحمد: طبقات المفسرين: دار الكتب العلمية بيروت - لبنان ط 1، 1403هـ /1983م ج 2ص 114.
(2) مصطفى الضاوي: مناهج في التفسير الناشر منشأة العارف بالإسكندريّة د.ت . ص 396.
(3)الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن دار الفكر 1408هـ/1988م مج2 ج2ص 494.
(4) الذهبي محمد حسين: التفسير و المفسرون دار إحياء التراث العربي لبنان ط 2 1396هـ/ 1976م.ج 1 ص 206.
(5)صالح صبحي: مباحث في علوم القرآن، دار العلم للملايين بيروت ط 6 تشرين الأول 1969م ص 298.
(6)ابن تيمية نقي الدين: مجموع فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق عبد الرحمان بن قاسم النجدي و ولده محمد، المملكة العربية السعودية 1381هـ -1386هـ ج 13 ص 385.
(7) ابن العماد: أبو الفلاح عبد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، منشورات دار الآفاق الجديدة بيروت مج 1 ج 2 ص 206.
(8)زهير جولد: المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن الكريم، تعريب على حسن عبد القادر دار العلوم 1944م ج 1 ص 86.
(9) الطبري محمد بن جرير: تاريخ الملوك دار الفكر للطباعة و النشر و التوزيع 1399هـ/1979م ج 1 ص 45.
(10) دراسات وبحوث في الفكر الاسلامي المعاصر، دار قتيبة للطباعة والنشر والتوزيع بيروت ط 1، 1408هـ / 1988م.ج 1 ص 145.
(11) الذهبي محمد حسين: التفسير و المفسرون ج 1 ص 209.
(12) الدريني فتحي: دراسات و بحوث في الفكر الإسلامي المعاصر ج 1 ص 145.
(13)الطبري محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن مج 1 ج1 ص 32-33. (14) الدريني فتحي : دراسات و بحوث في الفكر الإسلامي المعاصر ج 1 ص 165. (15)ن م ص 193.
(16) ن م ص 168-169.
(17) ن م ص233.
(18) الذهبي محمد حسين: التفسير و المفسرون ج 1 ص 217.
(19) الطبري محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن مج 7 ج12 ص 25.
(20) الدريني فتحي: دراسات و بحوث في الفكر الإسلامي المعاصر ج 1 ص 219-220.
(21) الذهبي محمد حسين: التفسير و المفسرون ج 1 ص 213. (22) ) الأنعام:6/103.
(23) البخاري : كتاب الآذان باب 129، تفسير سورة المائدة باب 8، كتاب التوحيد باب 24، وكذلك مسلم كتاب الإيمان 299-300-302، وأبو داود السنّة 19.
(24) المطفّفين 83/15. (25) الطبري: محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن مج 5 ج 7 ص 303.
(26)أحمد ابن حنبل : المسند موسوعة كتب السنّة وشروحها ط 2 الناشران دار الدعوة استنبول ودار سحنون 1413هـ/1992م مج 2 ص 13.
(27)الطبري: محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن مج 14 ج 29 ص 194. (28) الزخرف: 43/38.
(29) الطبري محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن مج 3 ج 4 ص 99-100.
(30) ن م مج 13 ج 25 ص 72. (31) ن م مج 13 ج 25 ص 73. (32) النمل 27/88. (33) الطبري محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن مج 11 ج 20 ص 21.
(34)الطبري محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن مج 3 ج 3 ص 50.
(35) البقرة:2/260.
(36) الطبري محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن مج 3 ج 3 ص 53-56.
(37) آل عمران 3/181.
(38)الطبري: محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن مج 5 ج 7 ص 214.
(39) القمر: 54/49.
(40) الطبري: محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن مج 13 ج 27 ص 110.
(41) الأحزاب:33/38.
(42) البخاري:صحيح البخاري:كتاب التوحيد باب 32 مج 1، كتاب فضائل القرآن باب 19 مج 1.
(43) الطبري محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن مج 15 ج 30 ص112.
(44) ن م مج 15 ج 30ص 112.
المصدر : ملتقى الإبداع الفكري .