الضياء والنور في القرآن: يجتمعان إذا افترقا، ويفترقان إذا اجتمعا

إنضم
08/02/2024
المشاركات
128
مستوى التفاعل
12
النقاط
18
العمر
52
الإقامة
مصر، المنصورة
الضياء والنور في القرآن:
يجتمعان إذا افترقا، ويفترقان إذا اجتمعا

الفرق-بين-الضوء-والنور-فيزيائيا-2~2.jpg


يرى كثير من أهل العلم كابن السِّكِّيت، وأبو هلال العسكري، أنه لا فرق بين الضياء والنور، فهما مُترادفان، وليس شرطاً أن يكون النور إنعكاس لشيء مُضيء، وإلا كان نور الله إنعكاس لغيره، وهو مُحال في حق الله. وبرغم إقرار العلماء بالترادف إلا أنهم يذكرون فرق جوهري بين الضوء والنور، دل عليه الإستعمال القُرآني، فالضوء تصحبه حرارة وإحراق، والنور إشراق بلا حرارة وبلا إحراق، ولذا كان من الأنسب عندهم أن يوصف الله بالنور وليس بالضياء، وأن توصف الشمس بالضياء والقمر بالنور. يقول ابن تيمية في الجواب الصحيح، (سمى الله الشمس سراجا وضياء؛ لأن فيها مع الإنارة والإشراق تسخينا وإحراقا، فهي بالنار أشبه، بخلاف القمر، فإنه ليس فيه مع الإنارة تسخين).

هل هناك فروق أخرى بين الضوء، والنور؟

أقول وبالله التوفيق، طالما وجدنا فرق بين الضوء والنور في مسألة الحرارة والإحراق، فلا يمكن القول بالترادف المُطلق، وإلا لقلنا بجواز تسمية الله بالضوء، وبجواز تسمية الشمس نورا، وهو غير جائز. ولذا أرى أن الضوء والنور كالإسلام والإيمان، إذا افترقا إجتمعا، وإذا إجتمعا افترقا، فلُغوياً لا فرق بين الضوء والنور عند ذكر أحدهما دون الآخر، ولكن عند الإجتماع في سياق واحد يظهر الفرق، وذلك نظير الإسلام والإيمان، فلا فرق بينهما لُغوياً عند ذكر أحدهما دون الآخر، ولكن عند الإجتماع في سياق واحد فيظهر الفرق، قال الله (قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم)، فالإيمان في هذه الآية مختلف عن الإسلام، والمؤمن غير المسلم، فالمؤمن من دخل الإيمان قلبه، والمسلم من شهد بلسانه دون قلبه.

وبالمثل كل سياق قُرآني أو نبوي يجتمع فيه ذكر الضوء والنور، سيكون الضوء غير النور، ليس فقط من حيث الحرارة والإحراق، ولكن أيضاً من حيث القدرة على إنتاج الضوء، فيُنسب الضوء للمصدر المُنتج له، ويُنسب النور لشيء غير مُنتج له، ويستمد نوره من مصدر مُضيء، والإستعمال القُرآني، والنبوي يُثبت ذلك بأمثلة كثيرة، وهي كالآتي؛

1. ضوء النار
في قول الله (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وتركهم في ظلمات لا يبصرون)، النار منتجة للضوء بشقيه النوري والحراري، والنار تضيء ما حولها فيصبح ما حولنا مٌنير، والنور ينعكس من على الأشياء لعيوننا فنبصر، فإذا ذهب الله بالنور حلت الظلمة، لأن الأصل في الأشياء الظلمة. وبذلك يمكننا القول بأن النار سراج وضياء، ولكن الأشياء من حولها منيرة.

2. ضوء مصباح الزيت
في قول الله (المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري، يوقد من شجرة، زيتونة لا شرقية ولا غربية، يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ).
اشتعال الزيت يعطي الضوء بشقيه النوري والحراري، والزجاجة حول مصباح الزيت تستقبل النور فتعظم من أثره، فتجعله نورا على نور من خلال إنعكاس النور وإنكساره بالزجاج. وبذلك يمكننا القول بأن الزيت سراج وضياء، والزجاجة مُنيرة. ويمكن فهم وجه الشبه بين الزحاجة والكوكب الدُري، فكما أن الزجاجة تنير بضوء الزيت، فكذلك الكوكب الدُري ينير بضوء غيره، وهذا بخلاف الشمس كسراج، وبخلاف النجم الثاقب، والشهاب الثاقب، ولذلك بحث خاص بإذن الله.

3. ضوء البرق
في قول الله (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ۖ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا)، ومع أن النور لم يُذكر صراحة لكن دل على وجوده ضمنياً المشي في ضوءه، والوقوف إذا أظلم البرق أي ذهب نوره، فالنور ضد الظلمة. فالبرق مُنتج للضوء كالنار، ويدل على ذلك آية (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار)، فسنا البرق هو لمعة نوره، فدل ذلك على أن البرق في تكوينه ليس نور فقط، وهو ما أثبته العلم فالبرق فيه كهرباء وحرارة واشعة ضارة بالإضافة للنور. وبذلك يمكننا القول بأن البرق سراج وضياء، والأشياء من حوله مُنيرة.

4. ضوء الشمس
وصف الله الشمس بأنها سراج وهاج (وجعلنا سراجاً وهاجا)، أي أنها كالنار منتجة للضوء بشقيه النور والحرارة، وهي ضياء ينير ما حولها من أرض وقمر، وباقي كواكب المجموعة الشمسية، فتصبح كلها مُنيرة بالشمس، والمُنير مُستقبل للنور غير مُنتج له، وذلك كزجاجة المصباح، وكالأشياء حول النار أو البرق، قال الله عن الفرق بين الشمس والقمر (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا)، فالضياء غير النور، ولو كان معناهما واحد لذكر الله أحدهما فقط فيقول (هو الذي جعل الشمس والقمر ضياء أو نور)، ولكن صفة الشمس غير صفة القمر، قال الله (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا)، وقال (تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا، وقمرا منيرا). قال ابن كثير في تفسيره (وأنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء، وجعل شعاع القمر نورا ، هذا فن وهذا فن آخر ، ففاوت بينهما لئلا يشتبها). وقال ابن عاشور (وفِي جَعْلِ القَمَرِ نُورًا إيماءٌ إلى أنَّ ضَوْءَ القَمَرِ لَيْسَ مِن ذاتِهِ فَإنَّ القَمَرَ مُظْلِمٌ وإنَّما يَسْتَضِيءُ بِانْعِكاسِ أشِعَّةِ الشَّمْسِ عَلى ما يَسْتَقْبِلُها مِن وجْهِهِ). وعليه فالقمر نور، ومُنير، أي مُستمد لنوره من مصدر آخر مُنتج للضوء، والقمر بين الأرض والشمس، فهو مُستمد لنوره منها كما أن الأرض وباقي الكواكب تستمد نورها من الشمس.

6. حديث صحيح مسلم (الصلاة نور، والصبر ضياء).
يؤكد هذا الحديث على التفريق بين الضياء والنور من حيث المصدر، فالصلاة تنقل النور من الله لقلب العبد ووجهه، فالصلاة صلة بين العبد وربه، يتواصل العبد مع ربه ليتلقى منه النور والهداية في الدُنيا والآخرة، وحظ العبد من هذا النور بقدر ما يُحسن اتصاله بالله (مصدر النور). بينما الصبر بوصفه ضياءً، يُعبر عن القوة الذاتية التي يُنتجها المؤمن، والإحتراق الداخلي في أثناء مواجهة الابتلاءات والشدائد، فضياء الصبر يُولد من داخل النفس، فيُنير طريق المؤمن بقوة وثبات، حتى في أحلك الظروف.

مما سبق يتبين لنا الآتي

1. عندما يُذكر النور بمفرده، دون أن يُقرن بالضياء، فإنه يُفيد المعنى المطلق للإضاءة الذاتية، ويُصبح مرادفاً للضياء، لكن مع فارق جوهري فالنور إشراق بلا إحراق، والضياء إشراق وإحراق، وهذا يُفسّر سبب تسمية الله بـالنور بدلاً من الضياء، لأن صفة الضياء وإن كانت تدل على الإضاءة الذاتية، إلا أنها تحمل معنى الحرارة والإحراق (كما في وصف الشمس)، وهو ما لا يليق بكمال الله عز وجل. أما صفة النور فتُعطي معنى الإضاءة الذاتية الخالية من أي إحراق، وهي تُناسب صفة الله الذي هو نور السماوات والأرض.

2. عندما يُذكر الضياء والنور معاً في سياق واحد، فنجد أن القرآن يميز بدقة متناهية بين الضياء والنور، فالضياء هو صفة المصدر الذي يُنتج الضوء ذاتياً مثل الشمس والنار، والبرق، وزيت الزجاجة، بينما النور هو صفة الجسم المُنير الذي يكتسب ضوءه من مصدر آخر ثم يعكسه للآخرين مثل زجاجة المصباح، وكل ما حول النار والبرق. وبالمثل الكوكب الدُري فهو مُنير كزجاجة المصباح، والقمر وُصف بأنه مُنير، فنستنتج أنه يستمد النور من غيره، ويعكسه مثل زجاجة المصباح، ومثل الكوكب الدُري.

3. هذا التفريق لم يكن من اصطلاح البشر، ولا عرفه العلماء الأوائل، بل هو من وحي الله العليم، فجاء اللفظ القرآني مطابقًا للحقائق الكونية الدقيقة: فالأصل في الأجسام الظلمة، ولا تُرى إلا إذا اكتسبت نورًا من غيرها، بينما تبقى مصادر الضياء وحدها مشعّة بذاتها. وبذلك سبق القرآن العلم الحديث في التفريق بين المصدر الضوئي والجسم المنير، فأثبت أنه كلام من يعلم السر في السماوات والأرض.

اللهم ما كان من توفيق فمنك وحدك، وما كان من خطأ أو سهوٍ، أو زلل، أو نسيان، فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء.

د. محمود عبدالله نجا
كلية طب، جامعة المنصورة، مصر
 
عودة
أعلى